***
فهمانُ يرى الشيطانَ باستخدام الفيزياء النووية ج2
قبل أن يتشارك جاك التجارب مع فهمان نظر في الورقة التي دون فيها فهمان المعادلة الخاصة بصناعة قنابل الثقوب السوداء دون أن يجري أي تجارب، ولو تجربة واحدة، وقال له: «لولا تأكدي بأن الأفكار والتجارب تتبلور في ذهنك بسرعة وبدقة مذهلة كالتي بين يدي هذه (يشير إلى معادلة صناعة قنابل الثقوب السوداء) لِمَا وافقت على العمل معك، وقلت لك ليس لدي وقت لأهدره، ويجب علي أن أدرك ثقب سحابة أورط وأحطمه قبل أن يلتهمنا جميعا، ورغم عبقريتك التي طغت على عبقريات كل الموجودات فإني أرى أن احتمال نجاح عبورك إلى كوكب الجن احتمال ضعيف، لذلك أقول لك للمرة الأخيرة اصرف نظر عن هذا الموضوع.»
امتعض فهمان من قوله وآثر ألا يحاول إقناعه مجددا، لذلك اندفع نحوه وألقى كلماته كالقذائف شارحا له الأساس العلمي المبني على فكرة العبور دون الدخول في تفاصيل التجارب سواء كيفيتها أو ماهيتها.
فقهها جاك سريعا وقال: «أسأل الرب التوفيق لك.»
قال فهمان: «لابد من تخليق فقاعة دائرية أولا.»
قال جاك العبقري: «لعلك تريد تخليقها عن طريق ذرات الرابيديوم.»
- «هو كذلك يا صديقي، ولا بد أن تكون دائرية كالكرة، أي مغلقة تماما..» وذكر له فهمان قطرا مناسبا.
- «لا بأس، وما هي الخطوة التالية؟»
- «سأتمركز في وسطها.»
دهش جاك، وحدق به بكامل اتساع عينيه وقال: «فقاعة مغلقة تماما! ستحجب عنك الهواء، ستموت! ولن يحميك سوى ب..»
قاطعه فهمان وطلب منه الصمت، ثم أمره بأن ينظر خلفه.
فنظر بالفعل، فرأى شيئا مغطى، فأسرع إليه وأزاح الستار عنه، وقال دهشا: «بذلة فضائية!»
نظر فيها وقرأ "صُنع في أمريكا بوساطة جامعة بركلي".
استدار جاك مرة أخرى وقبل أن يقول شيئا رن هاتفه، نظر، إنه رئيس جامعة بركلي.
فلما أراد أن يكلم فهمان قال فهمان: «رُد على الهاتف أولا.»
وبالفعل فتح الهاتف، قال له رئيس جامعة بركلي: «لست أنت فحسب ولدنا، ففهمان ولدنا أيضا، وهو إنسان طيب محب للسلام؛ لذلك أهدت له جامعة بركلي الذي تعلّم فيها هذه البذلة، واعلم أنه طلبها منا؛ وليس ذلك فحسب بل أرسل إلينا كيفية تصميمها.»
وأغلق الخط، ونظر إلى فهمان بدهشة. وقبل أن يقول شيئا قال فهمان: «يا صديقي، لنترك الدهشة جانبا، فوقتكَ ثمين، فإنه لا يزال لديك الكثير لتعد شراعك الشمسي وسائر تجهيزات رحلتك.»
فترك الهاتف جانبا.
قال جاك له: «أنا واثق من دقة تصميمك الذي أرسلته إلى جامعة بركلي، طبعا ستوفر لك الأكسجين وتجعل الجو المحيط بك مناسبا.»
- «بالطبع.»
وجاءا معا بذرات الرابيديوم ونزعا منها الطاقة بعد تبريدها إلى درجة الصفر المئوي.
قال جاك: «والآن معنا ذرات خاملة، ماذا تفعل بعد ذلك؟»
أجابه: «ستصيبها يا جاك بالجنون، ستضربها بالليزر لتحولها إلى ذرات مجنونة من مادة سالبة.»
قال جاك: «إذن سأتحكم في لفها المغزلي. لا بأس، جار العمل.»
قال فهمان: «بعد تحويلها من مادة عادية إلى مادة سالبة ستسلط عليها الليزر كي تشكلها على هيئة كرة، لكن ليس قبل أن أقف في وسطها بالضبط.»
ورفع جاك البذلة من الأرض وألبسها إياه، ثم علم له على مكان تمركزه، فتمركز فهمان بالفعل ولكن لاحظ جاك أنه ممسك بشيء عجيب.
قال جاك: «ما تلك التي بيمينك يا فهمان؟»
قال فهمان: «هذا أحدث ما ابتكرته، إنه منظار ملحق به مجس حساس.»
قال جاك دهشا: «مجس! منظار!» تمتم جاك ثم ما لبث أن صمت لحظات، فقد جال بفكره بعيدا وتذكر الخلية الصمامية التي صممها فهمان وهو طالب في الفرقة الثانية وغدت الطريقة المفضلة التي تستخدمها الدول في إطفاء الحرائق الهائلة.
قال جاك: «أكيد المجس لرصد الأبعاد الكونية التي سوف تظهر خلف الثقوب السوداء، والمنظار لرؤية تلك الأبعاد.»
صمت برهة ثم ضحك ضحكات بدموع حارة، تلك هي ضحكات الألم، وقال: «من المفارقات العجيبة أن رؤية تلك المعجزة يعني لحظة الوداع.»
بادله فهمان نفس الشعور وقال: «يجب أن نضحي من أجل أن يحيا العالم بسلام يا جاك.»
قال جاك دامعا: «حسنا، حسنا، تمركز بمعجزتك وأنا سوف أعزف لك سيمفونية رائعة.»
ولما همّ جاك بالعمل رن هاتفه، إنه رئيس ناسا.
قال رئيس ناسا: «....»
قال جاك: «أنا في مهمة، وفور أن أنتهي منها سوف آتيك لأنظر في تجهيزات الرحلة.» وأغلق الخط على الفور وألقى الهاتف.
تمتم جاك مجددا، وأقبل إلى فهمان، وقال: «ممكن ألقي نظرة على تلك التي بيمينك؟»
فناوله فهمان إياها، نظر بها جاك وقال: «أيها الداهية، كيف صنعت تلك الكاميرا؟» يقولها وهو يقلبها رأسا على عقب، ثم نظر بها فرأي أنها تضخم حجم الأشياء إلى مليارات المرات.
نظر في جانب من الحجرة فرأى دبوسا، فسلط الكاميرا على سنه فقط فتحول السن إلى حجم هائل كحجم قرص الشمس.
فقال: «إنها حقا معجزة!»
وناولها إياها، ثم عاد، ولما همّ بمسك جهاز الليزر لمحت عيناه شخصا ينظر إليهما خلسة.
أدار عينيه الحادتين كالصقر فرأى أكثر من عين ترصده، فتلون وجهه، ثم ترك المكان وأمسك بواحد منهم وقال: «من أنت أيها الرجل؟»
أجابه بأنه باحث.
فسأله جاك عن مسألة بسيطة في علم الفيزياء من منهج الثانوي، فلم يستطع الإجابة عليها، حيث تهته وسكت على الفور.
فأمسكه من كرافتة بذلته وهو يكز على أسنانه وقال له: «أتعلم من أنا؟»
رغم علم الرجل به فإنه أنكر عدم معرفته به.
قال جاك وعيناه تقدحان شررا: «أنا متأكد أنك تعلم من أنا، اذهب لمن أرسلك للتجسس علينا، وأخبره بأني أنا جاك الولايات المتحدة الأمريكية لو رأيته لأهدرت كرامته أمام الجميع.»
أوجعته الكلمة، فقال غاضبا مستكبرا: «أتعلم من أنا يا جاك؟»
أجابه: «كلب، ومن أرسلك كلب مثلك، اذهب من هنا ولملم بقية كلابك وخذهم معك، وأخبر يعقوب إسحاق أن جاك لا يُعامل هكذا.»
ودفعه بقوة.
وانفضوا بالفعل جميعا وذهبوا.
عاد جاك مجددا إلى فهمان. قال فهمان: «كنتُ أخشى عليك منهم، وكدت أموت خوفا عليك.»
قال جاك: «يريدون أن يعرفوا ماذا نفعل يا فهمان، فدعك منهم إنهم لا يساوون عندي جناح بعوضة.»
قال فهمان: «ماذا يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي يا جاك؟»
قال جاك مستاء: «يريد سلاحا يسيطر به على العالم ويعلن حكم دولة إسرائيل.»
***
بداية قال فهمان: «يا جاك، لو ولدت الثقوب السوداء -بشرط أن تكون دوّارة- وأنا في تلك الفقاعة السالبة لن تبتلعني الثقوب كما تعلم، وإنما سوف تدفعني بقوة بنفس مقدار قوة الجذب لو كنتُ خارج الدائرة.»
قال جاك دهشا: «وهذا يعني أنها ستدفعك حتى ترتطم بالجدار وربما تموت. وهذه معضلة ولا أجد لها حلا.»
- «لها حل، ولكن اعلم أن حياتي بين يديك.»
- «ونفسي فداء لك.»
- «سأظل ثابتا ولن تضيرني الثقوب.»
- «كيف ذلك بحق السماء؟»
- «يا جاك، عليك بتخليق عدد من الثقوب السوداء، على أن يتوفر فيها شرطان: الأول أن نجعل الثقوب السوداء المتولدة من الارتطام في حالة دوران كدائرة خارجية تستدير على دائرة ذرات الرابيديوم الداخلية، أما الآخر فهو أن تكون تلك الثقوب ذات طاقة واحدة. وبذلك أثبت مكاني بقانون نيوتن الثالث.»
أطرق جاك رأسه وقال: «فهمت، فقاعة ذرات الرابيديوم مادة سالبة، وبدلا من أن تجذبك الثقوب تدفعك بقوة مساوية تماما لقوة الجذب المفترضة لو كانت ذرات الرابيديوم التي تحيط بك مادة عادية.»
سكت جاك هنيهة ثم قال: «ولكن أخبرني، كيف ترى ما خلف الثقوب بالضبط؟»
قال فهمان: «سأقف أنا كما قلت لك في مركز الدائرتين (الأولى فقاعة ذرات الرابيديوم، والثانية الثقوب الدوارة التي تلتف حول الفقاعة)
ومعي هذا (يشير إلى المنظار الذي بيده)، بعد ذلك تضرب أنت بحزم الليزر جانبا من تلك الفقاعة لتندفع بدورها إلى مركز أحد تلك الثقوب السوداء و..»
بادره جاك بقوله: «وتعمل ذرات الرابيديوم السالبة على فتح معبر في الثقب الأسود المجهري بمنزلة ثقب دودي، يا للروعة! يا للمعجزة!»
قال فهمان: «وبذلك أتمكن من رؤية الثقوب بهذا (يشير إلى المنظار الذي بيده).»
قال جاك: «لنبدأ يا فهمان، لنبدأ.»
قال فهمان: «سنجري الارتطامات بطاقة 300 تيرا إلكترون فولت كتجربة أولى لنرى ماذا تهدي لنا الثقوب السوداء المجهرية من أكوان خلفية.»
والموقف الآن أيها القرّاء: فهمان واقف في مركز دائرة من ذرات الرابيديوم ذات المادة السالبة وممسك بيده منظار يضخم الحجم لمليارات المرات، ويحتوي المنظار على مجس لرصد الأبعاد الكونية المتواجدة خلف الثقوب السوداء المجهرية.
أجرى جاك حزمتي البروتونات في مجريي أنبوبي المصادم ffc-2 بطاقة 300 تيرا إلكترون فولت، وبعد ثلث ساعة وصلت البروتونات إلى أقصى سرعتها وارتطمتْ مولّدة عدد من الثقوب السوداء، وبوساطة حاسوب مدون عليه برنامج خاص بتنسيق الثقوب تمكن من تموضع تلك الثقوب في حلقة دائريّة حول الفقاعة الرابيديوميّة.
ولقد أحدثت الثقوب بضعة اهتزازات في الحلقة الرابيديومية نتيجة للقوى الجاذبة لتلك الثقوب الدوارة التي تحولت بفعل ذرات الرابيديوم السالبة إلى قوة نافرة متساوية تماما مع قوة الجذب وذلك حسب قانون نيوتن الثالث كما ذكرت.
في نفس لحظة استدارة الثقوب كدائرة خارجية ضرب جاك بحزم الليزر مجموعة من ذرات الرابيديوم الملتفة حول فهمان من أجل الالتحام بقلب أحد الثقوب السوداء لتوليد ثقب دودي بمثابة ممر أو كوة ينظر فيها فهمان من خلال المنظار على الأكوان الخلفية.
توسعت الثقوب لحظيا في لحظة تسليط حزم الليزر على جزء من الفقاعة الرابيديومية، وخلّق جاك ثقبا دوديا ظهر من خلفه أكوان أخرى.
تمكن فهمان من رؤية ما خلفه بالفعل، وسقط مغشيا عليه على الفور.
***
أوقف جاك التجربة هلعا، وأخرجه من الفقاعة وكلتا يديه ترتعشان. أسرع جاك بنزع البذلة، ولما لامست يده فهمانَ رفعها سريعا وهو يتوجع.
أسرع نحو الثلاجة لعمل كمادات على جبينه وهو يقول: إن جبينه قطعة من نار. ترى ماذا حدث له؟ ماذا رأيت خلف الثقب يا فهمان؟
أقبل إليه ووضع الكمادات على جبينه وشرع في تفويقه.
أفاق فهمان أخيرا، وقال بصوت لا يكاد يُسمع لأن لسانه جاف تماما: «ماء، أريد ماء.»
فناوله الكوب، فشرب فهمان حتى ارتشف آخر قطرة ماء منه.
قال فهمان: «الحمد لله لقد نجاني الله بأعجوبة، كدت أصعق يا جاك، كدت أصعق.»
وألقى بنفسه في صدر جاك وعاود البكاء؛ بل واشتد أكثر.
قال جاك في نفسه: الحمد للرب أن نجاك، يبدو أنك رأيت شبحا لا نظير له.
سأله جاك وهو يربت على ظهره: «ماذا رأيت؟»
قال: «يبدو أني سافرت عبر الزمان، ورأيت، رأيت...» تمتم ثم صرخ متوجعا.
بادره جاك بشغف بالغ بسؤاله المعتاد: «ماذا رأيت يا فهمان؟ قل لي، هل رأيت وجه إبليس الحقيقي؟»
أجابه: «لقد سافرت عبر الزمن، سافرت إلى المستقبل، لا أدري كم عاما على وجه التحديد وإنما أنا متأكد أني رأيت النار.»
توسعت عينا جاك، وانتبه له جيدا يحدق به، وما لبث أن سأله على الفور: «أي نار؟ ربما تكون نيران الجن، أو ربما تكون..»
تمتم جاك وسكت. قال فهمان: «رأيت الجحيم يا جاك رأيت الجحيم، تخيل أني رأيت كاجيتا في الدرك الأسفل من النار.»
قال جاك في نفسه: لقد بلغت ذنوب هذا الملعون الآفاق، ترى ماذا سوف يفعل بالعالم بعد أن توصل إلى صناعة قنابل الثقوب السوداء؟
تنويه: يتبقى لنا الجزء الثالث، ففهمان لم يسافر بعد إلى إبليس.
================================================== ================================================== ================================================== ================================================== ==============================================
فهمانُ يرى الشيطانَ باستخدام الفيزياء النووية ج3
بعد أن برأ فهمان تماما من الصاعقة التي أصابته بعد أن سافر إلى المستقبل وشاهد بنفسه أهل النار يعذبون -وقد كان منهم كاجيتا- دعا جاك مجددا لاستئناف التجارب قائلا: «جرّب التصادم هذه المرة على 350 تيرا إلكترون فولت.»
ابتسم جاك له وهو يقول: «300 تيرا إلكترون فولت سفّرتك إلى المستقبل حيث انتهت الحياة الأرضية، فما بالك ب 350!»
بادله فهمان الابتسامة، ثم قال حزينا: «هل تصدقني لو قلت لك إني أفضل السفر إلى إبليس في وقتنا الحاضر عن السفر إلى المستقبل لرؤية أهل الجنة؟»
تقلصت ملامح جاك بعد الابتسامات العريضة التي كانت تبسط وجهه بسطا بسبب إخلاص فهمان الذي لم يعهد بمثله في الحياة، وقال بتأثر وهو يهز رأسه: «أصدقك.»
- «ما دمت تصدقني فعلام الانتظار، هيا نجري الارتطام.»
***
توجه جاك على الفور إلى ليناك 64 (هو من يدفع حزم البروتونات) لوضع حزمتي البروتونات، ووقف فهمان مجددا داخل الفقاعة الرابيديومية بعد أن ارتدى البذلة الفضائية وأمسك بالمجس.
كانت يدا جاك تضطرب بشدة خوفا على صديقه من أن يحدث له مكروه مرة أخرى.
أطلق جاك حزمتي البروتونات وتصادمت بعد ثلث ساعة، وتولدت الثقوب السوداء المجهرية، وبوساطة برنامج حاسوب تمكن جاك من جعلها في صورة دائرية كما كان سابقا في التجربة الأولى (تجربة 300 تيرا إلكترون فولت).
أمسك فهمان بالمنظار في انتظار أن يضرب جاك جانبا من ذرات الرابيديوم السالبة في أحد قلوب الثقوب السوداء -التي تحيط به في شكل دائرة- لتخليق الثقب الدودي ليرى به ما خلفه (الثقب الأسود) من أكوان. لكنه لم يتمكن إذ حدثت كارثة!
حدث خلل في جهاز الليزر، فأحدث تفاوتا في قوى حزم الليزر المنطلقة؛ مما تسبب في تفاوت قوى أفق أحداث الثقوب الجاذبة، وهذا التفاوت في القوى تسبب في وجود قوى تنافر في جزء من الفقاعة لم يقابلها نفس قوى التنافر في الجزء المقابل فدفعت فهمان قوى التنافر الأكبر الناجمة عن الثقب الأسود فوقع المنظار من يده على الفور، وارتطم بالجدار بتأثير قوى جذب الثقب (طبعا التي تحولت إلى قوى تنافر بسبب الفقاعة ذات المادة السالبة التي تحيط بفهمان) فشج رأسه، بعد أن كُسرت خوذة البذلة وأغمي عليه على الفور، فسكن أمام عيني جاك بلا حراك.
أوقف جاك كل شيء وهو في قمة الهلع، وقد ألجمت الكارثة أوصاله فصرخ، وحين توجه نحوه سقط على الأرض، حاول النهوض فلم يستطع، لم يكترث جاك بما حدث له وإنما وصل إلى فهمان زحفا.
صرخ به: «فهمان، فهمان، فداك روحي وكل ما أملك، يا ليتني كنتُ مكانك.»
مد كلتا يديه إليه وهما لا تكادا تستقران من شدة الرعشة التي ضربتهما، نزع عنه خوذة البذلة الفضائية التي تهشمت تماما، مد إحدى أذنيه إلى قلبه فسمع دقاته تتصاعد فتنفس الصعداء وتمالك نفسه وقال: الحمد للرب.
وكما دبت الكارثة في قدميه فأعجزتهما عن الوقوف استنهضت أيضا عزيمةُ إنقاذه فرد الله الروح إليهما، فحمله جاك على الفور وهو يحاول جاهدا وقف نزيف الرأس بكل السبل، واستدعى له طبيبا.
***
بينما جاك يحاول وقف نزيف الرأس ودموعه الحارة كالجمر تتساقط، دخل الطبيب.
أسعفه، كما أوقف النزيف تماما من خلال عملية جراحية، وجلس ينظر إلى جاك دهشا من شدة هلعه وحزنه على الرغم من أن الطبيب يعلم أن جاك أمريكي الجنسية.
أفاق فهمان بعد لحظات، وقبل أن يهمس بكلمة هبّ الطبيب من جلسته وقال له: «لابد من الراحة بضعة أيام دكتور فهمان فجراحك غائر وواسع.»
سأله جاك عن حالته فقال الطبيب: «كما سمعت دكتور جاك، الجرح غائر وواسع، ولقد أصيب أيضا بكدمات حادة في بعض الأجزاء من جسده، لذلك سوف يحتاج إلى علاج طبيعي.» ورحل الطبيب.
فور رحيل الطبيب حاول فهمان النهوض فلم يستطع، فالجرح أصابه بالدوخة، والكدمات آلمته.
قال جاك: «أتريد أن تذهب لدورة المياه يا فهمان؟ حسنا، سأتصرف.»
قال فهمان بصوت فيه حسرة: «ألا نستكمل التجارب؟»
ذهل جاك وقال: «تجارب! ألم تسمع قول الطبيب؟ قال بضعة أيام.»
- «وهل يمهلني إبليس وحزبه بضعة أيام حتى آتيه، أكيد هو وحزبه يلتفون حول كاجيتا ويتناوبون عليه الوسوسة حتى يدمر العالم.»
قال جاك دامعا: «يا فهمان، إن كان لي خاطر عندك فلا تفكر في هذا الأمر قبل أن تتعافى، أرجوك وأتوسل إليك.»
نظر إليه فهمان نظرة حب وإجلال وقد قرر أن يمتثل لرغبة جاك، بعد لحظات غلبه الإعياء فنام رغما عن أنفه.
***
فور وصول كاجيتا وفريقه أرض مطار طوكيو الدولي كان في استقباله سيارة طائرة من أجل أن تقوده إلى "كانتيه".
أمر كاجيتا فريقه بالذهاب إلى أهليهم، كل واحد منهم لم يجد في نفسه غضاضة من أمر كاجيتا إلا ناكامورا فقد امتعض، ودارى امتعاضه ببسمة عريضة، حدق كاجيتا بتلك البسمة واستقرأها جيدا، فقال في نفسه: ويلك يا ناكامورا ماذا تريد أن تفعل بي؟ بل ماذا تريد أن تفعل بقنابل الثقوب السوداء إذا حزتها؟
ورفع كاجيتا يده نحو الصرة التي تحوي القنابل الخمسة وذرات الرابيديوم، يتحسسها ليتأكد أنها ما زالت في حوزته ولم يسرقها منها ناكامورا، وناكامورا ينظر إلى يده ويتمنى لو تنسلخ الصرة من جيبه وتطير في الهواء وتذهب إليه.
***
دخل القصر، فهب رئيس الوزراء واقفا، وعلى وجهه ارتسمت علامات الحرص فألجمت لسانه عن التعبير عما بداخله، فأشار بيده إليه إشارة تساؤل عن نتائج رحلته.
فتهلل وجه كاجيتا، فانفرجت أسارير الرئيس وأسرع إليه واحتضنه في غبطة غامرة وهو يقول: «نجحت، نجحت، صح؟»
قال كاجيتا: «إن كاجيتا لا يعجزه شيء يا سيادة الرئيس.»
ابتعد عنه رئيس الوزراء قليلا ويداه تربتان على كتفيه، أما عيناه فتمتلآن طمعا وسروروا.
قال كاجيتا: «أخيرا سيادة الرئيس، أخيرا سآخذ العزاء في أهلي الذين ماتوا في هيروشيما.»
تركه الرئيس وجلس على كرسي العرش الذي لا يحب أن يفارقه بتاتا، وقال: «بل قل آن الأوان لتحكم اليابان العالم.»
استاء كاجيتا قليلا، وجلس على الفور ثم ما لبث أن قال: «قبل أن نقيم سرادقات العزاء علينا بتطهير خريطة العالم.»
وفتح هاتفه، وأخذ يقلب في بضع صور، فلما عثر على الصورة التي يريدها ثبتها على الهاتف.
قال وهو يشير على جزء منها وهي مساحة الولايات المتحدة: «سيادة الرئيس، هذه خريطة العالم، رجاء، انظر إلى هذه المساحة.»
حدق الرئيس على الجزء المشار إليه وقال: «هذه الولايات المتحدة الأمريكية، ما شأنك بها؟»
- «أريد محوها من الخريطة.»
وقبض على يده ثم بسطها ونفخ فيها كأنما يريد أن يزيل ما علق بها من قاذورات وقال مستدركا: «هكذا أنفخ فيهم فيكونون كالهشيم تذروه الرياح.»
دهش الرئيس وقال ممتعضا: «أنا لا أريد استئصال شأفتهم وإنما حكمهم، ثم من يسكنها فيما بعد إنْ أنا وافقتك على ذلك؟»
قال كاجيتا في نفسه: أيها الأحمق، جنون العظمة سوف يضيع علينا حقنا في طلب أجساد أهلينا التي ذابت وذرتها الرياح مع الغبار النووي.
وأراد أن ينتصر لرأيه، فقال: «سيادة الرئيس، لقد فرضتْ عليك أمريكا بأن تكون حليفا لهم وعليك الانتقام منهم من أجل ذلك.»
- «كان يجب أن أساورهم حتى لا أفقد مكانتي، فتاريخ الانقلابات العسكرية على مر العصور كان بيد أمريكية، وهذه الانقلابات لا تخفى على أحد، ولا يرتاب في أمرها أحد.»
- «لكني أريد الانتقام.»
وقف فور أن قال كاجيتا كلمته، ووقف له كاجيتا احتراما لشخصه، ثم ما لبث أن مرر الرئيس يده على لحيته وهو يسير الهوينى وأخذ يفكر بعمق، ولما اهتدى لحل قال: «اسمع يا كاجيتا، سنهلك أساطيلهم البحرية التي يتفاخرون بها، لكن اعلم أني سأفعل ذلك من أجل إرضائك، فمسألة الانتقام هذه لا أكترث لها.»
سكت كاجيتا حزنا، أما الرئيس فسكت يتدبر أمرا آخر، قال بعدها: «قل لي يا كاجيتا، كيف لهذا البيض المتناهي في الصغر (يقصد طبعا قنابل الثقوب السوداء) أن تفعل ما لم تستطع فعله القنابل الهيدروجينية، أو حتى الذرية؟ قرّب لي الفكرة.»
زفر كاجيتا زفرة طويلة وقال له: «سيدي الرئيس، الانفجار الذي حدث لنا من انشطار أنوية النيوترونات واليورانيوم، وهذه أيضا ذرات (يشير في هذه اللحظة إلى الصرة) ولكنها تتحول إلى ثقوب سوداء فور ضرب ذرات الرابيديوم الموجودة في وسطها بالليزر.»
عاود الرئيس وسأله مجددا: «لم تجبني يا كاجيتا عن سؤال سابق، من يسكنها إذا وافقتك على هلاكهم جميعا؟»
أجابه: «سيادة الرئيس، ستجذبهم الثقوب السوداء وترمي بهم في كون لا يعرفه أحد، أما مساحة أراضيهم فستنقص من مساحة الكرة الأرضية، لأن القنابل ستجذب ما حولها من مادة وترميها في كون آخر.»
دهش الرئيس، ولم يستسغ الأمر لشدة الدهشة.
فاستطرد كاجيتا: «مساحة الكرة الأرضية 510 مليون كم2 ويطرح منها مساحة أمريكا 9,826,675 كم²، هذه هي مساحة الكرة الأرضية الجديدة سيادة الرئيس.»
***
أقبل إليه، فلما دنا منه بسط يده إليه وقال: «القنابل.»
فأومأ كاجيتا برأسه إيماءة استفهام ودهشة.
قال الرئيس: «ما بك؟ لم تندهش؟ أريدها.» وبسط كلتا يديه.
أمسك كاجيتا نفسه عن الضحك وهو يسرع بإخراج القنابل المصرورة بورق لين، قال كاجيتا: «ها هي.»
احمرّ وجه الرئيس وقال له ناهرا وفي نيته أن يبطش به ويجعله أحدوثة تلوكها الألسن: «أتستغباني أيها الحمار! أين القنابل؟»
يعلم كاجيتا مقدار الصلف الذي يملأ كيان الرئيس، لذلك باغته قولٌ تردد على سمعه: لا تثريب عليك، فلولا صلفك ما أرسلتني إلى مصر لصناعة القنابل.
أجابه كاجيتا: «انظر سيادة الرئيس، حدق بهؤلاء جيدا، حدق.» يكلمه وهو يشير بإصبعه نحو الخمس قنابل التي بحوزته.
قال الرئيس وهو يمد يده نحو الصرة: «هاتها، هاتها، رويدا رويدا.»
لم يتمالك كاجيتا نفسه وانفجر في الضحك هذه المرة، وقال وهو يخرج من جيبه صرة أخرى ويشير إليها: «لا تخش سيادة الرئيس فإنها لا تُفعّل إلا بضرب ذرات الرابيديوم هذه بالليزر.»
فتمالك الرئيس أعصابه، أخذها وحدق بها جيدا وقال: «إنها أحدّ من شفرة الموس بيد أنها أدق من بيض البرغوت، كيف تعمل هذه الملعونة؟»
فهمان يرى الشيطان باستخدام الفيزياء النووية ج4
وأخبره كاجيتا بطريقة عملها، وأعطاه ثلاث مجموعات من ذرات الرابيديوم واحتفظ بالمجموعتين الأخريين دون علم الرئيس.
خرج كاجيتا من القصر بعد أن صرفه الرئيس على أن يلتقيه في اليوم التالي.
تمتم كاجيتا وهو في طريقه للخروج: مع الرئيس خمس قنابل، بينهما اثنان لن يعملا (يقولها وهو يقذف بالمجموعتين المصرورتين إلى أعلى بيده اليمنى ثم يتلقفها بها مرة أخرى).
***
لم يهدأ فريق كاجيتا منذ أن فارقوا أرض الوادي الجديد، وفور أن وطأت أقدامهم أرض اليابان ذهب كل واحد منهم إلى أهله وقلوبهم تتأجج نارا وحسرة على تلك القنابل التي صنعوها بأيديهم ولم تكن بحوزتهم.
وبدل من إطفاء لهيب الوحشة التي غمرت أرواحهم -بفراقهم للأهل والأحباب- بالاستئناس بالأهل والأحباب هجروهم وانعزلوا تماما عنهم لأن قنابل الثقوب السوداء التي شاركوا في صنعها قد أخذت بلب قلوبهم، ولقد حركت قدراتها الرهيبة مشاعرَهم فتولد من رحمها أجنة العظمة التي بدأت تنمو وتنمو طوال الليل حتى تمنى كل واحد منهم أن يمتلكها ليدعو إلى نفسه إلها.
ورغم تلك المشاعر المتأججة التي استعمرت أرواحهم إلا أن الأمر لا يخلو لبعض من ملامة النفس، فهم يعلمون ما لا يخفى على أحد من شعب اليابان منزلة المعلم الذي بات عند بعض طوائفهم -إن لم يكن جلهم- في منزلة إله. وفي نهاية الصراع الدائر على حلبة أنفسهم فتك الشر بلوم النفس فأجهز عليها.
أما ناكامورا فقد أكل الحقد قلبه، واشتعل قلبه غيظا وحسرة ألا يمتلك تلك القنابل.
قضى ليلته عاضا في أنامله، ويكز على أسنانه بين الفينة والأخرى ويزوم ويزمجر كالرعد. ولقد توغل الغضب في أوصاله وتدفق الدم إلى رأسه حتى تحول إلى جمرة من نار لو سلطت على شيء لأكلت منه اليابس قبل الأخضر.
ولقد أكره نفسه كي تلتزم السكينة وتتلبس بالحكمة والتعقل حتى يجد طريقة تمكنه من الحصول على القنابل.
وبعد تدبر تراءى له إنه لم يكن أمامه سوى وسيلتين، الأولى الذهاب إلى الوادي الجديد والنزول بالمختبر وصنعها بيد أنه قال: ربما لا أستطيع صنعها؛ ثم لابد من تصريح من رئيس دولتي لأدخل المصادم، وهذا مستحيل.
إذن فلا يوجد سوى الوسيلة الأخرى. وقد عزم على تنفيذها. وهي قتل كاجيتا.
وظل يضرب كلتا يديه بعضهما ببعض، وهو يزفر متوجعا، وينظر من النافذة لعل خيوط الفجر تبكر هذا اليوم ويتنفس الصبح، بيد أن حرقة الانتظار حولت تلك الخيوط إلى سياط من نار تجلد ظهره، وتنفس الصبح المنتظر تحول إلى لفح من جحيم الآخرة.
وفور أن تنفس الصبح خرج من منزله واستقل سيارته وهاتف زملاءه.
اجتمع بهم بعد بضع ساعات وفاتحهم في الأمر، فانقسموا إلى فريقين، الأول يرى سرقتها فحسب والثاني يفضل قتله ليفسح لهم المجال في السيطرة على الكون.
واستقروا على قتله، بل قتل فهمان وجاك أيضا لأن أولئك الثلاثة سيمثلون لهم مصدر تهديد إن بقوا على قيد الحياة.
***
توجه كاجيتا نحو قصر الرئاسة في الساعات الأولى من الصباح.
فلما دخل عليه بادره الرئيس بقوله: «يا كاجيتا، متى نبدأ تنفيذ الخطة بالضبط؟»
أجابه: «سيادة الرئيس، ثمة مسائل تقنية تخصكم، فعليك الانتهاء منها أولا قبل الشروع في خطة الهلاك.»
قال الرئيس مستاء: «كيف؟»
قال كاجيتا: «وضع القنابل ليس بالأمر الهين، فلابد من تسلل الرجال الثلاثة ليرموا بالقنابل الثلاثة بالقرب من الأماكن التي تتجمع فيها سفنهم.»
قال الرئيس: «إذن سأحتاج إلى وزير دفاعي ليكلف خبيرا في فنون القتال البحرية بمهمة إلقاء القنابل بالقرب من سفنهم.»
وهاتف الرئيس بالفعل الوزير، فجاء وبصحبته الخبير على الفور، وبعد أن علم الخبير تقنية عمل تلك القنابل حدد كيفية وضعها بجانب تلك الأساطيل الثلاثة.
ومما قال: «سنأتي بثلاثة صياديين.»
دهش الرئيس وسأله: «كيف ذلك؟»
أجابه: «لم أقصد صياديين بالفعل، وإنما رجالنا سيمتهنون مهنة الصيد حتى ينتهوا من مهمتهم. سنغلف تلك القنابل بطعام لا تأكله الأسماك ثم نضعها في شص (أداة صلبة معكوفة تعلق فيها السنارة) صيد السمك ويلقونها في السواحل، ويتركون العنان للخيط ليقترب من تلك السفن، ويتابعون عن بعد ثم ينصرفون في الوقت المناسب.»
بعد أن حدد كاجيتا الوقت المناسب له قال: «خطة لا بأس بها.»
قال الرئيس: «أيها المحترف، ابدأ التنفيذ.»
ولما انصرفا (الوزير والخبير) قال كاجيتا: «لا بأس بوسيلة الخبير، فهي سوف تمكننا من نقل نحو ربع مليون فرد، وهم أفراد طواقم السفن.»
قاطعه الرئيس دهشا وقال متمتما: «نقل، نقل! ألن يهلكوا؟»
أجابه كاجيتا: «للأسف مصيرهم مجهول، فمصير اليابان في عام 1945 معلوم، أما مصير أمريكا بعد بلعهم بقنابل الثقوب السوداء فمجهول.»
قال الرئيس غاضبا دهشا: «يا كاجيتا، كثرة مفاجآتك التي تقذفني بها الواحدة تلو الأخرى سوف تصيبني بالجنون، كيف يكون مصيرهم مجهول؟»