الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديـات الثقافيـة > المنتدى الإسلامي

المنتدى الإسلامي هنا نناقش قضايا العصر في منظور الشرع ونحاول تكوين مرجع ديني للمهتمين..

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 12-09-2022, 01:44 PM   رقم المشاركة : 109
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)







(أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ):

(جَنَّٰتٖ): اسمُ أنَّ، و (لَهُمۡ) خبرٌ مقدمٌ، ولا يجوز تقديمُ خبرِ "أنَّ" وأخواتِها إلا ظرفاً أو حرفَ جَرٍّ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جَرّ، لأن المعنى: بأن لهم جنات، فحُذِفَ حرفُ الجر، وبقى حكمه، ومثلها قول الشاعر:
وما زُرْتُ ليلى أنْ تَكُونَ حبيبةً ..... إليَّ لا دَيْـنٍ بهــا أنـا طالِبُـهْ
فَعَطْفُ "دَيْنٍ" بالجرِّ على محلِّ "أن تكون" يبيِّنُ كونَها مجرورةً.
على أن الوجه الآخر أنها في محل نصب لا جر، كقولِهِ:
تَمُرُّونَ الديارَ وَلَمْ تَعُوجوا ..... كلامُكُـمُ علـيَّ - إذاً - حَــرَامُ
أي بالديار، ولا يجوزُ الجرُّ إلا في نادرِ شعرٍ، كقولِهِ:
إذا قيلَ: أيُّ الناسِ شـرُّ قبيلةٍ ..... أَشَـارتْ: كُلَيْبٍ بالأَكُفِّ الأصَابِعُ
أي: إلى كُلَيْبٍ، وقولِ الآخر:
حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأَعْـلامِ
أي: إلى الأعلام.
والجَنَّةُ: مشتقة من مادة: "جنن" التي هي بمعنى الستر، ومنه جنون الليل أي شدة ظلمته وستره لما فيه، يقول تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ) الأنعام 76.
والجَنَّـةُ: البُسْـتَانُ، وقيل: الأرضُ ذاتُ الشـجرِ، سُـمِّيَتْ بذلك لسَــتْرِها مَـنْ فيها. وقيـل: الجَنَّةُ: ما فيه النخيل، والفردوس: ما فيه الكرم. وقيل: هي النَّخْلُ الطِّوَالُ، قَالَ زُهَيْرٌ:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ..... مِنْ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا‏
ومن المادة:
- الجنين لاستتارِه،
- والمِجَنُّ: التُرْس لأن صاحبه يستتر به،
- والجِنَّة: الجنون، كما في قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌۢ بِهِۦ جِنَّةٌ) المؤمنون 25.
- والجِنَّة - كذلك - هم الجن، كما في آخر آية في سورة الناس. وسموا جِنَّاً وجِنَّةً لاسـتتارِهم عن أعينِ الناسِ.
- والجُنَّة: الوقاية.
ومعنى الاستتار في لفظ "الجَنَّة" نقله العرب للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف بعضها ببعض حتى كثر ظلها، وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة لا سيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب. وقد أورده المولى - جل وعلا - في مواضع في التنزيل العزيز على معنى البستان في نحو قوله: (إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ) القلم 17، وصار في الاصطلاح: دار النَّعيم الأبدية في الآخرة، يكافيء بها الله - تبارك وتعالى - أهل طاعته. وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس؛ فهي جَنَّةُ النعيم، جَنَّةُ الخُلْـد، وجنَّةُ المَـأوى، وهي الغرفة، لقوله تعالى: (أُوْلَٰٓئِكَ يُجۡزَوۡنَ ٱلۡغُرۡفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوۡنَ فِيهَا تَحِيَّةٗ وَسَلَٰمًا 75) الفرقان، وهي دار المقامة لقوله: (ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ 35) فاطر، وهي دار السلام، لقوله: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الأنعام 127، وقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) يونس 25. وهي جِنان: جنَّاتُ النَّعيم، وجنَّاتُ عَدْن، وجنَّاتُ المأوى، وجنَّاتُ الفردوس.







 
رد مع اقتباس
قديم 13-09-2022, 12:07 PM   رقم المشاركة : 110
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)







(تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ):

هذه الجملة في محلّ نصبٍ؛ لأنَّها صفةٌ لـ (جَنَّٰتٖ).
و (تَجۡرِي): مرفوع لتجرُّدِه من الناصب والجازم، وعلامةُ رفعه ضمّةٌ مقدرةٌ في الياء استثقالاً، شأن كُلِّ فَعْلٍ مُعْتَلٍّ نحو: يَدْعو، ويَخْشَى.
والجري حقيقته سـرعة شديدة في المشي، يقال: جرى، يجري، جرية، وجرياناً.
ويطلق مجازاً على سَـيْل الماء سَـيْلاً متكرراً متعاقباً. وأحسن الماء ما كان جارياً غير قار لأنه يكون بذلك جديداً كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل.
وفعل الجريان أفاد عدة معانٍ، منها صفاء الماء ونقاؤه؛ فإن الماء إذا ركد أو توقف جريانه، فسـد وتلوث. قال الشافعي:
إنـي رأيـتُ وقـوفَ المــاء يفســـدهُ ..... إِنْ سَال طَابَ، وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
و "الجريان" لا يكون للأنهـار وإنما للماء؛ لأن الأنهار هي ما يشـق في الأرض ليجري فيه الماء، فهو من إطلاق اسـم المحل وإرادة الحال، مثل قوله تعالى: (فَلۡيَدۡعُ نَادِيَهُۥ 17) العلق، أي: أهل مجلسـه وأصحابه ومن حولـه.وإن الناظر إلى الماء وهو يجـري منسـابًا في الأرض لا يرى النهـر؛ ولكن يرى المـاء، فكأن النهـر اختفى في المـاء ولا يـرى غير الماء.
(مِن تَحۡتِهَا): متعلقٌ بـ (تَجۡرِي)، و "تحت" مكانٌ لا يتصرَّفُ، وهو نقيض "فوق"، إذا أُضِيفَا أُعْرِبَا، وإذا قَطِعَا بنيا على الضَّمِّ. و (مِن): ابتدائية، أو بيانية، فهي توضح ابتداء جريان الأنهار، وتفجرها من منبعها.
والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات، كقول كعب بن زهير:
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ من ماءِ مَحْنِيَةٍ .....صافٍ بأَبْطَحَ أَضْحَى وهْو مَشمولُ
يصف الماء الذي اختلط به الخمر الذي وصف به رائحة سُعاد بأنّه بارد وصافٍ ، فهو يخرج من بطون الأودية التي ضربتها رياح الشمال الباردة، وكأنه أخذ منها وقت الضحى فهو أطيب وأبرد وأنقى من أي ماء.
و (مِن تَحۡتِهَا) أي: من تحت عَذْقِها أو أَشْجَارها ومساكنها، وقيل: من تحتها أي: بأمرهم، كقول فرعون: (تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ) الزخرف51، أي: بأمري، وقيل: المعنى في: (مِن تَحۡتِهَا): من جهتها.
و(ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ):جمعُ نَهَرٍ بالفتح، وهي اللّغةُ العالية، وعليها جاء قوله تعالى: (قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ) البقرة 249، وقوله: (إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَنَهَرٖ 54) القمر. وفيه تسكين الهاء.
والنَّهرُ: مجرىً مائي يصب في البحر أو البحيرة، أو غيرهما، ومياهه عذبة غزيرة.
وهو دونَ البحرِ، وفوق الجدول، وسمي نهراً، لأنَّه مشتقٌّ من "نَهَرْتُ" أي: وَسَّعْتُ. قال قَيْسُ بن الخطِيمِ يصفُ طَعْنَةً:
مَلَكْتُ بِهَا كَفّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا
أي: وَسَّعْتُ. ومنه: النَّهارُ لاتِّساع ضوئِهِ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماء مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ.
وجمعُ النَّهْرِ: أَنْهارٌ ونُهُرٌ ونُهُورٌ.
وَنَهْرٌ نَهِرٌ: كثير الماء. قال أبو ذُؤَيب:
أَقَامَتْ بِهِ وَابْتَنَتْ خَيْمَةً ..... عَلَى قَصَبٍ وَفُرَاتٍ نَهِرْ
والألف واللاَّمُ في (ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ): للجنس، وقيل: للعَهْدِ الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سـورةِ القتال: (مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ) محمد 15.
وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة، إن قلنا: إن الألف واللام فيها للعهد. وإن كانت أنهاراً كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة.
ورُوِيَ أنَّ أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنَّمَا تجري على سـطح الجنَّةِ منبسـطة بالقدرة، وإذا قيل: بأنَّ (ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ): اسـمٌ للماء الجاري فَنِسْـبَةُ الجَرْي إليه حقيقة، وإن قيل بأنَّهُ اسـمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه، فنسبةُ الجَري إليه مجازٌ، كقول مهلهل:
نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ ..... وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
والوقفُ على (ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ) حَسَنٌ وليس بتامٍّ.

ما دلالة اقتران الأنهار بالجنة في القرآن؟:

النهر هو الأُخدود الجاري فيه الماء على الأرض، ويكون كبيراً وصغيراً. وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظراً بديعاً وشيئاً لذيذاً. وأودع في النفوس حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم، فإن للإلف تمكناً من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى، ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور.

ما هي حقيقة هذه الأنهار؟:

لم يبين هنا أنواع هذه الأنهار، ولكنه بين ذلك في قوله تعالى: (مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ) محمد 15.
نلحظ هنا أمرين:
أولهما أنّ الآية لم تأت بحرف الكاف،
وثانيهما أنها ذكرت أن هذا مثلٌ.

لذلك فهم المفسرون أنّ الجنة فيها أنهار من لبن وعسل وخمر وماء، لكنها، لأنها "مثل" فهي تشترك مع أنهارنا في الاسم دون الحقيقة، إذ ليس في الدنيا أنهار من لبن، ولا خمرٍ أصلاً، فلا واقع يُمثل به هنا، بل هو تسليم بمضمون اللفظ اللغويّ، ثم يكون على حاله التي يخلقه الله عليها.

لِمَ نُكِّرت: (جَنَّٰتٖ) وعرفت: (ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ)؟:

إنَّ "الجنَّة" اسم لدار الثَّواب كلها، وهي مشتملةٌ على جنّات كثيرة مُرَتبةٌ مراتبَ على استحقاقات العاملين، لكل طبقةٍ منهم جنةٌ من تلك الجنَّات.
وأمَّا تعريف (ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ)، فالمرادُ به الجنس، كما يقال: لفلان بستانٌ فيه الماء الجاري والتين والعنب، يشيرُ إلى الأجناس التي في علم المخاطب.
أو يشار باللام إلى أنهارٍ مذكورةٍ في آية سورة محمد.







 
رد مع اقتباس
قديم 14-09-2022, 01:21 PM   رقم المشاركة : 111
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)







(كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا):

(كُلَّمَا): ظرف زمان، إمَّا أن يكون صفة ثانية لـ (جَنَّٰتٖ تَجۡرِي)، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مسـتأنفة؛ لأنَّه لَمَّا قيل: (أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ) لم يَخْلُ قَلْبُ السَّـامِع أنْ يقع فيه أنَّ ثمار تلك الجنَّات تُشبهُ ثِمَارَ الدُّنْيَا أم لا؟.
والأصل في: (كُلَّمَا) أن "كل" منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لـ "ما" المصدرية الظرفية.
والعاملُ في (كُلَّمَا) هاهنا: (قَالُواْ)، و(مِنۡهَا) متعلِّق بـ(رُزِقُواْ)، و"مِن" لابتداء الغاية وكذلك(مِن ثَمَرَةٖ) لأنها بَدَلٌ من قولِه: (مِنۡهَا) بدَلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ. و (رِّزۡقٗا) مفعولٌ ثانٍ لـ (رُزِقُواْ)، وهو بمعنى "مَرْزوقٍ".
(رُزِقُواْ): رَزَقَ، يَرْزُقُ، رِزْقَاً، فهو رَازِقٌ، والمفعول: مَرْزُوق. تقول: رزقه الله: أعطاه نعمة وعطاءً. ورُزِقَ بمولود إذا وُلِدَ له. وتقول في الصحيح المعافى: ما زال حياً يُرْزق.
والرِزْق هو كل ما ينتفع به من عطاء دنيوي أو أخروي. وقد يُسَمَّى المَطَرُ رِزْقاً كما في قوله تَعالى: (وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزۡقٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا) الجاثية 5، والآية فيها دليل على نوعي الرزق. والله - تعالى - يخبرنا في آيات عديدة على أن الرزق إنما يكون منه، مثل قوله: (وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم) المنافقون 10، فإذا رزق أحدهم من مخلوق، فلا يزيد ذلك المخلوق عن كونه وسيلةً وسبباً لرزق الله.

ما موقع: (مِن ثَمَرَةٖ)؟:

ثمة وجهان:
1) تنكير الثمـرة هو كقولك كلما أكلت من بسـتانك من الرمان شـيئاً حمدتك فموقع (مِن
ثَمَرَةٖ) موقع قولك من الرمان. و (مِن) لابتداء الغاية، لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار.
2) أن يكون (مِن ثَمَرَةٖ) بياناً على منهاج قولك: رأيت منك أسداً تريد: أنت أسد، وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة.


(قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ):

(هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا): مبتدأ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول، وعائدُ الموصولِ محذوفٌ لاستكمالِهِ الشروطَ، أي: رُزِقْناه.
و (مِن قَبۡلُۖ) متعلِّقٌ به. و (مِن) لابتداءِ الغايةِ، ولَمَّا قُطِعَتْ (قَبۡلُۖ): بُنِيَتْ.
وإن قيل: كيف يصح أن يقولوا: هذا الذي رزقنا الآن، وهو (ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ)؟، أجيب عليه بأنه لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال: هذا هو ذاك، أي: بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص، ولذلك إذا اشتدت مشابهة
الابن بالأب قالوا إنه الأب.
ومعمول القول:
- إما أن يكون جملة خبرية يخاطب بها بعضهم بعضاً، وليس ذلك على معنى التعجب.
- أو أن يقولون ذلك على طريق التعجب، لأنهم يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها، والطعم مختلف، فيتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضاً.


(وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ):

الظاهرُ أن هذه جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها، ومنه: (وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ 34) النمل، أو هي معترضة - لا محلَّ لها أيضاً - بين أحوالِ أهل الجنة، فإنَّ بعدها: (وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ)، وقيل: هي عطفٌ على (قَالُواْ)، وقيل: محلُّها النصبُ على الحالِ، وصاحبُها فاعلُ (قَالُواْ) أي: قالوا هذا الكلامَ في هذه الحالِ، ولا بُدَّ من تقديرِ "قد" قبل الفعلِ أي: وقد أُتوا.
وفاعل الإتيان المضمر: للوِلْدان والخَدَمْ، للتصريحِ بهم في غير موضع. والضميرُ في (بِهِۦ) يعودُ على المرزوق الذي هو الثمرات، كما أنَّ (هَٰذَا) في: (هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا) إشارةٌ إليه.
والتشابه: تفاعل من الشبه، والشبه المثل.
وانتصب: (مُتَشَٰبِهٗا): على الحال من الضمير في (بِهِۦ)، وهي حال لازمة، لأن التشابه ثابت له، أتوا به أو لم يؤتوا به، والتشابه قيل: في الجودة والخيار، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء، أو هو تشابه في اللون دون الطعم، أو في الطعم واللذة والشهوة، وإن اختلفت ألوانه، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم، أو متشابه بثمر الدنيا في الصورة لا في القدر والطعم.

هل المشبه به من أرزاق الدنيا، أم من أرزاق الجنة؟

الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك، فالمشبه به فيه وجهان:
1) أنه من أرزاق الدنيا، ويدل عليه وجهان:
- الأول: كأنهم قالوا: هذا الذي وَعَدنَا به في الدُّنيا؛ فإن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه، ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سـلف له به عهد، ثم وجده أشـرف مما ألفه أولاً، عظم ابتهاجه وفرحه به، فأهل الجنة إذ أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا.
- والثاني: كأنهم قالوا: هذا الذي رُزِقنا في الدنيا، لأنَّ لونه يشـبهُ لـون ثمـار الدُّنيـا، فإذا أكلوا وجدوا طَعْمَهُ غير ذلك. أي أن قوله: (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا) يتناول جميع المرات، فيتناول في كل مرة من أرزاق الجنة شـيئاً، فيقول: هذا الذي رزقنا من قبل، أي في الدنيا، ويشبهون في كل مرة رزق الجنة بشيء من أرزاق الدنيا، فإذا طعموا علموا أنه شيء آخر أطيب وأشهى.
2) أن المشبه به رزق الجنة أيضاً، والمراد تشابه أرزاقهم ثم اختلفوا فيما حصلت المشـابهة فيه على وجهين:
- الأول: المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص.
- الثاني: المراد تشابهها في المنظر واللون، لكِنَّها تكون مختلفةً في الطَّعْم، أو أنه يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنيا، ويباينه في جل الصِّفات.

ما وجه الاشتباه في الرزق؟:

هم مختلفون:
- فمنهم من يقول: الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم، فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله، فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة.
- ومنهم من يقول: إنه وإن حصـل الاشــتباه في اللـون لكنها تكون مختلفة في الطعـم، وقيل: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منهـا ثم يؤتى بالأخـرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول المَلَكُ: كل فاللون واحد والطعم مختلف.
- وقال رأي ثالث: إن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم؛ فاختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري. ويحتمل أن في ذلك تعجيباً لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر.






 
رد مع اقتباس
قديم 15-09-2022, 01:31 PM   رقم المشاركة : 112
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)










(وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ):

العطف للاستئناف، و "لهم" خبرٌ مقدَّمٌ و (أَزۡوَٰجٞ) مبتدأ، و (فِيهَآ) متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبرُ، وقوله: (مُّطَهَّرَةٞۖ): صفةٌ وأَتَى بها مفردةً على حدِّ: "النساءُ طَهُرَتْ"، ومنه قولُ الشاعر:
وإذا العَذارى بالدُّخانِ تَلَفَّعَتْ ..... واستَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدورِ فَمَلَّتِ
وقُريء: {مُطَهَّراتٌ}على حَدِّ: "النساءُ طَهُرْنَ".
والزوجُ: الواحد الذي يكونُ معه آخرُ، والتثنية: زَوْجان. وكل شيء قرن بصاحبه فهو زوج له؛ فيقال: "زَوْجٌ" للرجـلِ والمـرأةِ، وأمَّـا "زَوْجَةٌ" فقليلٌ، وقيلَ: إنها لغـةُ تميمٍ، وأُنْشِدَ للفرزدق:
وإنَّ الذي يَسْعى ليُفْسِدَ زوجتي ..... كساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يَسْتَبيلُها
والزوجُ أيضاً: الصِّنْفُ، ومنه قوله تعالى: (وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ 7) ق، وقوله: (أَوۡ يُزَوِّجُهُمۡ ذُكۡرَانٗا وَإِنَٰثٗاۖ) الشورى 50.
والطهارةُ: النظافةُ، والفِعْلُ منها طَهَر - بالفتح - وهو الأفصح، ويَقِلُّ الضم، واسمُ الفاعل منهما: طاهر.
وقوله: (مُّطَهَّرَةٞۖ) هو بزنة الإفراد، وكان الظاهر أن يقال: مطهرات كما قريء بذلك، لكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيراً لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم.
والمراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة، ولا سيما ما يختص بالنساء.

لِمَ قال: (مُّطَهَّرَةٞۖ) ولم يقل: "طاهرة"؟:

الجواب: في المطهرة إشعار بأن مطهراً طهرهن وليس ذلك إلا الله تعالى، وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب كأنه قيل إن الله تعالى هو الذي زينهن لأهل الثواب.

ما معنى التطهير في الآية؟:

فيه وجوه:
- خلقهن على الطهارة، إن كن من غير البشر: لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي وإن كن من بني آدم: يصرن شواب،
- مطهرة من العيوب الذاتية وغير الذاتية،
- مطهرة من الأخلاق السيئة والطبائع الرديئة، كالغضب والحدة والحقد والكيد والمكر، وما يجري مجرى ذلك،
- مطهرة من الفواحش والخنا والتطلع إلى غير أزواجهن،
- مطهرة من الأدناس الذاتية، مثل الحيض والنفاس والجنابة والبول والتغوط وغير ذلك من المقادير الحادثة عن الأعراض المنقلبة إلى فساد: كالبخر والذفر والصنان والقيح والصديد، أو إلى غير فساد: كالدمع والعرق والبصاق والنخامة،
- مطهرة من مساويء الأخلاق، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن،
- مطهرة من الولد،
- مطهرة من الإثم والأذى.
وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى: (مُّطَهَّرَةٞۖ)، لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهرات من كل ما يشين، لأن من طهره الله - تعالى - ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة.








 
رد مع اقتباس
قديم 16-09-2022, 01:36 PM   رقم المشاركة : 113
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)










(وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ):

هذه الجملةُ والتي قبلَها عطفٌ على الجملةِ قبلَها.
وهذا احتراس مِن تَوَهُّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا، لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو الطيب:
أَشَـدُّ الغَمِّ عِندي في سُـرورٍ ..... تَيَقَّنَ عَنهُ صاحِبُـهُ اِنتِقــالا
(وَهُمۡ): مبتدأ، و (خَٰلِدُونَ): خبرُه، و(فِيهَا) متعلقٌ به.
وقالوا قولاً لا نوافقهم عليه، وهو أن التقديم جاء ليوافقَ رؤوسَ الآيِ؛ وهذا فهم ضعيف للبيان القرآني، بل من المدلول البياني أن التقديم للجار والمجرور على الخبر جاء للاعتناء بالمكان، الذي هو الجنة، وعليها مدار الكلام في السياق.
(خَٰلِدُونَ): يقال: خلد بالمكان أقام به، وأخلد إلى كذا، سكن إليه. والمخلد: الذي لم يشب، ولمعنى السكون والاطمئنان، سمي هذا الحيوان اللطيف الذي يكون في الأرض خلداً.
والخُلود: المُكْثُ في الحياة أو الملك أو المكان مدّة طويلة لا انتهاء لها. وهل يُطْلَقُ على ما لا نهايةَ له بطريقِ الحقيقة أو المجاز. قولان:
1) قال زهير:
فلو كان حَمْدٌ يُخْلِدُ الناسَ لم تَمُتْ ..... ولكنَّ حَمْدَ الناسِ ليسَ بِمُخْلِدِ
2) وقيل: هو الثباتُ الدائمُ والبقاءُ اللازمُ الذي لا ينقطع. ولامريء القيس:
ألا عِمْ صَبَاحًا أيُّهَا الطّلَلُ البالي ..... وهل يَنعِمَنْ مَنْ كانَ في العُصُر الخالي
وَهَـل يَنْعَمَنْ إِلاَّ سَــعِيـدٌ مُخَلَّــدٌ .....قليـــلُ الهُمــــومِ مـا يَـبـيـتُ بأَوْجَــــالِ
وقالوا: العقلُ يَدُلُّ على دوامه؛ لأنه لو لم يجب الدوام، لجوّزوا انقطاعه، فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة، لأنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعاً في القَلْبِ، وهذا يقتضي ألا ينفك أهل الثواب ألبتة من الغم والحسرةِ، وقد يجابُ عنه بأنَّهم عرفوا ذلك بقرينة قوله: (خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًاۚ) التوبة22.

حلم الخلود:

في العربية: خَلَدَ الرجل يخلِد ويخلُد خَلْدًا وخُلودًا وإخلادًا ، إذا أبطأ عنه الشَيب. وهو مُخْلِد.
وأخلد إلى الأرض إخلادًا، إذا ألصق بها نفسه، ومنه: (وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) الأعراف 176، إذا لصِق بها.
وخلَدَ يخلُد خُلودًا من دوام البقاء لا غير، والخُلود لا يكون في الدنيا.
ودار الخُلود والخُلْد: الآخرة والجَنَّة.
وقد سمَّت العرب خالدًا وخُويلدًا ومَخْلَدًا وخُلَيْدًا ويَخْلُدَ وخَلاّدًا، ومن أسماء النّساء: خَلْدَة. والخُلْد: دُوَيْبة تشبه الفأرة.
ومن أمثالهم: "أصابَ خُلْدَ النَّطِف"، إذا أصاب مالًا.
ووقع ذلك في خَلَدي، أي في قلبي.
وقوله عزّ وجلّ: (وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) الإنسان 19، أي باقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مر الأزمنة. وقيل: مخلدون لا يموتون .وقيل: مسوَّرون مُقَرَّطون، وهي لغة يمانية؛ أي: مُحَلّون، والتخليد: التحلية. وعلى الأخير قال:
ومخلَّداتٍ باللُّجن كأنّمـا ..... أعجازُهنّ أقاوِزُ الكُثبانِ

إن الخلود كان وسيظل حلماً ينشد كل إنسان تحقيقه. وقد بدأت فكرة الخلود تراود خُلُدَ الإنسان منذ البداية مع أول المكلفين من البشر، وهو الوتر الذي لعب عليه إبليس لإغواء الجنس الآدمي، فقال: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ) طه 120. وفي هذا إشارة واضحة إلى أن الآدميين الأوائل كانوا يخبرون الموت، ويعلمون أنهم غير مخلدين، فوسوس إليهم الشيطان بفكرة هزيمة الموت، مع إغراء آخر بملك لا ينقطع ولا ينقضي.

لا شك أن كل الديانات أعطت للإنسان نوعاً من الخلود بعد الموت، وقد اختلفت درجات هذا الخلود وطرائقه ونسجت حوله الكثير من الأساطير التي صورت عوالمه وصاغت أشكاله. تزود الأساطير الإنسان بذاكرة تاريخية تُعطيه إحساساً بوجود مبرر لحياته وبدون هذه الذاكرة يصبح الإنسان إلى حالة أشبه بالموت ، لأن نسيان الماضي هو نوع من أنواع الموت، لذلك فالإنسان الذي وجد نفسه في مواجهة الموت ابتكر نسـقاً أسطورياً اعتماداً على ملكاته الوجدانية والعقلية واللاشعورية من أجل مواجهة كل الاحتمالات. ومن أبرز الأساطير تلك التي تناولت أكسير الحياة أو حجر الفلاسفة، وادعى باحثون أنهم استطاعوا فك شـفرات نبوءات نوسترداموس، الذي تنبأ للعام 2015م اكتشاف إكسير الحياة المسبب لإطالة عمر الإنسان لمئتي عام. ومنذ العصور القديمة ولع العلماء بالبحث عن إكســير الحياة أو حجر الفلاسـفة، وكأن الشــيطان طور أدواته منذ نزل الآدميون على الأرض، ليلهيهم بهدف مستحيل. انصرفت أنظار الأولين لماء الخلود الذي يُعطي لشاربه الحياة الخالدة، أو النبتة السحرية التي تهب حياة لا تعرف الموت. هذا الأكسير العجيب يُعالج جميع الأمراض، ويحول المعادن العادية إلى ثمينة كالذهب والفضة. وسعى العديد من ممارسي الكيمياء في الصين القديمة والهند والعرب والغرب إلى اكتشافه وتحضيره. والفكرة النظرية وراء ذلك المسعى هي الاعتقاد أن المواد كلها خرجت من مادة واحدة، هي أصل الكون. وأن تلك المادة انشطرت لتكون المواد الحالية كلها بخواصها الفريدة، فإذا أعيد تركيب المواد كلها بالخواص الأصلية للمادة الكونية، أمكن إيجاد الأكسير أو المادة السحرية التي تحقق الخلود. ثم تطورت الفكرة إلى الاعتقاد بأنه إذا تمكنا من تركيب عناصر الجدول الدوري كاملة في مركب واحد، سيصدر عنه - بالتأكيد - حجر الفلاسفة. وقد نحى هذا الهوس بطلب الخلود منحىً إجرامياً، مثلما فعلت كونتيسة الدم، وهي الكونتيسة اليزبيث باثوري المولودة في هنغاريا عام 1560م، والتي لم تكتف بقتل ستمائة فتاة فقيرة لشـرب دماءهن، بل قتلت خمسة وعشرين من فتيات الأسرة المالكة رغبة في شرب دماء نبيلة، وكانت تستحم في بركة من الدماء، من أجل القضاء على الشيخوخة وإطالة عمرها.






 
رد مع اقتباس
قديم 17-09-2022, 12:52 PM   رقم المشاركة : 114
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)










الخلود في الأساطير:

أبرز الأساطير التي بحثت عن الخلود بواسطة ُجرعة سحرية أو نبتة عشبية ملحمة جلجامش السومرية ، التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. وهي تدور أحداثها حول سعي جلجامش ملك "أوروك" للوصول إلى مرحلة الخلود بعد أن فقد صديقة "أنكيدو". وبعد توصله لنبتة الخلود، آثر بدلاً من أن يأكل منها، أن يحملها إلى "أوروك" ليزرعها هناك؛ فيأكل منها قومه. إلا أنه نزل في بركة ليغتسل فيها، فغافلته حية أكلت النبتة، فخسر حلمه.
وفي الميثولوجيا اليونانية عمدت "ثيتيس" إلى جعل ابنها "آخيلس" خالداً بتغطيس جسمه كاملاً في "نهر الخلود" إلا منطقة الكعب لم يُصبها الماء فكانت نقطة ضعفه. ومما رواه ابن الأثير من خيال حول ذي القرنين أنه لما فرغ من أمر السد دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي، والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الأرض موضع ألا تطلع عليه الشمس أبداً، فلما دخل الظلمات أخذ معه أربعمائة من أصحابه يطلب "عين الخلد" فسار فيها ثمانية عشر يوماً، ثم خرج ولم يظفر بها، وكان "الخضر" على مقدمته فظفر بها وسـبح فيها وشرب منها.
ومن مشتركات الأساطير: أسطورة طائر الفينيق، الذي ما إن يموت حتى يعيد إحياء نفسه، ليولد - مجدداً - من رماده. وهي أسطورة وردت في التراث الأسطوري لعدة أمم لكن بأسماء مختلفة، فهو عند القبط واليونان والرومان والفرس. وهو "عَنْقاء" عند العرب، وسـمِّي بهذا الاسـم لأَنه كان في عُنُقه بياض كالطوق، وهو فيما يزعمون: طائر لم يره أَحد يكون عند مغرب الشمس.
ولا شك أن الفكر الفلسفي العقلي عند الإغريق تأثر بهذه الأساطير، فكانت المدارس الفكرية الإغريقية كثيرة ومتعددة، أهمها في هذا المبحث مدرسة أفلاطون، وهو الذي وضع نظرية المثل، وقال بخلود الروح التي تدخل عالم ُ المثل الذي لا يتغير وهو مستقر أبدي، وزوال الجسد المنتمي لعالم الواقع الزائف المتعرض للتغيير والزوال. لذلك تتصارع الروح في هذا العالم مع الجسد "القبر" كي تتحرر منه وتعود إلى أبديتها، ومن هنا انطلق الفكر الميتافيزيقي الإغريقي الذي أثر على الفكر الإنساني عبر التاريخ كله.

أما فلسفة الخلود في بلاد القبط، فمرتبطة بالتحنيط. وقد اعتبروا أن هنالك نوعان من الموت: الموت الأول الذي هو مفارقة الروح البدن والدخول إلى العالم الآخر، وهو مجرد مرحلة انتقالية لحياة أخرى. أما الموت الثاني فيعني تحلل الجسد وفساده، وهو يعتبر سـداً وحائطاً يمنع من العبور إلى الخلود والحياه الأبدية في العالم الآخر. وقد رأوا أن إله الخلق شكل البشـر من جزأين أسـاسـيين: أولهما المادة التي تحوي بداخلها خاصية قبول عوامل الفناء والتحلل، والثاني: جوهر الحياة، أي: الروح، ومستقرها السماء بعد الموت. وبحلول الموت - كمرحلة انتقالية - يفترق الجسد عن الروح مدة زمنية محدودة ثم تحل الروح في الجسد مرة أخرى يوم الدفن لكي ترشدها في رحلتها إلى العالم ُ السفلي ، ولكن في النهاية تبقى الروح خالدة مخلدة في السماء والجسد على الأرض. والتحنيط هو تطبيق هذه النظرية، بمحاولة إيقاف عوامل فناء المادة ومساعدة جوهر الحياة في المستقر السماوي. وكان التحنيط يمارس قبل بلاد القبط في اليمن القديمة، ويعتقد أنه انتقل إليها منه. كما ثبت أن التحنيط وجد في جنوب أميركا قبل بلاد القبط بآلاف السنين. وفي شمال بيرو تم العثور على مومياوات قبائل "تشيمو" وكانت تعلوها رؤوس مزيفة وملفوفة بطبقات من الملابس الكتانية، وحول خصرها أحزمة تتدلى منها جيوب ومواد زراعية مما يدل على اعتقادهم بالخلود في العالم الآخر. كما اكتشفت مومياوات أخرى في منطقة "تاريم" الصينية عمرها 3500 سنة. ولقد تم العثور على مومياوات في الفليبين وآلاسكا وإيطاليا وأستراليا.

وإضافة للفكر الفلسفي والميثولوجي، انتشرت فكرة الخلود في الديانات الشرقية كالهندوسية؛ فكتابها "الفيدا" يحوي كتابات متنوعة بين العلوم الدينية والفلسفية والطبيعية، لكن أهم النصوص هي "الأوبانيشاد"التي تحتوي على شرح للنصوص الجوهرية للديانة الهندوسية مثل عقيدة الكارما والتناسخ. وفي الديانة الهندوسية ثنائية يشكل فيها براهما ماهية العالم وأصل كل الموجودات، واتمان هي الذات الفردية أو النفس التي لها خصوصية محددة، والتي هي الأشياء الموجودة في الطبيعة تتحد بما ليس خاصاً بها، ويخرج لتكون الإنسان. أن الذات "اتمان" يجب أن تمر في "طريق الكارما" في سلسلة من عمليات التناسخ كي ترتقي إلى مرحلة الوعي الكلي للبراهما الذي يمثل الغاية الأخيرة لكل إنسان عن طريق الزهد وزيادة المعرفة. وحين وصولها إلى المعرفة الكاملة، تتحرر الذات من الحلقة المغلقة بين الولادة والموت ومن الألم الذي يرافقها في هذه المراحل، فحينها تذوب الذات في البراهما أو الروح العليا، وتنتهي كما ينتهي النهر في البحر، ويصبح بلا اسم وبلا وجود، فسيقول "اتمان": أنا هو براهما. ولعل هذا الأصل الذي استمدت منه فكرة الحلول والاتحاد عند متطرفي المتصوفة.

الخلاص في اليهودية والمسيحية:

لا تختلف فكرة الخلود والموت والحياة بين الشرائع الثلاثة، لأن أصلها - كما نعلم - واحد. إن الحياة الدنيا ليس فيها خلود، وإنما هو من مقتضيات الآخرة. إلا أن الاختلاف وقع بعد تحريف الكتب السماوية لليهود والنصارى، فيوم الحساب في اليهودية هو اليوم الذي سيحاسب فيه الإله كل البشر في آخر الأيام. وهو تطوير لمصطلح "يوم الرب" ذي الطابع الحلولي القومي المتطرف الذي كان يعني حدوث الخلاص - الثواب والعقاب - داخل اطار قومي. وقد تحول هذا المفهوم القومي الأخير على يد النبي عاموس وغيره من الانبياء إلى مصطلح "يوم الحساب" أو "يوم الحكم والقضاء" الذي سيحاسب فيه كل الناس يهوداً كانوا أو أغياراً دون تمييز أو تفرقة. وهو يوم قد حذر عاموس شعبه من أن الإله سيحطم جماعة إسرائيل بسبب فسادها (عاموس 5/18). وأكد إرميا (31/29-30)، وحزقيال (18) المسئولية الفردية كما أكد كثير من الأنبياء أن النفي عقوبة تستحقها جماعة إسرائيل. لكن أول إشارة للثواب والعقاب بعد البعث ترد في دانيال: «2 وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ ٱلْأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هَؤُلَاءِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ إِلَى ٱلْعَارِ لِلِٱزْدِرَاءِ ٱلْأَبَدِيِّ» (12/2). لكن تنبغي الإشارة إلى أن "يوم الحساب" - كما يفهمونه - ليس مثل يوم القيامة أو الآخرة عند المسلمين، لأنه - حسب كثير من التفسيرات - سيحل قبل البعث النهائي أي أنه واقعة تاريخية تحدث في الدنيا، وهو مثل المرحلة الألفية سـيقع قبل الآخرة ولن يحاسـب فيه إلا أحياء ذلك الزمان. وكان البعض يرى أن الإله يحاسب العالمين أربع مرات كل عام. ومنهم من كان يؤمن بأن عيد رأس السنة اليهودية هو اليوم الذي يحاسب فيه الإله البشر، وأن أحكامه تصبح نهائية في يوم الغفران.
ولعل ما غيب العقاب الأخروي في ثقافة اليهود المعاصرة قيام "إسرائيل" كدولة علمانية ترسخ مفهوم الفردوس اليهودي الأرضي.

أما المسيحية، ففيها فكرة الخلاص من حالة الموت، لينتقل الإنسان لحالة من السعادة نتيجة للفداء وامتلاك الحياة الأبدية؛ فالفكرة تشمل القيامة والحياة َّ المكملة في الروح والجسد معاً. في (رِسَالَةُ بُطْرُسَ ٱلرَّسُولِ ٱلْأُولَى-1): «3 مُبَارَكٌ ٱللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ، 4 لِمِيرَاثٍ لَا يَفْنَى وَلَا يَتَدَنَّسُ وَلَا يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لِأَجْلِكُمْ، 5 أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِقُوَّةِ ٱللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلَاصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْأَخِيرِ». والفرضية الأساسية للمسيحية هي أن موت يسوع - ابن الله - على الصليب كان ذبيحة نهائية كفرت عن خطيئة البشرية، وكان تجسد وموت المسيح ذروة خطة إلهية لخلاص البشرية ابتكرها الله ونفذها للخلاص لأنه يحب البشر ويعتبرهم أبناء له. لقد تصور الله هذه الخطة قبل خلق العالم، وتحققت على الصليب، وستكتمل في يوم القيامة عندما يمثل المجيء الثاني للمسيح نهاية كارثية للعالم. ولا يكون الخلاص إلا من خلال اتباع يسوع المسيح.
وتعد وجهات النظر المختلفة حول الخلاص من بين خطوط الصدع الرئيسية التي تفصل بين الطوائف المسيحية، بل أحياناً داخل الطائفة نفسها. وسبب الاختلاف هو في تنوع المفاهيم اللاهوتية والمعتقدات التقليدية والعقائد، وهو ما يخضع للتفسيرات الكنسية والفردية. ويُعتقد أن الخلاص، وفقًا لمعظم الطوائف، هو عملية تبدأ عندما يصبح الشخص مسيحيًا لأول مرة، وتستمر خلال حياة ذلك الشخص، وتكتمل عندما يقف أمام المسيح في الدينونة.







 
رد مع اقتباس
قديم 19-09-2022, 02:11 PM   رقم المشاركة : 115
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)










هل في الإسلام عقيدة الخلاص؟:

الخلاص أمر له علاقة بطبيعة الإنسان في تلك العقائد؛ فهو ذو طبيعة مخطئة بالفطرة أو بالوراثة أو محكوم عليها بالشقاء والمعاناة بالميلاد، أو من خلال التناسخ أو غير ذلك من الأفكار التي تشير إلى عجز في طبيعته وتكوينه، لا يجعله قادرًا على تحقيق خلاصه بنفسه. أما الإسلام فليس دين خلاص؛ لأنه يختلف في طبيعته من حيث أن مشکلات الخطيئة والمعاناة والشـقاء لا وجود لها في الإسلام؛ لأن جوهر الإسلام هو تحقيق طاعة الإنسان لله - تعالى - وإعلان خضوع الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية . إن الإسلام بُني على عبودية الإنسان لله الخالق وتحقيق مبدأ الطاعة من خلال الالتزام العقدي والتشريعي والأخلاقي. وطاعة الله محققة للثواب ومعصيته محققة للعقاب، والإسلام يستخدم مصطلحات: النجاة، والفلاح، والفوز، كبديل لمصطلح الخلاص. ولا يوجد مخلص في الإسلام؛ إذ أن الحاجة إلى مخلص تشير إلى عجز إنساني عن تحقيق الخلاص لنفسه، بينما الإسلام قائم على مبدأ المسؤولية الشخصية وقدرة الإنسان على تحقيق النجاة بالتزام الطاعة والبعد عن المعصية، وبفعل الحلال والخير والبعد عن الحرام والشر.
والقرآن زاخر بآيات تشير إلى المسئولية الفردية، نحو قوله تعالى: (يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗاۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ 30) آل عمران،وقوله: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ) لقمان 33، وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) فصلت 46.

كيف يُحَصِّلُ المَرْءُ الخُلُودَ مَعْنى، وإنْ لم يَخْلُد مَبْنى؟:

مما لا شك فيه أن ذكر المرء بعد موته يعتبر عمراً آخر يضاف إلى عمره، ويعتبر خلوداً له في هذه الدنيا، وإن رحل عنها بجسده. ولذا فإنك قد تجد من مات قبل مئات السنين، ما يزال ذكره بين الناس حاضراً في مجالسهم وأنديتهم، بينما جسده تحت التراب. يقول شوقي:
دَقّــاتُ قَلـبِ المَــرءِ قـائِلَـةٌ لَـهُ .....إِنَّ الحَيـاةَ دَقـائِـقٌ وَثَوانـي
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها .....فَالذِكرُ لِلإِنسـانِ عُمرٌ ثاني
وإن أعمال البر وصنائع المعروف من أسباب خلود المرء وذكره بعد موته، وكأنه ما يزال حياً بين الأحيـاء؛ فما أكثر من تعيش ذكراهم بين الأنـام وقد بليت أجسـامهم في القبور منذ عصور، وكانوا أكثر حياة من كثير من الأحياء. يقول الشافعي:
قد ماتَ قومٌ وما ماتَت ْمكارِمُهم ..... وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ
ومن أسمى الغايات في هذه الحياة أن يكون ديدن الإنسان السعي في الخيرات، مما يحليه بطيب الذكر حياً وميتاً. وهذا ما دعا به إبراهيم الخليل ربه بقوله: (وَٱجۡعَل لِّي لِسَانَ صِدۡقٖ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ 84) الشعراء،فهو يسأل ربه أن يجعل له في الناس ذكراً جميلاً وثناءً حسناً باقياً فيمن يجيء بعده من القرون. وقد أجاب الله دعاءه بقوله: (وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ 108) الصافات، أي: تركنا عليه ثناءً جميلاً في الأمم بعده، فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه، بل إنه اقترن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - في دعاء التشهد، ليذكره المسلمون في كل صلاة.
ومن عاجل بشرى المؤمن ثناء الناس عليه وتحدثهم بجميل أفعاله. ومما نقل عن حاتم الطائي أنه كان إذا عذله أهله ولاموه في إنفاقه لماله على الضيفان، لاطفهم فِي الْجَواب وخاطبهم بِهَذَا الْخطاب:
وعَاذِلَـةٍ قَامـَتْ عَلَـيَّ تَلُــومُنِي ..... كَأَنِّي إذا أَعْطَيْتُ مَالِي أَضِيمُهـا
أَعَاذِلَ إِنَّ الجُودَ لَيْسَ بِمُهْلِكِي ..... ولا يُخْلِدُ النَّفْسِ الشَّحِيحَةِ لَوْمُها
وتُذْكَرُ أخْلاقُ الفَتَى وعِظامَـهُ ..... مُغَيَّبَـةٌ فـي اللَّحْـدِ بَـالٍ رَمِيمُهَــا
وما أجمل من أن يبقى ذكر هذا المحسن الجاهلي لآلاف السنين، ويضرب به المثل في الكرم، ومثله من ينفقون في أوجه البر والإحسان على الفقراء والمساكين وعابري السبيل.
قال أكثم بن صيفي: إنما أنتم أخبار، فطيبوا أخباركم. أخذ هذا المعنى حبيب الطائي، فقال:
وَما اْبنُ آدَمَ إِلْا ذِكْرُ صَالِحَةٍ ..... أَوْ ذِكْرُ سَـيّئةٍ يَسْـرِي بِهَا الْكَلِمُ
أَمَا سَـمِعْتَ بِـدَهْرٍ بَـادَ أُمَّتُـهُ ..... جَاءَتْ بِأَخْبَارِهَا مِنْ بَعْدِها أُمَمُ
وقالوا: الأيام مزارع فما زرعـت فيها حصدته. وقال الأحنف بن قيس: ما أدخرتِ الآبـاءُ للأبناء، ولا أبقتِ الموتى للأحياءِ، شـيئاً أفضلَ من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب.

الفرق بين الدوام والخلود:

- الدوام هو استمرار البقاء في جميع الأوقات، ولا يقتضي أن يكون في وقت دون وقت، ألا ترى أنه يقال: إن الله لم يزل دائماً ولا يزال دائماً؟
- والخلود هو طول المكث، أي: استمرار البقاء من وقت مبتدأ، ولذلك وصف - سبحانه - بالدوام دون الخلود.

الفرق بين الخلود والبقاء:

- الخلود استمرار البقاء من وقت مبتدأ. وأصل الخلود اللزوم ومنه أخلد إلى الارض وأخلد إلى قوله أي لزم معنى ما أتى به فالخلود اللزوم المستمر ولهذا يستعمل في الصخور وما يجري مجراه ومنه قول لبيد:
فوقفتُ أسْألُهَا ، وكيفَ سُؤالُنَا ..... صُمّاً خوالدَ ما يُبينُ كلامُها
- والبقاء يقتضي دوام المكث، بينما الخلود لا يقتضي ذلك، لذلك وُصف سبحانه بالدوام دون الخلود، إلا أن خلود الناس في الآخرة يراد به التأبيد.






 
رد مع اقتباس
قديم 20-09-2022, 12:19 PM   رقم المشاركة : 116
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)










حول مضمون الآية:

لمّا بيّن تعالى في الآية السابقة ما أعدّه للكافرين، الذين قامت عليهم الحجّة فجحدوا بها، أراد أن يبيّن في هذه الآية نصيب مقابل هؤلاء، وهم الذين ظهر لهم الدليل فآمنوا، ولاح لهم نور الهداية فاهتدوا، فالكلام متّصل بعضه ببعض؛ ولذلك عطف الجملة على ما قبلها، لأنّها متمّمة لفائدتها، إذ لا بدّ بعد بيان جزاء الكافرين، من بيان جزاء المؤمنين. وإن الإتيان بالمعنى ونقيضه، من خصائص الأسلوب القرآني، نحو قوله تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) البقرة216، وقوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) البقرة284، وقوله: (فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ 123 وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ 124) طه. وقالوا: إن الإتيان بالمعنى ونقيضه هو سبب تسمية القرآن "مثاني"، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر، أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء، أو عكسه. وحاصله ذكر الشيء ونظيره، فذاك التشابه.

والخطاب في: (وَبَشِّرِ) يصحّ أن يكون للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - خاصّة، وأن يكون عامّاً لكلّ من يسمع الأمر من أهله، وإنّ الأخير هو المعروف في لسان العرب والمفهوم عندهم من أمثال هذا الخطاب، كقوله تعالى: (نَبِّىءْ عِبَادِي) الحجر 49، وقوله: (وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً) يس13، فهو في عمومه جار مجرى الأمثال، والمخاطب الأوّل به هو الرسول على كلّ حال. وذكر (ٱلَّذِين آمَنُواْ) ولم يذكر بماذا آمنوا، لأنّ متعلّق الإيمان كان معروفاً عند المخاطبين، وهو الله - تعالى - وصفاته التي ورد بها النقل الصريح، وأثبتها العقل الصحيح، والوحي ومن جاء به، والبعث والجزاء. فهذه هي الأصول التي كان يدعو إليها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، فمن صدّقهم فيها كان مؤمناً ويصدّق بما يتبع ذلك من التفصيل. ولا بدّ في تحقّق الإيمان من اليقين، ولا يقين إلاّ ببرهان قطعيّ لا يقبل الشكّ والارتياب، ولا بدّ أن يكون البرهان على الألوهيّة والنبوّة عقليّاً، وإن كان الإرشاد إليها سمعيّاً. والبرهان العقليّ المؤدّي إلى اليقين في تلك الأدّلة لا يستلزم أن يكون الباحث عنه متكلماً أو فيلسوفاً، بل قد يبلغ أمّيّ علم اليقين بنظرة صادقة في عالم الشهادة أو في نفسه. وقد رويت أقوال لأميين بَزّوا العلماء والمفكرين في تنقيح المقدّمات وبناء البراهين. والقرآن الكريم يقدم لنا في مواضع مختلفة، الأدلة الفطرية والعقلية على إثبات وجود الله؛ فسورة الأنعام تضمنت الكثير من تلك الأدلة على تفرده سبحانه بالخلق والملك والتدبير.وقد تنوعت أساليب القرآن الكريم في إثبات وجود الله، فمن هذه الأساليب الأدلة العقلية بالإقناع بالبرهان المنطقي، والدعوة للتفكر في الآفاق والأنفس، والخطاب الفطري، وخطاب الوجدان بالموعظة والتذكير. ومن هذه الأدلة: تذكير الإنسان ببداية خلقه، وهو "دليل الخلق والإيجاد" وهو من أقوى الأدلة على وجود الله، كما جاء فيها "دليل الفطرة"، بذكر رجوع الإنسان عند الشدائد لخالقه. والحقّ أنّ اطمئنان القلب بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير تردّد ولا اضطراب، كاف في النجاة في الآخرة، وأنّ أفضل الأدلّة ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله - تعالى - في الأنفس والآفاق، فبداهة العقل فيه كافية عند سليم الفطرة الذي لم يبتلِ بشكوك الفلاسفة وجدليّات المتكلّمين، ولا بتقليد المبطلين.
هذا، وإنّ إطلاق الإيمان وذكر المؤمنين، وما أعدّ لهم، من غير وصله بذكر متعلّقاته، إذ لم يذكر بماذا آمنوا، معهود في القرآن؛ لأنّ المتعلّق معلوم للسامعين، وقد علمه المؤمنون مفصّلاً تفصيلاً.

ثمّ وصف المؤمنين الذين يستحقّون البشارة بقوله: (وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ)، وأطلق في هذا أيضاً، كما أطلق في كثير من الآيات، لأنّ العمل الصالح معروف عند الناس بالإجمال، وذلك كاف في الترغيب فيه وجعله تابعاً للإيمان متّصلاً به ولازماً من لوازمه. وقد بيّن الأعمال الصالحة بالتفصيل في آيات كثيرة كآية البِرّ، والآيات في أول سورة المؤمنون وآخرها، وفي أول وآخر سورة الفرقان وأوائل سورة المعارج وغير ذلك. وكأنّ الله - تعالى - يقول: إنّ العمل الصالح معروف عند الناس؛ لأنّه أودع في نفوسهم ما يميّزون به بين الخير والشر، ولكنّ بعضهم يضلّ بانحراف يطرأ على نفسه فيخرجها عن الاعتدال الفطريّ، ثمّ يضلّ بضلاله آخرون، فتكون التقاليد والعادات الناشئة عن هذا الضلال هي الميزان عند الضالّين في معرفة الصلاح والفساد، والخير والشرّ، لا أصل الهداية الفطريّة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ"*. وهذا يعني أنّ الإنسان لو ترك ونفسه لاهتدى إلى الحقّ، ما دام بعيداً عن التقاليد والعادات، وقد بلغ فساد الطباع وانحراف الفطرة في بعض الأمم مبلغاً كادوا يخرجون به عن طور البشر، واتبعوا الشهوات، فانغمسوا في اللذّات الجسمانيّة بأنواعها، أو حرموها - بالكلية - على أنفسهم، مدعين مشابهة الآلهة والملائكة. وهؤلاء وأولئك إنما خالفوا الفطرة التي فطر الله الناس عليها. لكن يبقى الخير والشرّ والصلاح والفساد والحقّ والباطل والفضيلة والرذيلة خلالاً معروفة في الجملة حتّى عند الأشرار، ولذلك يدّعون الخير والصلاح وينكرون ما هم عليه من باطل، فإطلاق القول بذكر الأعمال الصالحات ليس مبهماً عندهم، ولا خطاباً بغير مفهوم، وإنّما يحتاج معتلّ الفطرة إلى التفصيل في ذلك، وذكر الأمارات والدلائل التي تميّز بين الصالحين والفاسقين، والمحقّين والمبطلين، ولهذا نزلت آيات البيان والتفصيل التي توجه الناس إلى وجهة الحق، وتقطع تلبيس الشيطان وأعوانه من الجن والإنس.
* يُصَلَّى علَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى، وإنْ كانَ لِغَيَّةٍ، مِن أجْلِ أنَّه وُلِدَ علَى فِطْرَةِ الإسْلَامِ، يَدَّعِي أبَوَاهُ الإسْلَامَ، أوْ أبُوهُ خَاصَّةً، وإنْ كَانَتْ أُمُّهُ علَى غيرِ الإسْلَامِ، إذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عليه، ولَا يُصَلَّى علَى مَن لا يَسْتَهِلُّ مِن أجْلِ أنَّه سِقْطٌ فإنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، كانَ يُحَدِّثُ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ، ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) الروم 30.
الراوي :أبو هريرة.
أخرجه البخاري (1358) واللفظ له، ومسلم (2658).


وحقّ القول بأن الذي يستحق (وَبَشِّرِ) هو من جمع بين الإيمان والعمل الصالح الذي ترشد إليه الفطرة السليمة، ويهدي إلى تحديده الكتاب العزيز، وهو ما كلف بالدعوة إليه خاتم الرسل.






 
رد مع اقتباس
قديم 21-09-2022, 11:59 AM   رقم المشاركة : 117
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)










حول مضمون الآية:

بشّرهم (أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ)، ولا نذهب بعيداً في استبيان طبيعة تلك الجنات؛ لأن الجنة للطائعين، والنار للعاصين، من عالم الغيب، وعالم الغيب لا يجري فيه القياس. لذلك نؤمن بما جاء في الكتاب من أوصاف، ونأخذها على وجهها. ولابد هنا من إيضاح أن الجزاء الأخروي لا يشبه الثواب والعقاب الدنيوي في شيء، وإنما ذكرت في التنزيل أوصاف تقرب لنا المدلولات الغيبية بما نعرفه في دنيانا من نعيم وشقاء. وإذا قيل: (جَنَّٰتٍ)، استقر في أذهاننا أنها شيء آخر غير ما نألفه من بساتين وحدائق فيها شجر وثمر وجداول منسابة. ومهما تخيل المرء الجنة بما يعرفه من جمال وسعة، ونبت وأشجار، وظلال وثمر، لن يصل إلى شيء مما أعده الله لعباده الصالحين من مشاهد تخطف اللب، ورفاهية تذهب بالعقول. وقد بين لنا القرآن بقوله في سورة السجدة: (فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ 17).

وفي القرآن أوصاف كثيرة لهذه الجنات؛ فهي ذات أشجار ظلها وارف، تجري من تحتها الأنهار، فالمنظر الساحر لا يكتمل إلا بالماء الجاري في أنهار تنبع من تحت الجنان، وتفيض على ساكنيها ليرتوا ويتمتعوا بالمنظر الخلاب، والنفس البشرية تألف المياه والبساتين والأشجار وتسكن إليها، لذلك أجرى القرآن الكريم في ذكر أوصاف الجنة وأنهارها، ما يشوق الناس إليها، وزينها بلباس من الأشجار ذات البهاء والعلو، وحملها بثمر لا يجاريه ثمر الدنيا، وجرى فيها الأنهار الصافية، والعيون العذبة، ليقر بها عيون الساكنين. وقد تكرر ذكر الأنهار في القرآن في عدة مواضع، في هذه الآية وغيرها: (أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ)، وفي موضع آخر: (تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَٰرُ) التوبة 100، وفي موضع ثالث: (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَٰرُ) الأعراف 43، لنفهم: وجود الأنهار فيها على الحقيقة، وأنها أنهار متعددة، وأنها جارية، وليست راكدة، مما يدلل على نقائها وتجددها، وأنها تجري تحت أعينهم، وقريباً من منالهم. والجرين - بالطبع - ليس للأنهار بل لمائها، وإنما الجريان للأنهار مجاز بإطلاق المحل على الحال، والمعنى: تجري من تحتها مياه الأنهار. أما طبيعة هذا الماء الجاري في الأنهار والعيون، فلم يبين، إلا في الآية من سورة القتال: (مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ) محمد 15. وقالوا في (مَّثَل) هنا أنه بمعنى: صفة وهيئة مياه الأنهار، ففسروها على الحقيقة: أنهار من ماء ولبن وعسل وخمر، واعتبروا عدم مجيء حرف التشبيه (الكاف) قرينة على مخالفة المدلول للتشبيه التام. ورأوا أن تشبيهها بأنهار الدنيا في الاسم دون الحقيقة، وتخالف التشبيه في المكون. ولعل مدار التشبيه هنا يشمل الكل، فهي شبيهة بأنهار الدنيا في الشكل والمكون، مخالفة لها في الطعوم، فطعم ماء هذا النهر ماء قراح زلال غَير مَتَغَيِّر الطَعْمِ واللَّوِنِ والرَّائِحَةِ، لطُولِ مُكْثِه وَرُكُودِه، وذاك لبن طازج جديد، أو خمر شهية لا تذهب بالعقول، ولا تسبب الدوار أو القيء، أو عسل صافٍ غير مخلوط أو مشوب بشمع أو شوائب. قد ذكر الله - تعالى - هذه الأجناس الأربعة، ونفى عن كل واحد منها آفاته التي تعرض له في الدنيا؛ فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يحمض، وآفة الخمر كراهة المذاق واغتيالها للعقول، وآفة العسل الكدر والخلط. وقد جعل القرآن في تلك المشارب الأربعة منتهى اللذة والمنفعة. وإن النعم التي أعدها الله لعباده في الدنيا محسوسة ومعلومة، أما في الآخرة فليست محسوسة ولا معلومة إلا بالقدر الذي بيَّن الله - عز وجل - في كتابه، ولهذا استحق الحمد والشكر، وهو - تعالى - يستحق الحمد والشكر في كل الأحوال؛ فإذا نالنا الأجر فمن الله، وبما أحسنا من اتَّباع أوامره واجتناب نواهيه، وإن حرمنا، فبسبب أعمالنا، والله هو العدل الذي يقابل السيئة بمثلها، والحسنة بمثلها، ويُحَكّمُ فضله فيزيد الحسنة أضعافاً.

من البدهي أنّ الأكل في الدنيا لأجل حفظ البنية من الانحلال، ولا انحلال في دار الخلد والبقاء، فلا بدّ أن يكون الأكل والشرب هناك على ما ورد لحكمة أخرى، أو هو لتحصيل لذّة لا نعرفها لأنّها من أحوال عالم الغيب، وإنّما نؤمن بما ورد ونفوّض أمر حقيقته وحكمته إلى الله تعالى.

وممّا ورد أنّه لذّة أعلى من لذّات الدنيا؛ فقوله: (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ) قيل إن فيه تشبيه لثمرات الآخرة بثمرات الدنيا؛ في اللون والشكل والرائحة، وإن كانت تفضلها في الطعم واللذّة. وفي قوله: (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً) أي: أُتوا بما ذكر من الرزق في الدنيا والآخرة متشابهاً بعضه يشبه بعضاً. ومحصّله: إنّهم عندما يؤتون برزق الجنّة يبادرون إلى الحكم بأنّه غير ما وعدوا به، وأنّه عين رزق الدنيا؛ لأنّ التشابه يكون سبب الاشتباه عليهم، ولكنهم يعرفون الفرق بعد ذلك بالطعم لأن فرقاً عظيماً بين لذّة رزق الدنيا ورزق الجنّة. والحرف في: (مِن ثَمَرَةٖ) للتبعيض، أي: كلّما رزقـوا من الجنّـات رزقاـً من بعض ثمارها (قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ). وقيل:
- إنَّ تشابه رزقي الدنيا والآخرة في الألوان والروائح واختلافه في الطعم فقط، ليس فيه كبير تشويق؛ لأنّ اللذّة في التنقّل، ثمّ إنّ أطوار الجنّة مخالفة لأطوار الدنيا، والتشويق للناس إنّما يكون بحسب ما عهدوا واعتادوا وألفوا.
- وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ ذلك الرزق هو عين ما وعدوا به جزاءً على أعمالهم، فكلّما رزقوا ثمرة منه، يذكرون الوعد الإلهيّ شـكراً لله على توفيقهم لذلك العمل، الذي له أعدّ هذا الجزاء، كما تفيده آية: (وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ۖ) الزمر 74، فهو من قبيل ارتباط الموعود به بالموعود عليه، كأنّ الأعمال عين الجزاء، وقوله - تعالى - بعد ذلك: (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً) تأكيد وتقرير لما تضمّنه قولهم.
- وهنالك قول ثالث، وهو إنّ رزق الجنّة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته، ويختلف في طعمه ولذّته، وهو المتبادر من اللفظ.






 
رد مع اقتباس
قديم 22-09-2022, 12:53 PM   رقم المشاركة : 118
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ 25)










حول مضمون الآية:

ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والرفقة الهنية، ذكرها الله - تعالى - فيما يبشر به المؤمنون. وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام، ثم ذكر ثالثاً الأزواج لأن بها تمام الالتئام، فقال تعالى: (وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ). وأريد هنا بالأزواج: القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره. وفي ذكر الأزواج المطهرة اختلاف كثير على قسمين:
- الأول هو تأويل المشبهة، الذين شبهوا الحور العين بالمرأة في الدنيا، والاستمتاع بها ومعاشرتها، ومواقعتها في الآخرة. ولعل بعض من وقع في دنس التشبيه هم من علماء الحديث، فجزموا بوجود الجنس في الجنة، مشابه لما عليه الناس في الدنيا. وزعموا أن الحور العين للذة الجنسية، وأنهن مخلوقات لهذا الغرض، كأنهن بنات هوى.
- والثاني هو ما عليه علماء أجلاء نزهوا أنفسهم عن الخوض في هذا، واكتفوا بقول: إننا نؤمن بأن في الجنة حور عين، لا نعلم أكثر مما وصفهم به القرآن الكريم. ولا نعلم طبيعتهن.
لكننا نشتف من وصف القرآن لهن بالبكارة والطهارة، أنه مبالغ في تطهيرهنّ وتزكيتهنّ؛ فليس فيهنّ ما يعاب من خبث جسـديّ، حتّى ما هو في الدنيا طبيعيّ كالحيض والنفاس، ولا نفسـيّ كالمكر والكيد وسـائر مسـاوئ الأخلاق؛ لأنّهنّ طهّرن كلّ نوع من أنواع التطهير. ونسـاء الجنّات من المؤمنات الصالحات، وهنّ المعروفات في القرآن بالحـور العين، وصحبة الأزواج في الآخرة كسـائر شـؤونها الغيبيّة نؤمن بما أخبر به الله - تعالى - منها لا نزيد فيه ولا ننقص منه، ولا نبحث في كيفيّته، وإنّمـا نعرف بالإجمال أنّ أطوار الحياة الآخـرة أعلى وأكمل من أطـوار الحياة الدنيا، ونحن نعلم أنّ الحكمة في لـذّة الأزواج بالمصاحبة الزوجيّة المخصوصة هي التناسـل وإنماء النـوع، ولم يرد أنّ في الآخرة تناسـلاً، فلا بدّ أن تكون لـذّة المصـاحبة الزوجيّـة هناك أعلى، وحكمتها أسمى، وإنّنا نؤمن بها ولا نبحث في حقيقتها.

ولما ذكر - تعالى - مسكن المؤمنين والمؤمنات ومطعمهم وتسليتهم، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال، ولذلك قيل:
أشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ ..... تَيَقَّنَ عَنْهُ صاحِبُهُ ارْتِحالًا
أعقب ذلك - تعالى - بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم، فقال تعالى: (وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ) فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرور. وفي الخلود خلاف، فإن المعتزلة تذهب إلى أنه البقاء الدائم الذي لا ينقطع أبداً، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل، انقطع أو لم ينقطع، وأن كون نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع، ليس مستفاداً من لفظ الخلود. وما نراه أنه لابد من التفرقة بين: البقاء والخلود، من حيث أن البقاء لله وحده، فوجوده - جل وعلا - سـرمدي، ليس لوجوده بداية، ولا نهاية، هو قبل الزمان، ومستمر لما بعد الزمان إلى ما لا نهاية؛ فالزمن خلق من مخلوقات الله خاضع لأمره - تعالى - ولا حكم للمخلوق على الخالق. أما من وصف بالخلود، وهما الإنس والجن، من أصحاب النار وأصحاب الجنة، فخالدون في ديارهم الأخروية إلى ما شاء الله. وقد وردت في القرآن عبارة: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) أحد عشر مرة، ثلاثة منها في حق أهل النار، وثمانية في حق أهل الجنة. وقد وقع علماء محدثون في التناقض حين قال أحدهم في أن خلود أهل النار لا يعني الأبدية: "هذا القول قول لبعض السلف، يروى عن بعض السلف وعن بعض الصحابة، وذكره ابن القيم وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وذكره آخرون. ولكنه قول مرجوح عند أهل السنة، قول ضعيف، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة وهو قول جمهورهم أن النار تبقى أبد الآباد، وأن أهلها يبقون فيها أبد الآباد وهم الكفرة". واستند إلى آيات:
- (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) فاطر 36،
- (كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ 167) البقرة،
- (يُرِيدُونَ أَن يَخۡرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنۡهَاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّقِيمٞ 37) المائدة.
ويتابع: "فالذي عليه أهل السنة والجماعة إلا النادر والقليل، أن عذاب النار مؤبد الآباد مؤبد أبداً ليس لها نهاية، فهم مستمرون فيها باقون فيها أبد الآباد، وهي باقية أبد الآباد".
وهذا التعميم وادعاء الإجماع، ودمغ المخالف له بختم البطلان أو الضلال، سمة غالبة على أكثر الزاعمين بأنهم "أهل السنة والجماعة" وهذا الزعم يركبه كل من أراد الانتصار لرأيه على حساب مخالفيه. والآيات التي استشهدوا بها ليس فيها معنى الدوام، بل إنهم استخرجوا منها أن الكافرين لا يخرجون من النار - وهذا حق - بينما عصاة المسلمين يخرجون، وهذا ليس عليه دليل من الكتاب، وعليه خلاف حتى بين من يصفون أنفسهم بأهل السنة والجماعة، لكن بحثه ليس هذا موضعه. وأما آية فاطر، فالحديث فيها عن منع إراحة أهل النار إما بالخلاص عن طريق الموت، ولا موت، أو بتخفيف العذاب عنهم. وفي آية أخرى استند بعضهم إليها لتأكيد التأبيد، قال - تعالى - في حق أهل النعيم: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى) الدخان 56، لكن المسألة في نفي التأبيد عن كل ما عدا الله ليست موتاً. إن الذي نراه أن الخلود نسبي، وليس مطلقاً، وكذلك الأبد في حق المخلوقات كما في قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) هو محدود بزمن لا يعلمه إلا الله؛ فالذي ليس عليه خلاف هو أن البقاء لله وحده، وله - تعالى - الأبد المطلق. هذا يستلزم أن يفنى كل من عداه، ليبقى هو وحده الأول والآخر. فإذا تقرر هذا، إفترضنا أن لكل مخلوق بداية ونهاية، بدايته يوم خلقه الله، ونهايته المحتومة يوم يُفنى، يستوي في ذلك الملائكة والجن والإنس. وإذا كانت الجنة والنار لمجازاة الثقلين، فلابد أن يأتي يوم، يقدره الله، يعيد الخلق إلى حالته الأولى. وحالته الأولى هي - حتماً - العدم. ولعل هذا المعنى في قوله - تعالى - في سورة الأنعام: (وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ قَدِ ٱسۡتَكۡثَرۡتُم مِّنَ ٱلۡإِنسِۖ وَقَالَ أَوۡلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلۡإِنسِ رَبَّنَا ٱسۡتَمۡتَعَ بَعۡضُنَا بِبَعۡضٖ وَبَلَغۡنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيٓ أَجَّلۡتَ لَنَاۚ قَالَ ٱلنَّارُ مَثۡوَىٰكُمۡ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۗ) 128، وفي سورة هود: (يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ 105 فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ 106 خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ 107 وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۖ عَطَآءً غَيۡرَ مَجۡذُوذٖ 108)، فتعلق الخلود بشرطين: بمشيئة الله، وبوجود السماوات والأرض. أما المشيئة فهي تنسحب على كل شيء، فإذا شاء - سبحانه - حكم على السماوات والأرض بالفناء، فتفنى معهما الجنة والنار. وبفنائهما ينتهي أمر الخلق من الجن والإنس. ولأن الباقي هو الله وحده، يذهب بالملائكة، حتى ينفرد هو - سبحانه وتعالى - بالوجود والبقاء.






 
رد مع اقتباس
قديم 24-09-2022, 12:58 PM   رقم المشاركة : 119
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ 26)







(إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا):

لَمَّا بَيَّنَ كون القرآن مُعْجزاً، أورد الكُفَّار هنا شبهةً قدحاً في ذلك، وهي أنَّهُ جاء في القرآن ذِكْرُ النَّحلِ، والعنكبوت، والنَّملِ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفُصَحَاء، فاشتمالُ القرآن عليها يقدحُ في فصاحته، فَضْلاً عن كونه مُعْجزاً، وأجاب الله - تعالى - عنه بأنَّ صِغَر هذه الأَشْيَاء لا يقدح في فصاحةٍ، إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تَعَلُّق هذه الآية بما قبلها.
(لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ): جملةٌ في محل الرفع خبرٌ لـ (إنَّ)، وقد وَرَدَ: حَيِي واسْتَحْيى بمعنى واحد، والمشهور: اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي فهو مُسْتَحْيٍ ومُسْتَحْيى. وقد جاء: اسْتَحَىٰ يَسْتَحِي فهو مُسْتَحٍ، وقُريء به.
واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ، تقول: اسْتَحْيَتْهُ، واستَحْيَيْتُ منه، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى (أَن يَضۡرِبَ) بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً. ويَحْتَمِل أن يكونَ تَعَدَّى إليه بحرفِ الجرِّ المحذوفِ.
والحياءُ لغةً: تَغَيَّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإِنسانَ من خوفِ ما يُعاب به ويذم، ومحله الوجه، ومنبعه من القلب، واشتقاقُه من الحياة، وقيل معناه: نَقَصَتْ حياتُه واعتلَّتْ، مجازاً. وضده: القحة، والحياء، والاستحياء، والانخزال، والانقماع، والانقلاع، متقاربة المعنى، فتنوب كل واحدة منها مناب الأخرى.
والاستحياء والحياء واحد، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب، وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عما من شأنه أن يُفعل.
وهو بهذا المعنى يستحيل أن يكون في حق الله - تعالى - لأنه يتنزه أنت يتصف بهذه الصفة.
و (يَضۡرِبَ) معناه: يُبَيِّنَ، فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين نحو: ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً. وقال بعضُهم: لا يتعدَّى لاثنين إلا مع المَثَل خاصة.
فعلى القول الأول يكونُ (مَثَلٗا) مفعولاً و (مَّا) صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً، ونظيرُه قولُ امريء القيس:
وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا ..... وحديثٌ ما على قِصَرِهْ
والضرب إذا كان بمعنى الجعل والتصيير يكون كقولهم: ضربَ خيمة وضرب بيتاً، وبيت عبدة بن الطبيب:
إِنَّ اْلَتِي ضَرَبَتْ بَيْتَاً مُهَاجِرَةً .... بِكُوْفَةِ الجُنْدِ غَاْلَتْ وُدَّها غُولُ
وقول الفرزدق:
ضَرَبَتْ عَلَيكَ العَنكَبوتَ بِنَسْجِها .... وَقَضَى عَلَيكَ بِهِ الكِتَابُ المُنَزَّلُ
وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشـتقاً من الضرب بمعنى المماثل، وعليه قوله تعالى: (فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ) النحل 74، أي: لا تجعلوا له مماثلاً من خلقه.

ما مناسبة الآية لسياق السورة؟:

قد يبدو في باديء النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هذه الآية، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه، وبيان إعجازه والتحدي به، مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلاً بشيء حقير أو غير حقير. فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، فلما عجزوا عن معارضة النظم سـلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني، فلبسوا على الناس بأنَّ في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله، بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وإعطاء الذريعة لتنفير المشركين والمنافقين.

ما قيل في سبب نزول الآية:

- روي أنَّه لما قال: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡ‍ٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ) الحج 73، فطعن في أصنامهم، ثُمَّ شَبَّه عبادتها ببيت العَنْكَبُوت. قالت اليهود: أي قدر للذُّبَاب والعنكبوت حتَّى يَضْربَ اللهُ المَثَلَ بهما؟! فنزلت هذه الآية.
- وقيل: إنَّ المُنَافقين طَعَنوا في ضرب الأمثالِ بالنَّار، والظلمات، والرَّعد، والبَرْق في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً) البقرة 17، وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ) البقرة19، قالوا: اللهُ أَجَلُّ وأعلى من أن يضرِبَ الأمثالَ، فأنزل اللهُ هذه الآية.
وقيل: إنَّ هذا الطعن كان من المشركين.
وقيل: الكُلُّ محتملٌ هاهنا. أمَّا اليهود، فلأنه قيل في آخر الآية: (وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ 26 ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ) وهذا صفة اليهود؛ لأنَّ الخطاب بالوفاءِ بالعهدِ إنَّمَا هو لبني إسرائيل، وأمّا الكفَّارُ والمنافقون فقد ذكروا في سورة المدثر: (وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ) 31، فالذين في قلوبهم مرض هم الكافرون المُنَافقون، والذين كفروا يحتمل المشركين، لأنَّ السورة مَكِّيَةٌ، فقد جُمِعَ الفريقان هاهنا. إذا ثبت هذا، فنقول: احتمال الكُلِّ هاهنا قائمٌ؛ لأنَّ الكافرين والمُنافقين واليهود كانوا مُتَوَافقين في إيذاء الرَّسول، وقد مضى من أوّلِ السُّورةِ إلى هذا الموضع ذكر المنافقين، واليهود، والمشركين، وكُلُّهم من الَّذين كفروا.
- وقيل: وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب؛ لأنَّ معناه مفيدٌ في نفسه.







 
رد مع اقتباس
قديم 25-09-2022, 12:00 PM   رقم المشاركة : 120
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة البقرة: 1) المدخل

(إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ 26)






في معنى الاستحياء في حق الله:

الحياء: تَغَيُّرٌ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوفِ ما يُعَابُ بِهِ ويُذَم، واشتقاقه من الحياة، ومعناه على ما قيل: نقصت حياته، واعتلت مجازاً، كما يُقَالُ: نَسِيَ وخَشِيَ، وشظي القوسُ: إذَا اعتلت هذه الأعضاء، جُعِلَ الحييُّ لما يعتريه من الانكسار، والتَّغَيُّرِ منتكس القوة منتقص الحياة. ومن التعبيرات الدارجة: فلان هلك من كذا حياءً، ومات حياءً، وذاب حياءً.
والاستحياء هنا في حقِّ اللهِ - تعالى - منفي عن أن يكون وصفاً لله - تعالى - فهو:
- إما أن يكون مَجَازاً عن التَّرْكِ؛ لأن الترك من ثمرات الحياء، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب.
- وقيل: مجازاً عن الخِشْيَةِ؛ لأنَّها أيْضاً من ثمراته.
- أو إنه من باب المُقَابلةِ، أي أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا قالوا: أَمَا يَسْتَحي رَبُّ محمد أن يضرب المثَلَ بالمُحَقّرات، قُوبِلَ قولهم ذلك بقوله: (إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً)؛ ونظيره قول أبي تمَّام:
مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّهَا .... أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ المَنْزِلِ
لو لم يَذْكُرْ بناءَ الدارِ لم يَصِحَّ بناءُ الجارِ.
- وقيل: معنى لا يستحيي، لا يمتنع، وأصْلُ الاستحياء: الانقباضُ عن الشَّيء، والامتناعُ منه؛ خوفاً من مُوَاقعة القبيح، وهذا محالٌ على الله تعالى. وروي عن أم سلمة قولها: "يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ ..."*، والمعنى لا يأمر بالحَيَاءِ فيه، ولا يمتنع من ذكره.
* الحديث بكامله في صحيح البخاري (130).
- ومن ألطف ما قيل: القاعدة في التعامل مع مثل هذه الأوصاف، أنَّ كُلَّ صفةٍ ثبتت للعبدِ مما يختص بالمادة، فذلك محمولٌ على أثرها. وللتوضيح: إذا ذكر الغضبُ ومقدمته: غليان دم القَلْبِ وشهوة الانتقام، وله غاية، وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه، فإذا وصفنا الله - تعالى - بالغَضَبِ، فليس المراد ذلك المبدأ، يعني شـهوة الانتقام، وغليان دم القَلْبِ، بل المرادُ تلك النّهاية، وهي إنزال العقاب. كذلك الحياء لا يقصد منه في حق الله ذلك التغيُّر الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن يُنْسبَ إليه القبيح، بل ما ينتج عنه من تركِ الفعلِ الذي هو منتهاه وغايته.

كل هـذه الأقـوال متقاربـة من حيث المعنى، يجوز أن يوصف الله - تعالى - بها، وهـذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في العربية لا ينبغي أن يوصف الله - تعالى - به، وقيل: ينبغي أن تمر على ما جاءت، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه - تعالى -، لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق.

ما قيل في استحسان ضرب الأمثال:

إنّ ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول، وقد اشتهر العربُ في التمثيل بأحقر الأشياء، فقالوا:
- في التمثيل بالذَّرَّةِ: أجمع، وأضبط، وأخفى "من ذَرَّةٍ"،
- وفي التمثيل بالذُّباب: "أشبه من الذبابِ بالذباب"، وأجرأ، وأخطأ، وأطيش، وألخّ "من الذُّبَاب"،
- وفي التمثيل بالقراد: "أسمع من قراد"، وأضعف، وأعلق، وأغم، وأدبّ "من قرادة"،
- وقالوا في الجراد: أَطْيَر، وأحْطَم، وأَفْسَدَ "من جَرَادة"، و"أصفى من لعاب الجرادة"،
- وفي الفراشة: أضعف وأجمل وأطيش "من فراشة"،
- وفي البعوضةِ: "كلفني مخّ البعوضة" ، مثلٌ في تكليف ما لا يُطَاق.
فقولهم: ضرب الأمثال لهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى، هذا جَهْلٌ: لأنَّهُ - تعالى - هو الذي خلق الكبير والصغير، وحكمه في كُلِّ ما خلق وبرأ عام؛ لأنَّه قد أحكم جميعه، وليس الصغير أخفّ عليه من العظيم، ولا العظيم أصعب عليه من الصَّغير. وإذا كان الكُلُّ بمنزلةٍ واحدةٍ لم يكن الكبير أَوْلَى من أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير، بل المعتبر فيه ما يليقُ بالقضيَّةِ، وإذا كان الأليق بها الذُّباب والعنكبوت، ضرب المثل بهما، لا بالفيل والجمل، فإذا أراد أن يُقَبِّحَ عبادتهم للأصنام، ويُقَبِّحَ عدولهم عن عبادة الرحمن، صَلحَ أن يضرب المثل بالذُّبَاب، لِيُبَيِّنَ أن قدر مَضَرَّتها لا تندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل ببيت العَنْكَبُوت؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ عبادتها أَوْهَى وأضعف من ذلك كُلَّما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح، وضرب المَثَلِ بالبعوضة؛ لأَنَّهُ من عجائب خلق الله - تعالى -؛ فإنه صغير جِدًّا، وخرطومه في غاية الصغر، ثُمَّ إنَّهُ من ذلك مجوّف، ثمَّ ذلك الخرطوم مع فرط صغره، وكونه مجوّفاً يغوص في جلد الفِيل والجَامُوس على ثَخَانَتِهِ، كما يضرب الرجل أصابعه في الخبيص، وذلك لما رَكَّبَ الله في رأس خرطومه من السم.






 
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 01:07 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط