الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديــات الأدبيــة > منتدى القصة القصيرة

منتدى القصة القصيرة أحداث صاخبة ومفاجآت متعددة في كل مادة تفرد جناحيها في فضاء هذا المنتدى..فهيا لنحلق معا..

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 31-05-2007, 03:52 AM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مختارات من قصصي

(1) العبد سعيد
ترجمت إلى الفرنسية والألمانية ولغات اخرى وبيعت إلى السينما .
النص :
طرحت الجدة زبيدة عصبتها عن رأسها وأصلحت من وضع جلستها فوق كيس الخيش، وأخذت تروي قصة العبد سعيد للفتيات اللواتي تجمعن من حولها :
(( يجوز أن لا تصدقن هذه القصة يا بنات ، لكن وحياة أولاد أولادي أنني لا أكذب عليكن .. كنت ألعب مع أولاد العشائر في السهل الفسيح المنبسط أمام عشرات بيوت الشعر، وكان سعيد ابن عبد الشيخ علي يلعب معنا. كم شاهدت في حياتي أبناء عبيد لكني لم أشاهد مثل ذاك الإبن .. وحياة رأس والدي أنه كان كان ينقض على الأولاد كما ينقض الصقرعلى طيور الحجل .. ولد يا بنات
، ولد لم تلد مثله النساء من قبل .. فهو أطول من عمود البيت ،وله وجه لوحته السمرة ، وبلا ركبتين ، لذا كان يسبق كافة الأولاد في الجري .
وبينما كنا نلعب ذلك اليوم ، مر الشيخ علي يتبعه العبد قعدان .. كان أولاد العشائر يهجمون على سعيد من كل صوب ، فيصرخ في وجوههم ويبدأ بطرحهم أرضا واحدا بعد الآخر . أما نحن الفتيات فكنا نقف جانبا ونرقب المعركة باهتمام .. تصورن أنه كان يطلب من أبناء العبيد عدم التدخل في الصراع والوقوف إلى جانبه ضد أبناء العشائر ، إلا إذا هزم ، لكنه نادرا ما كان يهزم .
وعندما شاهده الشيخ علي ، وقف يرقبه في اندهاش من على ظهر جواده ، كان قد طرح كافة الصبية أرضا ، وعاد يقف إلى جانب أبناء العبيد، ونحن نقف في ابتهاج ، حتى أن صبية العشائر طأطأوا رؤوسهم خجلا منا .
التفت الشيخ إلى العبد قعدان وقال له ( إذا ما كبر هذا الطفل فلن تبقى امرأة في العشيرة إلا وتنزع ثيابها له ، اذهب وأتني به سأقطع خصيتيه ) !!
وقف العبد قعدان حائرا للحظة ، ثم تهاوى على الأرض وأخذ يبكي ويذر التراب على رأسه !! فقال له الشيخ :
- ما الذي ألم بك يا عبد النحس ؟
فقال العبد قعدان :
-إنه ابني يا سيدي الشيخ إنه ابني !!
فقال الشيخ :
-أنا لا يهمني إذا كان ابنك أم غيره ، يجب أن تحضره وإلا ستكون وذريتك مطرودا من عشيرتي
حتى سابع عشيرة إلى يوم الدين !!
ولكز الجواد فانطلق به نحو مضرب العشائر .
لم يجد العبد قعدان مفرا من ذلك .. نهض عن الأرض وسار باتجاه الأولاد . قاد ابنه من يده والدموع تتدحرج على وجنتيه.. وسار عشرات الأولاد من خلفهما ..
بلغ الخبر مسامع الناس فتجمعوا في الساحة أمام بيوت الشعر ، وأحاطوا بالعبد قعدان وابنه..
أشعل الشيخ النار ، وأحضروا له سكينا فوضع نصله فيها ..
قال سعيد لأبيه قعدان :
- لماذا أشعل الشيخ النار ووضع السكين فيها يا أبي ؟
فلم يعرف الأب بماذا يجيب، لكنه خاطب الشيخ :
- ألا يسمح لي سيدي الشيخ أن أبتعد لأنني لا أستطيع تحمل ما سيحدث .
فسمح له الشيخ قائلا :
- إلي بالولد ولتنصرف حيثما شئت :
أسلم العبد قعدان ابنه إلى الشيخ وانصرف .
أحس الولد بالرعب فأخذ يصرخ وينادي والده جاهدا لأن يفلت من يدي الشيخ ، لكن يدي الشيخ كانتا تتصلبان على معصميه عدا أنه أمر بإحضار الحبال ليقيدوا الولد ويشلوا حركته .
قيدوه من يديه ورجليه ، لكنهم لم يحدوا من حركته ، فأمسك رجلان بيديه ورجلان بقد ميه ..
ثم جاؤا بخيط من القنب حصروا خصيتي الولد أسفل كيس الخيصيتين وربطوا الخيط من فوقهما .
أخرج الشيخ السكين من النار فبدا أحمر كاللهب .. ابتعدت بعض النساء فيما أخفى بعضهن وجوههن .. وهرعت أم سعيد من بعيد وهي تصرخ ( ابني ابني ) مرر الشيخ السكين من تحت الخيط فقطع الخصيتين وألقى بهما بعيدا فلاحقتهما عيون الناس وهرع الأطفال نحو المكان الذي ستسقطان فيه !!
انقضت أم سعيد كلبوة فقدت أشبالها .. انتزعت الولد من بين أيدي الرجال وانطلقت به عائدة إلى البيت وهي تصرخ بحرقة وألم .
(2)
قلت لكن أنه يجوز أن لا تصدقن يا بنات ، لكن هذا ما حدث بالفعل وهو ليس كل الذي حدث ، فقد كبر سعيد وأخذ يرعى قطعان الشيخ التي يزيد تعدادها على سبعة آلاف وخمسمائة نعجة وماعز . نعم يا بنات كان يرعى كل تلك القطعان وحده ، ويا ليتكن ولدتن من قبل لتشاهدن ذاك الفتى الأسمر ، إنه الراعي الوحيد الذي لم يكن يصطحب الكلاب معه ، وقد لا تصدقن أنه عندما كان الذئب يسطوا على قطعانه كان يجري خلفه إلى أن يلحق به ويخلصه الشاة التي خطفها ثم يسمه بوسم القطيع على أذنه ويطلق سبيله !!
إن هذا أغرب من الخيال يا بنات لكنه ما حدث بالفعل فلا تلمنني إذا ما تنهدت وبكيت بحسرة على ذاك الفتى الأسمر الطيب ن فكم من أرانب برية وذئاب وضباع وغزلان أمسك بها ووسمها بوسم القطيع واطلقها .
آه آه ..!! أما عندما كان يعزف على الناي أو المجوز أو الأرغول ، فهذا ما لا أستطيع وصفه لكن . قلت لكن يا ليتكن ولدتن من قبل لتشاهدنه ، فهؤلاء الرجال الذين تشاهدنهم الآن ليسوا رجالا !!
كان سعيد يجلس دائما على رابية عالية والقطعان تنتشر من حوله في الأودية وفي الجبال وبين الشعاب ، ويشرع في العزف :
تثبت كل شاة في مرعاها .. تتوقف الطيور عن تغريدها .. تمر أسراب القطا عبر الفضاء وتحلق فوق رأسه ثم تحط على مقربة منه .. تتوقف النساء عن قطع الحطب وتعشيب الزرع ، وقطف الحبيوة والبابونج ويجلسن يتنصتن .
تداعب أصابعه ثقوب المجوز بخفة .. ينتقل الصوت عبر الأودية والشعاب ليتردد صداه من قفر إلى قفر محمولا على أجنحة الريح !!تخرس كل نايات الرعاة وأراغيلهم ومجاوزهم .. تتجه أغنامهم إلى الناحية التي يسمع فيها صوت ناي سعيد .
تدور النشوة في رؤوس النساء اللواتي يحتطبن أو يغسلن الثياب أو يعشبن ، فيتسللن إلى سعيد وينزعن ثيابهن أمامه ، إذا لم يكن في مرأى من أعين الناس ، وإذا كان كذلك فكن ينزعن ثيابهن
في أماكن تقيهن العيون !
وذات يوم يا بنات – قربن آذانكن لأهمس لكن –كنت أحتطب في واد يرعى فيه سعيد قطعانه . سمعته يعزف فتسللت إليه .. نزعت ثيابي أمامه قطعة قطعة وجلست عارية بين يديه !! لم يتوقف عن العزف وخلال لحظات كانت نسوة كثيرات يتعرين ويجلسن أمامه خاشعات بين الحجارة والصخور !!
(3)
لا تصدقن يا بنات من يقول أن المرأة لا تؤتمن على سر ، فلم يكتشف أحد أن النساء يتعرين عندما يسمعن عزف سعيد ، على الرغم من أن أغلب نساء العشائر تعرين عند سماعه ولو داخل خدورهن !!
وجاء يوم يا ليته لم يأت ! آه آه فقد جاء فرسان الأتراك من القدس ليجمعوا الضرائب لخزينة السلطان . كانوا يجوبون الأودية والجبال بحثا عن القطعان لتعدادها وللحصول من أصحابها
على ضريبة عن كل شاة .
أقبلوا على سعيد .. كانت قطعانه تنتشر على مساحات كبيرة بين الأودية وعلى سفوح الجبال وقممها ..
قال له مأمور الفرسان :
- أنت الذي ترعى كل هذه القطعان ؟
- نعم يا سيدي المأمور .
- وحدك ؟
- نعم وحدي يا سيدي !
- وهل تستطيع حمايتها من الذئاب؟
- نعم يا سيدي .
- وكيف تتركها تنتشر بين حقول الزرع هكذا ؟
- إنه لم ينبت جيدا بعد يا سيدي المأمور ، ثم إنني طوعت قطعاني على عدم الإقتراب من الزرع !!!
وهنا صمت المأمور للحظات مخفيا دهشته من قول سعيد ، وراح يجوب بنظراته مختلف الجهات
فبدت له الأغنام أكثر من النمل ، فاحتار في أمره ولم يعرف كيف سيعدها .. نظر إلى سعيد :
- قل لي أيها العبد !!
- نعم يا سيدي المأمور .
- ألا تتفقد قطعانك كل يوم ؟
- نعم إنني أتفقدها يا سيدي .
- كيف ؟
- أقوم بعدها يا سيدي !
- ألم يسبق ووجدتها تنقص شاة أو أكثر ؟
- لم يسبق يا سيدي !
- وكم تعداد قطعانك ؟
- سبعة آلاف وثمانمئة وإحدى وثمانون شاة يا سيدي !!
- وهل كلها لسيدك ؟
- إنها لكل العائلة يا سيدي لكن سيدي يملك أكثرها .
وصمت المأمور قليلا .. نظر إلى وجوه الفرسان ، ثم نظر إلى سعيد :
- اسمع أيها العبد !
- نعم يا سيدي .
- أنا أصدقك ولن أقوم بعد القطعان ، لكنني لن أبرح مكاني هذا قبل أن أرى كيف تجمعها وتعدها ، ما رأيك ؟
صمت سعيد للحظة موجسا أن يحدث له شيء، قال :
- هل يحلف سيدي المأمور بالله ورأس السلطان أن لا يمسني بسوء إذا ما فعلت ذلك ؟
- إنني أحلف أيها العبد !
وهنا اعتلى سعيد صخرة عالية يا بنات ، هيأ مجوزه وشرع يعزف لحنا خاصا ..
نزل الفرسان عن خيولهم حين أدركوا أنهم سيسمعون عزفا غير عادي ، وجلسوا على
الحجارة ينصتون وينظرون إلى القطعان ..
أخذت الأغنام تهرع من كل صوب وتقف في طوابير منتظمة أمام سعيد .. انتظمت النعاج في طابور والمعز في طابور آخر .. وصلت كافة الأغنام وانضمت إلى الطابورين .. توقف سعيد عن
العزف لكنه لم ينزل عن الصخرة .
همس المأمور في اذن معاونه :
- قل لي برب الكائنات ؟!
- ماذا يا حضرة المأمور ؟
- إذا كان هذا فعل العبد بالأغنام ، فما بالك بالنساء بالله عليك ؟!!!
همس المعاون دون تردد:
- أعتقد أنهن يشمرن له عن أفخاذهن يا حضرة المأمور !!
ونظر المأمور إلى سعيد نظرة ماكرة :
- ألا تنزل أيها العبد ؟
تنبه سعيد بفطنته إلى أن المأمور يبطن له الشر !!
- لن أنزل يا سيدي !!
اعتلى المأمور جواده وحاول أن يصعد إلى سعيد ، لكنه لم يظفر به ، فقد وثب سعيد عدة وثبات
وراح يتسلق صخور الجبل ، فلم يستطع الجواد أن يلحق به ، لكن المعاون تنبه إلى أمر هام ، فالتفت إلى المأمور :
- جاءتني فكرة يا حضرة المأمور!
- ما هي قل ؟
- أعرف أن هؤلاء العبيد يحرصون على القطعان التي يرعونها أكثر من حرصهم على أنفسهم ، فإذا ما أوهمنا هذا العبد اننا سنأخذ قطعانه ، فسيلحق بنا لاستردادها .
- انت مدهش يا حضرة المعاون ، هيا بسرعة ولننهل على الأغنام بالسياط.
- أحاط الفرسان بالمعز والنعاج وانهالوا عليها بسياطهم وساقوها أمامهم . جن جنون سعيد فأخذ يصرخ من على صخرة مناديا :
(ألم تحلف بالله ورأس السلطان أنك لن تمسني بسوء يا سيدي المأمور فلماذا تأخذ قطعان سيدي )؟
خاطبه المأمور بأعلى صوته:
( لن نفلت الأغنام إلا إذا سلمت نفسك لنا ايها العبد )!
شاهد الناس الفرسان يسوقون القطعان فأخذوا ينظرون من على قمم الجبال..
هرع سعيد خلف الفرسان وهو يدرك في قرارة نفسه انه يسلم نفسه إلى قدره .. لحق بهم .. لم يكن خائفا .. نزل الفرسان عن خيولهم . أمسكوا به .. قيدوا قدميه وطرحوه أرضا .وضعوا يده اليسرى على حجر .. استل المأمور سيفه وأهوى به على أصابعها فبترها .....
(4)
ايه يا بنات .. قلت لكن أن لا تلمنني إذا ما تنهدت وبكيت ، فكم تغير العبد سعيد بعد ذلك .. لم يصدق أحد ان هذا هو سعيد الأمس ، فقد ترهل كل شيء فيه ، ضمر جسمه ، وبرزت عظام صدغيه ، وغارت عيناه في رأسه ، وتهدل هدباه ، وخارت قواه ، ولم يعد يهتم بنفسه ، وأهمل قطعانه ، فلم تعد تذعن له ، وأصبح يتعذب كثيرا في السيطرة عليها وجمعها ..
وذات يوم داهمت الذئاب قطعان سعيد ، فهربت القطعان أمامها .. راحت الذئاب تشتتها بين الأودية وعلى سفوح الجبال وكلما لحقت بشاة فتكت بها وتركتها لتلحق بأخرى .. إلى أن أتت الكثير من الأغنام ..ولولا هروع الناس من البيوت لأتت على معظم القطعان ..
حين بلغ الخبر مسامع الشيخ جن جنونه، وانهال على سعيد بالضرب المبرح ما أن مثل أمامه .
وأقسم برأس والده أنه سيجعل منه عبرة لكل العبيد إذا ما شاهده في ربوعه .
هام سعيد على وجهه لا يعرف أين تجره قدماه ... وانقطعت عنا أخباره منذ ذلك اليوم يا بنات .)
نهاية






 
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2007, 07:47 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
رياض بن يوسف
أقلامي
 
إحصائية العضو







رياض بن يوسف غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

قصة جميلة و مؤثرة و فريدة في بابها.
تحية لاديبنا الكبير.







 
رد مع اقتباس
قديم 05-06-2007, 04:40 AM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رياض بن يوسف
قصة جميلة و مؤثرة و فريدة في بابها.
تحية لاديبنا الكبير.
جزيل شكري عزيزي رياض
سعدت بوجودك هنا ايضا .
منذ قرابة اسبوع زارني هنا في معرض رسوماتي في دمشق الأديب الجزائري مصطفى فاسي وأهداني كتابه
القصصي ( رجل الدارين ) وفوجئت بأن لوحة الغلاف لي .
لي في الجزائر اصدقاء كثيرون منهم : الصديق الطاهر وطار ، والأعرج واسيني ، وزينب الأعوج ، وربيعة الجلطي ، وعبد المالك مرتاض ، والزاوي أمين وغيرهم ، وجميعهم أدباء . وقد أرسلت لهم لوحات مع مصطفى .






 
رد مع اقتباس
قديم 07-06-2007, 07:57 PM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
مختار محمود
أقلامي
 
إحصائية العضو







مختار محمود غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

قصص جيدة
دمت مبدعا بخير
مختار







 
رد مع اقتباس
قديم 09-06-2007, 03:42 AM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مختار محمود
قصص جيدة
دمت مبدعا بخير
مختار
جزيل شكري عزيزي مختار
دمت مبدعا
مودتي






 
رد مع اقتباس
قديم 10-06-2007, 01:59 AM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

مسك وعنبر وفيض مقدس !!
من المسائل غير المعقدة ( وربما المعقدة ، فأنا وللحق أشعر أنني بدأت أفقد المقدرة على التمييز بين المعقد وغير المعقد ) فالشيخ صابر لم يشم في حياته لا رائحة المسك ولا رائحة العنبر ، لندرة هذين النوعين من الطيب ، وصعوبة الحصول على مادتيهما الأساسيتين ، فالأول ( أي المسك ) وحسب ما يعرفه لنا المعجم الوسيط : ( ضرب من الطيب يتخذ من ضرب من الغزلان ) والثاني ( مادة صلبة لا طعم لها ولا ريح إلا إذا سحقت أو أحرقت ) ويقال أنه روث دابة بحرية ، قد تكون الحوت ! فمن أين تسنى للشيخ صابر أن يعرف أو يميز رائحتيهما ؟
على أية حال سنتجاوز مصاعب الحصول على هذين النوعين من الطيب ، ونفترض قسرا أن الشيخ صابر ممن تضمخوا ذات يوم بالمسك أو العنبر ، أو الإثنين معا ، إذ أن المشكلة الكبيرة والمعقدة للغاية ، ليست في أن يعرف الشيخ أو لا يعرف ، أو أن يميز أو لا يميز ، المشكلة في أن يشبه الشيخ رائحة ضراط الأعجف برائحة المسك والعنبر !! لاحظوا رائحة المسك والعنبر معا ، ولو أنه اكتفى برائحة واحدة لما عقد المسألة إلى هذا الحد .، وربما لما كانت معقدة إطلاقا ، غير أنه وبإطلاق هذا التشبيه على الضراط الأعجفي فتح بابا لم يكن من السهل على الحضور إغلاقه ، أو حتى العبور منه ..
لنطرق الواقعة من أولها :
كان الشيخ والساعد الأول وبعض (السواعد ) المقربين جدا يجلسون في حضرة الأعجف بكل مهابته . ومهابته هذه تعني أن الجلسة لم تكن جلسة عادية ، فهي أقرب إلى المكوث بين يدي أكبر وأعظم الآلهة طرا ، لكن ليس كما صوره علم الكلام المعتزلي ، أو محي الدين بن عربي ، أو حتى الأشعري والغزالي ، بل كما تتصوره مخيلة الأعجف . ، ومخيلة الشيخ صابر ، وكان في المستطاع أن تفض الجلسة دون أن تخرج عن حدود الطقس أو البروتوكول ، فوق العادي ، لو لم يضرط الأعجف ، فتحول ضرطته تلك الجلسة إلى الطور الخارق ، أو فوق فوق العادي ، إذ من التجني السافر والإجحاف المطلق بحق المتصوفة ، القول بأنها تحولت إلى نوع من التصوف الروحي في حضرة تجل إلهي !!
كان كل شيء اقرب إلى الطقس العادي ، عندما مد الأعجف يده ليأخذ سيجارة من علبة السيجار التي أمامه على طاولة المكتب ، فامتدت عشر أيد بعشر ولاعات لتشعل له سيجاره ، عشر أيد وعشر ولاعات مع أن الموجودين كانوا تسعة فقط . وهذا يعني أن أحد الموجودين ( وهو الشيخ صابر قطعا ) مد يديه الإثنتين وبولاعتين !! وهو في الحقيقة كان يحرص على أن يحمل ولاعتين كلما ارتبط بموعد مع أحد قيادات القبائل الكثيرة والمتعددة ! يضع إحداها في جيبه اليمنى ويضع الأخرى في الجيب اليسرى ، وما أن يشاهد القائد يهم بإخراج سيجارة ، حتى يدخل يديه في جيبيه ويخرج الولاعتين ، ويمد يديه وهو يشعلهما معا ، فإذا ما عاكسته واحدة تقدم بالأخرى ، وإذا ما أشعلت الإثنتان ، فإنه يطفىء التي باليد اليسرى ويعيدها إلى جيبه .
لم يكن الأعجف قد أخذ سيجاره بعد عندما امتدت إليه الأيدي العشر بولاعاتها المشتعلة ( فقد حرص الشيخ على غير عادته أن يبقي على الولاعتين مشتعلتين ، لعله يحظى بشرف إشعال سيجار الأعجف ) وحقا حظي ، فقد أخذ السواعد الآخرون يعودون إلى مقاعدهم حين أدركوا أن ولاعتي الشيخ كانتا الأسرع إلى المبادرة والإقتراب من وجه الأعجف ، ثم إنهم أكدوا ولاءهم المطلق ، ورغبتهم العارمة في نيل شرف إشعال السيجار الأعجفي ، بنهوضهم وتقدمهم وإشعال ولا عاتهم !!
ابتسم الأعجف حين تنبه إلى الشيخ يمد يديه بولاعتين . هتف ( قبل أن يضع السيجار في فمه ) :
( أنت داهية يا شيخ ، بوجودك لا يمكن لأحد أن يسبق لللإشعال لي )
هتف الشيخ وقد نفد صبره من إبقاء الولاعتين مشتعلتين :
( إنه لأكبر شرف لي أن اكون دائما السباق إلى إشعال سيجاركم الطاهر ، وإنه لشرف أعظم لو أنكم تتيحون لي أن أبقى دائما في حضرة عظمتكم لأشعل لكم )
وضع الأعجف السيجار في فمه ، فيما كان الشيخ يطفىء الولاعة التي بيده اليسرى ويتقدم بالتي بيده اليمنى . وهنا بالضبط حدث الضرط التاريخي المهول ، فقد ارتأى الأعجف أن يرفع مؤخرته مليمترات عن الكرسي ليقرب رأسه من ولاعة الشيخ ، وليتيح للضراط الذي كان يضغط على بطنه - بعد تناول كميات متنوعة ومرعبة من الطعام – أن يتسرب من دبره .وهو وللحق كان يظن ان الضراط سيخرج عالهدى ( أي دون صوت ) ودون ان يثير رائحة كريهة للغاية . لكن ما جرى كان تاريخيا حقا ، ففي اللحظة التي رفع فيها الأعجف مؤخرته وهو يتكىء بمرفقه الأيسر فوق طاولة المكتب ، ويأخذ نفسا لإشعال السيجار ، انفلت صمام دبره مرة واحدة ليندفع منه ضرط مهول دوى في أرجاء حجرة المكتب ! نقز الأعجف وأطبق بمؤخرته على الكرسي في محاولة للحد من اندفاع أي انفجار آخر . ونظرا لأنه لم يكن يعرف أن ضراطه ( فيض مقدس ) حتى حينه ، فقد أحس بالخجل وسارع إلى الإعتذار ، فيما كان الصمت المطبق يلف وجوه السواعد ، والشيخ صابر الذي بقي واقفا دون حراك منتظرا مرور الفيض المقدس الذي قطع إشعال السيجار قبل أن يكتمل :
( آسف يا جماعة .. أشعر بمغص في معدتي ) !!
وهنا انبرى الشيخ صابر إلى القول ، بعد أن دار بوجهه بسرعة على الحضور :
( تتأسفون عظمتكم وأنتم تغمروننا بفيض بركتكم المقدس وقد حل علينا ) ؟!
وكانت الرائحة الكريهة للغاية قد أخذت تنتشر في فناء الحجرة ، رائحة ثوم وفجل وما شابه وقد تخمرت في معدة الأعجف ، ومرت عبر امعائه ، فغدت لا تطاق .
استدرك الشيخ قائلا :
( إنني اشتم فيه رائحة المسك والعنبر أيها الأخ الأكبر والقائد الأعظم )
وهنا ثنى الساعد الأول على ما قاله الشيخ :
( فعلا أيها العليم البصير إن لفيض بركتكم المقدس رائحة المسك والعنبر 11)
وانفتح الباب الذي لم يعرف السواعد الآخرون كيف سيدخلون منه أو يغلقونه ، لا لجهلهم بالأطايب والعطور فحسب ، بل لاعتقادهم أن أي نعت لن يرقى إلى ما تفوه به الشيخ ، ومع ذلك لم يجدوا إلا أن يضيفوا ما هب ودب على السنتهم على وصف الضرط التاريخي :
أضاف الساعد الثاني مكملا :
( بل والياسمين والنسرين ، المسك والعنبر والياسمين والنسرين )
وأضاف الثالث :
( والفل والنرجس والزنبق والقرنفل )
وراح الآخرون يعتصرون أدمغتهم ليخرجوا بأي تشبيه ، وحين وصل الدور إلى السابع كان ابن الكلب قد فطن إلى أطايب عجيبة ، فهتف :
( بل والند والنردن والنارنج ) وبهذا قطع الطريق تماما على الساعد الثامن ، فلم يجد إلا أن يقول ( بل روائع الأطايب والعطور كلها ، كلها مجتمعة أيها الثائر الأكبر)
ولحظتئذ فقط ، أدرك الأعجف أن ضرطه كان مقدسا وتاريخيا وجامعا لكل أنواع الأطايب والعطور ، فأطلق العنان لمؤخرته .
والحمد للذي يمكن أن يستحق الحمد ،أن الشيخ صابر لم يسمع بابن عربي والشيرازي والمتصوفة أجمعين ، ولم يعرف عن فلسفتهم شيئا ، وإلا لرأى في الضرط أحد أشكال التجليات الآلهية الأعجفيه باعتباره ( الضرط ) خاضعا لوحدة الوجود الإلهي الأعجفي ، ومع ذلك فإن رؤيته للضرط وتفسيره له ، لم يبتعدا كثيرا عن هذه النظرة .
المشكلة أن المسالة لم تتوقف عند حدود تشبيه رائحة ضراط الأعجف برائحة المسك والعنبر ، فقد تجاوزت ذلك إلى اعتبار برازه لؤلؤا منثورا ، ليغدو الضراط والبراز الأعجفيان – فيما بعد – حقيقة مقدسة ثابته لا يرقى إليها الشك الجماهيري !!
الذي لا يصدق ( وربما يصدق باعتبار الصدق اختلط بالكذب إلى حد يستحيل معه الفصل بينهما ) هو ان الأعجف نفسه – وهذا ليس غريبا عليه – بات بعد الواقعة وما دار حولها من تقولات ومبالغات وخرافات غير معقولة ، يشتم في ضراطه رائحة الطيب ويرى في برازه اللؤلؤ المنثور !!
1987
صدرت ضمن مجموعة (موتي وقط لوسيان ) عن وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله عام 1999







 
رد مع اقتباس
قديم 10-06-2007, 02:04 AM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

( الخطار )
صدرت عن دار القدس.. بيروت .. 1979
ضمن مجموعة تحمل عنوان ( الخطار )
(1)
هاهي أول قافلة للخطار تطل من بعيد عبر التلال ... انفردت أسارير وجه عائشة العلان وهي تصالب يديها على صدرها وتتكور على نفسها فوق قمة الجبل ، لتجابه القشعريرة التي اجتاحت جسمها من جراء نسيم الصباح ..
< متى تقطع القافلة كل تلك الشعاب والتلال ، وتصعد منعرجات جبل المنطار ، وتصل إليها ، لترى فيما إذا كان ابنها معها ؟! >
تخيلت نفسها بجناحين وطارت ... < حلقت فوق القافلة ، شاهدت ابنها يسوق الحمير
وقد حملها بأكياس الملح .. رفرفت بجناحيها فوقه ، حطت عليه ، ضمته ، قبلته ، حملته وحلقت به >
أطلت الشمس من خلف جبال البحر الميت ، تأملت عائشة كل الجهات المشرفة عليها ؛ ها هو البحر المالح يركد شرقا بين سلسلتين من عشرات الجبال . أدارت وجهها إلى الجنوب : ترامت على مدى نظرها جبال بيت لحم ومناطقها ، ثم إلى الغرب حيث القدس ورام ألله ، بدا لها الندى وهو يطير عن قمة جبل الزيتون ، فجبل المكبر .. ابتعدت ببصرها نحو الشمال لتشاهد عشرات القرى ... وراحت تقصر نظرها شيئا فشيئا لتجوب المراعي والجبال .. عشرات الرعاة يخرجون بقطعانهم من العزب والصير.. نظرت إلى الشرق من جديد .. ، ها هي القافلة تقدم عبر التلال
وها هي عشرات القوافل تطل من ورائها .
أخرجت جزة الصوف من الصرة الموضوعة إلى جانبها ، لفتها حول ذراعها وأخذت تغزل ، ثم عادت إلى شرودها .
(2)
< قلت له يا ولدي أنت صغير والملح لا يخطر إليه قبل سن الشباب ، لا تدعني أنتظر على الدروب اسأل عن عيونك ، غدا يا ولدي تكبر ويكبر اخوتك وتخطر مع الخطار ، بحر الملح يا ولدي ما وديك عليه ، تروح يا ولدي يشرق عدوك بمية البحر ،تنزل بجوفك ، تغرق يا ولدي ، وأنا ما أطيق فراقك يا روح أمك ، اخوتك ينتظرونك يا حسن يا بني ! صبرت يا ولدي على الذل وما هو أمر منه ، تحملت المهانه ، تعبت، شقيت ، كلت عيني وانهد حيلي ، لكن العمر في سبيلك وسبيل اخوانك يرخص يا ولدي .. >
< عشر سنين يا بني ، عشر سنين مرت على وفاة بيك في حرب النكبة ، كنتوا صغار يا حسن ، خبيتكم، ربيتكم ، منعت كل الشر عنكم داريتكم ، مثل حجلة تداري فراخها يا ولدي .. في الشتا أبيع البقول يا ابني ، وفي الصيف أنسج البسط للشيخ علي وأغزل ، تحملت الكثير يا ولدي ، أتحمل القليل حتى تصيروا رجال وتجوزوا ، وتدفنوني بإيديكم تحت التراب لما أموت يا بني .. >
< يا أمي يا أمي >
قلت له < لا تقاطعني يا بني خليني أكمل كلامي ألله يرضى عليك > سكت ! قلت له :< بحر الملح يمه ما تروح له > قال : < أنا افديك بعيوني يمه ما تقطعي قلبي بحياة تراب أبوي . قلت لك أنا ماني صغير ، أنا كبرت يمه ، أنا شاب وشبيت على يديك
اللتين لم تعرفا الكلل ، وكيف لا تريديني أن أخطر إلى الملح ؟ هل نسيت يا أمي عندما جئت البارحة وقلت لي : الشيخ علي هددنا ، يبغي ديونه، وإلا سيأخذ قطعة أرضنا الوحيدة التي رهناها عنده !
لا تحسبي يا أمي وما تخلي الهم يشغل بالك ، رطل الملح بقرشين ، أخطر كل خمسة أيام مرة ، أجيب مائة رطل ، لن ينتهي الصيف إلا وأنا جامع ديون الشيخ علي ، ونسترد قطعة أرضنا يا أمي !! <
قلت له < برضاي عليك يا ولدي ، أنا أرضى والله يرضى ، والسهل يرضى ، والسما ترضى ، لا تروح يا ولدي ، أخاف عليك يا حسن ، أخاف أنحرم من شوفة عيونك يا بني ، يغرق عدوك في البحر مثل الناس إلي غرقوا ، أو تقبض عليك دورية الفرسان يا بني ، أشق ثوبي ، أجن ، أدور على الدروب يا ولدي ، لا تخليني
أتحسر عليك يا بني كما اتحسرت على بيك واخوانك . برضاي عليك لا تخطر يا حسن ، ابق في المدرسة يا بني ، وليأخذ الشيخ علي قطعة الأرض ، وعوضنا في عين الله يا ولدي ، وإن شاء الله أن عينه ما تخيبنا وما تخطي عنا يا بني >
قال لي : يا أمي ، يا أمي ، قطعة الأرض لن أتخلى عنها بدمي ، وحياة تراب والدك المدفون وحده في البراري ، والمدرسة ما هو وقتها ، وعلى الملح يجب أن أخطر، واطردي كل أفكار السوء من راسك >
قلت له < روح يا ولدي عين الله تحرسك في كل خطوة تمشيها ، روح >
*********************
سمعت أن علي الخطيب سيخطر إلى البحر .. ذهبت إليه في الخشة :
- يصبحك بالخير يا علي .
- الله يصبحك بأنوار النبي يا عايشة .
يا أخي حسن يريد أن يخطر مع الخطار إلى البحر ، خذه معك يا علي وأعره انتباهك ، الله يطول عمر اولادك ، ما يزال صغيرا يا علي ودروب الملح كلها مخاطر ، وعمره ما مشاها .
قال :
- ولا يهمك يا أختي ، والله لأحطه في عيني ، وإن شاء الله ما يصيرعليه إلا إلي يصير علي .
- يكثر خيرك يا علي ويستر على عيالك ربنا من فوق !
عدت إلى البيت . قال حسن <لا بد لي أن أحضر حمارا آخر ، حمارنا ما يقدر يشيل إشي>
راح .. استعار حمار من عند بيت عوده السلمى . قال لي < حضري لي زادي وزوادتي يا أمي >
رحت .. طليت في خم الجاج .. لقيت أربع بيضات ، سلقتهن ، وسلقت ست حبات بطاطا ، وحضرت أربع حبات بندوره ، وقليل من الزيتون ، وعشرة أرغفة خبز..
صريت له إياهن في منديلي.. حط راسه ونام ! قال : < صحيني قبل صيحة الديك يمه حتى ما أتأخر عن الخطار >
قمت علفت الحمارين ، وحطيت لهم قليلا من التبن . نيمت الأولاد .. ما أجا عيني نوم .. قعدت أغزل صوف لبيت الشيخ وأغني للأولاد . غنيت لحسن ووطفا ومحمد وندى .. ثم قمت قبلتهم وقعدت أتطلع عليهم وهم نايمين !! < يا حبيبيني ، تكبروا وتجوزوا وتخلفوا صبيان وبنات وتدفنوني بإيديكم يا حبايبي >
سمعت شبابة محمود ابو ردان في هالليل الهادي . حسيت إنه بجرح قلبي بعزفه ! يا ويلي عليه كم قلبه ملوع !! خلاني أتذكر كل الأيام الماضية : أبي الضرير الذي كنت أقوده وهو يستعطي ، وموته في تلال النبي موسى ، ودفنه هناك لوحده بين الوديان . الأب بطرس الطيب إلي رباني في الدير ! الأخت لويزا ! زواجي . وفاة طفلي البكر ، وطفلي الثاني ، ووفاة البنت . استشهاد زوجي في القسطل في الثمانية وأربعين .. تعبي وشقاي إلى أن ربيت الأولاد .
تطلعت إلى حسن . شعرت بالخوف . بكره سيخطر إلى بحر الملح < يا ولدي صغير ولا يعرف السباحة ، والبحر مرعب والملح تعب وشقاء وهو غير معتاد على السفر والتعب والمخاطر ، ماذا أفعل لأمنعه من هذه السفرة ، أخليه نائم وما أنبهه ؟!أخاف أن يغضب إذا قام ووجد انني فعلتها معه . يا رب أنت أدرى وأعلم بحالي ، وتعرف كم تعبت وشقيت ، حتى خليت أولادي شباب ، انا أضعهم امانة بين يديك يا ربي ، ونذر علي ، إذا رجع حسن من البحر سالم ، لأذبح لك كبش في النبي موسى - ولو أني سأستجدي ثمنه – وأوزع لحمه على الفقراء والمساكين .>
أحسست انه لن يغمض لي جفن وشبابة محمود أبو ردان جرحت قلبي ولوعتني وأثارت كل همومي . نزل علي وحي الشعر . رحت أغني ما يجول في راسي !!
أجاني حسن يا ليل مع بكرة الضحى
حامل شجرة البأس لاوي غصونها
شاكل اذيال الثوب ومشمر الزندين
شاد العزم والحيل لامه يصونها
قلي يمه عالبحر لا بد ما أخطر
لنخلص من الذل والشيوخ وديونها
قلت أخاف يا ولدي تروح وما تيجي
أحرم دخول الدار ويا سكونها
أخاف يا ولدي في البحر تغرق
أحرم عيوني النوم ويا جفونها
أخاف يا ولدي بيد الفرسان توقع
وسجون مظلمة عليك يقفلونها
للشيخ علي يا أمي نتخلى عن الأرض
وعين الله يا بني ما تقطع منونها
قلي يمه عالبحر لازم أخطر
والأرض يمه بدمي أصونها
قلت روح يا ولدي عين الله تحرسك
عين بصيرة وما تغفل بنونها
*************
أفاق حسن من النوم . قال لي :
- أنت تبكين يا أمي ؟
مسحت دموعي . قلت له :
- برضاي عليك يا ولدي لا تخطر إلى البحر .
غضب وثار .. قلت له :
- - كفى يا بني ، الله يرضى عليك ويحن عليك ، قوم صارت الدنيا نص الليل ، الآن ينادي عليك علي الخطيب .
قال لي :
- إنما لا أريد أن أسمعك تقولين ، ما تروح وما تيجي !
- لن اتكلم يا ولدي ، لقد تكلمت ما فيه الكفاية .
قام . أحضرت له كاسة شاي . تركته يشربها ورحت حلست الحمارين وحطيت عليهما خرجين وثلاثة أكياس. ملأت القربة الصغيرة ماء ووضعتها في جانب الخرج ، ووضعت في الجانب الثاني صرة الأكل ، وحطيت له شوية سكر وشاي وكيلتين وعلبة كبريت .
استيقظ محمد وندى ووطفا . اشوي وإلا علي الخطيب ينادي . قام حسن . قمت معه . قلت لمحمد < دير بالك على خواتك يمه على بين ما أودع اخوكم >
ساق الحمير قدامه . وصلنا علي الخطيب .. صبحنا عليه . قلت له :
- حسن وداعتك يا علي !
قال :
- الوداعة على الله يا عايشه ، إن شاء الله ما بيصير إلا الخير . روحي ارجعي لعند الصغار أحسن يخافوا لحالهم .
_ لا خوف عليهم يا علي ، أبقيتهم مستيقظين ، بدي أمشي معكم لوصلكم لباقي الخطار .
- الخطار بعيدين يا عايشه ، وين بدك تروحي معنا في هالليل ؟
- في أي مطرح ينتظروكم يا علي ؟
- في وادي المنطار.
- طيب خليني أمشي معكم اشوية وبرجع .
مشيت معهم . الدنيا ليل يا حسرتي . قلت :
- يا ريتكم استنيتوا لما يطلع القمر يا علي .
- القمر بطلع متأخر يا عايشة .
قال حسن :
- ارجعي يمه وين بدك رايحة معنا في هالليل ؟
قلت له :
- رايحة ارجع يمه بس وقف تبوسك !
وقف يا حبيبي . بوسته .. وبوسته !!
< في حفظ الله يا بني ، أودعتك للي ما يخون الودايع ، إلهي يفتح لك في كل ضيق طريق يا ولدي ، ويكف عين الظالمين عنك ، ويعيدك بالسلامه يا بني . إذا مريت عن قبر جدك إقرأ عليه الفاتحة يا ولدي .. وداعتك حسن يا علي.>
- اتكلي على الله يا عايشه .
ركبوا الحمير وتسهلوا.. رجعت وأنا اناشد البحر أن يحفظ حسن ويرجعه لي سالما ، وتمنيت من الله أن يجفف ميته إذا غدر فيه !!
(3)
وصلنا مكان التجمع . ما لقينا حدا . قال علي :
- خلينا ننزل عن الحمير يا حسن ونرتاح شوية على بين ما ييجوا الخطار .
نزلنا ...
- ايمتى نصل البحر يا علي ؟
- بكرة في الليل يا عمي !
- ابعيد هالكد ؟
-لا والله يا عمي ما هوه بعيد ، لكن ما فينا نمشي في النهار ، نخاف من دوريات الفرسان تشوفنا .
فكرت اشوي . قلت له :
- والله لا أعرف يا علي لمذا تمنع الدولة الناس أن يبيعوا الملح ؟
- لأنهم يظاربون على معمل الملح وعلى الملح المستورد من بلاد برا !!
- كيف يا علي ؟
- إحنا بنبيع الملح بسعر أرخص من سعر المعمل يا عمي .
- طيب ليش ما يغلقوا المعمل ما دام إحنا بنبيع الناس بسعر أرخص ؟ وكمان ما يستوردوا ، إحنا بنجيب ملح يكفي لكل البلد !
- ما بنفع يا عمي ، هاظا المعمل كلف مصاري كثير كيف يغلقوه ؟
- طيب وحنا كيف بدنل نعيش ؟
- إلي أرزق الدود في الصخر يا عمي يرزق الطير على الشجر !!
بدأ الخطار يصلون . تجمع أكثر من خمسين خطار من خطار بلدنا . إلي أجا بحمارين ولي أجا بثلاثه أو ببغل وحمارين ، والبعض أحضروا جمال !!
مشينا في هالليل . صعدنا جبل المنطار ونزلناه .. قطعنا تلال وجبال ووديان ،
إلى أن انحدرنا إلى واد سحيق . حسيت إنه علي خايف عليه كثير ، لأنه أصر عليه أن أركب الحمار وأمشي قدامه !
بدت قافلتنا تجنح إلى جنب واد بعد ما كانت تمشي في منتصفه . وسمعت الناس يتهامسوا ، كل واحد يهمس للذي خلفه . التفت الزلمه إلي قدامي عن ظهر حماره
وقال لي : < تصادفنا مع دورية مهربين أوعه حدا يحكي معهم > خفت . نهر علي حماره ولحقني . همس لي < ما تخاف يا عمي > خلاني أحس بالخوف أكثر . التفت لأحكي معه . قال < هص > هصيت !! سمعت وقع حوافر خيل ، حدكت ! شفت زلمتين راكبين فرسين وحاملين بواريد وملثمين ! شكلهم مرعب ! خفت . طل وراهم كمان اثنين ، وكمان اثنين ، ست خياله ! جانبت بالحمير على جنب الوادي على بين ما يمروا . خوفني علي لما قرب مني وحط ايده على ظهري . اطلعوا الخيالة فينا
ومروا من غير ما يحكوا معنا ، وأنا أنظر لبواريدهم !
طل أول القافلة من وراهم . بغال محملة بكياس مليانه ، عديت عشرين بغل مرت من جنبي . كل بغل وراه زلمه ملثم وحامل باروده بكتفه ! طل وراهم ست خيالة يحرسوا القافلة من ورا !
مروا . تنفست من كاع كلبي !! همست لعلي :
- شو هذول ؟
- هص ! هذول مهربين حشيش وفلفل !!
- شو ؟
- قلت لك هص !
- لمين بهربوا؟
قرب مني وهمس في ذاني :
- لاسرائيل ! هص ! أوعك تسأل كمان ! هص ولا نفس !
ما هصيت ! همست :
- ليش ما فيه في إسرائيل حشيش وفلفل حتى يهربوا لها ؟
- هص هص لحدا يسمعنا ! هاظا حشيش وفلفل غير إلي إحنا بنعرفه !!
- كيف هو ؟
- يا ملعون الوالدين يا بعيد بدك تودينا في داهية ! قلت لك هص ! بيقولوا إنه غالي كثير !
- من وين أجوا؟
- يا ملعون لا أمك ولا أبوك يا اليهودي ! قلت لك هص ، خلص ما تسأل ! أجوا من الشرق !!هص هساع !
ما هصيت !!
- وهل يوجد في الشرق فلفل وحشيش غير إلي عندنا ؟
- هالساع بغضب منك ، هذي القضية ما فيها مزح ، للحيطان آذان ! هاظا بيجي من بلاد بعيده وما عندنا منه !
هصيت وسكتت غصبن عني ، وفي نفسي أعرف شو الحشيش هاظ وشو الفلفل ، ومين هذول المهربين ، ومنين تجيهم لبضاعة ، وليش حاملين بواريد ، وكيف بدخلوا لإسرائيل ؟ والأهم ليش علي الخطيب بيقلي هص وكأني بسأله في السياسة ؟!!

****************
تابعنا سيرنا . تعدينا قبر جدي من غير ما أعرف ! قلت لحالي بقرا عليه الفاتحة وأنا راجع .
وقفت القافلة في واد تحيطه السدود من كل النواحي . نزل الخطار عن دوابهم وربطوها إلى جوانب الصخور أو في الكهوف أو تحت الأشجار البرية ! فرشوا أكياس الخيش واستلقوا عليها .
انبطحنا انا وعلي جنب بعظنا ! قلت له :
- لإيمتى بدنا نظل هان ؟
- لبكرة المسا يا عمي لما ننزل للبحر !
قام بعض الخطار يحضروا الشاي . هم علي للنهوض ، حلفت عليه ما يقوم . قمت ، جمعت اشوية حطب وولعت النار ، وحطيت ابريق الشاي عليها. قلت لعلي ؛
- البحر بعيد من هان يا علي ؟
- ظربة حجر يا عمي ! شي عشر دكايك بنكون فيه !
خلصت الشاي وصبيته ! طلع شاي أخو شليته !!
البغال جنننا وهن بيضربن حوافرهن في الأرض وبشخطن من منخيرهن ، بدهن يقطعن الرباطات واللجامات . سألت علي عن سبب جنونهن . قال لي :
- خايفات من الجمال يا عمي !
- وليش الحمير ما يخافن ؟
- الحمير يربطهن صداقة قديمة بالجمال ، بعكس البغال يا عمي !
- وليش البغال محرومين من هالصداقة ؟
- ما بعرف يا عمي ، بس البغل بحس إن الجمل هو الوحيد بين الدواب إلي ما بتربطه فيه قرابة !
- كيف يا علي ؟
- أبوه حمار وأمه فرس وخاله حصان يا عمي ، ما ظل غير الجمل ما بقرب له !
- ليش البغلة مش أم البغل ؟
- لا يا عمي البغلة ما بتخلف !
- وكيف ينط الحمار على الفرس لتلد بغل ؟!
- تلد يا عمي ! ما بتسمعهم لما بسبوا على واحد بيقولوا < يا بغل يا ابن الحمار > !!
- صحيح والله !
سمعنا هرج ومرج جاي من بعيد . تبين إنهم خطار العبيدية . لقيونا نحتل المكان ، راحوا يدوروا على مطرح ثاني .
بعد اشوي وصلت قوافل التعامرة . خبرناهم إن العبيدية مروا قدامهم . راحوا يبحثوا عن واد ثالث !
قلت لعلي :
- دخلك فيه في البحر ملح يكفي لكل هالناس ؟
- فيه كثير يا عمي !
خطرت لي أسئلة كثيره . لكن علي قال < لازم ننام يا عمي ، بكره بخبرك قبل ما ننزل للبحر >
**** **************
ما غمضت لي عين . ظليت باقي الليل أرقب القمر والنجوم والجبال إلي محاوطتنا . واتنصت لصرير الصراصير وعوي الذياب وفغير الحصينيات !!
فوجئت بطلوع النهار . قمت طلعت سفح الجبل وطليت عالبحر . كعدت على حجر وصرت أتفحصه ! ظليت لما طلعت الشمس .
كنت اسمع إن المية في الأماكن إلي فيها ملح ما هيه غميكه ! لكن حسيت ونا بطلع عالبحر إنه كله غميك ! ون إلي ما بعرف يسبح رايح يغرك ! مع إني سمعت إن مية هالبحر ما بتغرك مثل باقي البحور . حاولت أقنع حالي بهالحكي، لكني ما اقتنعت ، وحسيت إن البحر أرهب بكثير من الصورة إلي كنت متخيلها . وبديت أخاف ، وأفكر في كلام أمي وخوفها وحزنها .
(4)
قمت من النوم . نظرت حولي . لم اشاهد حسن . ناديت < يا حس------------ان >
لم يرد أحد . ناديت مرة أخرى بصوت أعلى . رد علي من فوق الجبل .
- سو بتسوي عندك يا عمي ؟
- بتفرج عالبحر .
- خليك مطرحك جاي لعندك .
أطلقت الدواب لترعى . حملت صرة طعامي وطعام حسن وابريق الشاي وقربة الماء وطلعت لعنده .
انتشر الخطار في الوادي وعلى التلال المشرفة على البحر ، وأطلقوا دوابهم ترعى بين الأودية ، وراحوا يشعلون النار ليغلوا الشاي . وعلى التلال المقابلة لنا انتشر العبيدية والتعامرة . سألني حسن :
- ما بتيجي الدوريات في النهار يا علي ؟
- لا يا عمي .
- ليش ؟
-لأنهم يعرفون أن الخطار لا ينزلون إلى البحر في النهار .
- لعاد خلينا ننزل .
- الله يرضى عليك يا عمي ، الناس بيشوفونا وببلغوا الحكومة .
أشعلنا النار . صعد الدخان من عندنا ومن الوادي ومن السفوح والتلال التي صعد إليها العبيدية والتعامرة . ولم نسمع إلا وأحد العبيدية يصرخ إلينا من الجبل المقابل :
- يا ناس يحرق امكم في عزا أبوكم ما عرفتوا تشعلوا النار في الواد ، وتغلوا الشاي بعدين تطلعوا تدردوه فوق !!
رد عليه واحد من جماعتنا !
- هوه انت صبحت فاتح عقيرتك علينا على هالصبح ليش؟ هم إلي بدهم يشوفونا رايحين يعرفوا إنا خطار ؟ !
رد العبيدي عليه :
- لا سيظنون أنك سائح يا أبو القمل !!
رد رجلنا بغضب :
- قمل في بيت إلي خلفك يا جيفة يا ابن الجيفة !!
- أنا جيفة يا بن عشيرة جايفة ؟! والله إن جيتك لدحرجك من فوق هالجبل !
وثارت حمية رجلنا ونهض وراح يعدو نحو العبيدي وهو يردد :
- والله لأحرق اظلاع إلي خلفك ، خليك عندك لشوف مين يدحرج الثاني ؟ باطل ولا ما تكون ولدتني سحورية !!
وتابع انحداره عدوا وهو يستنجد بخطار السواحرة !
< وينكم يا سواحرة ، العبيدي النذل يسب على عشيرتنا >
ثارت نخوة رجالنا فانفضوا من أماكنهم . قال حسن :
- شو بدنا نسوي يا علي ؟
قلت له :
- خليك كاعد يا عمي .
قمت . جريت خلف رجلنا لما لحقته . أوقفته وأوقفت رجلا آخر كان يندفع خلفه . وحلفت على باقي الرجال أن يختصروا الشر .
قالوا :
- هوه إلي بدا يسب علينا .
قلت :
- العبيدية جماعة طياب وحقنا لن يضيع عندهم .
حاولوا الإفلات مني فلم يستطيعوا .
وصل بعض العاقلين من جماعتنا وحجزوا الهواشين ، ورأيت رجلا من العبيدية يسبق الرجال الذين كانوا يركضون خلف العبيدي ، الذي دبت فيه الرجولة ونزل يجري ناحيتنا . صرخ فيه : < هيه يا ابن البغل ! وين كار على السواحرة لحالك ؟ هالساع دبت فيك الرجولة يا نذل ! كنت ورينا مراجلك على اليهود ! وقف ولا والله لجيب خبرك !! >
توقف العبيدي في مكانه ، لحقه الرجل الثاني الذي بدا أنه محترم عند قومه ، فقد صفعه كفين دون أن ينبس ، وجعله يرجع مع باقي العبيدية ، فرجع رجالنا بدورهم .
جاءنا ثلاثة رجال من العبيدية مع الرجل الذي أوقف الإشتباك قبل أن يحدث .
قال لنا الرجل :
< حقكم علينا يا سواحرة ولي تريدونه نحنا نسويه >
تشاورنا بيننا ! اتفقنا أن نسامح العبيدية لأنهم جاءوا لعندنا .
قمت حفرت حفرة صغيرة ووضعت فيها حصوة ! قلت للعبيدية < والله لوانكم قتلتوا منا رجل وجيتوا لعندنا لسامحناكم بدمه ، جيتكم عزيزة علينا يا جماعة > ومددت يدي نحو الحفرة وطمرت الحصوة بالتراب وأنا أقول < هذا عليها يا رجال ،اعتبروها حصوة ودفناها !حياكم الله !
و حطينا على القضية جورة وصرارة !!
خجلنا العبيدية .. قاموا وخلوا رجلهم يبوس روسنا كلنا ، لأنه شتم العشيرة . وشربنا الشاي معا . واتفقنا أن لا نشعل النار مقابل البحر ، وأن لا نتجمع ، حتى لا نلفت انتباه أحد ، وأن لا ندع الدواب تخرج من الأودية .
ارتفعت الشمس قليلا . قال حسن :
- خلينا نرجع نقعد مقابل البحر .
فكرت للحظة :
- والله يا عمي إن القعدة فوق ما بتتفوت ، يله لنصعد قبل أن تحمى الشمس .
صعدنا . جاء إلى الشاطىء سيارات وباصات سياح ، نزلوا من السيارات ، رجالا ونساء، تعروا ونزلوا إلى البحر . قال حسن :
- خلينا ننزل نتفرج عليهم .
قلت له :
- ممنوع يا عمي ، بتطردنا الشرطة السياحية !
- ليش ؟
- عشان معهم حريم مزلطات يا عمي !
ولا أعرف لماذا قال حسن :
- أنا شايف كل شي ممنوع علينا إلا التعب والشقاء !
قلت له :
- بتهون يا عمي يا حسن بتهون .
سكت وسرح بعينيه إلى البحر . سرحت أنا أيضا . نظرت إلى الملاحات . فكرت .: < مسكين هذا الولد كم تعبت أمه حتى انتشلته هو وأخوته من الموت والعوز ، والآن خايفه عليه ، يحق لها والله ، يحق لها ! وأنا حاسس إنه حمل على ظهري ، ولن أرتاح إلا بعد أن أعيده إليها سالما . ، الله يسامحها ، ما لقيت واحد غيري توديه معه ؟! >
فكرت في الأمر كثيرا ، خفت أن تكون المياه في الملاحات عميقة ، فيغرق الولد ، قلت لحالي < أفضل شي ما أخليه ينزل للبحر ، وإذا ساعدني الخطار كلهم ، لن يصيب الواحد إلا حفنة ملح ، ، نملأ الكيسين اللذين معه ، ونحملهما على الحمارين
ونعود . ، المهم أن لا أدعه ينزل إلى الماء ولو ملأت الكيسين وحدي .
نظرت إليه . شاهدته سارحا يفكر .
- حسن ؟
- نعم !
- ألله ينعم عليك يا عمي ، البحر صعب على من لم يعتد عليه يا عمي ، وأنت صغير، وهذه أول مرة تخطر فيها إلى الملح ، ابق عند الحمير يا عمي ، ونحن نملأ أكياسك !
نظر إلي :
- إنت خايف علي يا علي ؟
- والله يا عمي إن أردت الصدق إني خايف .وما تنسى إن أمك وصتني عليك ، ولا يهون علي أن يحدث لك شيء لا سمح الله .
سكت قليلا . رنا إلى البحر وهو واجم . ضم شفتيه ، عض على السفلى ، وكسر عودا صغيرا كان في يده ، نظر إلي نظرة واثقة :
- اسمع يا علي !
- أنا مصغ لك يا حسن .
- الحقيقة إني ما كنت خايف من البحر ، لكن لما شفته وتذكرت خوف أمي ،خفت ، وخوفك الآن خلاني أحس بالخوف أكثر ، لكني سأنزل في الماء وأملأ أكياسي بيدي ، ولا أقبل أن تملأوها عني ، وليكن ما يكون . !!
- لماذا هذا الإصرار يا حسن ؟
- لأنها ليست المرة الوحيدة يا علي ، ممكن أن يساعدني الخطار هذه الخطرة ، وخطرة أخرى ، لكن ما ممكن يساعدوني الخطرات كلها . لا بد من نزولي إلى الملاحات يا علي حتى أعرف دروبها ومخاطرها ومتاهاتها ..
نظرت إليه لبرهة . كلامه صحيح . مددت يدي . ربت على ظهره . قلت له :
- ولا يهمك يا حسن ، اتكل على الله يا عمي وإن شا الله ما يصير إلا الخير .
قعدنا حوالي ساعتين . نزلنا إلى الوادي ، تغدينا ، ووضعنا رؤوسنا ونمنا
في ظلال الصخور .
*************

-
تابع الخطار (4)
قمنا في المساء.تعشينا. سقنا الحمير قدامنا وربطناها عند باب الواد ي بين التلال ، حتى لا تراها دورية الشرطة إذا جاءت . نزعنا ملابسنا وتركناها عند الحمير . أخرجنا الصفائح من المخابىء، أعطيت حسن صفيحة ، قلت له < هاي صفيحة مثقبة من تحت لتغرف بها الملح يا عمي >
حملنا الأكياس ومشينا . وصلنا الملاحات . وجدنا العبيدية والتعامرة سابقينا ومحتلين راس البحر كله . قلت < يا رب اجعل هذه الليلة تمضي على خير ولا تجعل العشائر تتقاتل على الملح فيها >
نزلنا إلى الماء . اختلط الناس الواحد بالآخر ، قلت لحسن :
< خليك واقف يا عمي لأبحث لك عن ملاحة قليلة الماء >
رحت يمين ، رحت شمال ، هناك ملاحات لم أتمكن من عبورها إلا سباحة ، وصلت إلى مقربة من مصب الشريعة فما وجدت . رجعت إلى حسن .قلت له إنني لم أجد . انحنيت في الماء مددت يدي تحت ، تحسست الملح ، وجدته قليلا ، أخذت ملء يدي
منه ، قربته من عيني ، لم يكن نظيفا ، أخذت حسن لملاحة أخرى ، وضعنا الأكياس إلى جانبها ونزلنا فيها .
قلت له :< ابعد إلى جانب الملاحة يا عمي ، إياك أن تتعمق إلى منتصفها ، المياه عميقة >
أمسكت بيده وقدته حتى بلغ الماء حزامه . قلت له : < إياك أن تغوص أكثر من هنا >
انحنيت تحت الماء ، غرفت بالصفيحة شيئا من الملح ، أعطيته إياها ، ذهب وأفرغها في الكيس وعاد ، قلت له :
< عندما تنزل تحت الماء اغمض عينيك ، وإياك أن تتنفس تحت الماء ، هه >!
ومن خوفي عليه أعدته إلى جانب الملاحة ،حتى لا ينزل رأسه تحت الماء عندما ينحني . قال الملح قليل هنا ! قلت له < معلش يا عمي ، أنا بساعدك بعد ما أملأ أكياسي ، فهمت ؟ >
قال : فهمت إنما سأتقدم قليلا .
- لكن إياك أن تتجاوز المكان الذي قدتك إليه ، وإياك أن تذهب يمينا أو شمالا ، هناك أماكن عميقة في الماء ، وإذا دخلت مياه الملح في عينيك لا تستطيع فتحهما ، وإذا شرقت بها لا تعرف الطيط من الغيصلان !! وقد تموت هه ، دير بالك يا عمي ألله يرضى عليك >
قال : ولا يهمك !
وقبل أن أبتعد عنه ، قلت له أهم شيء ؛
- إذا جاءت دورية الشرطة وأنت في الماء ، لا ترتبك يا عمي ، توقف فورا ، وضع اصبعيك ، السبابة والإبهام ، على أنفك ، وعندما ترى ضوء الكشاف يتجه إلى ناحيتك ، اغطس تحت الماء - إياك تنسى أن تغلق أنفك – لحظة ويكون ضوء الكشاف قد ابتعد عنك ، تطلع .. إياك أن تتنفس تحت الماء أو تفتح فمك هه ! وكيسك تتركه ممدا إلى جانب الملاحة ، لا توقفه ، وعندما يصير فيه قليلا من الملح ، اذهب وافرغه في الكيس الذي عند الحمير ، وعد بسرعة ، وإذا جاءت الدورية ، وأنت في الطريق تمدد على الأرض أو اكمن بجانب شجرة أو أي شيء ، أفهمت ؟
قال : فهمت ، ولا يكون لك فكر !!
ابتعدت عنه قليلا . رحت أبحث عن مكان فيه ملح كثير . غطست تحت الماء ، تحسست القاع ، الملح قليل ، وجدت ضرسا صغيرا ، حملته وطلعت ، مسحت الماء عن رأسي ووجهي وعصرت شعري إلى الوراء لكي لا ينزل الماء في عيني عندما افتحهما . < أيه لن نملأ الأكياس حتى الصباح على هذا المعدل . ليت هذا البحر قريب من بلدنا ، لسرقنا المياه وانتظرناها إلى أن تجف عن الملح ، وما تعذبنا هذا العذاب . >
****************
ملأت حوالي ربع الكيس . حملته وأرسلته إلى عند الحمير ورجعت . قلت أروح ناحية حسن أطمئن عليه وجدته متوغلا في الماء ، وقد جمع بعض الملح .
- يعطيك العافية يا حسن .
- الله يزيدك عافية .
- كيف الشغل معك ؟
- مليح ، لاو ما نزلت مية الملح في عيني ، لملأت أكثر .
- استريح اشوي يا عمي .
- ماشي الحال بغمظ عين وبفتح عين !!!
- ما قلت لك خليك إلى جانب الملاحة يا عمي الله يرضى عليك .
- الملح هناك قليل يا علي ، ما جمعت إشي !
- انتبه يا عمي !
- توكل على الله .
نظرت من حولي لعلني أرى الملاحين ، لم أشاهد أحدا في هذا الظلام . الناس متفرقون في الملاحات ويعملون بصمت شديد ، وإن كنت أسمع بين الفينة والأخرى
بحركة بعضهم على مقربة منا .
غطست تحت الماء ، ملأت شيئا في الصفيحة وطلعت ، مسحت رأسي من الماء وفتحت عيني ، فوجئت بضوء كشاف الدورية وقد سلط على المنطقة من مسافة بضع مئات من الأمتار ، وأخذ يمشطها من الشمال إلى الجنوب ، لم أتمكن من النظر إلى حسن لأن الضوء جاء إلى ناحيتي ، أطبقت باصبعي على أنفي وغطست تحت الماء ، أطلعت نصف رأسي بعد أقل من دقيقة ، شاهدت الضوء على منطقة حسن ، تأكدت أنه غاطس تحت الماء ، قلت < يا رب ابعد الضوء عن منطقته واحفظه بجاهك وجاه
هذا الليل الميمون !!>
ابتعد الضوء ناحية الجنوب . سبحت ناحية حسن لأطمئن عليه ، لكن ضوء الكشاف رجع بسرعة .. همست :
- يا حسن !
قال : نعم .
- لا تخف يا عمي الآن ينقلع....
ودهمني ضوء الكشاف ولم أكمل ، غطست لحظة وطلعت . رأيت ضوء الكشاف يتجه ناحية الشمال . قلت له ؛
- الآن ينقلعون يا عمي . اصمد اشوي وخذ حذرك هه .
ولم اسمع ماذا قال لأن الضوء دهمني ثانية .
غطست .. طلعت .. ابتعد الضوء .. قلت :
- سمعت يا حسن ؟
قال :
_ سمعت ، لكن الماء دخل عيني ، ولا أستطيع أن أفتحهما نهائيا ، كيف سأرى الضوء يجيء إلى ناحيتي ؟
قلت :
- امسح عينيك وتحمل يا عمي .
وسمعت الناس يهمسون لنا < بدون كلام أنت وهو ، تريدان أن توقعانا في داهية ؟>
سبحت ناحية حسن . لكن الضوء دهمني . همست :
- اغطس يا حسن !
غطس وغطست بعده . وحاولت أسبح ناحيته . طلعت بعد لحظة صغيرة ، قلت > اطلع يا حسن > لكنه لم يطلع !! أدركت أنه لا يسمع صوتي من تحت الماء . سبحت ناحيته . رجع الكشاف . غطست .. طلعت . لم يطلع حسن ! < يا إلهي ، صار له حوالي دقيقتين تحت الماء > شاهدته يطلع . صرخت به :
- أنا قادم إليك يا حسن لا تخف يا عمي .
قال :
- الحقني يا علي سأموت !
قلت ؛
- أنا أموت عنك يا حسن ، روحي فداك يا عمي !
سبحت ناحيته ..< يا رب توقف هذا الضوء قليلا حتى أصله وأغطسه وأطلعه معي ! >
رجع ضوء البين علينا ! صرخت له : اغطس . وغطست .
< يا ملعون أبو إلي انت ضوه من وين جيت ؟>
طلعت من تحت الماء وعيناي على حسن ، لم يطلع . رجع ضوء الكشاف ، طلع حسن ، ما كاد يتنفس يا ويلاه ، قلت له : أغطس . وغطست ! يا رب امتني أنا وأعد هذا الولد سالما لأمه . طلعت . طلع حسن . رجع الكشاف . أغطس ! وغطست .
طلعت . لم يطلع حسن . رجع الضوء مرتين وغطست وطلعت وهو تحت الماء .
طلع فيما بعد وشاهدته يخابط بيديه . استنجدت بكل الأنبياء والمرسلين ، صار الضوء يروح ويجيء بسرعة مخيفة ، صرت أغطس وأطلع وعقلي مع حسن ،
وعلقت كلمة (اغطس ) بلساني ، فما أن أطلع وأتنفس إلا والضوء راجع ، أقول لحسن : اغطس ! ورغم أنني أعرف أنه لا يسمعني تحت الماء ، كنت أقول: إطلع !
لما أطلع . وظللت أتمنى من الله أن يفدي هذا الولد بروحي ويعيده سالما لأمه .

الخطار (5)
ها هي اولى القوافل تقترب من سفوح جبل المنطار ، وأطفال عائشة العلان يهرعون من البيت . يتحلقون حول أمهم ويرقبون القوافل من على قمة الجبل .. يسألونها :
- ألم يأت أخونا يا أمنا ؟
فتجيب :
- إن شاء الله يأتي بالسلامه يا أولادي .
تضع جزة الصوف والمغزل في خريطة الخيش وتنهض . تحمل الخريطة على ظهرها .. تقود ابنتها الصغرى (ندى) من يدها وتشرع في نزول الجبل يتبعها
محمد ووطفاء .
تطلق بصرها جاهدة لتتأكد من هوية القافلة . لا تستطيع . تسير بخطوات حثيثة .
تقترب من القافلة ، تنغرس شوكة في إحدى قدمي البنت العاريتين . تتألم وتفلت يدها
من يد أمها وتجلس لتقلع الشوكة .
************
دواب منهكة تسير مثقلة بأكياس الملح . العرق ينضح من أجسادها ، واللهاث يبعث صفيرا من أنوفها .، والرجال يسيرون خلفها بخطوات متعبة مترنحة وقد خارت قواهم . ، والتصقت ملابسهم بأجسادهم من جراء العرق المتصبب، وتقصفت شفاههم الجافة ، وارتسمت على وجوههم مسحات من الكآبة المفجعة ، وتورمت عيونهم وانتفخت من جراء مياه الملح . ، تتعثر أقداهم بين الفينة والأخرى ، وهم يدارون ألم الحرقة الذي تحدثه مياه الملح في أجسادهم ، فقد تسلخ ما بين أفخاذهم ، فأخذوا يسيرون وقد باعدوا ما بين أفخاذهم ..
تمر عائشة العلان من جانبهم .. لا ينظرون إليها .. تتأمل الدواب المنهكة تحت الأكياس .. تسأل أحدهم :
- ألم تروا خطار السواحرة يا أخي ؟
يشير الرجل بيده إلى الوراء ويقول :
- مع الناس الذين وراءنا يا خاله .
ويتابع سيره المتهالك خلف الحمار .
تتجاوز عائشة عشرات الحمير والبغال . تمر عنها مجموعة أخرى . ترى ثلاثة رجال يسيرون خلف أحد الحمير . تقترب منهم . تتسمر عيناها على جثة رجل مربوطة بالحبال وقد تدلى رأسه وقدماه على جانبي الحمار . تهرع إليهم :
-البقية في أعماركم يا أخي !
يجيب أحدهم بكلمات يثقلها الحزن :
- وعمرك يا خاله .
- خير إن شاء الله يا بني ؟
- جاءت إلينا الدورية ونحن في الماء ، شرق ومات ، ألله يكون في عون أمه ليس لها غيره !
- يا حسرتي عليه !
رددت ذلك وهي تهمد على الأرض وتجلس في مكانها مذعورة ، هرع الرجل إليها .
- ما بك يا خاله ؟
- ولدي يا ولدي !!
- ولدك مع الخطار ؟
- ايه يا بني .
- أي خطار ؟
- خطار السواحرة يا بني .
- توكلي على الله يا خاله ، ما مات منهم إلا واحد حسب ما سمعت !
أحست بقلبها يتقطع ، وجاهدت وهي تقول :
- ألا تعرف كم عمره يا بني ؟
- والله لا أعرف يا خاله .
وانصرف الرجل خلف الرجال .
مكثت جالسة في مكانها لا تقوى على النهوض . خاطبت أولادها .
- إرجعوا إلى البيت يمه الله يرضى عليكم ، أخوكم قد يتأخر ، والدجاجات بحاجة إلى ماء وعلف ، روحوا ضعوا لها ، والصيصان أخاف أن تخر العقبان والصقور عليها وتخطفها ، ارجعوا يا إمي ارجعوا .
ويرجع الولد والبنتان تحت إلحاحها .
الخطار يمرون .. مر كل خطار العبيدية ، وهاهم خطار التعامرة يطلون من سفح تلة . تجاهد لتنهض على قدميها لكنها لا تستطيع .
مر حماران يتبعهما رجل ، ومر ثلاثة يتبعها ثان. ، ومر اثنان يتبعهما آخر . ويمر الخطار بدوابهم المثقلة المنهكة وهي تجلس خائرة القوى .
هاهي جثة ثانية محمولة على حمار يتبعها خمسة خطار .. يمرون من جانبها .. يلقون عليها نظرات حائرة حزينة ويمرون ... تمر مجموعة خطار آخرين يمتطون بغالا . ..
هاهي جثة أخرى يتبعها أربعة رجال تطل .. يمرون عنها ويبتعدون .
< أين قافلة البلد ، لماذا لم تأت حتى الآن ، هل ستشاهد عيون حسن ؟ لن تدعه يعود للملح ثانية ولو سيأتيها ببحر الملح كله ! والشيخ علي-يدهاه في ماله وعياله – هو سبب كل هذا الشقاء >
نظرت إلى ما حولها .. شاهدت القوافل تصعد منعرجات جبل المنطار وتتوارى خلفه .
حدقت لتشاهد أولادها ، لكنها لم تشاهدهم . شردت :
( طارت بجناحين من اقحوان ! قطعت التلال والأودية ، بلغت قافلة الخطار ، حطت فوقها ، شاهدت حسن يسير خلف الحمارين ، والعرق ينضح من جبينه . ضمته ، قبلته ، سقته ماء باردا من القربة ، احتضنته ، حملته وطارت به )
***********
هاهي قافلة البلد تطل . تنفرد أسارير وجهها . تجاهد لكي تنهض ، تنهض ، تسير ، تستقبل القافلة :
هذا أحمد السلمى خلف حماريه يدنو منها ، ينظر إليها متمعنا ثم يطأطىء رأسه إلى الأرض ويسير خلف الحمارين دون أن ينبس ببنت شفة ، يتجاوزها دون أن ينظر إليها أو يرد التحية .. تنده له :
- ابني يا أحمد، ما شفت ابني ؟
يشير بيده إلى الوراء دون أن يلتفت نحوها .
تحس أن قواها عادت تخونها ، فهاهم خطار البلد يمرون عنها ويتجاهلونها ولا يجيبون على تساؤلاتها ، أو يشيرون بأيديهم إلى الوراء ، تتهاوى متهالكة في مكانها ..
أطل علي الخطيب من سفح التلة .. نظر .. شاهدها تجلس على قارعة الطريق ، لم يخطر له أنها قد لا تكون هي ، لقد جاءت اللحظة التي حسب حسابها ألف مرة ومرة ، ( ماذا يقول لها بحق كل الأنبياء ؟! هل يقول أن ضوء الكشاف حاصرهم لمدة تقارب الساعتين ، وأن معظم الخطار قد شرقوا بالماء ، ولم يسلموا إلا لأنهم اعتادوا هذه المياه اللعينة القذرة ،وأنه عمل كل ما في وسعه لينقذ حسن ، بل وتمنى أن يموت هو بدلا منه ؟!)
أحس أن الموت أهون عليه من مواجهتها . توقف . فتوقف حسين الرشود إلى جانبه ، وتوقف الحما ر الذي يقل جثة حسن أمامهما ، ولم يعرفا ماذا يفعلان .
حدقت عائشة العلان باتجاههما .. ارتابت من وقفتهما .. أيقنت أن أحدهما لا بد وأن يكون علي الخطيب وإلا لما توقفا . . نهضت واقفة على ساقيها الخائرتين .. هرعت نحوهما . أحست بأن رجليها لن تبلغا بها المكان .. اقتربت منهما .. شاهدت الجثة على الحمار .. حدقت تتأملها .. خارت قواها أكثر من جديد .. جاهدت ، حنت ظهرها
واستمرت في هروعها .. أقبلت على الجثة ، تأملت القدمين البارزتين من تحت الكيس والمدلاتين على جانب الحمار ( إنهما قدما حسن ) أجل إنهما قدما حسن !!
تعثرت خطاها ..سقطت .. حبت على أربع .. اقتربت .. مدت يديها .. تشبثت بقدمي حسن ، ضمتهما وسقطت متهالكة عليهما وهي تلثمهما وتردد من أعماق فجيعتها :
( الشيخ علي وعدوينك يموتون عنك يا ولدي )
وخرت مغشيا عليها ..

محمود شاهين 3-4- 1978
القصة بيعت إلى السينما السورية ولم يجر انتاجها .

إلى اللقاء بقصة بلا حزن !!







 
رد مع اقتباس
قديم 14-06-2007, 03:17 AM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

جسدي بين صبرا وبسمة
( نشرت عام 2000 عن وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله
ضمن مجموعة قصصية تحمل عنوان : موتي وقط لوسيان )
ستأتي بسمة ، وجسدي الذي أراه دائما مسجى في تابوت ، أو محمولا على نعش ، أو مطروحا على رصيف مهجور ـ متآكل كرمة نهشتها الكلاب ، متصدع كجدار قديم ، مشروخ كجذع نخره السوس ... شروخ كثيرة تغرز براثنها في كل أنحاء جسدي ، تنيخ بكل كلكلها على كاهلي فأنوء تحت وطأتها ، وعبثا أحاول أن أعدل كتفي ، أرفع ظهري . ..
ثمة شرخ يمتد في جسدي من عام 1948وحتى عام 1986. عام 1948 هو العام الذي جئت فيه إلى هذا العالم ،
وهو العام الذي احتل فيه موطني ، أما عام 1986 فالجميع يعرفونه جيدا ، فقد بات فيه معظم زعماء قومي أصدقاء لمن احتلوا موطني .. !!
وثمة شرخ يمتد في جسدي من المحيط إلى الخليج ، فقد تحطمت طموحاتي كلها : في الحرية ، الإشتراكية ، الوحدة ، التحرير ، التحرر ، الإنعتاق ، الديمقراطية ، تحطمت كلها ، ولم يعد هناك ولو شمعة واحدة تنوس أو تخبو في حلكة ظلامي ، شمعة واحدة فقط ، وإنني أتحدى كل صادق أن يثبت العكس !
أية شروخ هذه بحق الكائنات ؟ هل هناك ثمة قوة يمكنها أن ترمم هذه الشروخ الفظيعة في جسدي ؟! لا لا ! لأهرب من شروخي كلها ، ولأنتظر بسمة ، بسمة الباسمة ، بسمة الإبتسامة ، فرح يقف في مواجهة كل شروخي ، شمعة منيرة دائما في ظلام ليلي ، أمل يطل دوما من خلف أسوار حزني ..
الصمت داخل الغرفة قاتل ، والضجيج في الخارج قاتل ، رسومات الملصقات على الجدران تحدق إلي وأحدق إليها :
رسم لحمامة مصلوبة ، جسدها قنبلة وجناحاها أطفال صبرا ، رسم لدبابة يقطعها حرف X وإلى جانبها طفل قتيل من أطفال صبرا . رسومات كثيرة قوامها دماء صبرا . صبرا اختصار قتلي ، صبرا دمي المسفوك دوما بالرصاص الأخوي ، وباسم العدالة والإرهاب والفوضى ، باسم جراحات الوطن المستلب ـ باسم صمودي وباسم استسلامي ، باسم حياتي وباسم مماتي ، وباسم الحرص علي ! والحرص مني علي !!
لم يبق شيء إلا وسفك من أجله أو بسببه دمي ، ولم تبق بلاد دون أن تشردني ـ ولم تبق أرض دون أن تبددني ، أي جنازة لم ألبس كفنها ؟ وأي عباءات لم أحمل عفنها ؟ وكم من( بطولات) لم أدفع ثمنها ؟
الكهرباء مقطوعة .. وجسدي يتصبب عرقا .. مع أن الوقت ما يزال صباحا .. في الخارج تضج أصوات المنادين على الخضار وابواق باعة المازوت التي تضرب على أعصابي ، تشل تفكيري ، أدفع السدادتين عميقا داخل أذني ، وأتبعهما بسدادتين أخريين . أنجح في الهروب من الضجيج والصخب ـ لأغرق في الوحشة والصمت . الضجيج يقتلني والوحشة تقتلني ..
في الحادية عشرة ستأتي بسمة ، لتنقذني من وحدتي وشروخي .. من الصمت القاتل .. من ملصقات صبرا وشاتيلا ويوم الأرض وتل الزعتر ، و(الأياليل ) السود التي تعج بها جدران بيتي ، كل جدران بيتي ,..ذات يوم هربت فتاة من بيتي بعد أن أبدت رغبتها في مشاركتي سريري طوال الليل ، كان حلمها كما قالت أن تمص قضيبي وتولجه إلى أعماق حلقها ، غير أنها وما أن دخلت البيت لأول مرة وراحت تتأمل الجدران ، حتى هتفت بهلع ( يا ألله كم أنت مليء بالموت ، كيف تنام وكل هذه الدماء تحيط بسريرك ) ؟ همست لها : ( إنها نصف حقيقتي يا عزيزتي ، إن لم تكن حقيقتي كلها ، ويبدو أنني أصر على عدم الهروب منها أو نسيانها ، فأجعلها تشاركني حياتي ، أغمض عيني عليها ، وأفتحهما عليها ـ ولقد اعتدت الأمر ـ ولا أظن أنني قادر على مبارحته )
وزفرت صديقتي نفسا عميقا ( آسفة أنا لا أستطيع أن أشاركك سريرك ضمن هذه الأجواء ، بيوت قياداتكم ليست هكذا ، ألا يوجد مكان آخر لديك ؟ ! )
( لا للأسف لا يوجد ، حتى لو و جد ـ فلن أستطيع أن أعيش فرحي خارج هذا الحزن ، فالحزن أصبح حقيقتي ، وعندما أعيش فرحي في ظله ، أتمتع بالفرح إلى حد لا يمكن أن يبلغه إلا من هو مثلي )
( لا يا إلهي ! هل أنت بكامل عقلك ؟ )
( أدعي ذلك ! فالفناء والبقاء ، الحزن والفرح ، الشقاء والسعادة ، الألم واللذة ، الكره والحب ، القهر والحرية ،
التشاؤم والتفاؤل ، الدم والورد ، أمران متعددا الوجوه ، ملازمان لي ـ ولا يمكن أن أشعر بأحدهما دون أن أشعر
بالآخر ، ثم إن أحدهما لا ينتفي إلا بالإحلال المطلق للطرف الآخر ، إنها معادلة معقدة جدا يا عزيزتي ) !!
( ربما تكون مريضا يا محمود ـ يجب أن تراجع طبيبا مختصا بالأمراض النفسية ، أستودعك )
وهربت .. هربت إلى غير رجعة . لتذهب هي وقيادتنا إلى الجحيم !!!
بسمة ليست من هذا النوع من الفتيات .. بسمة تشاركني فرحي وحزني .. أمامي ساعة ، سأغتسل وأتعطرقبل أن تأتي .أنا دائما أغتسل وأتعطر قبل أن تأتي .. لا أريدها أن تنفر مني .. لأظل ذكرى جميلة في حياتها ـ بل أجمل ذكرى في حياتها إن استطعت .


اغتسلت . تعطرت . احتسيت القهوة . الزمن يسير بطيئا جدا .. يقتلني الإنتظار . يقتلني العد التنازلي نحو الحادية عشرة .. بقي عشر دقائق وتصبح الحادية ...الرسومات التي رسمها لي رسامون أصدقاء تمثل أمام
عيني :
هذا أطال شاربي أكثر مما هما عليه ، وذاك بالغ إلى حد كبير في طول أنفي وانحنائه ، وهذا بالغ في مساحة الصلع التي تتوسط رأسي ، وذاك في تمثاله الصغير الذي فارق الحياة جعلني أقرب إلى الإنسان الميت مني إلى الإنسان الحي . رسام واحد لم يبالغ في طول ذقني ، غير أنه جملها أكثر مما هي عليه .
خمس دقائق وتأتي بسمة . خمس دقائق فقط . هي في الغالب تأتي في الحادية عشرة . إذا لم تأت ستتصل . يجب أن تتصل . هي تعرف انني أنتظرها ، لكنها لا تعرف أنها لم تغب عن بالي طوال اسبوع . منذ آخر مرة التقيتها ، وكان لقاء فاترا للغاية ، جاءت بصحبة موله بها ، في الوقت الذي أمضيت الليل في انتظارها ، واغتسلت وتعطرت في الصباح ، وهيأت نفسي للقاء ممتع مع الحياة .ومنذ ذلك اليوم لم تغب من مخيلتي . هي في الحقيقة نادرا ما تغيب من ... وكلما انقلبت على السرير خلتها بين ذراعي ، ورحت أضمها وأشد الغطاء إلى جسدها لأقيها نسمة برد قد تأتي على حين غرة . ..
ثلاث دقائق وتأتي . هي لا بد في الطريق الآن . سأطل من النافذة ، ولأنزع هذه السدادات من أذني :
تلك فتاة قادمة من أول الشارع . إنها هي حتما . يتبدد كل الصمت المحيط بي ، لن أعود إلى الوحدة الموحشة إلى الأبد . يقترب شبح الفتاة .. رباه!يا يسوع المعذب ، إنها ليست هي .
لا بأس ، ثمة سيارة قادمة ستكون فيها . إذا توقفت السيارة تحت نافذتي فهي فيها حتما .
المح طرف رداء امرأة ترتدي ثوبا أصفر ، تجلس في المقعد الخلفي ، ( إنه أحد أثوابها ) . أرى رأس الفتاة . شعر أسود كحلكة الليل . إنه شعرها . ثم إن الفتاة سمراء مثلها تماما . يهبط قلبي فرحا . تقترب السيارة وتمر من تحت النافذة وتنعطف متابعة طريقها . ( أف أف أف ) وأبتعد عن النافذة لأغرق في صمت البيت .
دقيقة واحدة وتصبح الحادية عشرة . ستأتي الآن أو يرن جرس الهاتف على الأقل . لأعود إلى النافذة ولأنتظرها . أريد أن أرى إطلالتها ، هي في العادة تلقي نظرة نحو النافذة ، قبل أن تنعطف إلى البناية ، وتشرع في صعود الدرج المتعب . ، وعندما تنظر ألمح طيف ابتسامتها . هي لا تستطيع أن تفعل أكثر من هذا ، نظرا للعيون الكثيرة التي ترقبها .
ثمة فتاتان قادمتان ، لا بد أن تكون إحداهما هي . ربما أتت مع صديقة لها . لالا ، الفتاتان ممتلئتان ، وهي ليست ممتلئة إلى هذا الحد . تمر الفتاتان من تحت النافذة وتنعطفان ، أرقبهما وهما تبتعدان ، إلى أن يلفهما زقاق فرعي .
أوه .. إنها الحادية عشرة ودقيقتان .. إذن بدأ العد التصاعدي .. سيقتلني العد التصا.. والصمت الثقيل يطبق على الغرفة كوحش كاسر . يرن جرس الهاتف . أهرع ، إنها هي حتما :
- ( هلو استاذ محمود أتريد لحمة هذا اليوم )
اوه يا رب ! أيوه أبو رياض ابعث لي كيلوين شرحه . وأقفلت الخط . لكن لمذا كيلوين بحق السماء ؟ لنأكل انا وبسمة اليوم وغدا .. لنأكل كثيرا ولنشبع لحمة طازجة طرية ، فلن أجد في المستقبل لحاما مثل هذا اللحام . شاهدته بالأمس خلال تشييع جنازة جارنا ، ترك محله وجاء يشارك في تشييع جنازة ... جارنا الذي دهمته سيارة وهو يسير على الرصيف ، نعم على الرصيف ! فقد كان اثنان يتسابقان بسيارتيهما ، وجنح أحدهما نحو الآخر إلى أن ضيق عليه ، فلم يكن أمام الآخر إلا الهروب إلى الرصيف ليدهم جارنا .. جارنا الطيب البسيط الهادىء .
جارنا الكردي ذا الأطفال الثمانية فقط !!
مرت عشر دقائق .. عشرون دقيقة .. نصف ساعة .. لم تمر دقيقة دون أن أقف على النافذة ، ودون أن أعود إلى الصمت . وكلما شاهدت شبح امرأة ( وأنا على النافذة ) خيل إلي أنها بسمة ، وكلما شاهدت سيارة قادمة، انتابني إحساس أن بسمة فيها ، وكلما رن جرس الهاتف أيقنت أن بسمة هي الهاتفة . .. إلى أن أصبحت الساعة الواحدة بعد الظهر ، فقررت ( وتبين أنني لم ألتزم بقراري ) أن ألقي نظرة أخيرة عبر النافذة .
شاهدت فتاة ترتدي لباس الفتوة تقدم عبر الشارع ، كنت مقتنعا تماما أنها ليست هي ، فهي إذا شاءت أن تأتي إلي بلباس رسمي ، فستأتي بزي الجامعة . ، ومع ذلك لم أقطع الأمل ، ورحت ألتمس عذرا مقنعا لها ، لتردي لباس ... لم أجد عذرا .. .. . .. غير أنني لم أقطع الشك في أنها قد تكون هي .
مرت الفتاة من تحت نافذتي وهي تجمح كمهرة ، وضفيرة شعرها تلوح على ظهرها كلما نقلت خطاها .
أرهقت.. تعبت .. لا أستطيع أن أقرأ أو أكتب ، أو حتى أستمع إلى الموسيقى ، وليس في مقدوري مغادرة البيت ، فربما لديها محاضرة مهمة في الجامعة ، لماذا ألح عليها أن تأتي في أوقات محددة ، ثم إنها لم تقل لي أنها ستأتي في الحادية عشرة . ذات مرة جاءت في الواحدة والنصف ، ومرات كثيرة بين الثانية عشرة والواحدة .
وبعض المرات بين الرابعة والسادسة .. إذن ستأتي ..
عدت إلى النافذة . لم استطع إلا أن أعود إلى .... .
ثمة ساقان يلفهما بنطلون جينز ، تقدمان تحت أشجار الرصيف . لم أميز النصف العلوي للقادم ، ومع ذلك قد تكون هي ، سأنتظر إلى أن يبزغ من تحت الشجيرات .. يا للجحيم إنه شاب .
عدت إلى الداخل . ليس لدي إلا ثلاث زجاجات ممتلئة من البيرة ، سأذهب لاستبدال الزجاجات الفارغة . لكن ربما تأتي خلال غيابي ، سأترك الباب مفتوحا ، لا سأترك لها ورقة على الباب , لكن ماذا لو اتصلت هاتفيا . أوه ! لتتصل ولتعرف أنني لا أنتظرها ! ماذا تظن نفسها هي ؟
نزلت .. لم أستطع إلا أن أنظر إلى الإتجاه الذي ستأتي منه .. وظللت أنظر إلى أن طواني الزقاق المؤدي إلى حانة الخمور . لم أجد بيرة كالعادة . أبقيت الزجاجات في الحانة وعدت . ألقيت نظرة نحو الطابق العلوي في البناية . ربما جاءت ووجدت الملاحظة على الباب ، ووقفت تنتظر على نافذة الدرج . لم أر أحدا . إذن لأذهب
إلى البقال وأبتاع بعض الخضار ، ولأمر على اللحام .
هذا اللحام يقتلني ببطئه وبرودة دمه ومحاولته اليائسة في أن يدخلني الإسلام منذ أن قلت له كاذبا ذات يوم أنني مسيحي !! لا بد من استراق بعض النظرات نحو الشارع بين شراء حاجة وأخرى . لا أريدها أن تمر دون أن تراني ، فربما تفهم الملاحظة التي على الباب حسب التوقيت العربي ، حيث لا يحس أحد بالزمن على الإطلاق .
فتغدو اللحظات ساعات والساعات لحظات !
إلقاء نظرة نحو الشارع يضطرني إلى الخروج من البقالة والسير لبضعة أمتار كي أشرف .. ألقيت النظرة الأولى بعد شراء كيلو خيار ، والثانية بعد شراء كيلو بصل ، والثالثة .. بعد كيلو بندورة .. والرابعة .. جرزة بقدونس ، وفي الخامسة كنت قد حاسبت البقال وحملت الخضار وعدت بسرعة إلى الشارع . رأيتها في كل الفتيات اللواتي كن يجبن الشارع .. لماذا أراها في كل الفتيات ...... .. ؟!
وتنبهت إلى أنني نسيت أن أمر على اللحام .. عدت. لم يرسل اللحمة بعد . دفعت ثمنها وهرعت نحو البيت .. لا بد أنها جاءت دون أن أراها . لقد امضيت من الوقت في انتقاء الخضار أكثر مما أمضيته في ترقب الشارع . إذن سأجدها تنتظرني أمام الباب ، طالما لم أرها تطل من نافذة الدرج ، بقي أمامي الطابق الأخير لأراها واقفة ،سأرى الآن إطلالة عينيها ـ إشراقتهما ، والإبتسامة العذبة تطوف على شفتيها .

لم تكن أمام الباب ..لكن ثمة جدار إلى جانب ... ربما اختبأت خلفه لتباغتني .. ( أه يا عكروته عرفت ألاعيبك ) وينتصب الباب أمامي كجدار سجن ، والملاحظة تصفعني على وجهي ( سأعود بعد لحظات )
أللعنة يجب أن أنسى هذه البسمة . لكن كيف أنساها ، إنها تأسرني ؟ دفعت الباب وأنا أهز رأسي بشدة في محاولة يائسة لطرد بسمة منه .
ألقيت أكياس الخضار على أرضية المطبخ وطرحت جثتي المشروخة على الأريكة . أحجار الشطرنج تنتصب أمامي على رقعتها كتماثيل صماء ، لو أن أحدهم يأتي لأغلبه ، فأنا لا أتصور نفسي إلا غالبا دائما ـ، والحق إنني نادرا ما غلبت ، وأنجح دائما في الإجهاز على خصومي . الشطرنج يسلب مخيلتي ، يستولي علي ، ينسيني الدم ، الصمت ، الموت، الضجيج ، العطالة، حتى بسمة . لكن لا أظن انني قادر على اللعب الآن ، فدماغي معطل ، معطل تماما ، ولا يشغله إلا الموت وبسمه ، بل بسمة وحدها ، ما يعنيني الآن هو... . بسمة ترمم شروخي ، تعيد إلي توازني ، توقف نزيف الدم الهاطل من شراييني .
إنها الثانية والنصف . لم تأت بسمة ، ومع ذلك تركت الباب مفتوحا ، لا أحتمل إلى أن أفتح لها ، ثم إنني أريدها أن تجد بابي وصدري مشرعين لها . بابي المغبر القذر العتيق المسويس ـ، وصدري المنخور المشروخ المتصدع . طز ! ماذا يعنيان أمام صدرها المتدفق بخصب الحياة ؟ سألتني ذات يوم بهمس ( لماذا تتأوه إلى هذا الحد وأنت تلقي رأسك على صدري ؟) فهمست ( كلما ألقيت رأسي على صدرك أحسست بالحياة تدب في جسدي الميت ، إنني أتلذذ بطعم الحياة ونعمة الله ) !!فكت ما بقي مشبوكا من أزرار قميصها وألقمتني نهدها وطوقت رأسي بذراعيها وراحت تضمني إليها ، فرحت أغرق أغرق ... ، أو لأقل رحت أحيا أحيا بعد موتي .
سمعت وقع خطوات تصعد الدرج . أرهفت السمع . هي حتما ! اقتربت الخطوات من مدخل البيت ، توقفت أنفاسي وعيناي تحملقان نحو الباب . امتدت يد سمراء لتجتاز العتبة وتطرق الباب المفتوح . ( تفضلي ) !!
وشاهدت طبقا من اللحم يسبق حامله . ( اللعنة ، إنه ابن اللحام ) !
( يقول لك بابا إنه لم يستطع تأمين أكثر من كيلو لحمه هذا اليوم ، غدا سيبعث لك بالكيلو الآخر . )
( طيب عمو طيب. شكرا )
ثمة خطوات أخرى تصعد الدرج . تحفزت ثانية . تجاوزت الخطوات المدخل نحو السطوح . لا شك أنها إحدى الجارات ، وقد صعدت لتنشر غسيلها . غرقت في حالة من الهذيان الصامت . ما أسميه ( هاجس فنائي ) يدفعني نحو صبرا ، وما أسميه ( هاجس بقائي ) يدفعني نحو بسمة ، ولم أشعر إلا ويد تمتد لتطرق الباب .. هزم هاجس فنائي شر هزيمة . فقد غابت صبرا تماما من مخيلتي وحلت بسمة بكل عنفوان شبابها وخصب الحياة فيها . ( أدخل ) !! وشاهدت طبقا ثانيا من اللحم يجتاز الباب ( يا رب هل سأجن هذا اليوم ) ؟
( يقول لك أبي أنه دبر لك كيلو من لحمة البيت )
( طيب طيب طيب عمو شكرا )
كم هو حقير هاجس فنائي هذا .. أحس بنشوة النصر فراح يطبق على روحي ويضغط على جسدي .. لم يكن امامي إلا أن أسترخي وأستحث هاجس بقائي على المقاومة ...
تجاوزت الساعة الثالثة وأنا أحدق إلى كومتي اللحم أمامي ، وعبثا أحاول أن أعيد إلى جسدي شيئا من توازنه ، وإلى روحي الميته دفقة من حياة ، وإلى أعصابي المتلفة قليلا من التماسك .
لا بد لي من تناول الطعام ..لأنهض .. أوقفت جسدي المتهالك .. دخلت المطبخ وأنا مشتت الذهن .. لم أعد أعرف مكان الأشياء . ولم اعد قادرا على جمع أفكاري للتمييز بينها .. أفتح البراد ولا أعرف لماذا فتحته .
أمد يدي إلى رف المطبخ وأنسى لماذا مددتها ، فتظل معلقة في الهواء .
ارتكبت حماقات كثيرة .. وضعت سكرا على الشرحات بدلا من الملح .. بينما وضعت كمية هائلة من الملح على السلطة والبطاطا .. أضفت إلى السلطة تشكيلة من البهارات لم أضفها إليها في حياتي . شطة ، فلفل أسود ، بهارات مشكلة ، نعنع ناشف ، قرفة مطحونة ، كمون ، سماك ، كاري !! كانت سلطة فانتازية . غسلت الشرحات بالماء وأعدت تمليحها .
تنبهت إلى أنني حضرت طعاما لي ولبسمة . ولماذا لا .؟ ستأتي حتما ! حضرت لها صحنا وشوكة ، وملأت كأسها بالبيرة ، وخلتها تجلس معي ، حتى أنني قرعت كأسي بكأسها !!
لأنتظر قليلا . لا . لآكل على مهل . ( بصحتك ) نسيت أن أملا صحنك . أللعنة على أبي ـ، أبي الذي كان يمتص الذبابة عندما تقع في صحن اللبن أو كأس الشاي ، حتى لا يذهب ما علق بها سدى . أبي الذي قتل أحد إخوتي ، أبي الذي حاول قتلي أكثر من مرة ، لكن غريزة بقائي كانت تدفعني دائما إلى الإفلات من هراوة فأسه المشرعة ، أو تجعلها تقع على كتفي ، أو اي موضع آخر في جسدي .. أبي الذي جعلني أنزح من الضفة قبل أن ينزح منها أي فلسطيني آخر !!
( كلي يا بسمة ، كلي يا حياتي ، آسف لكمية الملح المرعبة ، للسلطة الفانتازية العجيبة )
يبدو أنني شبعت . تنبهت إلى أن صحن بسمة ما يزال على حاله .، وكأسها تطفح بالبيرة .
أللعنة ! إذن هي لم تأت ، والساعة تجاوزت الخامسة ، رباه لقد بات الأمل في قدومها ضئيلا جدا . آه يا أمي التي كان ابي يضربها أربع مرات في اليوم ! آه يا أمي التي لم أرها منذ ستة عشر عاما ، يا أمي التي ماتت دون أن أراها ، ودون أن تراني .. آه يا قطيعنا الذي كنت أرعاك .. آه يا جبال القدس التي عشت على بطاحك أول فرحي وشقائي .. آه يا حياة يا أول حب في الكبر !!يا أول بسمة في حياتي !! لماذا تقفزين إلى مخيلتي الآن وفي هذه اللحظات التعسة بالذات ؟! أين أنت الآن ؟ في القدس ؟ آه يا حياة ، هل ثمة ما هو أجمل من أن يكون الإنسان في القدس ؟ لا بد انك احببت غيري .. شيء طبيعي أن تحبي غيري .. وحتما تزوجت وأنجبت أطفالا كثيرين ، مثلما أحببت وتزوجت ، لكنني لم أنجب إلا طفلين لقصر يدي ، أو لعوزي ، أنت لا تعرفين ما معنى أن يعيل المرء طفلين وأمهما في الشتات ، يعتقد في كل لحظة أنهما سيموتان جوعا ذات يوم ، أو يتحولان إلىى متسكعين ، أو يقتلان في صبرا ، وما أكثر صبرا في حياتنا يا حياة .
حياة ؟!لن أنساك ما حييت ، سأتذكرك وأنا ألفظ أنفاسي الأخيرة . أعرف أنك غاضبة مني ، وأعرف انك انتظرتني لأيام وشهور وسنين .. لكن لم يكن الأمر بيدي .. والله لم يكن ... وهذا البيت الذي كنت أقذف لك بقبلاتي من شرفته ، كان مخبأ أو بيت أمن كما نسميه في التنظيم . لقد كنت فدائيا يا حياة ، لا أحمل هوية الكيان ، عدا أنني مطارد من عسكر الإحتلال ، وعسس الإحتلال ومخابرات وجواسيس ... فكيف أقول لك ذلك ، ثم كيف القاك ، وإلى أين سأتبعك ؟! أعرف أنك سئمت قذف القبل عبر الشرفات ، وأنت تحتارين في أمري ، لا تدرين ماذا أعمل ، وتظنين أنني تخليت عن كل شيء في حياتي ، إلا عن الجلوس في الشرفة ، لأرقبك ، وأختلس
إليك قذف القبل ... وجن جنونك .. أذكر عندما جن جنو... فارتديت ملابسك وحملت حقيبة يدك ، وأومأت لي من الشرفة أن أتبعك ، فأومأت لك بكل خلجة في جسدي أن لا تنزلي ، لأنني لا أستطيع أن أتبعك ، ليس في مقدوري النزول إلى القدس حتى من جبل الزيتون ! لكنك لم تصدقيني ، ونزلت لتقفي أمام البناية وتحدجيني بنظرات كلها إصرار ، وتومئي لي أن أتبعك ، وأنه ينبغي علي أن أتبع... فتبعتك !! قلت لعلني أستطيع الإقتراب منها لأقول لها شيئا من الحقيقة ، لكني لم أستطع الإقتراب منك ، فكل عيون أبناء جبل الزيتون كانت ترقب سواد عينيك الواسعتين ، جمال قوامك الصاخب بالعنفوان ، وأنت تحثين خطاك نحو موقف الباص ، دون أن تلتفتي خلفك .
تبعتك إلى موقف البا... وشاهدتك تصعدين إلى الباص من الباب الأمامي ، وعندما أيقنت أنني لم اصعد ، هرعت نحو الزجاج الخلفي ، شاهدت وجهك وهو ينضغط خلف الزجاج ، انكسار أنفك ، جحوظ عينيك ، ومئات التساؤلات الحائرة .. وأنا أحتضن رأسي براحتي يدي وأحاول أن أعبر لك ، أن أفهمك ، بعيني، بشفتي ، باختلاجات وجهي ، أنني لا أستطيع أن أتبعك إلى القدس ، لنضيع في زحمة الناس ، ونهرب من أعين الفضوليين والعسكر المدججين بالسلاح ، ونختلي بنفسينا في زاوية ما ، ركن ما ..
أعرف أنك لم تفهمي التعابير التي كانت منطبعة على وجهي .. وانطلق الباص يا حياة ، ووجهك ما يزال منضغطا خلف الزجاج ، وعيناك تحدقان بدهشة وحيرة ورجاء . وظللت أرقب انضغاط وجهك ... إلى أن ابتعد الباص ، ولم أعد قادرا على رؤية وجهك .. وانعطف الباص واختفى لينحدر إلى القدس ...
غادرت المخبأ ذلك المساء لأسباب أمنية يا حياة ، وبعد قرابة شهرين غادرت الأرض المحتلة كلها .. وظل انضغاط وجهك خلف الزجاج ، انكسار أنفك ، آخر ذكرى لي فيها ـ، أجمل ذكرى لي فيها .. سامحيني يا حياة .
يا من شاءت الظروف أن يظل حبها عذريا ـ، مع أنني أكره الحب العذري .. سامحيني ، ربما انتظرتني طويلا ،
لستة عشر عاما .. لا غير معقول أن تفعليها ..جنون أن تفع ...
آه أين كنت ؟ أين أنا؟ أين بسمة ؟ كم الساعة الآن ؟ جرس الهاتف يرن .. آن لها أن تتصل .. غير ممكن أن لا ....!!
( هلو نعم ... رباه ! إنها كلير ... كل... القادمة من بلاد بلفور ! قاتلي بل.. ! المتخرجة حديثا من كامبريدج ..
كلير التي ما زالت بلادها بكرا أمامي ، وأرضها صخرية، عصية ، عذراء، يباس ... نعم ! تحدثي إلي بالعربية
لأنني في حال لا تسمح لي باستيعاب كل ما ستتفوهين به بالإنكليزية )
- أنا مشتاقة لك .. متى سأراك ؟
- تشتاق لك العافية ! الآن إذا تشائين .
- لا الآن لا أستطيع ، فيما بعد ، أردت أن أطمئن عليك وأشكرك على العشاء الجميل !
- كلير إنني أشعر بوحدة قاتلة ، ألا تأتين لتنقذيني منها ، لن أطلب إليك سوى أن نجلس ونتحدث .
- آسفة يا محمود ، أنا مشغولة الآن ولدي موعد ، ربما في المساء إذا تمكنت ، باي !
- كما تشائين يا كلير ، باي .
تركت المائدة كما هي ونهضت أجرجر جسدي التالف ... التالف إلى حد لم يبلغه من قبل إلا ما ندر .
دخلت غرفة النوم . طرحت نفسي بطنا على السرير . لم أكن قادرا على أن استلقي بالعكس ، فقد كان هاجس فنائي يستفحل بي ، يضيق على روحي الهشة الخناق ، ويصرخ في دخيلتي بصوت مرعب :
( ليس في حياتك إلا حقيقة واحدة ثابتة لا تتغير ، إنها صبرا ، وكل ما تبقى عابر ، كذب ضلال هروب ، صبرا اختصار زمانك ، صبرا اختصار حياتك ، صبرا اختصار شقائك ، فاركن إليها ، اغرق في خضم حمئها الدموي ، كل الأشياء تجيء وتروح ، وتروح وتجيء إلا حقيقتك الثابته صبرا ! صبرا التي ترزح في أعماقك ، صبرا المعلقة في شرايين قلبك ، السارية في دماء جسدك ، الجاثمة في صلب دماغك .. صبرا اختصار موتك ، رمز مسافات العذابات فيك ، ليالي الحزن الطويلة في عينيك ، تكثيف لحجم القتل في روحك المتعبة ، فاركن إليها ، وانشر حزنك على الملأ ، واجعل دماءك تخضب حمأ البوادي ، وافقأ باصبعيك عيون القيادات القميئة ، واهتك بجرحك أستار التقدم الزائف ، والنضال الكاذب ، واشهر موتك راية للعصر الزنيم ، عصر البساطير السراويل العباءلت ، عصر القمامات ، عصر التيجان الملكية والجمهورية ، عصر الحماقات الشعبية ، والأحزاب الخنفسائية ، الثورات المتخمة ، ثورات الخيبة ، عصر ادعاء الإنتصارات البطولات الفروسية ، عصر الهزائم ، عصر الشعوب الذبيحة والأرواح القتيلة ... )
( لا لا !! ) كان هذا هاجس بقائي وقد راح يصارع خصمه صارخا ، وأنا أعتصر بقبضتي يدي المخدة التي ألقيت رأسي عليها في محاولة لمساعدة جسدي على تحمل آثار الصراع بين هذين النقيضين اللدودين اللذين راحا يتقاذفان الشتائم والصراخ في دخيلتي المتصدعة :
( لا بسمة ليست عابرة أيها الوغد القاتل ، وليست أكذوبة ، بسمة فيض الينابيع التي لا تنضب ، خصب دائم التدفق في مواجهة موتك ، بلسم الجراح التي تثخننا بها ، بسمة اختصار فرحنا ، سر بقائنا ، أمل المستقبل فينا ، النور الذي يضيء متاهات دروبنا ، أعماق نفوسنا ، بسمة نبض الحياة فينا ، ربيع أرواحنا الوردي ، غيث دائم الهطول ، ندى يحط على روابينا ، بسمة الحقيقة الأزلية الراسخة وليس موتك ، لكنها مكبلة بحظر التجول خارج البيت ، بالقوانين بالمحرمات ، محكومة بالإقامة الجبرية ، مشدودة إلى عذريتها وفارس الأوهام !!
بألف قيد وقيد كبلوها ، بألف حجر حجروها ، لكنها ستجد منفذا عبر حجورها وتأتي ، ستحطم كل قيودها يوما وتأتي ، ستهدم كل أسوار سجونها يوما وتأتي .. ستاتي في ظل السحاب ، مع المطر ، ستاتي في الندى ، مع الصدى ، من المدى ، مع أسراب اليمامات ، برفقة الطالبات ، في الإبتسامات ، في أريج الزهور ، مع الطيور ، من الحقول ، على أجنحة النسور ، مع الصباحات ، في المساءات ، عند قيلولة الجميلات ، في فرح العشاق ، ، ستأتي ستأتي ستأتي في كل الكائنات )
( لا لا !! إنني أصرخ بكل هزيم الرعود ، ليست المسألة في أن تأتي بسمة أو لا تأتي ، المسألة في حقيقتك ، حقيقتي ، حقيقتنا الوحيدة الراسخة : صبرا !! صبرا صبرا !!وليس أمامك ولا مفر لك إلا أن تركن إليها !!)
( لا ! لا ! ! جسدي لم يعد يحتمل . أنت أيها الفناء القاتل ، لو ان في مقدوري أن أنتزعك من أعماقي، لأقذف
بك إلى الجحيم ، لو أستطيع أن أحطم سكاكينك التي تطعن في أحشائي .. ابتعد عني ، ابتعد ، اخرج من بطينتي ،
إنك تقتلني أيها القاتل . .. رباه يا يسوع ، يا ابن مريم ، إنني أموت ، وجسدي المتصدع المشروخ عاجز عن المقاومة .. أين الحبوب المنومة ؟ أحتاج إلى كمية كبيرة من الحبوب.... ثم اين سدادات الأذن ؟ أحتاج إلى ثلاث سدادات لكل أذن ! لا أريد أن أسمع شيئا من خارجي ، ولا أريد أن أسمع شيئا من داخلي ، ولأدفن جسدي في السرير ، لأدفن نفسي ، لأدفن .. لأدفن ... )
نهاية قصة جسدي ...







 
رد مع اقتباس
قديم 25-06-2007, 04:58 AM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

صلاة الجلالة
( لم تنشر من قبل )
في ذلك اليوم الذي صلى فيه فذاذة الجلالة الأعظم ، قيل أن أكثر من أربعمائة إنسان قد قتلوا ، منهم من مات برصاص الإبتهاج الذي كان يتساقط من السماء كالمطر ، ومنهم من مات من الرعب ، أجل من الرعب ! الباقون قيل أنهم ماتوا من الفرح ، وهذه مسألة لم تؤكد من قبل أحد .
كان يوما مهولا لم تشهد المملكة الجلالية مثيلا له منذ ألف عام وعام ... قبل مرور الموكب الجلالي بساعتين على الأقل ، أخليت الشوارع من الحافلات ، أما تلك التي كانت قادمة إلى وسط المدينة ، فقد اوقفت على شارات المرور ، وأمرت بأن تظل واقفة إلى اشعار آخر ، وقام رجال الشرطة الجلالية بطرد باعة العلكة والسجائر والفول البلدي والسندويتشات والكتب الصفراء والعرق سوس من على الأرصفة . باعة أشرطة ( هزلي لأهزلك ) و( نغنغني لأنغنغك ) أمروا بأن يضعوا في آلات التسجيل أشرطة تتغنى بفروسية فذاذة جلالته الأسطورية ، وأن يرفعوا الصوت إلى أعلى درجة ممكنة ، فراحت المسجلات تصدح بأغان تمجد بطل الشعب وابن الأمة المحبوب < باني البنا وحامي الحمى وزارع الشوك في حلوق العدا ) !
رشت الشوارع المؤدية إلى المسجد بماء الورد وزينت بالأقواس الإحتفالية والشرائط الملونة وعشرات الآلاف من صور فذاذته ، التي الصقت على الجدران وواجهات الحوانيت أو علقت على المباني الضخمة ، أو شدت إلى حبال وأقواس امتدت فوق عرض الشارع . واصطف الآلاف من افراد جنود الجلالة بلباسهم الميداني الكامل ورشاشاتهم الآلية على جانبي الشارع المؤدي إلى المسجد. وقد اصطف خلفهم عشرات الآلاف من فتية وفتيات الجلالة الذين ارتدوا زيا مبهجا وبدوا مبتهجين للغاية ، بعضهم يرفعون يافطات كبيرة تمجد بطولة فذاذته الخارقة ، وبعضهم يرفعون صورا لفذاذته في أوضاع مختلفة : وهو يبتسم ابتسامة جلالية لم يبتسم مثلها بشر قط !! وهو يلوح بيدة الجلالية لجماهير الأمة ، وهو يضم طفلا رضيعا ، وهو باللباس الميد اني ، وهو بالزي الشعبي ، وهو يتسربل بحلة الجلالة ويتبوأ كرسي العرش ، وهو يطوف حول الحجر الأسود ! وهو يعدو بين الصفا والمروة ، وهو يرتدي زي الجامعة بصفته المثقف الأكبر ، وهو باللباس القضائي بصفته راعي العدالة ، وهو يكرم الرياضيين بصفته الرياضي الفذ !
خلف هؤلاء اصطف عشرات الآلاف من مواطني الأمة وقد تمادوا في تمثل الفرح ورسم الإبتسامات العريضة على شفاههم ، فبدوا في غاية الإبتهاج لهذه اللحظات التاريخية العظيمة التي سيشاهدون فيها فذاذة الجلالة الأعظم شخصيا وبالعين المجردة .
رجال الأمن الجلالي احتلوا أسطح البنايات ومعظم البيوت المطلة على الشوارع التي سيسلكها الموكب الجلالي ، واندسوا بين صفوف المواطنين مطلقين نظراتهم في كل الإتجاهات ، مسترقين السمع إلى الهمسات وضربات الأنفاس ، كي لا يتيحوا لأي مارق أو مدسوس أو عميل أو مشبوه ، أن يتفوه بكلمة تعكر صفو الإبتهاج الجلالي !

******** ***** ******
أم محمد اليافاوية ، دهمها المخاض في هذا اليوم المهول . اوقفت السيارة التي تقلها إلى المستشفى على شارة المرور . جدتها بلغت سن الثمانين وهي تنجب ! وأمها بلغت التسعين وهي تنجب ، وهي نفسها تجاوزت الخمسين وما زالت تنجب ، وتنبأت لنفسها بأنها ستظل تنجب حتى سن المائة ، وأن يافا حينئذ ستكون محررة بالتأكيد ، وهذا كلام مفروغ منه ولا تقبل أن يجادلها أحد فيه . أنجبت حتى هذه السن ثلاثين بطنا . بطن ينطح بطنا ! كانت حصيلتها أكثر من أربعين ذكرا وأنثى ، تزوج عشرة منهم ، واستشهد خمسة قبل الزواج ، وانتحر إثنان وقتل إثنان ، وما زال الباقون أحياء تتوزعهم التنظيمات الفلسطينية القائمة في الساحة الفلسطينية ، ما عدا واحدا انضم إلى مجاهدي أفغانستان العرب لتحريرها من الملحدين السوفييت !!
ما أثار حفيظة أم محمد وكاد أن يصيبها بالجنون قبل حملها الأخير ، هذا الصراع المرير الذي يحتدم بين أولادها حين يجتمعون عندها في البيت ، فبعضهم ينتمون إلى الفصائل الرافضة لكل الحلول ويريدون تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ، والآخرون ينتمون إلى الفصائل التي تسعى لاستعادة الضفة والقطاع ، حتى لو اضطرت إلى الإعتراف بإسرائيل والتصالح معها . فما أن يلتقوا حتى يشرعوا في الحوارات الصاخبة التي ما تلبث أن تتطور إلى شتائم ، تطرق فيها كلمات مثل < منحرف ، عميل ، منشق ، كافر ، ملحد ، مهادن ، استسلامي ، مراوغ ـ يميني ، رجعي > وغير ذلك . ما قبل الحمل الأخير بمدة ليست وجيزة ، وصل الحوار بينهم إلى الصفع ، واللكم ، والضرب بالكؤوس والزجاجات ، ومن ثم سحب المسدسات ! جنت أم محمد وهرعت لتقتحم قلب المشاجرة وتصرخ :
<< يا ريت بطني ما حملكم ، يا ريت صدري ما رضعكم ، يا خسارة الحليب إلي اعتصرته ونقطته في اثمامكم ، ايديكم عن بعض يقطع ايديكم يا قليلين الأصل ! خبوا اسلاحكم وما تخلوني اشوفه يا نجسين ، اسحبوه عاليهود وعكلاب العرب إلي بتنهش في لحمكم ، مش على بعضكم يا أنذال ! >>
وأفلحت أم محمد في فض المشاجرة ، غير أن المشاجرات أخذت تتكرر وتزداد شراسة باستمرار ، إلى أن توجت بمقتل اثنين < يسار وأيمن > أحدهما – وحسب بعض التسميات القائمة في الساحة الفلسطينية – رافض ! والآخر : منحرف !
فبل مقتلهما بأشهر ، وعلى أثر مشاجرة أدت إلى إصابة ثلاثة بجراح ، أعلنت أم محمد غضبتها العارمة الأولى ، واكدت لجميع أولادها أنها ستتخلى عنهم ، ولن تسمح لأي منهم بدخول بيتها ، إذا لم يوقفوا المشاجرات ويتحدوا ، ليحرروا فلسطين كاملة دون التنازل عن شبر منها ، غير أنهم لم يذعنوا لها ، ولم يأخذوا كلامها على محمل الجد ، إلى أن دوى ذات ليلة صوت إطلاق النار داخل البيت . هرعت . وجدت أيمن ويسار يتخبطان بدمائهما . صرخت وصرخت وراحت تلطم رأسها وتدق صدرها بقبضتيها .
باغتتهم عشية يوم العزاء الأخير . دخلت عليهم البيت فجأة ووجهها يقدح بغضب السنين وآلامها . انتصبت كجذع زيتون ، وراحت تخاطبهم من صميم فؤادها المثلوم : << أكثر من ثلاثين سنة وأنا أحمل وانجب فيكم ، حمل ينطح حمل ! يا ما بخلق ثوبي قمطتكم ، لفيتكم !
عصرت دمي قبل ما أعصر في اثمامكم نقطة من غامق حليب صدري ، واسيتكم ، مسحت الدمع من عينكم قبل ما يلمس طرف وجناتكم ، ناغيتكم !
داريتكم مثل ظبية تداري ولدها / حويتكم !
ضميتكم ععاري لحم صدري ، هديتكم !
يا ما اعريت أنا وانتوا ما عريتوا ، مزعت من ذيال ثوبي لركع كد لاح بطرف ردنكم ، كسيتكم !
يا ما حفيت أنا وانتوا ما حفيتوا ، حطيت قدامكم على كفوف ايدي ، داديتكم ، مشيتكم !
يا ما نمت ليلي على كردوس خوف أشوف جوعان ينده من بينكم ـ وينكم !
يا ما بليلة مطر، ليلة ثلج ، ليلة ريح ، بردت أنا وانتوا ما بردتوا ، ارتجفت أنا وانتوا ما ارتجفتوا / شديت حبال الخيمة ودقيت الوتاد ، وبهدم ثيابي غطيتكم ! وسهرت الليالي الظليمة أرعى راحة صافي نومكم ، دفيتكم لما شببتوا وشبيتوا وشبتوا ، ربيتكم يا حيفكم !
ريتكم كنتوا حلم ، كنتوا طيف ، كنتوا وهم ، كنتوا ثلم في بر ولا كنتوا عدم !
عشرين سنة وأزود وبارودكم مالي الفنا وسيطكم عالي السما ، وشبر واحد ، فتر ، قيراط ، ما رجعتوا ، ما حررتوا ، ما رديتوا من الحما ، يا خيبكم ، يا خيبكم !
لو عزت النخوة ، لو انشدت الهمة ، لو كانوا رجال غيركم ، كان قادوا هالأمة من البحر للبحر ، يا ضيركم !
طلعتوا انذال وقل أصلكم ، وصار إلي يسوى ولي ما يسوى من العرب وغير العرب يذلكم ، ويمسخكم ، وينفث سمه في صدوركم ، ويجرجركم وراه مثل كلاب الفلا . ويقل قيمتكم ويهينكم !
وآخرتها ما ظل غير تقتلوا بعض يا خيبكم ، يا خيبتي فيكم يا حيفكم !
ما بدي إياكم ! ريت بطني ما نهض فيكم ، ريتني ما بزرتكم ، انتوا مش اولادي ، انتوا مش اولادي ، انتوا مش اولادي ! اطلعوا من داري ولا توروني وجوهكم !!
وحين شاهدت أم محمد أبناءها يطرقون باهتين ، انقضت عليهم وراحت تدفعهم واحدا واحدا إلى خارج البيت . وطردتهم ، حقا طردتهم .
بعد أيام جاءت إلى ( أبو محمد ) الذي حرصت طوال عمرها على أن تبقيه حيا كي يحبلها ! هزته من كتفيه << شد حيلك يا بو محمد ، بدنا نخلف نسل جديد ، يقوم بثورة جديدة ، اولادنا خذلوا أهلنا إلي ظلوا صامدين في البلاد ، اعتمدوا - يا حسرتي عليهم – علينا تانحررهم ونحررها ! لكن اولادنا خذلوهم ، وكمان نزلوا ابعظهم ، ولي تحت الضرب مش مثل إلي بعد في العصي ، وإذا بدك الصراحة يا بو محمد ، إلي تحت سيف اليهود مش مثل إلي نايم في اوتيلات تونس ! لازم ينهظوا يا بو محمد ويرمونا ورا ظهورهم >> !
فغر أبو محمد فاه وطفق يتوسل إليها :
<< يا ام محمد أنا شخت وعجزت وما عاد فيه حيل، وانت معقول تخلفي بعد هالعمر ؟!>>
<< باطل عليك يا بو محمد ، بيك ظل رجل لسن الثمانين ، وجدك ظل للتسعين ، وقالوا عنه في هذه السن قلب تسع نسوان في ليلة وحده ! شد حيلك يا زلمه وما تخيب رجاي الله لا يخيب لك رجا ! ومن ناحيتي ما عليك ، أنا شفت هاجس في المنام ، قلي بدك تخلفي لسن المية !! وعدد اولادك بده يزيد على المية وخمسين !!>>
وفي الصباح التالي سقت أبا محمد حليبا ممزوجا بالعسل والبيض وماء الزنجبيل ! ابتسم ابو محمد وقد أدرك نواياها . عند المساء وجد نفسه يناطح الجدران !
وحملت أم محمد . حقا حملت . أيقظت أبا محمد لتطلعه على الأمر .
< خير إن شاء الله يا أم محمد >
< ما قلت لك يا بو محمد إنه زارني هاجس في المنام وقلي إني بدي أخلف لسن المية ؟ >
< يا لطيف يا أم محمد ، إذا كان زايرك صادق ، اقرأي على اليهود السلام >
< اليهود يا بو محمد ، الله يسامحك ، والله عمره ما دخل عقلي شك إنهم رايحين يظلوا في يافا ، باطل عليك يا بو محمد ، والله إني شايفها محررة مثل ما أنأ شايفة ظهر كفي . بتذكر يا بو محمد ونت تغازلني تحت الزيتونه ، من وين كنت تطلع يا زلمه ، كنت تدفن حالك في تراب البستان لما آجي ؟ >>
< ييه يا ام محمد لا تذكريني بأيام زمان > !!
********* *********** ************
عندما طال وقوف التاكسي على شارة المرور . نزل السائق وراح يستطلع الأمر . عاد بعد لحظات دون أن يبدو على وجهه أي أثر لتعبير ما . هتفت حماة أم محمد ، فيما أم محمد تداري حملها الكبير جدا بيديها ، وثقاوم موجات الطلق ، هتفت مخاطبة السائق :
< خير يا بني هية الإشارة ما بدها تفتح ؟ >
التفت السائق من خلف المقود وقال بلهجة لا تنم عن أي انفعال :
< الإشارات معطلة يا حجة والسير واقف ، فذاذة الجلالة الأعظم نازل للصلاة > !!
هتفت الحاجة دون أن يبدو عليها أي انفعال هي الأخرى :
< ورايحين يفتحوا الطريق بعد ما يمر يا بني ؟>
< لا والله يا حجة ، بيقولوا إنه السير رايح يظل مقطوع على بين ما يصلي فذاذته ويرجع !>
وهنا لم تستطع الحماة كبت إنفعالها :
< مش معقول يا بني ، كنتي بتعاني من آلام الطلق وما بتقدر تحصر حالها >
< وأنا شو فيه أسوي يا حجة ، ما باليد حيلة >
< ما فيه طريق توصل للمستشفى غيرهاذي يا بني ؟ >
< ورانا أكثر من ألفين سيارة يا حجة ، ولا يمكنها العودة إلى الوراء ، كان على شرطة السير أن تغير اتجاه السير من قبل حتى لا يحشر الناس ضمن مداخل المدينة >
< والعمل يا بني ؟ >
< ننتظر الفرج >
< الفرج ؟ من عام النكبة وحنا ننتظر الفرج وما أجا يا بني ! >
وتأوهت أم محمد من أعماقها مرفقة آهتها بأنة تذمر حادة تقطع نياط القلب ! هتفت الحماة :
< سلامتك يا ام محمد ، سلامتك يا مرة ابني ! اتحملي يا بنتي باطل عليك ! >
علت صفارات الإنذار مخترقة فضاء المدينة ، مبددة ما تبقى من سكون في كل أركانها ، مثيرة الرعب في نفوس ضعفاء القلوب !!
نزل كثيرون من سياراتهم وهرعوا في محاولة للإقتراب من الشارع ، لعلهم يحظون بنظرة من فذاذة جلالته .
احس السائق أنه من الأفضل له أن ينزل مع النازلين ويهرع مع الهارعين . فنزل وهرع ! استوقفه صوت الحماة :
< لا تتركنا لحالنا يا بني >
< ما رايح أتاخر يا حجة >
وراح يعدو نحو الشارع الرئيسي .
كان الموكب يجتاز شوارع المدينة باتئاد شديد للغاية ، تتقدمه أربع آليات مصفحة ، تصوب مدافعها في وضع تأهب قتالي ، تبعها اثنا عشر قردا من نوع الشمبانزي محمولة على اثنتي عشرة عربة ذات أ قفاص ، فقد كان فذاذته مغرما بالقرود إضافة إلى الكلاب ، وكان يصحب القرود والكلاب معه في جولات كثيرة . تلا القرود عربة مكشوفة تقل ستة كلاب ذئبية ! ! ثم أربعة وعشرون فارسا يمتطون الخيول ، ثم اربعة وعشرون من راكبي الإبل ، ثم ست آليات مصفحة ، ثم قرابة مائة من أفراد الحرس الجلالي راكبي الدراجات النارية . كان هؤلاء قد شكلوا ثلاثة أطواق أحاطت المحفة الجلالية المصفحة ضد الرصاص ، والمرصعة بالدر والياقوت والزمرد ! وبدا فذاذته جالسا في المقعد الخلفي متوسطا كلبين أسودين المانيين كبيرين جدا ! وقد ارتدى زيه العسكري المرصع بالنجوم والسيوف والتيجان التي كانت تثقل كتفيه ، فيما تدلت عشرات النياشين والأوسمة على جانبي صدر فذاذته حتى غطته تماما ! وكان فذاذته - أطال الله عمره - ! يمد يده بين الفينة والأخرى من خلف رأس الكلب أو من أمامه ليلوح بها لجماهير الأمة من خلف الزجاج المصفح . ولم يكن يرافق جلالته سوى المرافق الخا ص الذي دأب على أن يتبع فذاذته حتى غدا كظله ، كان يجلس إلى جانب السائق وعيناه تحدقان إلى كل الإتجاهات نحو جماهير الأمة .
في مؤخرة الموكب وخلف راكبي الدراجات النارية مباشرة ، اندفعت ست آليات مصفحة أخرى ، سارت في ثلاثة أرتال ، أعقبها أربعة وعشرون فارسا أيضا ، شكلوا ثلاثة صفوف ، ثم رتل من راكبي الإبل كذاك الذي الذي تقدم الموكب ، وقد سار على النسق ذاته . تبع هؤلاء إثنا عشر قردا غير شامبانزية ! فقد كانت من نوع الغوريلا ، وقد بدت وقحة للغاية وهي توجه من أماكنها في العربات ذات الأقفاص ، أعضاءها المنتصبة نحو جماهير الأمة ، وتمد السنتها في حركات ساخرة دون أن تكترث لأحد .
خلف هذه القردة لم يكن إلا أربع سيارات عسكرية مكشوفة تحمل رشاشات متوسطة . تبعها سيارات رئيس وزراء الجلالة والوزراء وأفراد الحاشية الجلالية من امراء وقدة جيوش . كان هؤلاء يركبون سيارات أمريكية سود فارهة ، ويتبعون الموكب بمرافقات متواضعة ، مع أن سياراتهم ليست مصفحة ضد الرصاص . والحق أنهم لم يكونوا محتسبين ضمن الموكب الجلالي الفذ ، حتى أن موكب حافلاتهم بدا شاذا وناشزا للغاية ، وأساء كثيرا إلى جمالية الموكب الجلالي المهيب ، برسمه خطا طويلا بدا كذيل الجرذ !
كانت جماهير الأمة تضج بالهتاف والتصفيق كلما أقبل نحوها أول الموكب ، مفتدية فذاذته بأرواحها وفلذات أكبادها ، مما دفع أحد الحمقى إلى التساؤل في سريرته عما إذا كانت حياة فذاذته مهددة بالخطر حتى تفتديه الجماهير بكل شيء .!!
استطاع سائق التاكسي أن يشق له طريقا عبر الزحام ليصبح في مقدمة الحشود . اطمأن حين أيقن أن طوله الفارع سيتيح له مشاهدة الموكب بوضوح ، وإذا حالفه الحظ ، سيشاهد فذاذة الجلالة الأعظم شخصيا ، لأن مشاهدة فذاذته على شاشة التلفاز يوميا ولعدة ساعات لم تكن مرضية لنهمه ! غير ان الحظ لم يحالفه ، فقد كان القدر له بالمرصاد ، حين ساق له نملة ، نملة لا غير ، منعته من مشاهدة فذاذة جلالته ، وحولت يومه ، بل حياته كلها إلى جحيم .
كانت النملة تسير في قافلة مع رفيقاتها حاملة حبة قمح حصلت عليها من مخزن مجاور بعد جهد مضن !وكي تتلافى القافلة موطىء أقدام الناس سلكت سفح جدار يمتد إلى جانب الرصيف ، وحين اشتد الزحام راح الناس يتراجعون شيئا فشيئا نحو الحائط إلى أن التصقت ظهورهم به ، دون أن يتنبهوا لقافلة النمل التي بوغتت بالعدوان الذي بدا لها كجند سليمان ! فقتل العديد من نمالها سحقا بالظهور أو سقط أرضا ليداس بالأقدام ، ولم ينج إلا من بلغ أعلى الجدار ، او حالفه الحظ في ان يلوذ بالفرار إلى ناحية لا يصل إليها بشر !
كان سائقنا من بين الناس الذين تراجعوا نحو الجدارليفتكوا بقافلة النمل . إحدى النمال ( وهي نملتنا التي ساقها القدر للسائق ) حالفها الحظ في أن تنجومن السحق ، فقد أفلتت حبة القمح ووقعت على قدم السائق . ظلت للحظات تجوب سطح الحذاء في محاولة يائسة للعثور على مسلك تنجو عبرة ، وكلما انحدرت قليلا أحست باقدام جند سليمان تحاصرها وتغلق عليها المنافذ ، فلم تجد إلا أن ترتدع وتصعد إلى أعلى لتتسلق سا ق السائق دون أن يحس بها ، وظلت تتسلق دون أن يحس بها ، واجتازت الركبة ثم الفخذ دون أن يحس بها ، وتسللت تحت سرواله دون أن يحس بها ، وحين أطل أول الموكب على المكان الذي يقف فيه السائق مع الحشود ، كانت تتوغل في غابة جبلية سوداء مظلمة ، وتضيع فيها دون أن يحس بها . بدت نباتات الغابة غريبة تماما على النملة ففي كل حياتها القصيرة لم تشاهد نباتات كهذه وبهذه الكثافة ، حتى في اسطورة جند سليمان التي توارثتها عن أجدادها !!!!
شرع السائق يصفق مع الجماهير ويهتف بملء حنجرته ، مع أن الذي كان يجتاز الشارع في مواجهته الآليات الأربع الأولى والقردة الشامبانزية التي لم تهدأ في مكانها ، فتدير مؤخراتها نحو الجماهير التي على يمين الشارع تارة ، ونحو الجماهير التي على يساره تارة أخرى .
مرت القردة وكذلك الفرسان ثم الإيبليون الذين بدوا على إبلهم كمهرجي السيرك ، بارتدائهم أزياء فولكلورية مدندشة بعشرات الضفائر والظبابيح الملونة فاقعة الحمرة .
حين أطلت المصفحات الأولى التي تسبق موكب فذاذته ، أخذت الأصوات تحتد فيما رجال الأمن الجلالي المنزرعين بين الناس يحفزون كل حواسهم ويحصون على البشر حركاتهم وسكناتهم وما توحي به هتافاتهم وأيديهم على مسدساتهم . وكانت المصفحات توجه رشاشاتها يمينا وشمالا نحو الجماهير في محاولة للإيحاء بأن الجنود الأشاوس متيقظون لأية محاولة آثمة قد يقوم بها عميل ما للأعداء الصهاينة وغير الصهاينة .
أخذ موكب فذاذة جلالته يقترب . أخذت الجماهير تتدافع و تشرئب بأعناقها لعلها تحظى برؤية فذاذته . رفع السائق قامته ليقف على رؤوس أصابعه ، مما أدى إلى انشداد الملابس وضغطها على النملة التي كانت ضائعة في أخاديد الخصيتين وغاباتهما الكثيفة . وفي اللحظة التي كانت فيها محفة فذاذته تقترب لتصبح في مواجهة السائق ، كان هذا يتطاول بقدر ما يستطيع لتضغط ملابسه بشدة على النملة التي لم تجد مناصا من الدفاع عن نفسها ، فغرست فكيها في جلد خصيتيه . كبت السائق صرخة ألم وهو يجاهد ليتقوقع على نفسه بدفع من بجانبه ليتيح ليده اليمنى النزول إلى ما بين فخذيه ، في محاولة يائسة للمقاومة . لكن وقبل أن تصل يده إلى هدفها أطبق الحذاق من رجال الأمن الجلالي على ذراعيه ، وانهال آخرون بأعقاب مسدساتهم على رأسه ، ثم سحبوه بصمت شديد للغاية ودون إثارة أية ضوضاء .
أفاق السائق من غيبوبته في غرفة تحقيق . لم يعرف أين هو وما جرى له . والأمر الذي يكاد يجننه هو العلاقة بين هذه الحشرة اللعينة التي لدغته ، والرجال الذين أطبقوا عليه وانهالوا على رأسه .
******** ************ ***********
اشتدت موجات الطلق على أم محمد . هتفت :
< ما فتحوا الطريق يا عمتي ؟>
< إن شاء الله رايحين يفتحوها يا عمتي ، مر الموكب >
< آه يا ربي وينك انته > !!
وأسلمتا أمرهما إلى الله .
في سيارة الأجرة المجاورة لهما ، كان ثمة عاشق على موعد في المدينة مع أول فتاة تعشقه في حياته ، وعلى هذا الموعد سيتقرر مصير العشق كله . ظل في السيارة ولم ينزل لمشاهدة الموكب ، وكان يزفر متأففا بين الفينة والأخرى .
في السيارة التي تقف خلفهما ، كان ثمة طبيب في سيارته الخاصة ، ورغم أن حياة مريض تتوقف على وصوله في الوقت المحدد لإجراء عملية عاجلة له ، إلا أنه بدا مسيطرا على أعصابه ، وإن كان يتململ خلف المقود وينظر إلى الساعة بين فينة وأخرى .
أمام المسجد الجلالي اصطف الآلاف من جماهير الأمة الجلالية ، وقد أحضر المئات منهم كباشا ليذبحوها وجمالا ليعقروها وأبقارا لينحروها كقرابين عند وصول موكب فذاذة الجلالة الأعظم .
أقبل الموكب تسبقه صفارات الإنذار . تململت الجماهير في أماكنها فيما هيأ أصحاب القرابين سكاكينهم وسيوفهم وبلطاتهم للذبح والعقر والنحر ، وسط التصفيق الحاد والهتافات المدوية .
أخذت الأرتال المرافقة للموكب تجنح إلى جانبي الساحة وتتوقف وقد وجهت الآليات سبطانات مدافعها إلى كل الإتجاهات ، تبعها راكبو الدراجات من الحرس الجلالي الذين راحوا يجنحون يمينا وشمالا ، في حين توقفت محفة فذاذته لتفتح أبوابها على الفور من قبل الحراس ، ولينزل فذاذته باتئاد وتئن دون الكلبين اللذين أرغما على البقاء في المحفة الجلالية .
علا ثغاء ورغاء وخوار الكباش والنوق والثيران التي انهالت على رقابها السكاكين والسيوف .
وقف فذاذته بكل مهابته وقفة جلالية فذة على أرضية فرشت بالطيلسان والحرير وراح يلوح لجماهير الأمة بيديه الجلاليتين الطاهرتين ، فيما الرتب العسكرية والنياشين والأوسمة التي صكت من الذهب والألماس تبرق على كتفيه الجلاليين وصدره الملائكي ، وابتسامة إلهية جلالية لم يبتسمها بشر قط تطفو على شفتيه ، فبدت وكأنها وردة من شقائق النعمان ، طعمت بأزهار الفل والنرجس والياسمين ، وتفتحت في صباح ندي !!!!!
هتفت الجماهير بملء حناجرها وهي تصفق بكل ما لديها من طاقة للتصفيق ، فيما كانت عمليات الذبح والنحر والبقر مستمرة لتخضب دماء القرابين محيط الساحة ، وفيما كانت القردة تصوت وتثب في عرباتها رعبا واستياء من مناظر الذبح ونوافير ومستنقعات الدم التي أعقبتها ، وقد كفت عن إخراج أعضائها ومد ألسنتها وإدارة مؤخراتها لجماهير الأمة !
سار فذاذة الجلالة الأعظم بخطى جلالية مهيبة على بساط مذهب من السجاد العجمي ، ليعتلي المنصة الجلالية ، حيث ستعزف له ثلة من حرس الشرف الجلالي السلام الجلالي الوطني !وما أن اعتلى المنصة حتى وقف في استقامة خارقة وثبات عظيم ، وأدى بيده اليمنى التحية الجلالية الفذة ، فيما كانت الموسيقا تصدح بالسلام الجلالي . وهنا علا صوت المذيع الجلالي الذي كان ينقل وقائع ما قبل الصلاة الجلالية التاريخية العظيمة ، علا ( فض الله فاه ) ليصف الوقفة الجلالية المهيبة قائلا :
< تأملوا يا أبناء الأمة ، تأملوا هذا الجلال المهيب ، هذه الأنفة ، هذا الشموخ ، هذه الكبرياء ، هذا الوقوف الطودي ، هل وقف مثله بشر من قبل ؟! ويل للأعداء ... ! )
الأحمق فض الله فاه وأطاح أسنانه كلها ، يقارن وقفة فذاذته بوقفة البشر ! تصوروا ، بشر ؟! والحق إن الملائكة بل وبعض الآلهة ، لم يقفوا مثل هذه الوقفة ، التي لا يستطيع أن يقفها إلا من هو في مقام زيوس وبعل وإيل وعشتار ورع وإنليل والسابقين لهم ومعظم اللاحقين .
ما أن عزف السلام الجلالي ، حتى نزل فذاذته وراح يستعرض حرس الشرف والمرافقين الخاصين يتبعانه على مسافة أقدام .
أمام المسجد وقف وزير الأديان الجلالي وبعض الملوك (المتوجين وغير المتوجين ) والأمراء والرؤساء والوزراء وقادة الجيوش الجلالية ، ممن كانوا يسيرون خلف الموكب وممن لم يكونوا . وما أن فرغ فذاذة جلالته من استعراض حرس الشرف ، حتى توجه إليهم عبر شريطين حريريين مزينيين بصور فذاذته ، وباقات من الورود النادرة ، وشرائط من القماش الثمين الملون .
كان أول من حظي بتقبيل يدي فذاذته الطاهرتين وزير الأديان الجلالي ، الذي يكن لفذاذته حبا وإخلاصا يعجز عنهما الوصف .
داخل المسجد احتشد الآلاف من أبناء الأمة الجلالية الذين سمعوا أن الصلاة بمعية فذاذته تدخل الجنة ، حتى لو زنى المصلي ألف مرة ، وقتل ألف بريء ، واختلس أموال ألف يتيم ، ولاط ألف غلام ، وقاطع الصلاة والصوم ، وامتنع عن الحج والزكاة ، ولم ينطق بالشهادتين ، إلا ذلك اليوم . لذا احتشد المسجد بالآلاف ممن يطمحون في مسح الذنوب وتبييض الجيوب وتطهير الأنفس والقلوب ، ودخول الجنة عبر السراط المستقيم ، ليتمتعوا بنعيمها ، ويتقلبوا على صدور الفاتنات من حور العين اللواتي لم يمسسهن من قبل لا إنس ولا جان ، ولا يتبولن ولا يتبرزن ، ويعدن عذراوات بعد كل افتضاض ، وليس لجمالهن نظير ! وكذلك لينعموا بالولدان المخلدين وليترعوا كؤوسهم من أنهار الخمر وليشربوا من ماء معين ! جعلنا الله وإياهم من عباده الصالحين ، واغدق علينا ما سيغدقه عليهم أجمعين ، في يوم الدين ، آمين !!!!
حين اطل فذاذته من باب المسجد هب الجميع وقوفا وظلوا صامتين ، ولم يعودوا إلى الجلوس إلا بعد ان أخذ فذاذته مكانه أمام اربعة صفوف تخللها العشرات من أفراد الأمن الجلالي ، والذين كان جل همهم اليقظة والترقب مخافة أن يظهر مدسوس من بين المصلين ويقدم على مكروه قد يطال فذاذته بالسوء.
مراسلو ومصورو التلفزة والصحافة الذين ( قبحهم الله ) دخلوا بيت الله دون أن ينزعوا أحذيتهم ، بدوا منهمكين للغاية في نقل وقائع هذه اللحظات التاريخية العظيمة التي يجلس فيها فذاذته بين يدي الله ، وديعا أليفا بريئا مطمئنا مستكينا متسربلا بمسحة من الإيمان الفذ !
شرع إمام المسجد في إلقاء كلمة بدأها بالإشارة إلى أنه شاهد الله يرحب بفذاذته في بيته ، وأنهاها ( فض الله فاه هو الآخر لأنه أجحف بحق فذاذته ) بالتأكيد فقط على أن فذاذته أعظم زعيم عرفته البشرية منذ أن خلقت ! غير أن مذيع التلفزة والراديو الجلاليين ، أصلح الأمر بعد أن أدرك خطأه السابق وخطأ الإمام ، حين راح يضع فذاذته في مكانته الحقة بين الآلهة ، وراح يتحدث بانفعال شديد عن الهالة النورانية التي تشع من وجه فذاذته ، وهو يجلس بخشوع مهيب بين يدي الله ، ثم بانفعال منقطع النظير رافقه الصراخ والعويل إلى درجة بح فيها صوته ، حين راح يتحدث لمواطني الأمة الجلالية عن ظهور الملائكة في فناء المسجد:
< يا أبناء الأمة ، يا مواطني المملكة الجلالية ، في هذعه اللحظات المهيبة ظهر الملائكة بأجنحتهم البيض وراحوا يحلقون في فناء المسجد ، إني أراهم بأم عيني ، شاهدوهم ، انظروا إليهم ، لقد أرسلهم الله ليباركوا فذاذة جلالته الأعظم ، هاهم يحلقون وينزلون كسرب من اليمام ، ليشكلوا غيمة تظلل رأس فذاذته ، فذاذة الجلالة الأعظم ، الذي انبثق من وجهه نور إلهي يبهر الأبصار ، هاهم أيها الأخوة يحطون أمام حبيبنا وحامينا فذاذة الجلالة الأعظم ، ويسجدون له ! نعم نعم ! الملائكة ، رسل الله في الأعالي ، بعث بهم الله نفسه ليتباركوا منه ويقدموا له الولاء ! يا يا يا يا يا أبناء أمتنا الجلالية الملائكة يركعون ويسجدون لأعظم العظماء طرا ، فذاذة الجلالة الأعظم . افرحوا ، افرحوا يا أبناء أمتنا ، زغردوا ارقصوا ، اطلقوا النار ابتهاجا ، والمدافع اصطهاجا ، فإلى الجنة أنتم إلى أحضان حور العين ، بمعية حبيبكم الأعظم ، يا يا يا ، هيا هيا هيا ... >
وهنا ارتبك المصلون داخل المسجد ولم يعرفوا فيما إذا كان عليهم أن يفرحوا ويبتهجوا أم يسجدوا لفذاذته كما الملائكة ، أم يبدأوا الصلاة لله القدير ، ولم يخرجهم من هذا الإرتباك إلا إعلان إمام المسجد ألإذعان للمشيئة الإلهية والسجود لفذاذة الجلالة الأعظم ـ فسجد الجميع إلا ابليس ( لعنه الله وفذاذة الجلالة ونحن ) الذي كان متنكرا في زي الراوي الذي ينقل هذه الوقائع التاريخية العظيمة !!
وفي اللحظة التي كان فيها الناس يستمعون إاى الراديو أو يرقبون التلفاز ، انطلقت المدافع والرشاشات احتفاء بالمناسبة العظيمة ، فراح الجميع ممن لديهم أسلحة ، يطلقون النار في الفضاء : في المدن والقرى ، في الشوارع والأحياء ، وفي كافة أنحاء المملكة الجلالية الشاسعة متعددة الممالك ، أخرجوا بنادقهم ومسدساتهم وراحوا يطلقون النار ، في حين كانت مدافع ورشاشات الجيوش الجلالية ، وأفراد الأمن الجلالي ، والشرطة الجلالية ، تطلق قنابلها وطلقاتها ، لتلتهب السماء بالنار والرصاص والدخان ، ولتضج الأرض بهدير المدافع ، ولتهتز جدران البيوت ، ولتتساقط القذائف المرتدة في الشوارع والأحياء أ في الأودية والجبال ، على سطوح الأبنية والبيوت ، وعلى رؤوس بعض المواطنين ، فدب الذعر في قلوب ضعفاء النفوس ، وعم الصراخ والعويل ، وسادت الفوضى ، وسقط الآلاف تحت الأقدام ، أو خروا صرعى أو جرحى ، وضجت أبواق السيارات الواقفة على شارات المرور ، أما تلك التي كان مسموحا لها بالسير في شوارع العواصم والمدن الجلالية ، فقد أطلقت عنان أبواقها وراحت تعبر الشوارع بجنون ، ورصاص طائش ينطلق من نوافذها . وفي الوقت نفسه ، قرعت الطبول ، ودقت نواقيس الكنائس ، وانطلق آذان خاص من المساجد ، وعلت صفارات الإنذار ، حتى تلك التي لا تطلق إلا في أيام الحرب ، مما جعل بعض الناس يعتقدون أن حربا مع الأعداء قد نشبت ، أو أن الساعة قامت !
في المسجد راح فذاذته يودع كبار المصلين بعد إنهاء الصلاة !! وقبل خروجه من المسجد وجه أوامره بالتوقف عن إطلاق النار والإكتفاء بالإبتهالات والإبتهاجات الأخرى . تم التوقف ، لكن ليس على الفور ، فقد ظل بعضهم يطلقون النار إلى ما بعد اسبوع من الواقعة الملائكية الخارقة ، التي اعتبرت مناسبة قومية ينبغي على مواطني الأمة الجلالية أن يحتفلوا بها كل عام ، ويقيموا الأفراح والليالي الملاح ، لمدة ثلاثة أسابيع !!
الحافلات ظلت واقفة على شارات المرور منتظرة عودة فذاذته إاى العرش الجلالي ، وقد نالت نصيبها من الطلقات المتساقطة من السماء ، فتكسر بعض زجاجها وثقبت سقوفها ، وأغمي على بعض ركابها ، وأصيب آخرون بالسكتة القلبية . من بين هؤلاء الذين سكتت قلوبهم ، العاشق والطبيب ، العاشق قتله طول الإنتظار ، والطبيب قتله الرعب ، لم يحتمل قلبه هول ما جرى ، ألقى رأسه على المقود ومات !
صاحبنا السائق أقنع المحققين بعد أن كسروا له ضلعين إضافة إلى كسر في الرأس ، أنه أنزل يده ليحك <والله ليحك > ولم يكن ليحك لو لم تلدغه حشرة ما – ربما تكون نملة – أو أي شيء من هذا القبيل ! ثم إنهم لم يعثروا معه على أي شيء يثير الشبهة ، حتى ولا سكين ، واقتنع المحققون ، حقا اقتنعوا ، غير أنهم اعتبروا فعلته تهكما وسخرية واحتقارا لفذاذته ، إذ كيف يفكر في حك ما بين فخذيه ، بل سوأته وبيضتيه ، في الوقت الذي يجتاز فيه موكب فذاذته الشارع ؟ < هل قل الإحترام إلى هذا الحد ؟ يحك قباحته التناسلية بدلا من أن يسجد أو يركع ، أو أن يهتف ويصفق لفذاذته على الأقل ، أين مقام فذاذة الجلالة الأعظم ، أين يا حيوان ؟ >!!
وتوسل السائق < والله والله إني أكن له كل الحب والولاء والإخلاص والإحترام ، وكنت وقتها أمني نفسي بمشاهدة وجهه الجلالي الطاهر >
< إخرس وله كلب ! وتقول < له > فذاذة الجلالة الأعظم يقال عنه له ؟ ! كلب ! > ولطمه المحقق على فمه ليكسر له سنين! وأمر بإيداعة زنزانه على عمق عشرة امتار تحت الأرض إلى أن يبت في أمره أو ينفذ فيه الحكم العسكري الميداني !!
في الوقت الذي كانت فيه الدنيا تضج بالخوارق والصخب والجنون والخرافات ، كانت موجات الطلق تحاصر أم محمد اليافاوية ( الله يسامحها ! إلا أن تلد هذا اليوم ؟) كانت الموجات تحاصرها وتكاد تخنقها ، فيما العرق يتصبب من مسام جسدها ، وصراخها يعلو ليختلط بصخب الإحتفاء ، وحماتها تفك أزرار ملابسها وتفتح لها فخذيها لتولدها في التاكسي ، دون أن تعير أي اهتمام لما يجري حولها .
وحقا ولدت أم محمد في التاكسي ، اندفع الوليد من الرحم مرة واحدة وكان ذكرا ، هللت الحماة وزغردت غير أنها فوجئت بأم محمد تزحر من جديد ليندفع وليد ثان !! فهللت وزغردت وراحت تقطع حبل السرة بأسنانها ، وما كادت تقطعه وتعقده حتى بوغتت بأم محمد تهتف لها بأن رحمها ما يزال ممتلئا بالأولاد ! فزغردت وراحت تتلقف الوليد الثالث ، وحين اندلق الوليد الرابع أخذت تردد ( خير يا ربي خير ) وودت لو أنها في البيت لتطلب بخورا ، لتبخر أم محمد كي لا تصاب بأعين الحساد . والحق أنه لم يكن هناك من يحسد ، فقد كان الناس منشغلين بأنفسهم ، بل بمصائبهم ، سواء الذين كانوا منتظرين في السيارات أو الهارعين في الطرقات ، الأموات منهم والجرحى ، الذين أغمي عليهم والذين ما زالوا أحياء !
اندفع الوليد الخامس . جنت الحماة من الغبطة وراحت تردد مقولتها بصوت أعلى ( خير يا ربي خير ، خير يا ربي خير ، أللهم صل على سيدنا محمد ، اللهم صل على سيدنا محمد ، كما صليت على سيدنا ابراهيم ، وعلى آل سيدنا ابراهيم ، في العالمين ، إنك حميد مجيد !) ونفخت في أنف الطفل ، وقطعت حبل السرة بأسنانها كالعادة ، وعقدته ، ثم امسكت الطفل من قدميه وقلبته رأسا على عقب ، هزته ثلاث مرات وألقت به على المقعد الأمامي إلى جانب اخوته ، وانثنت لتفتح فخذي أم محمد أكثر من ذي قبل لترى فيما إذا فرغ الرحم ، غير أنها سمعت صراخا قادما من الداخل وهذا ما أطار صوابها ، فهذا السادس يصرخ قبل أن يخرج إلى النور ، تلقفته الحماة كما تلقفت سابقيه ، وعالجته كما عالجتهم ، وحذفته إلى جانبهم . كانوا يصرخون بأعلى أصواتهم بينما لسانها لا يتوقف عن النطق وترديد التعاويذ :
< حوطتكم بالله وحفظتكم بالله وقمطتكم بالله وثنيتكم بالله ، وربطتكم بالصلاة على النبي ! اللهم صل على محمد ، دياتكم عشرة ورجلياتكم عشرة وحضروكم اولاد الخليل عشرة ، اللهم صل على محمد >
ولم تتنبه إلى انها أخطأت في عد الأيدي والأرجل ، فقد انبعث أنين أم محمد التي أخذت تغيب عن الوعي . انثنت إليها وسترت فخذيها ، وقد تنبهت إلى أنها تنزف ، مددتها في استقامة على المقعد ، وشرعت تقرأ على رأسها تعويذة ، إنما دون بخور ودون حتى ذرة تراب !
< عين الحسود فيها عود ، عين الجار فيها نار ، عين الظيف فيها سيف ، عين المرا فيها بلا ! اللهم صل على محمد >
وتنبهت إلى أن السيارات أخذت تتحرك مطلقة أبواقها ، لقد مر الموكب وفتحت الطرق < وهذا السائق لم يأت ، أين ذهب يا ناس ؟ > والسيارات التي تقف خلفها أخذت تطلق أبواقها بجنون طالبة فتح الطريق .
نزلت من التاكسي تاركة الأطفال يصرخون وأم محمد ملقاة في المقعد الخلفي وقد خفت أنينها . هرعت نحو السيارة التي خلفها مباشرة ، كان الطبيب ميتا خلف المقود . هرعت إلى السيارة التي على يمينها ، كان العاشق ميتا أيضا ! هرعت إلى الخلف ، شاهدت أناسا يتململون في سياراتهم كالأشباح ، راحت تتوسل إليهم :
< الشفير راح وما رجع يا خيي ، وكنتي ولدت في التكسي ، ونزيفها ما وقف ، اسعفونا ألله يخليكم ، ساعدونا ألله يساعدكم ويقف معكم >
ولم يسمع أحد ، ولم يكترث أحد ، والأبواق تضج بجنون ، وقد أخذت السيارات تجنح من هنا وهناك باحثة عن مسلك لتتابع سيرها بسرعة جنونية ، وكأنها تبحث عن الخلاص بعد انهيار الأعصاب وطول الإنتظار القاتل المقيت .
ظلت الحماة تشرع يديها للسيارات ، تهتف تصرخ تستنجد تستغيث ، دون أن يغيثها أحد ،إلى أن جاء سائق فلسطيني ، بعد قرابة ساعة من تحرك السير ، أدرك أنها فلسطينية من زيها ولهجتها ، أوقف سيارته جانبا وهرع إليها ، ألقى نظرة نحو مفاتيح السيارة فوجدها في مكانها ، رفع الوليدين اللذين خلف المقود وأعطاهما للحماة التي قرفصت إلى جانب أم محمد . امتطى السيارة على عجل وانطلق بها إلى المستشفى .
هزت الحماة كتفي أم محمد وخاطبتها باسمها ، غير أنها لم ترد ، ولم تستجب لأية حركة . لقد فارقت الحياة . هتفت الحماة والسيارة تنطلق بأقصى سرعة مطلقة بوقها :< لا مستحيل تموت ! قالت أنها ستنجب حتى سن المائة !! >
وراحت تكرر عبارتها وتنتحب وهي تهز الوليدين اللذين في حجرها ، في محاولة لتهدئتهما ، فيما السائق يطير بالسيارة لاختصار الزمن الذي سيصل خلاله إلى المستشفى !
آب 87 – أيلول 89
نهاية القصة !
إلى اللقاء في قصة ( أولادي ... نشيد القدر )







 
رد مع اقتباس
قديم 09-09-2007, 04:42 AM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

أصدقائي
غيرت رايي سابدأ بنشر قصة موتي وقط لوسيان . وهي قصة طويلة جدا ووقائعها حقيقية
وقد جرت معي.


موتي وقط لوسيان
صدرت عن وزارة الثقافة الفلسطينية 1998
( قصة طويلة جدا)
في الوقت الذي كنت فيه أفكر في الموت ، في محاولة يائسة لإبعاد شبحه عني ، جاءني هاتف من لوسيان ،تخبرني أن محمود مات ، وتطلب مساعدتي لدفنه في مقبرة.
أطرقت قليلا إلى أن أدركت من هو محمود ، ولحظتئذ لم اعرف ماذا أفعل، هل أضحك أم ابكي أم أغضب؟! قلت للوسيان دون اكتراث أن تلقي بهذا المحمود في القمامة وتحاول أن تنساه وتفكر في ما هو أهم.
راحت تصرخ على الطرف الآخر من الخط بعربية تخالجها اللكنة الفرنسية :
( في القمامة أيها المجرم الشرير، في القمامة؟ إنه روح يا من تدعي أنك تكتب عن الروح والحياة ، على اية حال لا أريد مساعدتك ، ولن احضر إليك هذا المساء
، لا أريد دعوتك )!
وأقفلت الخط ليظل صدى كلماتها يتردد في مخيلتي ، يضغط على صدري ، يعتصر قلبي ويثقل نفسي ، ومع ذلك لم أحاول الإتصال بها على أمل أن تأتي في المساء – رغم ما قالته- وأوضح لها الأمر.
كنت قد استيقظت هذا الصباح والرعب يجتاح جسدي من رأسي حتى قدمي. فقد رأيت في نومي لحاما يحمل على كتفيه رجلين مذبوحين و مسلوخين ! ويدخل بهما إلى الملحمة. كان رأسا الرجلين يتدليان على ظهر اللحام وقد بدا تماما أنهما ذبحا من الوريد إلى الوريد ، أظن انني صرخت حينئذ واستيقظت على أثر ذلك . ألقيت نظرة خاطفة على ما حولي لأتأكد من أنني في غرفتي ، وانني كنت في كابوس لا أكثر . كابوس ككل الكوابيس التي أراها دائما. زفرت عدة أنفاس عميقة متلاحقة في محاولة لتهدئة أعصابي وطرد الذبيحتين من مخيلتي . ألقيت نظرة على الساعة ، كانت حوالي السادسة ، إنه الوقت الذي أنهض فيه عادة لأكتب . أخرجت السدادات من أذني لأبدأ اتصالي المباشر بالعالم الخارجي المحيط من حولي ، طرقت أذني مجموعة أصوات متناثرة من هنا وهناك ، لم أكترث للمسألة ، ونهضت لإعداد الشاي. وضعت الماء على الناروعدت لأفتح المذياع متفقدا اخبار الموت الفلسطيني ، أو لأقل أخبار القتل. فالقتل ثاني شيء يعيد ربطي بالعالم الخارجي ، بعد الضوضاء والصخب والضجيج ، إذ يتوجب علي معرفة كم قتل منا هذا اليوم ؟
وإذا ما انتابني شك في أن عدد القتلى قليل ، رحت اتصل بمكاتب الإعلام الفلسطينية لأجزم بحقيقة الأمر . ، أما إذا لم ينتبني ، فيتوجب علي أن أعيد النظر في العملية الحسابية التي شرعت فيها منذ قرابة عشرين عاما ، أعقد عملية حسابية يمكن أن يتخيلها المرء ، شرعت فيها منذ ذلك الوقت ، بغية الوصول إلى أمرين . الأول : هل يمكن إفناء الفلسطينيين على ضوء هذا المعدل في القتل ؟ والثاني : متى سيحل قتلي ؟! ونظرا لأن عدد القتلى يكثر كل شهر أحيانا ، فإنني في حاجة لإعادة النظر في العملية . فمثلا توصلت في شهر كانون أول من عام 68
إلى أنني سألاقي حتفي في العقد الخامس من القرن الحادي والعشرين ! أي أنني سأعمر أكثر من مائة عام ! فيما توصلت إلى أن إمكانية إفناء الفلسطينيين مستحيلة تماما . وجاء عام 1970 لينسف توقعاتي ، فقد قصر عمري أكثر من ستة عقود ، حتى أنني توقعت أنني سألاقي حتفي عام 1986 . وبما أنه لم يبق من هذا العام إلا قرابة شهر ، فإنني أترقب موتي لحظة بلحظة . والأمل في أن تخطىء توقعاتي ضئيل للغاية ، أما فناء الفلسطينيين فقد تبين لي على ضوء ما تمخضت
عنه المجازر الأيلولية ، أنه أمر ممكن ، بل وممكن جدا ، وجاءت الأعوام اللاحقة لتصفعني الصفعة تلو الصفعة ، وتدفعني لأن أحسب عمر الفلسطينيين بالقرن بعد ان كنت احسبه بالألف عام ، حتى انني في هذا الشهر اللعين أو الشهرين اللعينيين
اللذين ينتهي بهما عام 86 ، أخذت أفكر في أن أحسب عمر الفلسطينيين بالعقد ! فقد وصلت الأمور إلى حد مرعب ، حد صرح فيه زعيم حزب عربي بانه سيقف ضد أي توسع فلسطيني خارج المخيمات! لقد غدا خروجنا من المخيمات توسعا ، ودخولنا إلى قرية عربية احتلالا ، وانشطار أجسادنا تحت القصف المدفعي عدوانا ، وهذا يعني أن مخيماتنا في بعض الدول العربية غدت تعامل كقواعد استعمارية
معادية ، وينبغي أن تسحق! وعندما أضيف إلى هذه الوقائع فظائع المحتلين داخل وخارج الأرض المحتلة ، والإنشطارات الجبهوية والمنظماتية في الثورة ، وغياب الوحدة الوطنية ، وتشتت الرؤى الثورية ، وتفشي البيرقراطية والإنتهازية ، والتخاذل ، في الساحة الفلسطينية ، أجد نفسي أغرق في التشاؤم ، ويطبق اليأس على روحي المدمرة ، ليفقدني أي أمل بالحياة . غير انني وفي أحيان نادرة ، أحاول مقاومة اليأس بما يؤكد بقاء الفلسطينيين وتكاثرهم بشكل يستحيل على الفناء ، فأحسب كم ازداد عددهم في كافة أماكن تواجدهم ، فأجد ان سكان 48 قد ازدادوا قرابة خمسة اضعاف في أربعين سنة ،وسكان 67 ازدادوا أكثر من ضعفين في عشرين عاما ، وسكان المنفى ازدادوا أربعة أضعاف عما كانوا عليه عند بدء منفاهم . وامعن في التفاؤل إلى حد اقول فيه لنفسي: ولك حتى أنت الذي لا تؤمن بالمؤسسة الزوجية ، تزوجت مرتين ، وعاشرت قرابة خمسين امرأة من القارات الخمس ، بحيث غدوت لا تعرف كم عدد ابنائك. فكيف تفكر بالفناء ؟! وأحاول تصديق ما أقوله لنفسي ، فأغصب نفسي على ابتسامة صفراء هزلية مصطنعة .

يتبع ؟







 
رد مع اقتباس
قديم 11-09-2007, 04:42 AM   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

أخذت أخبار القتل تتوالى عبر المذياع . رباه كم كان هناك من القتلى : قتلى في جامعة بير زيت ، قتلى في غزة ، جرحى في أماكن اخرى من الأرض المحتلة ، عشرات القتلى في مخيمات : عين الحلوة ، الرشيدية ، برج البراجنة، شاتيلا، ولم تتطرق الأنباء إلى مخيم صبرا، فقد سحق مخيمها بالمدافع الأخوية منذ زمن قريب، وردمت كل أبنيته، لينسى تماما إلا من الذاكرة الفلسطينية وحدها. تأففت قهرا وغضبا وقذفت( في نفسي ) مجموعة من الشتائم على الكون والآلهة والعالم ! وقد غابت من مخيلتي كل مؤشرات البقاء ، بما في ذلك نسائي وأبنائي ، ليحل القتل بكل فظاعته.
حضرت الشاي ورحت أحتسيه . أغلقت المذياع وشرعت في قراءة آخر مشهد في الرواية . الرواية التي بدات كتابتها أواخر عام 80 ، ولم أفرغ منها حتى الآن ، وبت أشعر وكأنني بدأتها منذ سبعين عاما وليس سبعة أعوام ، لكثرة ما قتلتني واعتصرت دمائي قطرة قطرة ، ، أرهقت اعصابي وسلبت مخيلتي . كتبت فيها حتى الآن قرابة ألف و مائتي صفحة ، ولا أعرف كم سأكتب بعد ، ولا أعرف متى سأنتهي ، ولو كنت أعرف أنني سأكرهها إلى هذا الحد ، لما شرعت في كتابتها ، أو لأجلت ذلك ، . لا اظن ان هناك ما هو مرهق في الحياة أكثر من كتابة الرواية .
لم يرق المشهد لي ، أحسست أنه مكتوب بلغة جافة ميتة ليس فيها أي أثر لحياة ، رغم انني كتبته ثلاث مرات . ثم إن ما يحيرني هو مصير ابطالي، الذين لا اجد مفرا من جعلهم يواجهون قدرهم ، وهو هنا قدر كل الأبطال الفلسطينيين عبر التاريخ . بدءا من جليات الذي تقول الأسطورة التوراتية أن داود قتله بحجر من مقلاعه ، مرورا بيسوع المسيح ، وانتهاء بعبد القادر الحسيني ، وأبو علي إياد ، وغسان كنفاني ، وماجد ابو شرار . كم احاول أن أجد لهؤلاء الأبطال منفذا ، فأعود إلى جليات في محاولة يائسة للبحث عن أمل ما ! فأجد ما لا يصدق ، أجد ان داود الصغير قد صرعه رغم العملقة التي تصوره فيها التوراة < فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من جت ، طوله ستة أذرع وشبر ، وعلى راسه خوذة من نحاس ، وكان لابسا درعا حرشفيا ، ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس ، وجرموقا نحاس على رجليه ، ومزراق نحاس بين كتفيه ، وقناة رمحه كنول النساجين ، وسنان رمحه ستمائة شاقل حديد >
رباه ( أقول لنفسي ) ورغم كل هذا صرعه داود بالمقلاع؟! اللعنة ! هل يكمن قدرنا في انه كتب علينا القتال مدى الحياة دون تحقيق النصر ؟! وبالتالي لا يمكن لحياتنا أن تتجدد إلا بالموت ، طالما أن اليهود لم يفنونا رغم طول هذا الصراع عبر التاريخ ؟!
هذا ممكن ( أقول لنفسي ) وأنهض لقضاء حاجتي الصباحية ، وقد داخلني شيء من الطمأنينة لما أظنه صواب أفكاري !
قضيت حاجتي وأنا اتصفح كتابا عن المجازر الصهيونية ضد الفلسطينيين ، تناولته من مكتبة المرحاض !! عثرت على مجازر لا يكاد يسمع بها أحد ، ارتكبت في قطاع غزة عام 1956. وفظاعتها تفوق كثيرا العديد من المجازر النازية ، حتى تلك التي استخدمت فيها الأفران لحرق السرى . فمن يصدق مثلا أن الجيش الإسرائيلي دفن في الصحراء 1800 شاب في يوم واحد ، وقد دفن معظمهم وهم أحياء .؟!
تنبهت إلى أن الكتاب أخذني بحيث جعلني أمضي في الحمام أضعاف الوقت المطلوب ! لقد أضعت الوقت ! ينبغي ان أغسل وجهي وأحتسي القهوة . سأحتسيها وأنا أكتب .
سارعت إلى التنفيذ .. جلست على طاولة الكتابة لأقود بطلي إلى نهايته ! أنا في العادة اكتب في السرير ، لكن وجود طاولة في هذا البيت الصغير الذي استأجرته منذ فترة ، شجعني على استخدام الطاولة .
كيف سأميت هذا البطل ؟ ابطال كثيرون في روايتي وينبغي علي أن أبحث عن ميته تليق بكل واحد. هذا في مواجهة مع المحتلين . وذاك في السجن ، وذاك وذاك .. رباه كم أحتاج إلى أشكال من الموت ؟ ثم إنني نسيت أن أغلق أذني قبل أن تضج الحارة بابواق باعة النفط ، فانا لا استطيع الكتابة وحتى النوم والقراءة ، دون ان أغلق اذني ، لتلافي هذا الصخب المدمر للأعصاب ، وخاصة ذاك المنبعث من أبواق باعة النفط ، أو المازوت كما يسمونه في دمشق . فظيعون باعة المازوت هؤلاء ، فهم يقتلونني بطريقة عجيبة ، لا يشرعون سيوفا لجز الرؤوس ، ولا ينصبون مشانق ، أو يرمون بالرصاص ، لا لا ، إنهم لا يفعلون هذا أوذاك ، إنما يجننونني بأبواقهم الفظيعة ، فما أن يقبل أحدهم على الحي من بعيد وفي الصباح الباكر ، ممتطيا عربة حصانه المشرشب ، المزين بالشرافات والظبابيح والضفائر الملونه ، التي غالبا ما تكون حمراء ، حتى يسبقه صوت البوق المخيف ، مخترقا النوافذ والشرفات ، الحوائط والجدران ، الرؤوس والجماجم ، موقظا الناس من عز النوم ، فابادر حينئذ إلى وضع السدادات في اذني لأستانف النوم ، اما إذا كنت أكتب فإن الأمر يتطلب ان اسارع إلى دفع السدادات عميقا داخل أذني في اتعس محاولة للتخفيف من حدة الصوت الذي يخترق تلافيف دماغي ، يشل تفكيري ، يجمده تماما ، فتغدو الكتابة أمرا محالا ، بل مستحيلا ، لذا أتوقف في أحيان كثيرة ، فهذه السدادات تفيد قليلا لكنها لا تحل المشكلة ، أنتم قطعا لم تسمعوا أبواق باعة المازوت هؤلاء طالما لم تسكنوا الأحياء الشعبية في دمشق ، كيف اصفها لكم ؟ فهي ليست كابواق سيارات النجدة أو الإسعاف ، وليست كابواق إنذارات الخطر كلها ، حتى تلك الأبواق المرعبة التي تسبق عادة مواكب الزعماء . بل إن هذه تبدو جميلة إذا ما قورنت بها . أما بوق بائع المازوت فهو عجيب ، صوته حاد جدا ، وهو بوق عجيب حقا ، ينتهي بكرة مطاطية ممتلئة بالهواء ، يضغط البائع عليها
فتخرج صوتا يأخذ طريقه على الفور إلى تلافيف الأدمغة ، فيشل حركة الأعصاب !! وكل بائع مازوت يضغط على الكرة بطريقة تميزه عن الآخرين ، فقد تسمع واحدا يضغط ضغطة طويلة جدا في البداية ، يتبعها بضغطة أقصر قليلا ، ثم أخرى قصيرة تماما ، وآخر يضغط ضغطتين طويلتين ثم واحدة قصيرة فواحدة طويلة جدا ! فالجميع يحاولون تأليف ألحان موسيقية فظيعة بضغطاتهم . ويكررون هذه الألحان مرة كل دقيقة ، مع ان الحارة تكون قد استيقظت ابشع استيقاظ يمكن أن يستيقظه بشر .
كم مرة اطلقت النار على باعة الزفت هؤلاء . اطلقتها في خيالي طبعا ، إذ لا أتصور أن أقتل أحدا من هؤلاء التعسين حقيقة . بالتاكيد لن افعلها . صحيح انه لدي مسدس في درج طاولتي ، أحتفظ به كاي فلسطيني ، حتى أدافع به عن نفسي إذا ما حان قدري ، لكني لن استخدمه ضد باعة المازوت ، وليس ضد الآلهة أيضا ، إذ اعرف ان قدري لن يكون على ايديها .. رغم ان كل واحد من هؤلاء يغشنا في السعر والمكيال والما زوت المخلوط بالماء ، فقد أخذ احدهم 85 ليرة بينما أخذ آخر 75 ، وآخر 65 ، مع ان الكمية التي ابتاعها ثابتة لا تتغير . وإذا ما حاولت إقناع البائع بان اوعيتي لا تتمدد ولا تنتفخ ، ولا تتسع لأكثر مما تتسع ، وأن سعر ملئها لا يتجاوز 54 ليرة حسب تسعيرة الدولة ، فإنه يحرمني من المازوت في عز الشتاء . لذا بت أسلم بالغش واتعامل معه كامر واقع . حتى انني أخذت أشكر جاري عندما يبيعني كيلو السكر بعشرين ليرة مع أنه يبتاعه بليرة ونصف !
ما يزعجني أن نسبة الغش غير ثابتة ، وتختلف من بائع لآخر ، وفيما يتعلق بالمازوت ، لا أذكر أن بائعا اخذ مني نفس المبلغ ، وإذا ما أخذنا بالإعتبار نسبة الماء غير الثابتة أيضا التي تضاف إلى النفط ، فإن الغش يكون فظيعا جدا .
وأعجب ما في بائع المازوت هذا أنه يظن نفسه اهم من ملك او رئيس جمهورية ، وفي أسوأ الأحوال يظن نفسه اهم من رئيس حزب أو زعيم منظمة فلسطينية ، وقد يكون محقا في ذلك ، وخاصة حين يقترب من الحارة أو يعلن حضوره فيها ، مطلقا الف صرخة من بوقه الفظيع ، فتطل الرؤوس منفوشة الشعر من النوافذ والشرفات وشقوق الأبواب ، وتجحظ العيون المعمصة التي ارهقها السهاد أو اكسلها طول الرقاد ، وهي تحدج البائع بنظرات بلهاء . ويهرع البااحثون عن المازوت لتشغيل مدافئهم وحماماتهم ، فيزهو بائع المازوت بنفسه ويدور حول الحصان المشرشب متبخترا ، والناس يحدقون إليه وهو يحدق إليهم ، راميا نظراته هنا وهناك ، نحو الطوابق العلوية والسفلية ، ويده لا تكل ولا تمل من الضغط على هذا البوق العجيب ، وهنا بالذات يشعر أنه يؤكد حضوره امام كل الناس ، وأن الجميع في حاجة إليه ، وانه بالتالي أهم من ملك أو رئيس جمهورية !وهؤلاء حسب زعم جارتي الشامية يستوطنون التلفزيزن ، ويمكن للمرء أن يغلق التلفزيون إذا لا يريد ان يراهم ، أما باعة المازوت هؤلاء فمن يستطيع ان يمنع نفسه من رؤيتهم .؟ من يستطيع أن يغلق اذنيه دائما حتى لا يسمع صخب أبواقهم
يتبع







 
رد مع اقتباس
قديم 12-09-2007, 03:41 AM   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
محمود شاهين
عضوية مجمدة
 
إحصائية العضو







محمود شاهين غير متصل


افتراضي مشاركة: مختارات من قصصي

.؟ لقد تآلفت مع كل الأصوات الأخرى في الحارة منذ أن سكنتها ، تآلفت مع أبواق السيارات ومفرقعات الأطفال ، تآلفت مع أصوات الدراجات النارية التي يركبها المراهقون وغير المراهقين ، مع نداءات باعة الخضار والفواكه ، ونداءات تجار الأحذية المهترئة والملابس المستعملة ، ونداءات تجار الخبز الجاف والألمنيوم والقناني الفارغة ، تآلفت مع نداءات هؤلاء التي لم أكن أطيقها ولم اكن افهم منها شيئا ، وإذا فهمت ماذا ينادي البائع وتريد ان تشتري ، ستجد ان البائع يبيع شيئا مختلفا عما ينادي عليه ، فإذا سمعته ينادي قائلا ( حلاوة يا حلقوم ) وأطليت برأسك من النافذة لتنده عليه رغبة منك بالحلقوم ، ستجد انه يبيع بطيخا !
المهم ، وكي أتلافى طرق باب بيتي من قبل المشترين ، علقت عليه لافتة تقول أنه ليس لدي ما يمكن شراؤه ، وأنني ألقي بفضلات الخبز في القمامة ، فأدركوا أو ظنوا أنني ملحد ، إذ كيف أرمي فضل الله في القمامة ؟ فلم يعودوا يطرقون باب
بيتي في الصباح الباكر ، إلا إذا كانوا أميين . ولم يبق غير هؤلاء التعسين ، أي باعة النفط العظام ، الذين يؤكدون حضورهم في مخيلتي أكثر من الأعجف ( وهذا زعيم فلسطيني مهول ، كسر الدنيا ، في روايتي ! ) وأكثر من عامر الليثي ( وهذا الفدائي الفلسطيني الذي يصارع قدره في الرواية ذاتها ، ) واكثر من الموت المحدق بالفلسطينيين ، وأكثر من النساء اللواتي قتلنني وما زلن ، حتى أنني كتبت إلى وزيرة الثقافة أناشدها المساعدة في الخلاص من أبواق باعة النفط هذه ، بعد ان أخفقت كل محاولاتي في جعل الباعة يبيعون نفطهم دون استخدامها ، حتى أنني أخبرت صديقي الروائي بما أقدمت عليه ، لعله يساعد في الأمر ، أعرف ان هذا ليس من شأن الوزيرة والروائي ، لكن ماذا أفعل بالله عليكم ؟!
لقد مر شهر على كتابي ذاك ولم يحدث شيء ، ولن يحدث شيء كما يبدو ، وهذا البوق يصرخ في رأسي ، والرواية تنتظر بين يدي ، والزمن يطوي سني عمري ، والأعجف يطل من بين السطور ، يحدجني بنظراته ، يقهقه ، يسخر مني ! ، أما أم عامر ( وهذه الأم الفلسطينية في روايتي ) تحدجني بنظرات الوجد وتقول لي ( متى ستنتهي من مأساتي ، ألا يكفي أنك جعلت اليهود ينسفون بيتي مرتين ؟ وقد تجعلهم ينسفونه مرة ثالثة ، ألا يكفي أنك جعلتهم يقتلون عمر وفداء وعمرو ، وجعلتهم يأسرون محارب وعمران وأبو عامر ، ألا يكفي كل هذا ؟ فإلى أين تقودني ؟ كفاك مآس ! )
آه كم أنا متعب يا أم عامر ، وكم تؤرقني هذه المآسي التي وضعتك فيها ، كم تقتلني ؟
سمعت مجموعة أبواق لباعة المازوت تنطلق دفعة واحدة ، قادمة إلى الحي ، سارعت إلى فتح علبة السدادات لأغلق أذني ، غير أنني شعرت بانقباض شديد في صدري ، انقباض شل حركتي ، وجعلني غير قادر على وضع السدادات في أذني ، رحت أتنفس بعمق وانا أضع يدي على صدري في محاولة لمقاومة هذا الإنقبلض المفاجىء . تخيلت نفسي ميتا على الأريكة وليس خلف طاولة الكتابة ، لا أعرف لماذا ؟ ربما لأنني لا أكره شيئا في الحياة أكثر من الكتابة ، ولا أحب شيئا في الحياة أكثر من الكتابة !! ففضلت ان أموت بعيدا ولو قليلا عن طاولة الكتابة !
رن جرس الهاتف . حاولت القيام غير أنني لم أتمكن . وظل الجرس يرن ويرن إلى ان يئس طالب المكالمة وأقفل الخط من طرفه . بعد قرابة ربع ساعة ، أحسست انني استعدت شيئا من قواي ، حاولت النهوض لأتأكد من انني قادر على الوقوف والسير . تمكنت من الوقوف وسرت ببطء إلى الأريكة لأجلس عليها ، أتكيء بظهري على مسندها وامد رجلي إلى الأمام ، شعرت بشيء من الراحة وأنا أمد رجلي إلى الأمام واسترخي دون ان يفارق شبح الموت مخيلتي ، آه ( هتفت لنفسي ) ( سميرة ( الزوجة الأولى) هجرتها وبيرجت ( الزوجة الثانية ) في ألمانيا ـ إيريس في أمريكا ، وليليل في المكسيك ، جينيا في موسكو ، ونجوى في القاهرة ، كلير في لندن ، وحياة في القدس ، بسمة تزوجت ولم تعد تتحملها ! غادة ربما لم تعد تطيقك ، ولوسيان ، حتى لوسيان التي في دمشق ، منشغلة بعالمها العجيب ، ولا تزورك إلا نادرا ، وأولادك وبناتك الذين تظن أنهم كثيرون ليسوا من حولك ، كل هذا الكم من النساء ( الزوجات والعشيقات والصديقات ) والأولاد ، عدا الأخوة والأخوات ، وتموت وحيدا ، وحيدا ، يا محمود أبو الجدايل ! وحيدا بائسا متعبا مرهقا ،مدمرا ، لا أحد يقدم لك حتى كأس ماء . آه يا امي لو انك إلى جانبي لتواسيني بكلمة منك ، لتغدقي علي حنانك ، لتضمي رأسي إلى صدرك المترع بالأمومة والحنان ، وتملسي بيدك البلسمية على صلعتي ، أنا حزين ووحيد ومتعب يا أمي .
رن جرس الهاتف ثانية . مددت يدي هذه المرة ، إذ كان الهاتف قريبا مني .
كانت لوسيان . لوسيان التي مات أحد قطيها ( محمود ) وتطلب إلي المساعدة في دفنه ! جرى بيننا على الهاتف ما جرى ، وانتهت المكالمة بنعتي بالمجرم الشرير القاسي ـ وإلغاء دعوة العشاء التي كان مقررا أن تحضر إليها عندي .
لوسيان سيدة فرنسية ، وهي أرق امرأة عرفتها في حياتي ، وأكرم امرأة بعد ( عائشة العلان ) وهذه الأخيرة كانت أرملة فلسطينية معدمة ، جاءت أبي تستدين منه ذبيحة حين طرق بيتها عابرو سبيل بحثا عن طعام !!!
ولوسيان امرأة ناعمة كحرير الشام ، وشفافة كماء زمزم ، يمكن أن تخدشها نسمة هواء في غير أوانها .. ولا أعرف أية حماقة دفعتني لأن أتعامل معها بهذه القسوة ، وأطلب إليها أن تلقي القط في القمامة !
تعرفت إليها بعد حضور عرض مسرحية ( كاليجولا ) في دمشق ، وأصبحنا صديقين حميمين بعد قرابة اسبوعين ، حدثتني عن مسيرة آلامها ، وحدثتها عن مسيرة آلامي ، لولا احتلال بلدي لكانت آلامها لا تقل فظاعة عن آلامي ، فقد عاشت حياة قاسية ، لم يرد مثلها حتى في الأساطير ، ربما في أسطورة لوط فقط ! ومع ذلك فهي تحاول نسيان كل المآسي التي مرت في حياتها ( كما أحاول نسيان مقتل أخي بيد ابي ) فتبدو وكأنها لا تعاني منها ، وربما لاتعاني ..
ولوسيان كمعظم الأوروبيين تحب الحيوانات ، وتفضل القطط على الكلاب . عندما تعرفت إليها كان لديها قط بحجم كلب صغير اسمه فرانسيس ، ( وهذا اسم صديق فرنسي لها ) وحين تعمقت صداقتنا ، اقتنت قطا آخر وأسمته ( محمود ) على اسمي .
يتبع







 
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مختارات من أعمالي التشكيلية محمود شاهين منتدى الفنون والتصميم والتصوير الفوتوجرافي 55 26-06-2008 09:42 AM
مختارات من أشعاري محمود شاهين منتـدى الشعـر المنثور 37 11-09-2007 04:58 AM
الرواية - الأقصوصة : لا أدري....(عمل قصصي مشترك) لـِ عبد النور إدريس ووفاء الحمري عبد النور إدريس منتدى القصة القصيرة 1 12-04-2007 04:06 PM
مختارات من الاناشيد الاسلامية عبد الرحمن أبو شندي قسم الأناشيد الإسلامية 0 25-12-2006 12:29 AM
مختارات رائد الحاج عثمان منتـــدى الخـواطــر و النثـــــر 86 20-01-2006 08:08 PM

الساعة الآن 06:43 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط