|
|
|
|
المنتدى الإسلامي هنا نناقش قضايا العصر في منظور الشرع ونحاول تكوين مرجع ديني للمهتمين.. |
![]() |
مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان) |
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 85 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وما فائدة تقطيع القرآن سوراً؟: من وجوه: 1) ما لأجله بوب المصنفون كتبهم أبواباً وفصولاً. 2) أن الجنس إذا حصل تحته أنواع كان أفراد كل نوع عن صاحبه أحسن. 3) أن القاريء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأثبت على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومثله المسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نفس ذلك عنه ونشطه للسير. 4) أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيجل في نفسه ذلك ويغتبط به، ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل. تدرج التحدي: إن التحدي بالقرآن جاء على مراحل: أولها: قوله: (فَأْتُواْ بِكِتَـٰبٍ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ) القصص49. وثانيها: قوله: (قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء 88. وثالثها: قوله: (فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) هود13. ورابعها: قوله: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ) البقرة23، وهذا الأخير يتناول سورة "الكوثر"، وسورة "العصر" وسورة "قل يا أيها الكافرون". ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فهو ليس بخارج عن مقدور البشر، لكن المعجز هو الإتيان بمثله في الفصاحة والبيان. وكان امتناعهم عن المعارضة لفهمهم لهذا، كذلك فإن انصرافهم عن المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره في ذاته صورة من صور الإعجاز. هل القرآن معجز؟: حين نتكلم عن الإعجاز القرآني، نجد فريقين: - فريقاً يرى القرآن معجزاً، في فروع عديدة بدءاً بالبيان، وانتهاءاً بآيات العلم بشتى فروعه، - وفريقاً ينكر الإعجاز شكلاً وموضوعاً، بقول: إن الله لا يعجز خلقه، وليس بالإمكان أن يتحداهم فيما لا قبل لهم به، وهو أرحم من أن يكلف الناس ما لا طاقة لهم عليه؛ فالإعجاز ممتنع لعدم كفاية الناس، ولأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، يفهمه كل من يتقن العربية، دونما مشقة أو عسر. لذلك فآياته آيات بينات، ولا يقصد بالكتاب الحكيم أن يكون كتاب جغرافية أو فلك أو طب أو تاريخ أو اجتماع أو غيرها من فروع العلم. ولتحرير المصطلح أولاً ينبغي التنبيه إلى أننا حين نتكلم عن براهين الأنبياء السابقين على خاتمهم - عليهم جميعاً الصلاة والسلام - نقول إنها آيات سماها بعض المتأخرين بالمعجزات. وهي آيات؛ لأنها جمعت بين أمرين: 1) كون البشر لا يستطيعون مثلها وهذا إعجاز، 2) وكونها دليلاً على نبوة هذا النبي ورسالته، وهذه آية، أي: علامة، وقد سمى الله - تعالى - ما تأتي به الأنبياء من براهين على نبوتهم بالآيات، يقول تعالى: (وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةٗ فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا 59) الإسراء، ويقول: (فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ) الأعراف 133، ويقول: (وَأَدۡخِلۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖۖ فِي تِسۡعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦٓۚ) النمل 12. كذلك فإن الله يأتي بالآيات في ملكوته ليدل الناس عليه، كما في مثل قوله تعالى: (سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ) فصلت 53. ومن حكمة الله أن أعطى كل نبي آية أو آيات تناسب من بعث إليهم؛ فلما كان السحر فاشياً في قوم فرعون، أُرسل موسى - عليه السلام - باليد البيضاء من غير سوء، وبالعصا لتكون آية مبهرة، تلقف ما صنعوا، وتهزم كيدهم، فيلقي السحرة ساجدين. ولما اشتهر الطب في بني إسرائيل وقت عيسى - عليه السلام - أرسله الله فصنع كهيئة الطير، ونفخ فيه، فصار طيراً بإذن الله، وأحيا بعض الموتى بإذن الله، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، فجاءهم بآيات من جنس عملهم، تفوق قدراتهم، ولا يأتي بها إلا الله يجريها على يدي رسوله. ولما أرسل الله محمداً - عليه الصلاة والسلام - طالبه قومه بالآيات، فقالوا: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون) الأنبياء 5، (وَقَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا 90 أَوۡ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَعِنَبٖ فَتُفَجِّرَ ٱلۡأَنۡهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفۡجِيرًا 91 أَوۡ تُسۡقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمۡتَ عَلَيۡنَا كِسَفًا أَوۡ تَأۡتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ قَبِيلًا 92 أَوۡ يَكُونَ لَكَ بَيۡتٞ مِّن زُخۡرُفٍ أَوۡ تَرۡقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤۡمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيۡنَا كِتَٰبٗا نَّقۡرَؤُهُۥۗ قُلۡ سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا 93) الإسراء، فأعلم الله نبيه بفساد قول المشركين؛ إذ أن سنته - تعالى - أنه لو أرسل الآيات للزم الإيمان بها، وإلا حق عليهم العقاب كما وقع للأمم قبلهم، فقال: (وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ) الإسراء 59. وهو - سبحانه - يعلم أن هذه الأمة سيخرج منها من يستحق أن يمثل خير أمة أخرجت للناس، فلم يرسل الآيات رحمة بهؤلاء، وإن كان أولئك الكفار يستحقون العقاب، فلن يفلتوا منه يوم الحساب. واقتضت حكمة الله أن يؤيد رسوله الخاتم بآيات تناسب ما برع قومه به، لتكون مفحمة للمعرضين، مقنعة لكل ذي عقل من جنس ما يعقل من صنوف البلاغة والبيان. ولما كانت المعجزات الماضية حسية تشاهد بالأبصار، كناقة صالح وعصا موسى، جاء القرآن الكريم كتاباً حسياً، يرى بالبصر، ويشاهد بالبصيرة. ولأن إرادة الله أن تكون هذه الملة هي آخر ما ينزل من السماء، جعلها - تبارك اسمه - حاملة في آياتها مقومات البقاء مهما اختلف العصر، وتطور الإنسان، حتى ينتهي دوره في الحياة الدنيا، لتنتقل كل الكائنات لدار الآخرة. إن الذي أرسل الرسول وأنزل الكتاب هو العليم الخبير. يعلم حال الإنسان في كل أطواره وأجياله، ويعلم مقدار ثقافته وعلومه، لذلك خاطبه في الكتاب بما يفهم كل جيل، وما يستوعب عقله من معارف. ولا يجب أن ننسى أن الإسلام في نسخته الخاتمة يشمل أمماً وشعوباً من شتى أرجاء الأرض، لكل منها خصوصيته. وإن العرب، وإن كانوا ذات يوم هم رواد الحضارة في العالم، إلا أنهم بعد خروج أوروبا من عصور الظلام، تخلف العرب، وتقدم الغرب؛ فجاء باختراعات وعلوم استحقوا بها الصدارة الحضارية في عالم اليوم، فلزم أن يستوعب الكتاب كل هؤلاء، لا العرب وحدهم الذين توجه إليهم الكتاب بلسانهم، فأتى لهم بما يفوق قدراتهم في البيان. والقرآن - بحق - كتاب عقيدة في المقام الأول، لكن ذلك لا يمنع أن يحوي إشارات من شتى المعارف، تثبت أنه من عند الله. وهي إشارات معجزة، بحيث يفهمها كل عصر وفق معارفه، ليكون النص القرآني في هذه الشؤون مفهوماً في كل جيل، دون إبهام أو مخالفة لما ثبت من علوم ذلك الجيل. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 86 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: إنَّه مهما اختلفت الأقوال في شأن أوجه إعجاز القرآن، ومهما استجدّت الآراء؛ فإنَّ الإعجاز البياني هو أساس كلِّ إعجاز قرآنيّ، ففي بيان القرآن تستكنّ كل وجوه إعجازه الأخرى الصحيحة، وعلى أساس ما ندرك من تراكيبه ومفرداته يكون تصوُّرنا لآيات الله تعالى في مضمونها الذي نبحث عنه. والناس بين ثلاثة آراء: قائل بانفراد إعجاز النظم أو الإعجاز البياني دون غيره من دلائل يرفضها ويردها. ومتوسع في إثبات ألوانٍ من الإعجاز لا تقوم بها الحُجَّة، ولا ترتكز على أصولٍ مستقيمة في النَّظَر. وبين هذا وذاك يأتي المذهب الوسط وهو أنَّ للقرآن وجوهًا من الإعجاز تتجاوز إعجاز النَّظم والبلاغة، مع الوقوف بحَذَر أمام بعض وجوه الإعجاز التي يقول بها المتوسِّعون. غير أنَّ جُلَّ التفاوت في الإثبات والنفي لألوان من إعجاز القرآن الكريم راجعٌ إلى عدم ضبط مفهومه وحدوده. والحقيقة الواضحة التي قد يُغفل عنها أنَّ حدود المفاهيم وضوابطها ومعايير اعتبارها تُكتَشَف ولا تُخترَع، فإذا رامَ باحثٌ اختراعَ ما حقُّه الاكتشافُ خرج عن نطاق البحث المنهجيّ المنضبط إلى ما يُشبه الذَّوقَ النسبيَّ الخاصَّ الذي قد يُوافَق عليه وقد لا يُوافَق. وعليه؛ فإنَّ أوَّل منطلق لتقويمِ النَّظَر إلى ألوان إعجاز القرآن الكريم أن تُحرَّر ضوابطُه وتخطَّطَ حدودُه استكشافًا لا اختراعًا. وتُلمِحُ القضيةُ من وجهها للمفرِّق بين ثلاثة مفاهيم حاضرةٍ في الكلام على براهين النبوة، يسقط باستظهارها كثيرٌ من الاختلاف بين طوائف المتكلِّمين في اشتراط التحدِّي للمعجزة، وما يلزم منه من إسـقاط كثير من معجزات النبي - عليه الصلاة والسلام - التي لم يَتحدَّ بها. ويتأسَّس على هذا الطرحِ البناءُ الصحيحُ لبيان أوجه إعجاز القرآن الكريم، وضبط ما يدخل فيها وما يخرج منها. هذه المفاهيم الثلاثة هي على الترتيب: أ) مفهوم الآية: وهي العَلَامة على صدق النبي - عليه الصلاة والسلام - وبرهان نبوّته. ولا يشترط للعلامة أن تكون مما يفوق قدرة المخلوقين على الإتيان به أو بمثله، كما كان صدقُ النبيِّ وأمانتُه قبلَ نُبوَّته آيةً على أنَّه رسولٌ، فكان ذلك حاديًا كافيًا لكثيرٍ ممَّن آمنوا به وصدّقوه. ومثال ما نقوله ما وقع في المسائل التي سأل هرقلُ عنها أبا سفيان، وكانت كافية لأن يقول: "فإن كان ما تقول حقًّا فإنه نبيٌّ (وفي رواية: فسَيَمْلِكُ موضعَ قدمَيَّ هاتين)، وقد كنتُ أعلمُ أنه خارجٌ، ولم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أنِّي أعلمُ أنّي أَخْلُصُ إليه لأحببتُ لقاءَه (وفي رواية: لتجشَّمتُ)، ولو كنتُ عنده لغَسَلْتُ عن قدَمَيْه"*. * أخرجه البخاري في صحيحه (7، 4553)، ومسلم (1773). ب) مفهوم المُعجزة: وهي الآية التي يَعجِز الخلق عن الإتيان بها من عند أنفسهم، وإنما يؤيِّد بها الله -عز وجل- المرسلين - صلوات الله عليهم - برهانًا على صدق رسالتهم. هي - إذاً - برهان صدق المخبِر يعجز غيره عن الإتيان بمثله بإطلاقٍ. وعليه، فالآية أعمُّ من الـمُعجزة، فكلُّ معجزةٍ آيةٌ، ولا عكس. ومعجزة القرآنكامنةٌ في الدلائل القاطعة بتعيُّن كونه من عند الله - تعالى -؛ لعجز مَن سواه - سبحانه - عن الإتيان بمثله. وإعجاز القرآن: احتواؤه شكلًا وجوهرًا ومضمونًا على ما يُعجَزُ عن الإتيان بمثله من عند غير الله تعالى. ولمَّا كان القرآن يستعمل لفظ (الآية) و(البرهان) و(السلطان) للدلالة على مفهوم المعجزة، ولما كان السَّواد الأعظم من آيات الرسل مُعجزاتٍ لا يُقدر على الإتيان بمثلها؛ جاز إطلاق المعجزة على الآية، والآية على المعجزة، ولا غضاضة في ذلك؛ فالأول اصطلاح القرآن، والثاني صفةٌ غالبةٌ، فإن اقتُصر عليه جاز من باب إطلاق الصفة على الموصوف، فهذا من الاصطلاح الذي لا مُشـاحَّة فيه، ما دام الفرق بينهما مُستحضرًا عند الحاجة. ج) مفهوم الإفحام بالتحدِّي: وهو أن يُدعَى المكذِّب بالمعجزة إلى الإتيان بمثلها فيُبلِس وينقطع، فيتحقّق صدقُ الرسول. والصواب الذي دلَّ عليه النقل والنَّظر أنَّ المعجزة مُتحقِّقة بالتحدِّي أو دونه، فهي لا تفتقر إلى التحدِّي لتكون معجزة؛ فنجاة إبراهيم من النار، وانفلاقُ البحر لموسى، وإحياء الموتى لعيسى - عليهم السلام - مُعجزاتٌ، إذ يَعجِز أن يأتي بها غيرُ مؤيَّد من عند الله تعالى، ومع ذلك لم يتَحدَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بغير القرآن، ولم يتحدَّ الأنبياء - عليهم السلام - بشيء من المعجزات المذكورة. فاشتراط التحدِّي - إذاً - يُسقط جُلَّ المعجزات. إن المعجزةُ تُعجِز مَن رامَ الإتيان بمثلها ولو من غير تحدٍّ، فإذا طالبه صاحب المعجزة بالإتيان بمثلها فانقطع وأُفحِم، فهو أمعن في البرهان على صدق المتحدِّي. فهذا هو مفهوم الإفحام بالتحدّي، وهو زائد عن مفهوم الإعجاز كما ترى. فالتحدّي قدر زائد عن الإعجاز، إذ عجْزُ المُتحدَّى حاصلٌ قبل التحدّي، كما هو حاصلٌ بعده، ولكن إذا تحدّاهم فأُبلسوا وانقطعوا جاز أن نسمّيه إفحامًا؛ فإفحام القرآنِ:إبلاس المتحدَّى بالإتيان بمثله. ومما يتّضح به الأمر تمثيلًا: أنَّ رجلًا إذا أراد أن يحمل حملًا ثقيلًا فلم يستطع صحَّ أن يُسمّى عاجزًا، والحمل مُعجزه، فإذا باراه رجلٌ فحمل حملًا ثم تحدَّاه أن يحمله أو يحمل مثله، فحاول فلم يستطع؛ فهو فوق عجزه مُفحَم خاسـرٌ للتحدِّي. وعليه، فكلّ مُفحِمٌ مُعجِزٌ، ولكن لا يتحقّق الإفحام إلا بعد التحدِّي. وإعجاز القرآن سابقٌ للتحدِّي به، ويجوز أن نقول: الإعجاز لازمٌ، والتحدّي طارئٌ. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 87 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. أولاً: الإعجاز البياني: لما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل الله - سبحانه - آية نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - القرآن الكريم الذي (لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ 42) فصلت. ولطبيعة الرسالة الصالحة لكل زمان ومكان، كانت آية الكتاب المجيد مختلفة عن سائر الآيات التي أيد الله بها أنبياءه، فهي آية مادية، باقية على مرّ العصور، لتظل قائمة يهتدي بها المتقون، وتكون حجة على الذين لا يهتدون. والقرآن آية، مشتملة على 6236آية بيّنة، وضع كل حرف منها في مكانه الذي لا يصلح غيره مكانه، وكل كلمة لا يجوز استبدالها، إذاً لاختلف المعنى عن مراد الله. هذه الدقة التي تعجز البشر، جعلت هذا الكتاب العزيز فريداً في تركيبه، وحيداً في صياغته، مبنياً كصرح عظيم، يتنقل زائره بين طوابقه المرصوصة رصاً مبدعاً، ليشاهد جمال البنيان، مع عظمة التركيب، فلا يمل التنقل بين قاعاته وغرفه، ومن إبداع صنعه اختلاف أحجام الغرفات والأجنحة والطوابق، مع انسجام تام في البنيان العام دون تخلف أو شذوذ، وليس غريباً أن يعبر المولى - جل وعلا - عن عظمة كتابه بقوله: (قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا 88) الإسراء. والإعجاز اللساني والبياني يُقصد به: إعجاز القرآن بكلماته وبألفاظه، وجمال أسلوبه ونظمه، وبلاغة تراكيبه، وترابط آياته، وتنوع أساليبه ما بين التقديم والتأخير، والنفي والإثبات، والحقيقة والمجاز، والتخصيص والتعميم، وغير ذلك مما جعله كتاباً خالداً لا يتّسم بِسِمات كلام البشر أبداً. وقد أعجز الكتّاب والأدباء وشعراء العصر الجاهلي ومَن بعدهم إلى زماننا هذا وحتى قيام الساعة. والأمثلة على الإعجاز البياني واللغوي لا حصر لها، وقد مررنا في قراءة فاتحة الكتاب، وما مضي من هذه السورة على لمحات بيانية كثيرة، وهو دأبنا في قراءتنا لكتاب الله. وحسبنا ذكر بعض الملامح اللسانية والبيانية الخاصة بالذكر الحكيم: - الأصالة: إن نزول القرآن الكريم باللسان العربي، حافظ عليه، ونشره، وأبقاه حياً، رغم ما لحق غير العربية من لغات انقرضت كاليونانية واللاتينية، أو تغيرت كالعبرية التي صارت لغتين: قديمة وحديثة، وكالإنجليزية التي صار من الصعب على من يتقنها اليوم أن يقرأ ما كتب فيها منذ قرنين من الزمان أو ثلاثة. أما القرآن الكريم، فليس من العسير أن يتدبر آياته ابن اليوم رغم مرور خمسة عشر قرناً على نزوله. - الجدة الدائمة: وإن كل كلام بشري يبلى إذا تكرر، وكلما تردد، تدنت قيمته، على عكس القرآن، الذي لا يخلق من كثرة الرد، ولا يبلى من التكرار، والمسلم يقرأ سورة الفاتحة أكثر من سبعة عشر مرة في اليوم والليلة، ويظل جديداً، لا يمل منه قارئه، ويظل فيه من المعاني الجديدة والإلهام والفتح ما يحير العقول. - الكلام الفريد: وإن أي كلام، مهما كان قائله، أو لسانه، يمكن دمجه بغيره من الكلام فلا يستطيع أحد أن يميز كلامه الذي أدمج فيه؛ لأنه بالإمكان أن يقلد الناس كلام أي أديب أو شاعر، ولعل ما يمثل هذا المعنى القول بأن أكثر الشعر الجاهلي منحول، وضع في العصرين الأموي والعباسي الأول، غير أن الوجه الإعجازي في القرآن أنه يتميز عن أي كلام إذا أدمج به؛ لأن القرآن ليس شعراً، وليس نثراً، بل هو - ببساطة - نسيج لغوي قائم بذاته اسمه: القرآن، فالكلام العربي - إذاً - على ثلاثة أنواع: شعر، ونثر، وقرآن. ومن الملامح البيانية الخاصة بالقرآن العزيز: - القرآن لا يعرف الترادف: فكل لفظة - كما ذكرنا - مقصودة لذاتها، لا يناسب موقعها غيرها. ولنمثل بالفرق بين الخوف والخشية: لا يكاد اللغوي يفرق بينهما، إلا أن القرآن فرق بينهما، فتبين من الاستعمال القرآني أن الخشية أعلى من الخوف؛ إذهي أشد الخوف؛ فهي مأخوذة من قولهم شجرةٌ خَشِيَّةٌ : إذا كانت يابسة، وذلك فوات بالكلية. أما الخوف فمأخوذ من قولهم: ناقةٌ خَوْفَاء إذا كان بها داء، وذلك نقص، وليس بفوات. ومن ثمة : خُصَّت الخشية بالله تعالى والخوف فيما أقل، كذلك فإن الخشية تكون من عِظم المَخشِي، وإن كان الخاشي قويًا، والخوف يكون من ضعف الخائف، وإن كان المَخُوف أمراً يسيراً،ويدل على ذلك أن (خ ش ي) في تقاليبها تدل على العظمة، قالوا: شيخ للسيد الكبير، والخيش لما عظُم من الكتان.و(خ و ف) في تقاليبها تدل على الضعف، وانظر إلى الخوف لما فيه من ضعف القوة. وفي قوله سبحانه: (وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ 21) الرعد، فإن الخوف من الله لعظمته، يخشاه كل أحد، كيف كانت حاله، أما سوء الحساب فربما لا يخافه كل أحد، أما ذوو الألباب فيزيد خوفهم ليوم الحساب لعلمهم بعواقبه، لذلك قال المولى فيهم: (إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ) الرعد. وأما قوله - تعالى - في حق الملائكة: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ) النحل 50، فلما ذكر قوتهم وشدة خلقهم عبر عنهم بالخوف لبيان أنهم وإن كانوا غلاظاً شداداً فهم بين يديه - تعالى - ضعفاء، ثم أردفه بالفوقية الدالة على العظمة، فجمع بين الأمرين، ولما كان ضعف البشر معلوماً بينه بالخشية، ولم يحتج إلى التنبيه عليه. وقيل: إن الخشية هي الخوف في محل الأمل، ومن دقق النظر في الآيات التي ورد فيها حرف الخشية يجد هذا المعنى فيها، ولعل أصل الخشية مادة خشت النحلة تخشو، إذا جاء ثمرها دقلاً رديئاً، وهي مما يرجى منها الجيد. ولا شك أن هذا المعنى يناسب خشية العلماء الذين يأملون في رحمة الله لما يعلمونه عنه تعالى. وما دمنا نتحدث عن الخوف والخشية واستعمالها في كتاب الله تعالى، فإنه يجمل بنا أن نضيف هنا لفظة: الإشفاق، والكثيرون يفسرونها بالخوف، ولكننا حينما نمعن النظر في آي القرآن الكريم نجد بوناً بينهما شاسعاً، فالإشفاق يكاد يقتصر استعمالاتها على عباد الله تبارك اسمه، في مثل قوله: (وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ 28) الأنبياء، وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا) الشورى 18، أي السـاعة. ومن هنـا كـان الإشــفاق عنـاية مشوبة بخوف، سواء غلب جانب العناية كما في: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) الطور 26، أو جانب الخوف كما في: (أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) المجادلة 13. - ليس في القرآن تناوب بين حروف الجر: الأصل في حروف الجر أَن يكون لكلِّ حرف منها مكانٌ يحله، ومعنًى يؤدِّيه حين تركيبه مع غيره؛ لأنَّ الحرف بصِفة عامَّة: هو ما دلَّ على معنًى في غيره، غير أنَّ العرَب تتوسَّع فيها، فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربَت المعاني. وقد أوردَ اللغويون والنُّحاةُ شواهدَ تلك الظَّاهرة متناثرة في ثنايا كتبهم أحيانًا، وأفرد لها بعضهم أبوابًا مستقلَّة في أحيان أخرى. على أن هذا إن كان مقبولاً في الشعر والنثر، فلا يمكن قبوله في التنزيل العزيز؛ لأن الثابت فيه أن كل حرف فيه وضع بعناية تجعل من المستحيل استبداله. لكن الكوفيين وبعض البصريين ذهبوا إلى أنَّ حروف الجرِّ يجوز أن تنوب عن بعضها البعض، وحجَّتهم في ذلك كَثرة الشواهد المسموعة من القرآن الكريم والشعر العربي. أما شواهد الشعر، فمنها: وإن يلتق الحيُّ الجميعُ تلاقني ..... إلى ذِروة البيت الرَّفيع المُصَمَّدِ فإنْ تسألوني بالنساءِ فإنَّني ..... بصيرٌ بأدواءِ النِساءِ طبيبُ أما جمهور البصريين، وظاهر كلام سيبويه، وأغلب النحاة، فذهبوا إلى أَنَّ حروفَ الجرِّ لا ينوب بعضها عن بعض. وهؤلاء قد قاسوا حروفَ الجرِّ على أحرف النَّصب والجزم، فكما لا يَجوز في هذه الحروف أن ينوب بعضها عن بعض، كذلك لا يَجوز في حروف الجرِّ أن يحدث تناوب. وردوا ما أَوْهم خلاف ذلك، من شواهد القائلين بالتناوب على هذه الأوجه؛ فهو مؤوَّل؛ إمَّا على التضمين، أو على المجاز. ولنمثل بقوله تعالى: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) طه71، وقد قال الكوفيون ومن لف لفهم: أي: على جذوع النَّخل، بينما رده أغلب النحاة بقولهم: إنَّ المصلوب لتمكُّنه من الجذع كأنَّه قد صار فيه. وقد وصف ابنُ القيم من يقولون بنيابة الحروف بعضها مكان بعض بـ "ظاهرية النحاة" الذين لا يسبرون أغوار المعاني، ومن خالفوهم بـ "فقهاء العربية". - كل تكرار في التنزيل إضافة للمعنى: التكرار فيه توكيد ولا مانع أن يأتي التكرار بدون حرف عطف كما في قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا ٥إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا 6) الشرح، وقد قالوا: إن تعريف " العسر "في الآيتين، يدل على أنه واحد، وتنكير "اليسر "يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين. وفي تعريفه بالألف واللام، الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر - وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ - فإنه في آخره التيسير ملازم له. وقد يُفصل التكرار بحرف عطف، كما في قوله تعالى: (إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ 18 فَقُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ 19 ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ 20) المدثر، وجملة: (إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) بدل من جملة: (كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيدٗا 16) بدل اشتمال. وقد وصف حاله في تردده وتأمله، فابتدأ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره، وكرّر نظر رأيه ليبتكر عذراً يموهه ويروّجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - و "قَدَّرَ" أي: جعل قَدْراً لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما يُنحله القرآنَ من أنواع كلام البشر أو ما يَسِم به النبي من الناس القائلين فيه: مجنون أو شاعر أو كاهن، فَقَدَّرَ أن يقول: هو ساحر، فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه. وقوله (فَقُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ) كلام معترض بين (فكّر) و "قدّر" وبين (ثُمَّ نَظَرَ 21) وهو إظهار ما يوجب الغضب عليه على سيّيء فعله؛ فالفاء لتفريع ذمه. ثم أعقبها بـ (ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ)، والجملة هنا للدعاء عليه بتعجيل مَوته لأن حياته حياة سيئة لما قدره من باطل. وقد صُدِرَّتْ بالعطف بـ (ثُمَّ) الذي يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها فِي الغرض المسوق له الكلام. فإذا كان المعطوف بها عين المعطوف عليه أفادت أن معنى المعطوف عليه ذُو درجات متفاوتة مع أن التأكيد يكسب الكلام قوة. وهذا كقوله: (كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ 3 ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ 4) التكاثر، وهنا العلم علمان علم عند المشاهدة والاحتضار، والعلم الثاني عند الحساب يوم القيامة، فإذا كان العلم الأول هو نفس العلم الثاني تكون (ثم) للتوكيد وإذا كان العلم الثاني غير العلم الأول تكون (ثم) للتراخي في الزمن لأن فيها تأسيس لمعنى جديد. - الإيجاز من أهم خصائص النص القرآني:إن ظاهرة الإيجاز بكل أبعادها الأسلوبية في الخطاب القرآني، من أھم مؤشرات الأسرار الجمالية، وهي تعتمد على عدة آليات لسانية مثل: الحذف، والقصر، والإضمار، والعطف، والأسماء الموصولة، وأسماء الإشـارة، وألفاظ العموم، وغیرھا. كما یمكن إدراج ظواھر أخرى كالتصوير، والتكثيف الدلالي، وقص المشاهد. ولنمثل لبعض هذه الآليات: الإيجاز بالحذف: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) يوسف 82، والمقصود: واسأل أهل القرية. الإيجاز بالقصر: (أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ) لقمان20، والمقصود مما في السماوات: كل ما فيها من كائنات وأجرام، ومما في الأرض: كل ما خلق فيها. الإيجاز بالإضمار: (كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ 26) القيامة، والتقدير: إذا بلغت النفس موضع الحشرجة، وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أُسْنِدَ إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان، ومَثَلُهُ قَوْلُ حاتِمٍ الطّائِيِّ: أماوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَـتَـى ..... إذا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وضاقَ بِها الصَّدْرُ - الصوت اللغوي ومجانسة المعنى: إن للصوت دور واضح في توصيل الدلالة المقصودة، وهي خاصية من أهم خصائص النسق القرآني، من ذلك: في قوله تعالى: (فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ 15 ٱلۡجَوَارِ ٱلۡكُنَّسِ 16 وَٱلَّيۡلِ إِذَا عَسۡعَسَ 17 وَٱلصُّبۡحِ إِذَا تَنَفَّسَ 18) التكوير، حين تُسمع همس السين المكرّرة، وهي من حروف الصفير، يكاد يستشفّ نعومة ظلها مثلما تستريح إلى لطافة وقعها؛ فتأنس النفس لمشاهد السكون والطمأنينة. أما السينات المتكررة كذلك في سورة الناس، إن قراءة السورة قراءة متصلة تحدث وسوسة في الحلق مصحوبة بصفير يوحي بالتوجس، فكأن شيطاناً من شياطين الأنس أو الجن أراد أن يوحي بمكره وشره، بوسوسة وصوت غير مفهوم مصحوب بأزيز خفي، وصفير مهموس، أوصله للقاريء تكرار صوت السين في السورة تسع مرات.وفي المقابل نرى صوت الدال المنذرة المتوعّدة مسبوقةً بالياء المشبّعة المديدة في: (وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنۡهُ تَحِيدُ 19 وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِۚ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلۡوَعِيدِ 20 وَجَآءَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّعَهَا سَآئِقٞ وَشَهِيدٞ 21) ق؛ فتقع الرهبة في الصدور، وهي تسمع ألفاظ: (تَحِيْدُ) و (ٱلۡوَعِيدِ) و (شَهِيدٞ). أو صوت الإسقاط في النار، في قوله تعالى: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا) الشعراء94، ليدل تكرار الكاف والباء على تتابع الحركة وتكرارها، ومثله في القرآن مع اختلاف الجرس ومدلوله: حَصْحَصَ وعَسْعَسَ، ووَسْوَسَ ودَمْدَمَ، وزَلْزَلَ، وزُحْزِحَ. - هذا نزر يسير من ملامح البيان القرآني، لم نتعرض فيه لأبواب كثيرة من البلاغة كالإطناب والتشبيه والمجاز والكناية والمحسنات البديعية المعنوية واللفظية، ولو مثلنا لها أو لبعضها لما وسعنا المجال؛ فحسبنا ما ذكرنا، على أنه لابد أن نشير إلى أن الإعجاز اللساني والبياني هو أول وأهم دلائل الإعجاز القرآني، لكون القرآن الكريم أنزل بلسان عربي مبين. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 88 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. ثانياً: الإعجاز المعنوي: إن قوله تعالى في سورة الإسراء: (قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا 88)، فيه الدلالة على إعجـاز القرآن. لكن من الناس من يقصر الإعجاز في النص القرآني على النظم، غير أن هذا لا يستقيم مع كون التحدي للناس كافة، لأن التنزيل الحكيم ليس محصوراً على العرب، بل هو للعالمين. لذلك صار لزاماً أن يتعدى الإعجاز البيان العربي - مع تأكيد أنه أول دلائل الإعجاز - ليشمل بعض النواحي الأخرى، ومنها المعاني وترتيبها. ولعل أهم المميزات الموضوعية للقرآن الكريم: سلامته على طوله من التعارض والتناقض والاختلاف، خلافاً لجميع كلام البشر وهو المراد بقوله تعالى: (وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا 82) النساء، وإنّنا نجد كبار العلماء في كلّ عصر يصنّفون الكتاب فيسوّدون، ثمّ يصحّحون ويبيّضون، ثمّ يطبعون وينشرون، ثمّ يظهر لهم ولغيرهم كثير من التعارض والاختلاف والأغلاط اللفظيّة والمعنويّة ولا سيّما إذا طال الزمان، وهذا أمر مشهور في جميع الأمم.أما النص القرآني فهو نص منسجم متكامل ومتناغم، يُكمّل بعضه بعضاً، مصداقاً لقوله تعالى: (كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ 1) هود، وأهل العلم متفقون على وحدة النص القرآني وانسجامه، فهو كعقد منظوم متصلة حباته، أو كلبنات متراصة منسجمة، بعضها وفق بعض، كبناء متكامل. هذه البنائية للقرآن الكريم، جعلت الوحي المدني وأحكامه مبنياً على ما نزل مكة، والأحكام العملية مبنية على المبادئ الاعتقادية.وهذه الخاصية التي تميزت بها نصوص القرآن الكريم، جعلتها وحدة منسجمة غير قابلة للتجزئة، وفرضت على القاريء الالتزام بالقراءة الكلية للنصوص الشرعية؛ فإذا أراد أن يفهم آية قرآنية، لا يفهمها بمعزل عن الآيات التي سبقتها أو لحقتها في النزول أو الترتيب، وإنما يجمع بين الآيات السابقة واللاحقة ذات الموضوع الواحد، ليخرج بنظرة عامة شـمولية لموضوع الآية. هذا الانسجام بين نصوص الوحي أعطانا نسقاً تشـريعياً متكاملاً، يُكمل بعضه بعضاً، ويشرح بعضه بعضاً، ويعضد بعضه بعضاً، وهو سر إعجاز القرآن الكريم. وإذا كان النص الشرعي بهذه الطبيعة المنسجمة فكل قراءة جزئية له تعتبر إهداراً لحقائقه ومعانيه، والتي بضياعها يعيش الناس في تِيه وضلال، ومن وجوه تحريف النص الشرعي الاقتصار على بعض معانيه دون البعض الآخر. وإن الفهم الكلي للنص الشرعي يمكننا من استخلاص كليات الشريعة في قضايا عدة تحتاجها الأمة أشد حاجة في بنائها الحضاري، خاصة وواقع الأمة عرف تغيرات كبيرة، فرضت على أهل العلم الحاملين هم التجديد تحديات الإجابة عن أسئلة العصر الملحة. ولا شك أن القرآن الكريم باعتباره وحياً إلهياً خاتماً، معجزة عقلية مستمرة منذ هبط به الوحي على محمد - عليه الصلاة والسلام - منذ أكثر من أربعة عشر قرناً وإلى قيام الساعة. وقد كان هذا التوجه القرآني واضحاً منذ اللحظة الأولى، فلم يكن هناك في الرسالة الخاتمة ميل إلى التركيز على معجزات حسية ينتهي تأثيرها بانتهاء عصرها، ومن هنا لم يكن لها في رسالة الإسلام إلا دور هامشي ثانوي لا يعول عليه كثيراً، أما القرآن الكريم فهو الوحي الخالد الذي جاء مخاطباً العقل الإنساني، دافعاً إلى التأمل والتفكير في ملكوت السماوات والأرض. وما دام الأمر كذلك فإنه لا مفر من استخدام العقل الإنساني في فهم القرآن الكريم وتدبر معانيه، فالقرآن لم يأت لمجرد قراءته من دون فهم؛ فهذا الكتاب إنما هو كتاب للحياة بكل أبعادها. وإن من الضروري للوقوف على أسراره أن تتدبر معانيه، وهذا يحتاج لعقل راجح، لديه من الإمكانات ما يجعله قادرًا على فهمه على نحو سليم لتحقيق الهدف الأسمى من هذا الوحي القرآني العظيم. والقرآن حافل بالنصوص التي تحث العقل على القراءة المستوعبة وتدبر الكلمات وما تتضمن من معان، حيث يقول الحق سبحانه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) النساء 82، محمد 24، واستخدام القرآن للفظ التدبر معناه التفكر فيه، وهناك فرق بين التفكر والتدبر، فالقرآن الكريم حين يذكر المعنى الواحد بألفاظ مختلفة فإنه لا يفعل ذلك لمجرد التكرار بأسلوب مختلف، وإنما يأتي ذلك قصداً لإبراز معنى جديد يزيد على مجرد التفكر، فالتدبر في الأمر يعد تفكرًا وزيادة، ذلك لأن التفكر يعني تصرف العقل بالنظر في الأدلة والظواهر الإنسانية والكونية، بينما التدبر يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، فهو تصرف العقل بالنظر في عواقب الأمور، ودرجة التدبر لا يصل إليها إلا أصحاب العقول الراجحة. وذلك التفكر وهذا التدبر، ليسا قاصرين على العرب، فالتعامل مع المعاني يتخطى حدود اللسان العربي، ليشمل كل اللغات، طالما كانت ترجمة معاني القرآن أقرب إلى دلالة النص القرآني. ولقد أراد الله لهذا القرآن العظيم أن يكون معجزة عقلية باقية أبد الدهر تحترم عقل الإنسان وتخاطبه بالحجة والبرهان، وقد اشتمل على العقائد والأخلاق والتشريعات وأخبار الأولين وأحوال الدار الآخرة، كما اشتمل على الحث على إعمار الكون والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، وتمكين العقل الإنساني من أداء دوره كاملاً في الحياة.وفي ذلك كله تحفيز للمسلمين ليعملوا عقولهم في البحث والتنقيب عن سنن الله في هذا الكون والكشف عن أسراره، وهذا لن يكون متاحاً إلا لمن لديه الاستعداد للتفكير السليم والنظر العقلي الرشيد والبحث العلمي القائم على أسس صحيحة ومناهج قويمة، وهذا هو المعنى المقصود من تدبر آيات القرآن الكريم، وهكذا كان القرآن بما فيه من قيم نبيلة، وما اشتمل عليه من تعاليم سامية محور اهتمام المسلمين على المستويين النظري والعملي. لقد قام المنهج القرآني على مبدأ العالمية؛ فأعلى من شأن الحرية التي كفلها للإنسان، وضبطها بقيمه وأخلاقياته، بحيث تكون حرية لا جور فيها ولا انفلات. وجعلها رسالة حضارية يقوم بها الإنسان تجاه مجتمعه؛ فنظم شؤون المجتمع ليؤدي كل فرد واجباته، مثلما يؤمن حقوقه. إن القرآن - لذلك - أنشأ نظاماً يقوم على الموائمة بين الفرد والجماعة؛ ورسم القواعد لعلاقة الفرد بربه، وعلاقته بمجتمعه، وعلاقة المجتمع المسلم بغيره من التجمعات البشرية. ومثلما أكد القرآن على حرية الفكر، كفل حرية الاعتقاد، لقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ) البقرة 256، وقوله: (وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ) الكهف 29، ومبدأ القرآن هنا أن الإكراه على العقائد لا يأتي بمؤمنين صادقين، وإنما يأتي بمنافقين كذابين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. القرآن الكريم - إذاً - جاء بدستور للحياة في مجتمع فاضل، هو المدينة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة القدماء. وإن هذه المعاني - وغيرها - ضمن المنهج القرآني يمكن تحصيلها بتدبر معاني القرآن، ولا تستلزم الإلمام باللسان العربي. وهذه كلها من دلائل الإعجاز القرآني. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 89 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. ثالثاً: الإعجاز التشريعي: التَّشريع: مصدر شَـرَّع - بالتشديد - والشَّريعة في أصْل الاستعمال العربي: مَورد الماء الذي يقصد للشُّرب، ثُم استعملها العربُ في الطريقة المستقيمة، وذلك من حيثُ إنَّ الماء سبيلُ الحياة والسلامة، ومثل ذلك أيضًا الطريقة المستقيمة، التي تهدي النُّفوس فتحييها. والشريعة في المصطلح هي الطريقة الإلهيَّة. ولا شكّ أنّ هذا الوجه من أظهر وجوه الإعجاز، فإنّ علوم العقائد الإلهية والغيبيّة والآداب والتشريع الدينيّ والمدنيّ والسياسيّ هي أعلى العلوم، وقلّما ينبغ فيها من الذين ينقطعون لدراستها السنين الطوال، إلاّ الأفراد القليلون، فكيف يستطيع رجل لم ينشأ في بلد علم وتشريع، أن يأتي بمثل ما في القرآن منها تحقيقاً وكمالاً، ويؤيّده بالحجج والبراهين بعد أن قضى ثلثي عمره لا يعرف شيئاً منها، ولم ينطق بقاعدة ولا أصل من أصولها، ولا حكم بفرع من فروعها، إلاّ أن يكون ذلك وحياً من الله تعالى؟ وليس المُرادُ من الإعجاز التَّشريعي هو مُجرد إثبات الإعجاز، وإنَّما المُراد منه لازمه، وهو إثْبات صِدْق النَّبي - عليه الصلاة والسلام - في التبليغ عن ربه، وبكون القُرآن من عند الله عَزَّ وجل. ومن الأدلَّة الدَّامغة، والبراهين القاطعة على الإعجاز التَّشريعي في القُرآن المجيد: أ) الشمول: إذ اشتمل على المَقاصد الأساسيَّة، والقواعد الكُلِّية للشريعة الإلهيَّة، التي تُنظِّم كلَّ شؤون الحياة، وفي الوقت نفسه تُحقِّقُ العَدْل التَّام بين الجميع، بقطع النظر عن الانتمـاءات الدينية أو العرقية أو غيرها، وهذا بالقطـع لا يدخـلُ تَحت اسـتطاعة أحد من البشر كائنًا من كان. وإذا صحت عقيدة المسلم كان عليه أن يأخذ شـرائع القرآن في الفرائض والعبادات، وكل عبادة مَفروضة يُرادُ بها صلاحُ الفرد، ولكنَّها مع ذلك ذات عَلاقة بصلاح الجماعة، ومن تربية الفرد ينتقل الإسلام إلى بناء الأُسْرة؛ لأنَّها نواة المجتمع، فشَرَع القُرآن الزَّواج؛ استجابة للغريزة الفطريَّة، وإبقاءً على النَّوع الإنساني في تناسُل نظيف، ونظم البيت الإسلامي ليقوم على المودة والرحمة، وشرع فيه الحقوق والواجبات لأفراده، وقنن الزواج والطلاق والميراث لصلاح الفرد والجماعة. وفي القرآن الكريم يقومُ الحكم على أُسُس العدل التام، والمساواة، والشورى، وكلِّ ما من شأنه أن يحفظَ سلامة المجتمع، ويُحافظ على أمنه واستقراره؛ ومن أجل صيانة المُجتمع وسلامته، يُقرِّر التشريع القرآني الحفاظَ على الكليَّات الخمس وهي: الدين والنفس، والعقل، والعرض، والمال. ومن أجل الحفاظ على هذه الكلِّيَّات الخمس، التي تتَّفق كلُّ المجتمعات على صيانتها والحفاظ عليها، حذَّر القرآن الكريم من الاعتداء عليها، وَوَضَع ما يُعرف في الفقه الإسلامي بالجنايات أو الحدود. ومن أجل الحفاظ على النِّظام العام، وضَمَان أمْن المُجتمع واستقراره، شَرَعَ القرآن الكريم حدَّ الحرابة، فحفظ ضرورات الناس أفراداً وجماعات. ومِمَّا يدُلُّ دلالة دامغة أيضًا على الإعجاز التشريعي في القرآن: أنَّ العرب كانوا أمَّة أمِّية لم تكن لهم ثقافة، ولم يكونوا يعرفون إلاَّ التَّحاكم إلى العِرْق القبليِّ وقتَ نُزُول القرآن المجيد على النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - فهذا ولا رَيب هو الإعجاز ذاته. ذلك أنَّه من الأُمُور البدهيَّة عند عُلماء القانون والاجتماع، أنَّ آخر ما يُتوَّج به تقدُّم أي أمة من الأمم هو تكامُل البيئة القانونيَّة والتشريعيَّة في حياتها. إذًا، فظُهُور قانون مُتكامل في أمَّة من الأمم، هو الذِّروةُ العُليا لتقدمها الحضاري، وليس العكس؛ إذ إنَّ الأمَّة التي لم تتقدم حضاريًّا، أو التي ما تزال تعيش في طَوْر البداوة، ليس في حياتها من التعقيد الاجتماعي ما يُشعر بالحاجة إلى وَضْع قانون عام، ولكنَّها تشعرُ بذلك كلَّما تقدمت حضاريًّا، وازداد تركيبُها الاجتماعي تعقيدًا. والذي ظهر في الجزيرة العربيَّة قبل أربعةَ عَشَرَ قرنًا من الزمان، كان عكس هذا القانون البَدَهي تمامًا، إذ ظهر فجأة بين تلك الجماعات البدائيَّة قانون متكامل، يتناول الحقوق المدنية، والأحوال الشخصية، ويرسم صُورة للعلاقات الدَّوليَّة، ويضع نظامَ الحرب والسلم، ويضع نظامًا للعلاقات الماليَّة والسياسيَّة وهكذا، تشريعٌ مُتكامل لا يَترك من أُمُور الحياة صغيرة ولا كبيرة إلاَّ عالَجها وقنَّن لها، هذا في الوقت الذي كان فيه عَرَب الجزيرة لا يعرفون شيئًا عن معنى المجتمع الذي يحتاج إلى قانون، فلم يأْخُذُوا بنصيبٍ وافر من العلم أو الحضارة، مِمَّا يعد خُطُوات أساسية لا بُدَّ من اجتيازها قَبْل وضع القانون العام؛ فهذا التشريع الذي اشتمل عليه القرآن المَجيد وَجْه من وُجُوه إعجازه التي لا تُحدُّ، وهو الذي جعل من المسلمين الأوائل أُمَّة لا نظيرَ لها في التاريخ، فقام المجتمع المِثالي، وأقيمت المدينة الفاضلة التي طالما خامَرَت عُقُول كثير من المُفكِّرين والمُصلحين على مَدَى تاريخ البشريَّة الطويل. ب) السعة والمرونة: إذا كان التَّشريعُ القُرآني يَمتازُ بالشُّمول - الزَّماني والمكاني والموضوعي - أيْ: إنَّه يشمل مَجالات الحياة كافَّة على اختلافها وتنوُّعها؛ فإنه - أيضًا - يَمتازُ بخاصية أخرى، هي السعة والمرونة التي تسع الجميع. هذه السعة التي تتيح تنوع الآراء، دون تضاد أو تناقض، يقول تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا 82) النساء، فأدلة الأحكام في القرآن مُترددة بين القطع أو الظن، بخلاف أدلَّة العقيدة، فهي يقينيَّة قطعيَّة لا مَجال فيها للظَّن. أمَّا أدلة الأحكام من حيثُ الدلالة - أي: دلالة اللفظ على معناه - فهي مُتردِّدة بين القطع والظن، والقرينة هي التي تُعيِّن المعنى المراد. ج) موافقة الفطرة: يُخاطب القُرآن الكريم الإنسان بجانبيه: الرُّوحي والمادي. والتوازن هو في أن يُعطي لكلِّ جانب منهما ما يُناسبُه ويُرضيه. والتشريع القرآني يُوافقُ الفِطرة الإنسانيَّة التي فطر الله النَّاس عليها، ويوجه الإنسان إلى هذا التوازن في نحو قوله تعالى: (وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ) القصص 77، فلا يُكلِّف التشريع القرآني الإنسانَ ما هو فوق طاقته، ولا يُحمِّله ما لا يتحمله، ومن هنا جاء قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) البقرة 286، وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج 78. وفي التَّشريع القُرآني الرُّخص التي رخَّص فيها الشَّارع لرفع الحرج أو عند الاضطرار، مثل الرخص في الفطر للمريض والمسافر، وتحليل المحرمات من الميتة والدَّم ولحم الخنزير عند الاضطرار. وهكذا فالتشريع القرآني مُوافق للفطرة التي فَطَر الله الناسَ عليها مما يجعلُهم مُنقادين إليه، طائعين غير مَجبورين عن قناعة وثقة. د) التدرج: هذه سمة فريدة لا نجدها في التشريعات الوضعية، ليس من شكٍّ في أنَّه لا مجال للمُقارنة أو المُوازنة، بين التَّشريع القُرآني وبين القَوانين الوضعية؛ لأنَّ الذي يُوازن بينهما كأنَّما يُوازن بين الخالق والمخلوق، لكنَّنا نأخذ مثالاً واحدًا على الأَثَر العملي في الواقع للتَّشريع القُرآني في مُشكلةٍ لا تزال المجتمعات غيرُ المسلمة تُعاني منهـا إلى اليـوم، هي مُشــكلة الخمـر. وقد عالج التَّشـريع القـرآني هذه المُشـكلة على مراحل ثلاث، بطريقة حَسَمَتْها في النِّهاية: 1. (يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ) البقرة 219، 2. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) النساء 43، 3. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ 90) المائدة. ه) الإيجاز: جاءت آياتُ الأحكام غاية في الإيجاز البليغ، مع شُمُولها كلَّ جوانب الأحكام التي تتناولها؛ فهي مُوجزة وشاملة، والجمعُ بين الشُّـمول والإيجاز لون من الإعجاز. ومن أوضح الأمثلة على ذلك آيات الميراث، وهي في سورة النساء آيتان متتاليتان: (يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ ... 11 وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ ... 12) والآيـة الأخيـرة من السـورة: (يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ ... 176). |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 90 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. رابعاً: الإعجاز الغيبي: الغيب - كما نعلم - غيبان: غيب مطلق وهو ما غيبه الله - تعالى - عن سائر خلقه، واختص هو وحده بعلمه، ومثاله علم الساعة، وغيب نسبي، وهو ما غاب عن بعض الخلق، وعلمه غيرهم، وأبسط أمثلته المرأة تحمل ولا تدري بحملها حتى يعلمها به الطبيب بالكشف الإشعاعي. والسؤال هنا هو: هل يدخل الإخبار بالغيب في جملة المُتحدَّى به من القرآن الكريم؟ إنّه يكفي لإثبات الإعجاز الغيبي في القرآن أن نجد فيه إخبارًا بغيوبٍ يسـتحيل - بإطلاقٍ - على البشر الإخبار بها، أو يستحيل على مَن كان مثلَ النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يُخبر بها من عند نفسه. والمُعجزة قد تكون برهانًا في نفسـها بغضِّ النَّظر عن ظرفها وملابساتها، كما كان إحياء الموتى وخَلْق الطير بإذن الله برهانًا على كَوْن المسيح - عليه السلام - رسولًا من عند الله - عز وجل - إذ لا يقدر على ذلك في الحقيقة إلا الله عز وجل. ووجه البرهان فيها أنَّها لما كانت خارجة عن قدرة المخلوقين كانت دليلًا على أنَّها من عند الخالقِ - عز وجل -، فإذا اقترن ذلك بإخبار الرسول بأنَّها من عند الله وأنَّه مرسلٌ لإبلاغ رسالة الله - عز وجل - قامت عليهم الحُجَّة، فيحيا من حييَ عن بينة ويهلك من هلك عن بيّنة. وقد تكون المعجزة برهانًا على صدق مَن جاء بها لحالٍ معيّنة مُلابِسـة لظرف المجيء بها، كحملِ مريم بالمسـيح؛ فحملُ المرأة البالغة أمرٌ ممكن إذا جامعهـا بالِغٌ، ولكن من غير المعتاد أن تحمل دون ذلك، فتلك آيتُها ومُعجزتُها. وقد يتكلم الرضيعُ مُبكِّرًا عن أنداده، ولكن أن يتكلَّم في أسـبوع وضعه فهذا خارجٌ عن المعهود، ثم أنْ يتكلَّمَ بحديثٍ كحديث عيسى - عليه السـلام - في مهـده، فهذا أمرٌ مُعجِـزٌ خارقٌ لا محالة، فهذا وجه كونه برهانًا على صدق نبوّته، وعلى براءة والدته. وأن يتكلَّمَ القارئُ المعلَّمُ الذي وقف عمره لطلب العلم ببعض ما استفاده من علوم السابقين والباقين فيُخبر بما لا يعلمه إلا الصفوة المعلِّمون؛ فذلك أمرٌ مطروقٌ مقدورٌ. وأمَّا أن يفعل ذلك مَن استفاض العلمُ بأنَّه لا يحمل علم الأولين؛ فلم يجلس يومًا ليطلب هذه العلوم على أربابها، ولم يسمعها من نقَلتِها، ولم يتكهَّن؛ فهذا مُعجِزٌ خارجٌ عن قدرات الإنس والجنّ، فإذا كانت الأخبار التي يُحدِّث بها مما اندرس علمه إلا على صفـوة الصفوة، أو مما طوته الأزمـان الغابـرة، وتراكم عليه غبار النسـيان، فيأتي بها على ما كانَ؛ فهذا أقومُ بالإعجاز، لا يتوقّف عاقلٌ في القول بأنَّه مُعجزٌ لا محالةَ. وإذا كانت تلك الأخبار مما لا سبيل إلى معرفته أصلًا بما لدى البشر ومَن في مقدورهم الاستعانة بهم كالجنِّ، من علومٍ وفنونٍ ومعارف وقدرات؛ كالأخبار عن الغيب، والأخبار عن الحوادث الماضية التي حُرّفت أو تنوسيت تمامًا، وكالكوائن المستقبلة، ثم تتقدّم علوم البشر وتتنوّع مآخذها ومناهجها فلا يوجد في القرآن مصادمٌ لحقائقها؛ بل يجدون به أخبارًا يُتحقَّق صدقُ وقوعها كلها بعدُ بما يستجدُّ لديهم من معارف وعلومٍ، وبما ينكشف عنه مَرُّ الزمن؛ فهذا هو المنتهى في الإعجاز، لا سيما والمخبَر به من هذه الأنواع كثيرٌ جدًّا، وليس خبرًا واحدًا ولا اثنين ولا نحو ذلك مما يمكن أن يقال فيه: حدسٌ مصيبٌ، أو نبوءة مُوفَّقة، أو صُدفة مُواتية. فإذا نزَّل المُنصِفُ هذه الحقيقةَ على القرآن الكريم حَكَم لا محالة بأنَّه كتاب مُعجِزٌ من هذا الوجه: الإخبارَ بالمغيَّبات، ما كان منها ضاربًا في القِدَم، وما كان منها مستقبلًا، وما كان منها كامنًا في السـرائر فيجلّيه ويفضحه، وغير ذلك من صنوف الغيوب، فهو وجهٌ من وجوهِ الإعجاز القرآني لأسبابٍ؛ منها: أ) أنَّ الجائي به لم يعهد عليه تعلم علوم أهل الكتاب وأخبارهم، ولا كان يحسن لسانًا غير العربي، كما أنه لم يغب عنهم ولا جهل حالَه أحدٌ منهم. ب) أنَّ بعض الأخبار الماضية التي يذكرها تندُّ عن علوم الصفوة، فلا تتوقَّف عند حدِّ علومهم، بل تتجاوزها وتُصوِّبها، ثم لا يملك المنصفون منهم إلا أن يُقرّوا بصوابه وبخطئهم، وبعُلوّه عليهم وهيمنته. ج) أنَّ بعض هذه الأخبار الماضية مما كان علمه وقت نزول القرآن منطويًا عن البشرية جمعاء، ولم يكن مُدوَّنًا في صحفٍ يمكن الوصول إليها وقتئذٍ، ولم يكن مما يتناقله الرواة؛ بل ربما كانت مروياتهم وحسبانهم بعكس ما أثبته، فلما تطاول العُمُر بالبشرية تحقَّق لديهم بعلومهم المبتكرة صِدقُ ما أخبر به، فأقروا بأنَّهم مسـبوقون. د) أنَّ الأخبار المستقبلة الكثيرة التي أخبر بها لم تزل تقع واحدةً تلو الأخرى على الوجه الذي نبَّأ به، لا يزيدها تقدُّم العلوم إلا تأكُّدًا، وتسليمًا بصحّتها، ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغير في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خُلف، وذلك لا يكون إلا من عند الله تعالى العالم بالغيوب؛ إذ ليس في وُسـع أحدٍ من الخلق الإخبـار بالأمـور المسـتقبلة، ثم يتفق مخبر إخباره على ما أخبر به من غير خُلف لشيء منه. هـ) أنَّ كلَّ ذلك متساوقٌ أوله مع آخره في ائتلافٍ تامٍّ، لا يتّفق وقوعه - فيما قضت به العادة - في كتابٍ بشريٍّ به هذا العدد الهائل من المعلومات، فهذا داخلٌ فيما يصحّ أن يُطلق عليه إعجاز الائتلاف المشار إليه في قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا 82) النساء. ومن هذا الائتلاف أنَّ الحقائق المذكورة فيه منسـجمة مع السـنن وقـوانين الطبيعية لعالم الشـهادة؛ وهذا لا يكون إلا إذا كان مُنزِلُ الكتاب المسطور هو خالقَ الكون المنظور وفاطِرَه. فالإعجاز الغيبي - إذاً - وجهٌ أصيلٌ من وجوه إعجاز القرآن، سواء قلنا بأنَّه داخلٌ فيما هو متحدًّى به أم لا، وعلى ذلك تعاقبت كلمة جمهور المتكلّمين من علماء الأمة في إعجاز القرآن. إنَّ القرآن الكريم بما ينطوي عليه من الإخبار بالمغيّبات التي لا يستطيع أن يأتي بمثلها مخلوقٌ؛ آيةُ صدقٍ وشاهِدُ عدلٍ على أنَّ الجائي به رسولُ الله إلى الإنس والجنّ. وإنَّ ذلك لمن أوجه إعجاز القرآن الكريم؛ لعجز المخلوقين - إنسهم وجنّهم - أن يأتوا بحديثٍ مثله يُخبر فيتحقق صدقه، ويطّرد وقوع خبره، وعلاوة على ذلك؛ فإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر، إذ لا قِبل لهم بتلك العلوم، كما قال الله تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) هود 49، وإعجازه لعامّة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجلٍ نشَـأ في قوم يجهلون علوم خبر السماء، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة؛ إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميًّا، ولا قِبَل لهم بأن يدَّعوا أنهم علَّموه؛ لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدًا عنهم، ولأنه جاء بنَسْخِ دين اليهودية والنصرانية، والإِنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم، فلو كان قد تعلَّم منهم لأعلنوا ذلك وسجَّلوا عليه أنه عَقَّهم حقَّ التعليم. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 91 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. رابعاً: الإعجاز الغيبي: وللإنباء عن الغيب في القرآن الكريم ثلاث حالات: 1) الإخبار عن الأحداث الماضية: كقصة بدء الخلق، وقصص الأنبياء، وذكر الأمم البائدة، منها ما ذكر فيما بين أيدينا من كتب أهل الكتاب، ومنها ما لم يأتِ له ذكر، كقوم عاد وثمود، وقصّة أهل الكهف، وذي القَرنَين وفتوحاته، ورفع إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - لقواعد الكعبة، وكلام ابن مريم - عليه السلام - في المهد. وهم لم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها؛ بل أذعنوا لذلك، فمِن موفَّقٍ آمن بما سبق له من خيرٍ ومن شقيٍّ مُعاند حاسد، ومع هذا لم يُحكَ عن واحد من اليهود والنصارى على شـدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم وكثرة سـؤالهم له - عليه الصلاة والسلام - وتعنيتهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسـرار علومهم ومستودعات سيرهم وإعلامه لهم بمكتوم شـرائعهم ومضمَّنات كتبهم؛ مثل سؤالهم عن الروح وحكم الرجم وما حَرَّم إسرائيل على نفسه وما حُرِّم عليهم من الأنعام ومن طيباتٍ كانت أُحِلَّت لهم فحرِّمت عليهم ببغيهم، وذي القرنين، وأصحاب الكهف، وغير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن فأجابهم وعرّفهم بما أُوحي إليهم من ذلك،فما أنكروا ذلك ولا كذّبوه، بل أكثرهم صرَّح بصحةِ نبوته وصدقِ مقالته واعترف بعناده وحسَده إيَّاه؛ كأهل نَجْرانَ وابن صُوريا وابنَيْ أخطب وغيرهم. ومَن باهَتَ في ذلك وادَّعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفةً دُعِي إلى إقامة حجته وكشف دعوته فقيل له: (قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ 93 فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ 94) آل عمران، فقرَّع ووبَّخ ودعا إلى إحضارِ ممكِنٍ غير ممتنِعٍ، فمِن معترفٍ بما جحده، ومتواقحٍ يُلقِي على فضيحته من كتابه يدَه، ولم يؤثَر أن واحدًا منهم أظهر خلافَ قوله من كتبه ولا أبدى صحيحًا ولا سقيمًا من صُحفه. قال الله تعالى: (يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ) المائدة 15. وتخطّى القرآنُ في إعجازه الإخبار المحض الذي أذعن له أهلُ الكتاب إلى بيان حكمه الحقّ على التوراة والإنجيل، وذكر التحريف الذي وقع فيهما، وتحدّى أهل الكتاب أن يكذّبوه إن استطاعوا، فقال في سـورة مريم: (ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ 34)، ثمّ تحدّى الجاحدين ـ على لسـان نبيّه ـ بالمُباهلة، فنكصوا ولم يُباهلوا، وصالحوا النبي على أن يدفعوا له الجِزية. هذا الحكم الذي صدر من عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، على لسان عبده ورسوله النبيّ الذي لم يقرأ في حياته سفراً من أسفارهم، ولم يحط بشيء من أخبار التاريخ خبراً. والقرآن ذكر أنّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد أوتوا نصيباً منه، ونسوا نصيباً وحظّاً منه، فلم يحفظوه كلّه، ولم يضيّعوه كلّه، وأنّهم حرّفوا ما أوتوه عن مواضعه تحريفاً لفظيّاً ومعنويّاً كما يفيده الإطلاق، وأنّهم غلوا في دينهم فزادوا فيه ما لم يأذن به الله، واتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، يحلّون لهم ويحرّمون عليهم ما لم يشرّعه الله، وأنّهم قصّروا في إقامته من جهة أخرى، فعملوا بما يوافق أهواءهم منه وتركوا ما يخالفها، كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وأنّ اليهود قالوا على مريم بهتاناً مبيناً، والنصارى غلوا فيها غلوّاً عظيماً، فقالوا: إنّ الله هو المسيح ابن مريم وقالوا: ثالث ثلاثة. فمن أين جاءت هذه الحقائق لمحمّد بن عبد الله بعد ثلاث وأربعين سنة عاش معظمها في عزلة عن العالم وعلومه، رعى في أوائلها الغنم في جبال مكّة وشعابها، واتجر في أثنائها سـنين قليلة، قلّما كان يعاشر فيها أحداً. وقد كان بعض أهل الكتاب والملاحدة من غيرهم يرون أنّ أكبر الشبهات على ما في القرآن من قصص الرسل وأقوامهم، حسبانها مقتبسةً من هذه الكتب المقدّسة عند القوم ومما كانوا عليه من التقاليد والمذاهب، باحتمال أنّه - صلى الله عليه وسلم - سمعها من بعضهم في أثناء سفره بالتجارة إلى الشام. وكانوا يعدّون ما خالف تلك الكتب من آيات القرآن خطأً سببه عدم جودة الحفظ أو خطأ ممّن سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك منهم، أو تعمّداً منهم لغشّه، كما غشّ بعض اليهود - الذين ادّعوا الإسلام خداعاً - بعض الصحابة والتابعين بأخبار كثيرة أدخلوها في تفسير القرآن وكتب الوعظ والرقائق. وكان من الأدلّة على دحض هذه الشبهة: إنّه لا يعقل أن يكون محمّد - صلى الله عليه وسلم - تلقّى كلّ هذه القصص عن بعض أهل الكتاب في رحلته إلى الشام مع عمّه أبي طالب وهو صبي، ولا في رحلته مع ميسرة مولى خديجة - رضي الله عنها - وهو شابّ، خصوصاً أنّه لم ينفرد دون ميسرة وسائر تجّار قريش لدراسة ولا غيرها، بل لم يلبثوا إلاّ أيّاماً في بصرى باعوا واشتروا وعادوا، ولا يعقل أن يكون سمع فيها أخبار جميع الرسل سـرّاً أو جهـراً، وحفظها من هذه الكتب حفظاً، ثمّ لخّصها بعد عشرين سـنة تقريباً في هذه السور - ولم يجد أهل مكّة عليه شـبهةً في هذا الباب إلاّ وقوفه أحياناً على قين روميّ كان بمكّة، فقالوا: إنّه هو الذي يعلّمه، وهو لم يكن يحسن العربيّة وفيه نزل: (وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ 103) النحل. ومن قرأ العهد القديم ثمّ قرأ ما في القرآن من أخبار الرسل يرى أنّ القرآن بيّن صفوة ما في الكتابين من صحّة عقيدة، ومن أدب وفضيلة، ومن عبرة وموعظة، ومن أسوة بالأخيار حسنة، وسكت عن كلّ ما فيهما ممّا ينافي ذلك ويخلّ به، أو يجعل أفضل البشر قدوة سيّئة، وصرّح بنقض ما طرأ على أهل الكتاب من نزغات الشرك والوثنيّة. فإن فرضنا - تنزّلاً - أنّ هذا من صنع محمّد بن عبد الله، أفلا يكون برهاناً على أنّه هو في شخصه أرقى من جميع الأنبياء والمرسلين علماً وعقلاً وهداية وإرشاداً؟. وكيف يعقل حينئذٍ أن يكونوا أنبياء مرسلين، وموحىً إليهم من الله، أو ملهمين؟ الحقّ أن نفي نبوّته - صلى الله عليه وسلم - يقتضي نفي النبوّة وإبطال الرسالة من أصلها؛ لأنّها هي التي تعقل لذاتها، وإنّما يظهر ثبوت غيرها بالتبع لثبوتها. وإنّنا رأينا بعض الكافرين بالوحي، من الباحثين المستقلّي الفكر، يفضّلون محمّداً - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلق، لما رأوه من سجاياه - في ذاته - وآثاره على البشرية. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 92 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. رابعاً: الإعجاز الغيبي: وللإنباء عن الغيب في القرآن الكريم ثلاث حالات: 2) الإخبار عن الحاضر: ويراد به إخبار القرآن عن عوالم الغيب الموجودة وقت نزوله، وهي على قسمين: أ) الأول: كلام القرآن عن عوالم الغيب الموجودة والتي لم يرها الناس بأبصارهم ولم يتعاطوا معها بحواسهم، مثل الحديث عن أسماء الله وصفاته وأفعاله، وعن الملائكة والجن، وعن مشاهد الاحتضار والموت، وعن البعث والنشور والحساب، وعن الجنة والنار وغيرها. ب) والثاني: كشف القرآن لأسـرار ومكائد المنافقين الذين كانوا يكيدون في الخفاء للإسلام وأهله، وينسجون المؤامرات للقضاء عليه، فكانت الآيات القرآنية تكشف مكائدهم وتُظهر ما يبطنون من النفاق والمكر، ومن ذلك قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ) المنافقون 7، وقوله: (وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا 12) الأحزاب، وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى) التوبة 107. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 93 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. رابعاً: الإعجاز الغيبي: وللإنباء عن الغيب في القرآن الكريم ثلاث حالات: 2) الإخبار عن المستقبل: لم يكتفِ القرآن الكريم بإخبار نبيه - عليه الصلاة والسلام - بقصص الماضي، وغيب الحاضر، بل أخبر عن كثير من الوقائع قبل وقوعها، وتمت كما ذكر، وبالكيفية التي وضحها. ومن المعلوم أن علم الحوادث والوقائع في مستقبل الأيام لا يعلمه إلّا الله، وقد أعلن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه لا يزيد علمه للغيب عما علمه الله، فعلمه - عليه الصلاة والسلام - لبعض الغيب ليس علمًا ذاتيًا، والله تعالى يقول له: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) الأعراف 188. ومع استحضار هذه الحقيقة في البال، وردت في القرآن الكريم آيات صريحة تتحدث عن أخبار مستقبلية، على ضربين: مدى قريب، ومدى بعيد. وكان الغرض من إنباء الله لغيب المستقبل القريب إثبات أن القرآن قطعي الصدور من عند الله تعالى، ولتطمئن به قلوب المؤمنين وتهتدي به نفوس المشركين لكي يعلموا أنه الحق من عند الله تعالى. ومن أمثلة ذلك الإنباء بأنّ أبا لهب سيموت كافرًا فيُعذَّب في النار، والإنباء بنصر المؤمنين يوم بدر، والإنباء بفتح مكة، وقت كان المسلمون يشتعلون غيظاً لظنهم أنهم أعطوا الدنية في دينهم لمصالحة الكفار يوم الحديبية، وتحدي يهود بتمني الموت، وبأنهم لن يفعلوا: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) البقرة 95، وتطمين النبي - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى: (إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ 95) الحجر، وكان المستهزئون نفرًا بمكة يُنفّرون الناس عنه ويؤذونه فهَلكوا، وقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) المائدة 67، على كثرة مَن رامَ ضرَّه وقصَد قَتْله. أما الغرض من ذكر الغيب المستقبلي البعيد أن يعرف كلّ عصر من العصور التي ستأتي أنّ هذا هو كتاب الله الحقّ. ومن أمثلته: - (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) التوبة 33، والفتح 28، والصف 9، إن لمنهج الإسلام المتكامل الشامل لشؤون الدنيا والآخرة، ولسلامته من الخرافات والأوهام، ظهر على الدين كلّه في العالم باتّباع أهل الملل إيّاه في سائر الأقطار، بالرغم على كراهية أقوامهم وعظماء مللهم ذلك، ومقاومتهم إياه بكلّ حيلة، ومع ذلك فقد ظهر وعلا وبان فضله على الأديان التي جاورها التي تعلّقوا بها، وما صلحت بعضُ أمورهم إلاّ فيما حاكَوه من أحوال المسلمين وأسباب نهوضهم، ولا يلزم من إظهاره على الأديان أن تنقرض تلك الأديان. - (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ) النور 55، قد كان المسلمون واثقين بالأمن، ولكن الله قدم على وَعْدهم بالأمن أن وَعَدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيهاً لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها. ففي الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمناً إيماء إلى التهيُّؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك، وأنّ ملاك ذلك هو الإيمان والعمل الصالح. - (إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ 9) الحجر، فكان كذلك لا يكاد يُعدُّ مَن سعى في تغييره وتبديل محكمه من الملحدة والمعطِّلة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوّتهم عبر العصور، فما قدروا على إطفاء شيء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 94 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ دلائل الإعجـاز القرآني: ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. خامساً: الإعجاز العلمي: يعتقد أنصار الإعجاز العلمي في القرآن الكريم أنَّ القرآن يشير إلى معلومات علميّة كثيرة تم اكتشافها في العصور الحديثة، وذلك في عدد من الآيات. وتم نشر العديد من الكتب والمواد التي توضح توافق القرآن مع مقتضيات العلم الحديث أو وجود إلماحات أو تصريحات ضمنه تؤكد حقائق علمية عرفت لاحقاً. ومن أبرز ما قيل لتأكيد هذا التوجه، قوله تعالى: (لِّكُلِّ نَبَإٖ مُّسۡتَقَرّٞۚ وَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ 67) الأنعام، مما يشير إلى أن ما ورد في القرآن من معلومات علميّة سوف تتبين للناس وتكتشف مع مرور الزمن. غير أن هناك عدداً من علماء المسلمين يُعارضون فكرة وجود إعجاز علميّ في القرآن، باعتبار أن القرآن الكريم كتاب وعظي عقدي وتشريعي، بينما طبيعة العلم التجريبي في تغير، ونظرياته تخضع للتبدل والدحض، وما هو اليوم صحيحاً، قد يأتي جديدٌ غداً ينقضه. ومعارضة فكرة وجود إعجاز علميّ في القرآن كانت منذ قرون، فممن عارضها أبو الريحان البيروني، الذي رأى أن القرآن الكريم يصنف وحده، فلا يتدخل في العلم ولا يخالطه. واعتبروا الربط بين القرآن والعلم من العلوم الزائفة، وهو يخالف المنهجية العلمية. ومن أكثر الانتقادات لتفسير بعض آيات القرآن بالعلم ما قيل حول انشقاق القمر، لأن طائفة من العلماء والباحثين الغربيين رأوا أن فكرة الانشقاق غير موضوعية، وغير علمية، ولم تثبت، كما ينكر علماء الفضاء وجود دليل علمي على حدوث انشقاق في القمر. كذلك؛ فإن ما فسر من القرآن في قضايا خلق الكون وأصول الحياة البشرية، يفتقر إلى الوضوح، ويخالف المنهجية العلمية. ويلاحظ أن غالبية مواضيع الإعجاز العلمي هي محاولات للربط بين المكتشفات الحديثة وبين ما قد يتشابه مع آيات قرآنية لدرجة إعادة تفسير آيات بشكل مختلف جذرياً عمّا كانت عليه في تفسير الكتب السابقة. ويتفق البعض الآخر من علماء الدين بأن السبب وراء بروز هذا المجال من التفسير يرجع إلى اكتشاف المسلمين للهوة الساحقة بيننا وبين الغرب في مجال العلوم خصوصاً، فتمت العودة إلى القرآن كوسيلة لاستعادة الثقة بالذات والتعويض عن التأخر العلمي لدى الدول الإسلامية. وإن من الأمثلة التي يعجز باحثوا الإعجاز العلمي عن الرد عنها ويحرمون البت فيها أحياناً: قصة بدأ خلق الكون، والستة أيام. وقد اتفقت الكتب السماوية على تحديد عدد أيام الخلق بستة. وتقدير المدة بستة أيام، حددها أكثر المفسرين بأيام الأسبوع، وخالفهم بعضهم بتقدير اليوم بألف سنة مما يعدون. وحتى لو قدر اليوم بخمسين ألف سنة مما نعد، يبقى البون شاسعاً بين هذا التقديرات، وما يقول به العلم الحديث، بحساب مليارات السنين لنشوء عالم الشهادة وتطوره حتى صار إلى ما نحن عليه اليوم. وتبقى مقاربة: الانفجار العظيم، والثقوب السوداء، وسرعة الضوء، ونشوء المجرات، وموت النجوم، وغير ذلك من نظريات علمية، بآيات قرآنية مقاربةً محفوفة بالمخاطر، مما يشكك في القرآن الكريم، خاصة وأن كثيراً من تلك النظريات العلمية قابلة للتطور. إن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم هو موضوع يتناول ما ورد في القرآن من موضوعات علمية تتعلق بالحقائق الكونية الثابتة التي لم تكن مدركة للبشر في زمن نزول القرآن ثم أثبتها العلم لاحقاً. وإن ما ثبت من العلم واسـتقر لا يناقض القرآن بحال، ومصداقه قوله تعالى: (سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ) فصلت 53، ولنضرب أمثلة على هذا التوافق: - جريان الشمس، - أطوار القمر، - الكون ليس سرمدياً وغير أزلي، - التوسع المستمر للسماء، - مرور الكون بمرحلة الدخان، - انهيار الكون، - النجم الطارق، - الماء أساس الحياة والأحياء، - علم الأجنة لا ينكر وصف الأجنة في القرآن، - الفرث والدم في علم تشريح الأنسجة، - انخفاض نسبة الأكسجين عند الصعود إلى الأعلى، - الظلمات المتعددة في أعماق البحار السحيقة والأمواج التي تغشاها، - الموج البحري ومن فوقه موج آخر، - طبيعة الجبال كالأوتاد في علم الجيولوجيا، - الرياح والتلقيح والمطر، - البرد من فوق كالجبال في السحب الركامية، - التراكب في الحب والثمار في النباتات والصبغة الخضراء ... إن القرآن الكريم - بلا ريب - يحث على العلم منذ أول كلمة أنزلت: (اقْرَأْ)، وهو يأمر الإنسان بالتدبر والتفكر في النفس وفي الآفاق. لكنه مع ذلك كتاب هداية وتعريف لهوية الإنسان، لماذا خُلق وما هو دوره الإنسان في الحياة، وما سيكون حاله ومآله بعد الموت، لا كتاب فلك أو طب أو جيولوجيا أو غيرها من العلوم. لكن هذا لا يمنع أن يحوي إشارات لحقائق علمية يظهر فيها أنه من عند الحكيم الخبير الخالق المدبر. وإن أنواع الإعجاز التي يتضمنها القرآن الكريم وما تحمله من فصاحة لغوية وحكم تشريعية وحقائق علمية وأخبار غيبية كلها إشارات ودلالات تؤكد لمن هو بحاجة لتأكيد أن القرآن الكريم حق وأنه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبالإضافة إلى ذلك تتمثل حكمة الإعجاز القرآني في تثبيت وطمأنة قلوب المؤمنين بهذا الدين، وفي مساعدتهم على محاججة غيرهم وإقناعهم بصحة الإسلام وصِدق رسالته خاصة أولئك الذين يحتاجون إلى دلائل مادية وبراهين علمية. ومن حكمة الإعجاز أيضا أنه يفتح الباب أمام المسلمين للبحث والاستكشاف في مختلف الظواهر والعلوم ويمدهم بالإشارات اللازمة للانطلاق في هذا المجال. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 95 | |||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ (وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ): معطوف على: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ) أي: ائتوا بها وادعوا شهداءكم. (وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم): جملةُ أمرٍ معطوفةٌ على الأمر قبلها - كما بينّا -، فهي في محلِّ جَزْم أيضاً. والواوُ في الفعل: ضميرُ الفاعِلِين و (شُهَدَآءَكُم): مفعولٌ به. والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم: دَعَوْتُكَ لِلْجَفْنِ القَرِيحِ المُسَهَّدِ ..... لَدَيَّ ولِلنَّوْمِ الطَّرِيدِ المُشَرَّدِ و (مِّن دُونِ ٱللَّهِ): - متعلقٌ بـ "ادْعُوا"، أي: ادْعُوا مِنْ دونِ الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعُوا من غير الله مَنْ يشهَدْ لكم، - ويُحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ (شُهَدَآءَكُم)، والمعنى: ادعُوا مَن اتخذتموه آلهةً مِنْ دونِ الله وَزَعَمْتُم أنهم يَشْهدون لكم بصحةِ عبادتِكم إياهم، أو أعوانكم مِنْ دون أولياء الله، أي الذين تستعينون بهم دونَ الله. - أو يكونُ معنى (مِّن دُونِ ٱللَّهِ): بين يدي الله كقوله: تُريك القَذَى مِنْ دونِها وهي دونَه ..... لوجهِ أخيها في الإِناءِ قُطُوبُ - أو أن يكون (مِّن دُونِ ٱللَّهِ) بمعنى: من دون حزب الله وهم المؤمنون، أي: أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهوداً فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءَة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديماً كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطاً أو جوراً. وقد قال السموأل: إنّا إذا مالَتْ دَواعِي الهَوى ..... وأنْصَتَ السّــامِعُ لِلْقائِـلِ لا نَجْعَـلُ الباطِـــلَ حَقًّـا ولا ..... نَلَظُّ دُونَ الحَـقِّ بِالباطِـلِ نَخـافُ أنْ تُسَــفَّهَ أحْلامُنــا ..... فَنَخْمُلُ الدَّهْرَ مَعَ الخامِلِ ما المراد من الشهداء؟: وجهان: 1) الأوثان: فكأنه قيل لهم: ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم. فيكون في الكلام محاجة من وجهين: أحدهما: في إبطال كونها آلهة. والثاني: في إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن وأنه من قِبَلِهِ. 2) أكابـرهم، أو من يوافقهم في إنكـار أمـر محمـد - عليه الصلاة والسـلام -، والمعنى: وادعوا أكابركم، ورؤساءكم ليعينوكم على المُعَارضة، أو ليشاهدوا ما تأتون به. وهذا من المساهلة والإشعار بأن شهداءهم وهم فرسان الفصاحة تأبى عليهم الطبائع السليمة أن يرضوا لأنفسهم بالشهادة الكاذبة. فإن قيل: هل يمكن حمل اللفظ عليهما معاً وبتقدير التعذر فأيهما أولى؟ قلنا: أما الأول فممكن إذا حملنا الأمر على المجاز؛ لأن الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، فيصير جعله مجازاً عن المعين والناصر، وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصاراً لهم وأعواناً. وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه. وأما الثاني فنقول: الأولى حمله على الأكابر، وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهراً إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة، وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم، وهذا أولى من المجاز؛ لأن الإضمار خلاف الأصل. والعرب عرفوا تولية شهداء الحكم على الفصاحة عند التباري أو التنازع بين شاعرين أو أكثر، أو ناثرين أو أكثر، فيحكم الشهداء للأعلى درجة في الفصاحة. حول مدلول: (دُونِ): "دُون" مْنِ ظروف الأمكنة، ولا تَتَصَرَّف على المشهورِ إلا بالجرِّ بـ "مِنْ". وهو من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنىً. وأمّا "دون" التي بمعنى رديء، كأن تقول: هذا ثوب دُون، ومنه الشيء الدون، وهو الحقير الدني،ويقال: هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلاً. ومثله: زيد دون عمرو في الشرف والعلم. و "دون" نقيض "فوق". وقد يقال في الأخذ بالشَّيء: دونكه، وأصله: خذه من دونك أي من أدنى مكان منك فاختصر ثم استعير هذا اللفظ للتفاوت في الأحوال، ثم توسع استخدامه، فاستعمل في كل ما يجاوز حداً إلى حد، قال الله تعالى: لاَ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ) آل عمران 28، أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. (إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ): اعتراض في آخر الكلام وتذييل. وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة. أتى بـ "إن" الشرطية التي الأصل في شـرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقـوع، وإن كنتم صادقين في أن القـرآن كلام بشـر، وإنكم أتيتـم بمثله. والمعنى: إن كنتـم صادقيـن في دعـوى أن القـرآن كـلام بشـر، فحذف متعلق (صَٰدِقِينَ) لدلالة ما تقدم عليه، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة: (وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ) إذ التقدير: فتأتون بسورة من مثله. ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها: (فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ) وتكون الجملة المقدرة دليلاً على جواب الشرط فتصير جملة: (إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ)تكريراً للتحدي. وقد صَرَّح بهذا المعنى في آية أخرى حيث قال تعالى حاكياً عنهم: (لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا) الأنفال 31. والصدقُ ضدُّ الكذبِ، والصديقُ مشتقٌّ منه لصِدْقِه في الودِّ والنصحِ، والصِّدْقُ من الرماح: الصُّلبة. والصدق والكذب وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما، فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقاً ومماثلاً للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازاً عن الوجود الذهني، والكذب أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج. والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 96 | |||||
|
![]() (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ حول مضمون الآية: إن الآيات من أول السورة متصل بعضها ببعض كحبّات من الجوهر نظمت في سلك واحد؛ فهو تفصيل لأحوال الناس في الإيمان بالقرآن وعدمه. وهذه الآية لا تخرج عن هذا السياق. إنّه بعدما ذكر المتّقين الذين يهتدون بالكتاب وعلاماتهم، وبيّن خصائصهم وصفاتهم، وذكر الجاحدين المعاندين، وما هم عليه من العمى عن جليّة الحقّ المبين، وما رزئوا به من الصمم المعنويّ حتّى لا يسمعون الحجج والبراهين، وما أصيبوا به من البكم بالنسبة لقول الحقّ أو سؤال المرشدين، ثمّ ذكر المذبذبين بين ذلك فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وذكر فرقهم وأصنافهم، وبيّن خلائقهم وأوصافهم، وضرب لهم الأمثال، وأمطرهم بسـهام الحجج النافذة، وسـيوف البراهين القاطعة - بعد هذا كلّه - تحدّاهم بالقرآن الذي يدعو إليه ويناضل عنه ويكافح دونه؛ فقال: (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ)، أي: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ) انزعوا عنكم قيود التقليد والعادات، وتحرروا من الشكوك والوساوس والهواجس، واهرعوا إلى الحق المبين، واطلبوا برهانه إن شئتم، فإنّ خفي عليكم الحقّ بذاته، فهذه آية من أظهر آياته، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن من رجل أممي، لم يعهد هو ولا قومه خبر السماء، ولا اطلع على الكتب المنزلة، ولا خالط الأحبار والقساوسة، ولا كان مميزاً بينكم بشعر أو نثر، وأنتم ما أنتم في الفصاحة والبلاغة، بحيث لا تجاريكم أمة، ولا يقدر على منازلتكم أهل لسان غير عربي، ومنكم مبرزون في ضروب البيان بشـقيه، وعصركم هو عصر الذروة في فنون الصياغة القولية من شعر وأمثال وحكم وخطابة. ومحمد - عليه الصلاة والسلام - إنما بزغ صيته بين ليلة وضحاها، فجاء لكم بما يعجزكم، وما لا قبل لكم على مجاراته، رغم أنه عاش بينكم، ولم يكن ممّن يسابقكم من قبل في مباريات قرض الشعر أو إلقاء النثر؛ لأنّه لم يؤتَ هذا الاستعداد بنفسه، ولم يتمرّن عليه أو يتكلّفه لمباراة أهله. وهو لم يغادركم ليتعلم من غيركم. اعلموا - إذاً - أنّ ما جاء به بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلاّ بوحي إلهيّ، وإمداد سماويّ، لم يسمُ عقله إلى علمه، ولا بيانه إلى أسلوبه ونظمه. وأنتم تعلمون تفاهة اتهامكم له لما سقط في أيديكم؛ فقلتم عنه: شاعر، وساحر، وكاهن، ومُعَلَّم، ومجنون، ومفتري؛ فجحدتم بنبوة النبي مع استيقان أنفسكم لها، وأنكرتم إرجاعها لوحي السماء الذي أمده بها رب العالمين. إن هـذا الحق رأيتمـوه بأم أعينكـم، بينمـا محمـد - عليه الصلاة والسـلام - يعيـش بينكـم، يساكنكم ويعاملكم صباح مساء، حتى بُعِثَ بكتاب عربي مبين يفوق ما عهدتم من شعر ونثر، وقد جاء مع بلوغ أعلى درجات الفصاحة، لا هو شعر، ولا نثر، بل بيان قرآني مخصوص، يخالف نصوصكم، كما يخالف في أسـلوبه وصياغته، سـجع الكهان وكتب الأمم السابقة، فأسـقط بذلك حججكم، في أنه: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ) النحل 103، وأنه شـاعر: (وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ) يس 69، ورغم أن ادعاء قول الشـعر كان مكرمة عند العـرب، إلا أنه يعد مسـبة في حـق النبي، لاختلاف طبيعـة النبـوة عن الشـعر؛ فللشـعر منهج غير منهج النبوة؛ إذ أن الشعر انفعال، وقوله تعبير عن ذلك الانفعال. والانفعال يتقلب من حال إلى حال، ليساير الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال. وهو - في أعلى صوره - أشـواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته. أما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد، وفورة لحم ودم! وأما النبوة، فهي وحي، على منهج راسخ، صراط مستقيم، يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله، ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة. والنبوة اتصال دائم بالله، وتلقٍ مباشر عن وحي الله، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله. وقوله تعالى: (مِّن مِّثْلِهِ) يحتاج إلى مراجعة؛ فهل المقصود به المُنَزّل، أم المنزل إليه؟ أكثر المفسرين رجحوا الأول، لكن لكل من الرأيين دلائله: - وإن من قال إن المقصود هو الكتاب استندوا - ضمن أدلتهم - إلى آيات، نحو قوله تعالى: (قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ) يونس 38، وقوله: (قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ) هود 13، وقوله: (عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ) الإسراء 88، مع أدلة عقلية تستوي في قوتها مع أدلة القائلين بأن المُنَزّل إليه هو المعني في الآية. - وهو: إنّه لعبدنا. ومن أخذ بهذا الرأي استند إلى أن: (مِّن) الداخلة على: (مِّثْلِهِ) دّالة على النشوء، أي فإن كان أحد ممّن يماثل الرسول في صفاته وظروفه يقدر على الإتيان بسورة فليفعل. وليس صحيحاً أن الارتياب كان منصباً على القرآن وحده، فقد كانوا يريدون هدم الدين كله بأحد أمرين: الأول: بالتشكيك في الكتاب، والثاني: بالطعن في المُبَلِّغِ به، فلو نجحوا في إسقاط أحدهما، أسقطوا - بالتبعية - الدين كله. وهم شككوا في القرآن والنبي معاً، قال تعالى: (وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالُواْ مَا هَٰذَآ إِلَّا رَجُلٞ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمۡ عَمَّا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُكُمۡ وَقَالُواْ مَا هَٰذَآ إِلَّآ إِفۡكٞ مُّفۡتَرٗىۚ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ 43) سبأ. لذلك نرى أن التحدي كان بالكتاب وبالمبلغ به على السواء، وكأنه - تعالى - ينبئهم أنه أخرج من بنية الكلام الذي برعوا فيه حتى لا يجاريهم في الفصاحة أحد، آياتٍ لا قِبَلَ لهم على الإتيان بمثلها. واصطفى من بين ظهرانيهم للنبوة عبداً، لا قدرة لهم على اختيار مثيلٍ له من بينهم يكون أهلاً لمنزلة النبوة. وإن المشركين يقرون بعجزهم عن التحدي، رغم افتراءاتهم المستمرة على الكتاب والنبي. والتحدي، كما أنه بالكتاب والرسول، فإنه مفتوح للخلق جميعاً، ولكل الأجيال. وهو لا يقتصر في الكتاب على الإتيان بمثله في الفصاحة والبيان، بل يتعدى ذلك إلى كل جوانب القرآن وموضوعاته. وإن قال المشركون: (إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ إِفۡكٌ ٱفۡتَرَىٰهُ وَأَعَانَهُۥ عَلَيۡهِ قَوۡمٌ ءَاخَرُونَۖ) الفرقان 4، أو قالوا: (أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا 5) الفرقان، فقد عجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو حتى بسورة من مثله. ولما عجزوا عن نقض نصه، طعنوا في أثره، فقالوا: هو سحر، وطعنهم في الرسول بقولهم له: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ إِنَّكَ لَمَجۡنُونٞ 6) الحجر، فيه اعتراف بالذكر وإتهام لناقله، ومثله في إقرارهم بقيمة القرآن، قولهم: (أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا 5) الفرقان. وقالوا: (هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ 4) ص، فوصموه بأنه سـاحر تارة، ومسحور تارة أخرى: (وَقَالَ ٱلظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا 8) الفرقان، بل إنهم أنكروا عليه بشـريته، فقالوا: (مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ) الفرقان 7. وهذا كله يظهر إقرارهم - ضمناً - بتميز القرآن وعلوه عما يألفون من نصوص. ولما ضاقت عليهم الحيل أغلقوا عقولهم وقلوبهم فقالوا: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) فصلت 5. وإن الاحتمالات التي احتملها قوله (مِّن مِّثْلِهِ) كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم. وهذا القول يُفند جميع الدعاوى فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثله أو بمثله، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير، وإن كان يُعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه، أو فتأتوا بنظير له يقول مثل ما قال نبينا. وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها؛ فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلةِ القرآن في ألفاظه وتراكيبه، ومماثلة الرسول المنزَّل عليه في أنه لم يسبق له تعلم علوم الأولين، ولا يعلم الكتب السالفة.
|
|||||
![]() |
![]() |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | تقييم هذا الموضوع |
|
|
|
|