|
|
|
|
المنتدى الإسلامي هنا نناقش قضايا العصر في منظور الشرع ونحاول تكوين مرجع ديني للمهتمين.. |
![]() |
مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان) |
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 49 | |||
|
![]() ﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ ﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ﴾: معطوفٌ على ﴿كَمَثَلِ﴾ 17، فهو في محلِّ رفع. ﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ﴾: الكاف للتشبيه، ولا بُدَّ من الإضمار ليصِحَّ المعنى، والتقدير: أو كمثل ذَوي صَيِّب، أو: كأهل الصيب، كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ يوسف 82، أي أهل القرية، ولذلك رَجَعَ عليه ضميرُ الجمع في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم﴾ لأنَّ المعنى على تشبيهِهم بأصحاب الصيِّب لا بالصيِّب نفسِه. والصيِّبُ: ولا تقال إلا للمطر الجَوَاد، سُمِّي بذلك لنزولِهِ، يقال: صابَ يصُوبُ إذا نَزَلَ، وهي من الصوب، وهو النزول، وكل ما نزل من أعلى إلى أسفل فهو صيّب، من قولهم صاب يصوب، قال: فلسْتُ لإِنسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ ..... تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصُوبُ فلا تَعْدِلي بيني وبينَ مُغَمَّرٍ ..... سَقَتْكِ رَوايا المُزْنِ حيثُ تَصُوبُ وَأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: ﴿مِنَ﴾ لابتداء الغاية، و﴿السَّمَاءِ﴾: كلُّ ما عَلاَك من سقف ـ ومنه سقف البيت ـ سماء وهي مشتقةٌ من السُّمُوِّ، وهو الارتفاعُ. ويصح دخول تاءُ التأنيث عليها نحو: سَماوة، قال الشاعر: طيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفَا ..... سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفَا فلو رَفَعَ السماءُ إليه قوماً ..... لَحِقْنَا بالسماءِ مَعَ السحابِ لَهُ مَا رأَتْ عَيْنُ البَصِير، وفَوْقَه ..... سَماءُ الإِلَهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمائِيا ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾: أي معه، مثل: ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾ الأعراف 38. و ﴿وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ معطوفانِ على ظُلُماتٌ. وهما في الأصل مصدران، تقول: رَعَدت السماء تَرْعُدُ رَعْداً وَبَرَقَتْ بَرْقاً، والظاهرُ من سياق الآية أنه لا يراد بهما المصدرَ، بل جُعِلاَ اسماً للهزِّ واللمعَانِ، وهو مقصودٌ الآيةِ. والرعـد سـمي رعداً لأن يرعد سـامعه، ومنه رعدت الفرائص أي: حركت وهزت كما تهزه الرعدة، وقيل أرعد إذا هدد وأوعد. والبرق هو النور الوامض المصاحب للرعد. ولا تفوت الحصيف ملاحظة تنكير الثلاثة، وجمع الظلمات، وإفراد الرعد والبرق. ما المراد من هذا التشبيه؟: هو من قبيل عطف تشبيه على تشبيه بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى، وقد جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه، ليدللوا على تمكنهم من التوصيف والتوسع فيه. والصيب مستعار للقرآن والهدي والعلم الذي جاء به محمد ، لأن بالعلم والهدى حياة الأرواح كما أن بالمطر حياة الأجسام، وأشار إلى وجه ضرب هذا المثل بقوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ﴾ الأعراف 58، ويوضحه الحديث المتفق عليه: "إنَّ مثَلَ ما بعَثَني الله به عزَّ وجلَّ من الهُدى والعِلمِ، كمَثَلِ غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طَيِّبةٌ قَبِلَت الماءَ، فأنبَتَت الكَلأَ والعُشبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبُ أمسَكَت الماءَ، فنفعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا منها وسَقَوا ورَعَوا، وأصاب طائفةً منها أخرى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كَلأً؛ فذلك مثَلُ مَن فَقُهَ في دينِ اللهِ، ونفَعَه بما بعَثَني اللهُ به، فعَلِم وعلَّم، ومثَلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يقبَلْ هُدى اللهِ الذي أُرسِلتُ به"*. * عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (الحديث). رواه الشيخان: البخاري (79)، ومسلم (2282)، واللفظ له. لِمَ عطف أحد المثلين على الآخر بحرف ﴿أَو﴾؟: في ﴿أَوْ﴾ في قولُه تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ﴾ سبعة أقوال: 1) الأول: أنها للتفصيلِ بمعنى أنَّ الناظرينَ في حالِ هؤلاء منهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بحال المستوقدِ الذي هذه صفتُهُ، ومنهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بأصحاب صَيِّبٍ هذه صفتُه. 2) الثاني: أنها للإِبهام، أي: إن الله أَبْهَم على عباده تشبيهَهم بهؤلاء أو بهؤلاء. 3) الثالث: أنها للشَّكِّ، بمعنى أن الناظر يَشُكُّ في تشبيههم. 4) الرابع: أنها للإِباحة. 5) الخامس: أنها للتخيير، أي: أُبيح للناس أن يشبِّهوهم بكذا أو بكذا، وخُيِّروا في ذلك. 6) السادس: أنها بمعنى الواو، وأنشدوا: جاء الخلافةَ أو كانَتْ له قَدَراً ..... كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ..... وصورتِها أَوْ أَنْتَ في العينِ أَمْلَحُ ﴿أَو﴾ في الأصل للتساوي في الشك، ثم اتسع فيها، فأطلقت على التساوي من غير شك في عدة معان: الإبهام والتخيير والإباحة والتفصيل. وقالوا: هي هنا للتفصيل والإسهاب بحال المنافق، فكان التمثيلان من التمثيلات المركبة: فكان المثل الأول وصفاً لتخبطهم وخيبة أملهم، والثاني لدهشتهم وحيرتهم، وكان وقع الأخير اشد وأعمق، لذلك أُخر. غير أننا نرى أن كل تشبيه منهما وضع لأحد صنفي المنافقين: الكتابيين، ثم مشركي العرب على تفصيل سنأتي به في موضعه إن شاء الله. ما سبب إضافة السماء للصيب؟: معنى الصيب ـ كماتقـدم ـ يتضمـن النـزول من عـلٍ، والمطـر والســحاب من معانيـه. أما لمـاذا أضيف: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ فللتهويل، وفي ذلك إشارة إلى أن: - ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء، كقوله تعالى: ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ الحج 19. - قد جاءهم ما لا يملكون دفعه بسبب مجيئه من السماء. ما قيل في وجوه إعراب: ﴿فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ﴾؟: احْتملت أربعةَ أوجه: 1) أَنْ تكونَ صفةً لـ "صَيِّب". 2) أن تكونَ حالاً منه. 3) أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في: ﴿مِّنَ ٱلسَّمَآءِ﴾ وتتعلَّقُ في التقادير الثلاثة بمحذوفٍ. 4) أن تكونَ خبراً مقدَّماً و ﴿ظُلُمَٰتٞ﴾ مبتدأ. ما هي الظلمات التي في الصيب؟: ضرب الله تعالى مثلاً لما يعتري الكفار والمنافقين من الشبه والشكوك في القرآن بظلمات المطر. ومن أمثلة شكوكهم: - عند تحويل القبلة قال تعالى فيهم: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ ﴾ البقرة 142، وزعموا أن الرسول غير متيقن من أمره، فمرة يعين هذه القبلة ومرة يعين أخرى. - لما قرأ عن الشجرة الملعونة في القرآن: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ الصافات 64، قالوا: ظهر كذبه، لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار؟. - حين قرأ: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ المدثر 30، قال بعض رجال قريش: هذا عدد قليل ونحن قادرون على قتلهم، واحتلال الجنة بالقوة، لقلة القائمين على النار التي يزعم محمد أننا سندخلها. ما هو الرعد في المثل؟: ضرب الله بالرعد مثلاً لما في القرآن من الزواجر والنواهي التي تقرع الآذان وتزعج القلوب. والزواجر كثيرة في القرآن الكريم وهي من القوة بحيث تخوف من له قلب. وعن جبير بن مطعم: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِن غيرِ شيءٍ أمْ هُمُ الخَالِقُونَ 35 أمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ 36 أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ 37﴾ قالَ: كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ*. * صحيح البخاري (4854). |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 50 | |||
|
![]() ﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ كيف ينشأ الرعد والبرق؟: ضرب الله بالبرق مثلاً لما في القرآن من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة. وبالنور تكشف الظلمة كما يكشف القرآن ظلمات الجهل والشك والشرك. والقرآن وصف بالنور في آيات عديدة، مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ النساء 174، وقوله: ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ﴾ الأعراف 157. وإذا أردنـا معـرفة ماهية هذه الظواهر الطبيعية الثلاثة: السحب، والرعد، والبرق علينا أن نعرف أولاً: نشوء السحب: 1) تتكون السحب من: التبخر، وهي عملية تحوّل السائل إلى بخار أو غاز إذا امتصّ مقدارًا كافيًا من الحرارة، حيث تعمل الحرارة الممتصّة على جعل جزيئات السائل تتحرّك بسرعة كبيرة قد تكون كافية لتبتعد الجزيئات عن بعضها البعض منفصلة عن سطح السائل ومرتفعة إلى أعلى آخذة معها الحرارة التي اكتسبتها. 2) والتكثف، ويتكون عندما تفقد جزيئات البخار أو الغاز الحرارة التي كانت قد اكتسبتها بفعل التبخير، تقترب الجزيئات من بعضها البعض فتتحوّل من الحالة الغازيّة إلى سائل مرّة أخرى مكوناً السحب التي تتساقط منها قطرات السائل المتكاثف مرّة أخرى مكملًا دورة النظام المائيّ. 3) وقد يكون الهواء المحيط باردًا للغاية فتتجمّد قطرات السائل مكوّنة بلّورات ثلجيّة أو ما يُعرف بظاهرة (الصقيع). ولأن الهواء الساخن يرتفع إلى أعلى بينما يبقى الهواء الأقلّ حرارة بالأسفل لأنّه أعلى في الكثافة، مما يعني أنّ الجزء الأسفل من السحابة قد يحوي بلّورات ثلجيّة، بينما قد تظلّ قطرات السائل في الجزء الأعلى منها على حالتها. 4) وخلال العواصف الرعديّة تُشحن السحب كما لو أنّها مكثّفات عملاقة، يكون فيها الجزء الأعلى من السحابة مشحونًا بشحنة موجبة، والجزء الأسفل مشحونًا بشحنة سالبة، وتعمل تيّارات الهواء الصاعدة على حمل الشحنات الموجبة إلى الجزء العلويّ من السحابة، بينما تهوي جزيئات الجليد المشحونة بشحنات سالبة إلى الأسفل، فيزداد فصل الشحنات الحادث في السحابة والذي يصاحبه تكون مجال كهربيّ ترتبط شدّته ارتباطًا مباشرًا بتزايد كميّة الشحنات في السحابة، وباستمرار عمليّتيّ التصادم والتجمّد؛ تصبح شدّة المجال الكهربيّ كبيرة جدًا لدرجة أنّ الجزء سالب الشحنة من السحابة قد يتنافر مع الإلكترونات سالبة الشحنة الموجودة على سطح الأرض ويدفعها بشدّة إلى العمق، فيخلو سطح الأرض في هذا الجزء من الإلكترونات ويكتســب شـحنة موجبـة قويّـة، كلّ ما نحتاجـه الآن هو مسـار موصل بين الجزء السـفليّ من السحابة سالب الشحنة وسطح الأرض موجب الشحنة كي تحدث ضربة الصاعقة، يوفّر المجال الكهربيّ القويّ الناشئ حول شقيّ السحابة هذا المسار؛ حيث ينهار عزل الهواء المحيط به بعد ان يتأيّن فيصبح موصّلاً جيّداً يسمح بسريان الشحنات الكهربيّة بين أسفل السحابة والأرض. وفي هذه الحالة تسبّب ضربة البرق صاعقة أرضيّة. 5) ويمكن أن يحدث البرق أيضًا بين الشحنات المتعاكسة المتكوّنة في السحابة الواحدة كما قد يحدث بين السحابة والأرض. وينشأ الرعد بسبب البرق، فالحرارة التي تصدر عن البرق (تزيد عن 18000 فهرنهايت) أي ما يعادل 9982.2 درجة مئويّة، تعمل على تسخين الهواء المحيط فيتمدّد ويتخلخل مسبّبًا موجة صوتيّة تُسمع عقب رؤية وميض البرق. فالضوء أسرع كثيراً من سرعة الصوت. 6) على أن العواصف الرعدية ليست هي المصدر الوحيد لحدوث البرق، فمن الممكن مشـاهدة البرق أيضًا في الانفجارات البركانيّة، وحرائق الغابات الشـديدة، والانفجارات النوويّة السطحيّة، والعواصف الثلجيّة العنيفة. لِمَ نُكّر الصيب وعُرّفت السماء؟: - تنكيره لأنه أريد به نوع شديد من المطر، - وعُرِّفَتُ السماء للدلالة على أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلها، وقيل السماء السحاب، واللام لتعريف للماهية. لِمَ جمع: ﴿ظُلُمَاتٌ﴾ وأفرد: ﴿رَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ ونكرها كلها؟: - اجتمعت في المشهد عدة ظلمات لا ظلمة واحدة: ظلمة المطر، وظلمة السحاب، وظلمة الليل، وظلمة الخوف من السواد الذي يشمل المشهد. كأنه قال: في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف. - الرعد والبرق مصدران لذلك لم يجمعا. - جرى التنكير لبيان عظمها وشدتها، - لم يجمع النور في التنزيل، فجرى البرق مجراه، والرعد مصاحب له. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 51 | |||
|
![]() ﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ ﴿يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ﴾: الظاهرُ جملةَ ﴿يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم﴾ مستأنفة، وكأنه قيل: ما حالُهم؟ فقيل: يَجْعَلون ... والجَعْلُ هنا بمعنى الإِلقاء، ويكونُ بمعنى الخَلْق فيتعدَّى لواحِدٍ، ويكون بمعنى صيَّر أو سَمَّى فيتعدَّى لاثنين، ويكون للشروع فيعملُ عَمَلَ عسى. وواوُ الجماعة في: ﴿يَجۡعَلُونَ﴾ تعود للمضاف المحذوف (أصحاب صيب)، ويجوز إذا حُذِفَ المضافُ أن يُلْتفت إليه، أو لاَّ يُلْتَفَتَ إليه. وقد جُمِع الأمران في قوله تعالى: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ الأعراف 4، والتقدير: وكـم من أهـل قريـة. وقد تجاوزه في قوله: ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ و ﴿فَجَآءَهَا﴾ ، وراعاه في قوله: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾. وأصابِعُهم جمعُ إصْبَع. "يَجْعلون" كما تقدم إيضاحُهُ. و ﴿فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ﴾ كلاهما متعلقٌ بالجَعْل، و ﴿مِّنَ﴾ معناها التعليل. والصواعِقُ: جمع صاعقة، وهي الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها القطعة من النار، ويقال: ساعِقة بالسين، وصاقِعة بتقديمِ القاف، وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة وأنشد : ألم تَرَ أنَّ المجرمين أصابَهُمْ صواقِعُ، ..... لا بل هُنَّ فوق الصواقِعِ يَحْكُمُونَ بالمَصْقُولَةِ القواطِعِ ..... تَشَقُّقَ اليدَيْنِ بِالصَّواقِعِ ونصب ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ على أنه مفعول لأجله، وقيل أنه منصوب على المصدرِ، وعامِلُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: يَحْذَرُونَ حَذَراً مثلَ حَذَرِ الموت. والحَذَرُ والحِذار مصدران لحَذرِ أي: خافَ خوفاً شديداً. والموتُ ضدُّ الحياة يقال: مات يموت ويَمات، قال الشاعر: بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البناتِ ..... عِيشي ولا يُؤْمَنُ أن تَماتي فَعُرْوَةُ مات موتاً مستريحاً ..... فها أنا ذا أُمَوَّتُ كلَّ يومِ وزَبَدُ البَحْرِ له كَتِيتُ ..... والليلُ فوق الماء مُسْتَمِيتُ لِمَ قال ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ مع أن رؤوس الأنامل هي التي توضع في الآذان؟: هنا ملامح ثلاث: 1) إطلاق الأصابع موضع الأنامل من الاتساع، وهو إطلاق كل على بعض، مثل: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ المائدة 38، والمقصود الأكف. وهو كمن قال: إنهم من هول المشهد كأنهم لا يكتفون بوضع الأنملة في آذانهم، بل لو أمكنهم السد بالأصابع كلها لفعلوا، 2) ورد الإبهام في الأصابع، والمعهود وضع المسبحة في الآذان، فمن دهشتهم ورعبهم يدخلون أي أصبع كانت ولا يسلكون المسلك المعهود، 3) استخدام الجعل في موضع الإدخال أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل بقصد الجزء أو للتجوز في الجعل. ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾: هي جملةٌ اعتراضية من مبتدأ وخبرٍ. الإِحاطةُ: حَصْرُ الشيء مِنْ جميعِ جهاتِهِ، وهو هنا مجاز. أي: لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. ما قيل في إحاطة الله بالكافرين؟: - عبارةٌ عن كونِهِم تحت قَهْرِهِ، ولا يَفُوتونه. - وقيل: جامعهم وقدرته مُسْتولية عليهم؛ كما قال: ﴿وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ﴾ البروج 20، أي: يجمعهم فيعذبهم. - وقيل: عالم علم مجازاة كما في ﴿وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ الجن 28. - وقيل: مشرف على الهلاك، كما قال: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ البقرة 81. - وقيل: مُهلِك، قال تعالى: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ الكهف 42. - وقيل: ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي عقابُهُ محيطٌ بهم. ما المقصود من قوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾؟: 1) الإحاطة معناها السيطرة التامة على الشيء بحيث لا يكون أمامه وسيلة للإفلات، وقدرة الله سبحانه وتعالى محيطة بالكافرين وغير الكافرين: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ فصلت 54. ولأنه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ذكر أنه مطلع على أعمالهم، فقال فيهم: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ الأنفال 47، وهو تنويه إلى أنه معاقبهم على أعمالهم ومعذبهم بها. 2) ورود صفة الكافرين هنا في هذه الجملة الاعتراضية تؤكد أن المنافقين ليسوا إلا طائفة من الكافرين، فيقع عليهم حكم الكفر، مضافاً إليه حكم النفاق. ما قيل في تشبيه المثل في الآية؟: - مثل للقرآن، شُبه المطر المنزل من السـماء بالقرآن، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، وما فيه من الرعـد بما في القرآن من الزجر، وما فيه من البرق بما في القـرآن من البيـان، وما فيـه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد الآجل، والدعاء إلى الجهاد في العاجل، - إنه مثل لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم ومواريثهم، وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل، - أنه ضرب الصيب مثلاً بظاهر إيمان المنافق، ومثل ما فيه من الظلمات بصلابته، وما فيه من البرق بنور إيمانه، وما فيه من الصواعق بهلاك نفاقه. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 52 | |||
|
![]() ﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ ﴿يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ﴾: كَادَ - يَكادُ من أفعال المقاربة قليلة الاقتران بـ أن. وانتفاء مقاربة الفعل ينتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ قَولُه تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ النور 40، أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل: لم يَرَها، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ. وكاد يدخل على فعل آخر فيعطيه معنى أن الفعل بدأ، ولكنه توقف ولم يكتمل ولم ينتهي إلى غايته ونهايته. وخبره مشروط فيه أن يكون فعلاً مضارعاً، تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب من غير أن، لتوكيد القرب بالدلالة على الحال. ﴿الْبَرْقُ﴾: اللام للعهد، وهو البرق المذكور في الآية السابقة. والخطف: أخذ الشيء بسرعة، ومنه سمي الطير خطافاً لسرعته.وإذا لمع البرق بشدة مفاجئاً من هو في ظلمة فإنه يؤثر في بصره تأثيراً يكاد يخطفه. ﴿كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ﴾: على تقدير مفعول لأن البرق لا يمشى فيه، والتقدير: كلما أضاء لهم ممشى مشوا فيه، أو على تقدير مضاف، والتقدير: كلما لمع لهم مشوا في مطرح ضوئه. وقريء: {ضاء} ثلاثياً. كما قريء: {أُظْلِمَ} في ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ على البناء للمفعول، و ﴿وَلَوْ﴾: حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وهو تعريف أدق من: حرف امتناع لامتناع. ﴿شَاءَ﴾: بمعنى أراد. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾: أي: لو شاء الله ذهاب سمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه، وحذف المفعول وإبقاؤه يحدده السياق، وإن كان الحذف أكثر لبلاغة الإيجاز. ومن إظهاره قول الشاعر: ولَوْ شِئْتُ أنْ أبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ ..... عَلَيْهِ ولَكِنْ ساحَةُ الصَّبْرِ أوْسَعُ ما مدلول: ﴿يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ﴾: أي:يكاد نور القرآن لشدة ضوئه يعمي بصائرهم، كما أن البرق الخاطف الشديد يكاد يخطف بصر ناظره، ولا سيما إذا كان البصر ضعيفاً، ويقول الشاعر: مِثْلَ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى ..... نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ..... وَوَافَقَهَا قِطَعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ - قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ﴾ الرعد 19، - وقوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ﴾ فاطر 19، ومن العلماء من قال في ﴿يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ﴾ أي: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين. ما سبب إضافة: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ للمثل؟: هو تمثيل لحيرتهم وتخبطهم. وفيه تأويلان: 1) كلما أضاء لهم الحق اتبعوه، وإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه، 2) كلما غنموا وأصابوا من الإسلام خيراً اتبعوا المسلمين، وإذا أظلم عليهم فلم يصيبوا شيئاً قعدوا عن الجهاد، كقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ الحج 11. لِمّ قال مع الإضاءة ﴿كُلَّمَا﴾ ومع الإظلام ﴿وَإِذَا﴾؟: - لأنهم حراص على إمكان المشي، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف. إلاَّ أنَّ مِن النحويين مَنْ جعلَ أنَّ "إذا" تُفيد التكرار أيضاً، والشاهد: إذا وَجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبْدِي ..... أَقْبَلْتُ نحو سِقاءِ القومِ أَبْتَرِدُ - وكأنهم يمشون مع لمعان البرق، ويتوقفون عند خفيته. لماذا خص السمع والأبصار للذكر دون سائر الحواس؟: - لما جرى من ذكرهما في الآيتين من قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ وفي قوله: ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾، فلما جرى ذكرهما على وجه المثل، عقب بذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم. - وفي: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ تحذير للمنافقين ليثوبوا إلى الهدى، وهو أجدى لإيقاع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة حين قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ 13﴾ فصلت. لِمَ أفرد السمع في: ﴿بِسَمْعِهِمْ﴾؟: جاء بلفظ الواحد والمراد الجمع، كقول الشاعر: كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعِفُّوا ..... فَإنَّ زَمانَكم زَمَنٌ خَمِيصٌ ماذا أفاد مجيء: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ بعد: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾؟: من العجيب أن يأتي من يعتقد التناقض بين الموضعين مع وضوح العلاقة بينهما. ففقدهم لحواسـهم هو فقد معنوي لا حسي. هم فقدوا الإدراك. جاء في سورة محمد: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ 16﴾فدل على أنهم يسـتمعون فلا يفهمون كأن حواسـهم معطلة، وقد غطاها الضلال بغلالة سميكة منعت اسـتقبال عقولهم لكل خير وصلاح. ما وجه ورود الفاصلة: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؟: القدرة تعني التمكن من إيجاد الشيء، وقيل صفة تقتضي التمكن. والقادر هو الذي إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء. بين القادر والقدير والمقتدر: 1) ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ الأنعام 65. 2) ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة 106. 3) ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ القمر 42. 4) ﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ القمر 55. يقال في معنى التقدير: التروي والتفكير في تسوية الأمور، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ المدثر 18. وفعله: قدرت الأمر أقدره إذا نظرت فيه. وقَدْرُ كل شيء ومقداره مقياسه، وقَدر الشيء بالشيء، وقدّرَهُ: قاسه. ويقال: قَدْرتُ لأمر كذا إذا نظرت فيه ودبرته. والقادر اسم فاعل، من الفعل قدر، ومعناه المتمكن من الفعل فلا يلحقه عجز فيما يريد إنفاذه. والله القادر لأن له القدرة كصفة قائمة بذاته، فالله القادر على ما يشاء، لا يعجزه شيء، ولا يفوته مطلوب، أما إن وصف بهذا الوصف غير الله، فقد استحقه بالاستعارة من الله، مع جواز العجز، كأن يقدر في شأن، ويقصر في آخر، أو أن يقدر حيناً ويعجز أحياناً، بينما الله عز وجل قادر على كل شيء، في كل حين، لا يتطرق عليه العجز، ولا يعتريه فتور، ولا يفوته شيء. وقد يكون القادر بمعنى المقدر للشيء، يقال: قدرت الشيء وقدرته بمعنى واحد كقوله تعالى: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ المرسلات 23، أي: نعم المقدرون. أما قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ الأنبياء 87، فيتأول بمعنى: لن نُقَدِّرَ عليه الخطيئة أو العقوبة، إذ لا يجوز على نبي الله أن يظن عدم قدرة الله عز وجل في حال من الأحوال. أما القدير فهي على "فعيل" وهي صيغة مبالغة من القادر، ولا تقال إلا لله، فهو التام القدرة، بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد. وهو القدير لا يُلابس قدرته عجز بأي وجه. قال ابن القيم: وهوَ القَدِيرُ وليسَ يُعْجِزُهُ إِذَا ..... ما رَامَ شَيْئاً قَطُّ ذُو سُلْطَانِ من الموجودات، كما لا يخرج عن علمه، فكل ما تعلق به علمه تعلقت به قدرته ومشيئته. وأما المقتدر ووزنه: مفتعل، مبالغة في الوصف بالقدرة، والأصل في العربية أن زيادة اللفظ تفيد زيادة المعنى. وقد ورد في القرآن الكريم في أربعة مواضع، ذكرنا منها موضعين جاءا في سورة القمر، والموضعان الآخران هما: 1) ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا 45﴾ الكهف. 2) ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ 41 أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ 42﴾ الزخرف. فتبين أن المقتدر هو المظهر قدرته بفعل ما يقدر عليه، وقد كان ذلك من الله تعالى فيما أمضاه، وإن كان يقدر على أشياء كثيرة لم يفعلها، ولو شاء لفعلها، فاستحق بذلك أن يسمى: مقتدراً. القادر والقدير والمقتدر كلها من اسماء الله الحسنى وصفاته العلي وتعني في جملتها السيطرة والتمكن والهيمنة كما تعني التقسيم والتنظيم والتخطيط، إلا أن الاقتدار أبلغ وأعم لأنه يقتضي الإطلاق، والقدرة قد يدخلها نوع من التضمين بالمقدور عليه. وفي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ حذر المنافقين من بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ثم قال: فاتقوني أيها المنافقون، واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي، لا أحل بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 53 | |||||
|
![]() ﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ إضاءة على المثلين المشابهين من سورة النور: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ 39 أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ 40﴾ النور. هذان مثلان ضربهما اللّه تعالى لنوعي الكفار، فأما الأول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى فيه القيعان من الأرض من بعد كأنه بحر طام، والقيعة جمع قاع، وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه، فلما انتهى إليه ﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾، فكذلك الكافر، يحسب أنه قد عمل عملاً وأنه قد حصل شيئاً، فإذا وافى اللّه يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئاً بالكلية، كما قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾ الفرقان 23، وقال ههنا: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. والمثل الثاني يصف ذوي الجهل المركب المقلدين لأئمة الكفـر، الصم البكم الذين لا يعقلون. فمثل أعمالهم أو مثلهم كمثل من في بحـر عميق محاط بطبقات من الموج ومن فوقه سـحاب مظلم، فإذا أخرج يده لم يكد يراهـا من شــدة الظـلام. وكـذا قلبه الكافـر المقلـد الذي يجهل وجهته، فهو يتقلب في ظلمـات بعضهـا فـوق بعض: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات، إلى النار. ومن لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر.
|
|||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 54 | |||
|
![]() ﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ حول مضمون الآيتين: إن حال المنافقين حال قوم في أرض خـلاء، أقبل عليهم بهيـم الليل، وهم في حلكته، لمع في السـماء برق، تلاه رعد، فطفقوا يهوون بأصابعهم إلى آذانهم يسدونها كلّما قصف الرعد، مخافة أن يصم آذانهم. وهم في هذا الرعب والهلع، من رعد يطرش، أو صاعقة تقتل، يحاولون الاسترشاد بلمع البرق ليعرفوا طريقهم في الظلمة، فإذا أضاء لهم ساروا، وإذا ذهب قعدوا. وقد يشكل على فهم الآيات وجود الظلمات مع إنذارات الدين في أصوات الرعد، ومبشرات الهداية في ضياء البرق. فإذا فهم قوله تعالى: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾: أن ﴿فِيهِ﴾ بمعنى: "معه" ذهب الإبهام، واتضحت الصورة، إذ أن القوم يستقبلون الهدى الذي تزعجهم إنذاراته وبشاراته، وهم محملون بضلالات، وشكوك، عبر عنها بالظلمات. وقد عبروا عن ظلماتهم باعتراضات عدة، منها في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ۚ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا 60﴾ الإسراء، فقالوا: فكيف ينبت في أصل النار شجر، والنَّارُ تُحرِقُ الشَّجرَ اليابِسَ والأخضَرَ؟ أو أنهم استقلَّوا عدد ملائكة النار حين قريء عليهم: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ المدثر 30، فزعموا أنهم قادرون على قتلهم لينجوا من النار، أو اعتبار تحويل القبلة ارتياب من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره، حتى يغير وجهة صلاته. هذه الشبهات وغيرها كانوا يواجهون بها دعوة الحق، ليشككوا في الدين ورسوله. وقوله: ﴿يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ﴾ يشير إلى ضيقهم من سماع الحق، حتى يظن أحدهم أنه باتباعه يهلك، لأنهم قد تشربوا الضلال حتى غرقوا فيه، واعتبروا الهروب من سماع آيات الحقّ نجاة لهم، فقيمهم مبدلة، حتى أنهم يخشون على تقاليدهم وميراثهم الشركي من صواعق الحق وبراهينه الساطعة. لكن الله تعالى المطلع على الخبايا والنوايا، العالم بما في ضمائرهم، والقادر على أخذهم أينما كانوا، وفي أيّ طريق سلكوا، يلاحقهم ببراهين الحق، ومفاجئهم أينما ذهبوا ببرهان تلو البرهان، ليقيم على المصر منهم على الكفر الحجج. وهو تعالى إذ يقول: ﴿وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ﴾، ولم يقل: محيط بهم، ولما قال: ﴿وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ﴾ يبقي الباب مفتوحاً للعاقل منهم أن يراجع نفسه لينجو. ها أنت ما زلت تملك السمع والبصر، ومداركك ما زالت قادرة على استقبال موجة الهدى، فاخرج من سلك الهالكين لفريق الناجين. إنه تبارك وتعالى يبقي لهم فرصة الاستفادة من وعظ الواعظ، للرجوع للحق. وإذا رجعنا للمثلين المضروبين في المنافقين، واسترشدنا بمثلي سورة النور في الكفار، يتبين لنا ـ مخالفة للمفسرين ـ أننا بإزاء فئتين من المنافقين، ضرب في كلٍ مثل: المثل الأول في منافقي أهل الكتاب: ﴿مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ ١٧ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ ١٨﴾: فهذا الصنف من المنافقين هو الذي أمده الله بنور الرسالة الذي انتشر حتى أضاء ما حوله، لكنهم لم ينتفعوا به، بل حولوه من نور لظلمة بتحريف الكتب، والخروج على شرع الله، وقتل الأنبياء بغير حق، فطبع على قلوبهم، وأصيبوا بالصمم والبكم والعمى، حتى لا رجوع لهم عن غيهم. والله تبارك وتعالى يقول لنبيه فيهم: ﴿أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ٧٥﴾ ويقول: ﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ﴾ البقرة 120، وكأنه تبارك وتعالى لا يريد من المؤمنين أن يطمعوا في إيمان جيرانهم اليهود، الذين لا يهدفون هم والنصارى من الاتصال بالمسلمين إلا تهويدهم أو تنصيرهم. لذلك هم لا يرجعون. والمثل الثاني في منافقي العرب:﴿أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٠﴾: أما هؤلاء فقد حملوا معهم في مقابل الحق أوهام وخرافات وأساطير من عبادة الأوثان، فإذا سمعوا نداء الحق، أو رأوا براهينه، انزعجوا، وواجهوه بما لديهم من إرث الشرك. وهم متخبطون يترددون بين قبول الحق ورفضـه، لكنهـم ليسـوا معدومي الحـواس كالفئـة الأولى، بل ما زال بالإمكان أن يرجع بعضهـم عن الباطل، فلم يشأ المولى جل وعلا أن يختم على حواسهم. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 55 | |||||
|
![]() المنافقون: بدأت الآيات التي ذكرت المتقين بعرض صورة النفس الصافية المستقيمة. ثم صورت الآيتان اللتان ذكر فيهما الكفار النفس المعتمة السادرة في غيها، ثم احتاجت النفس الملتوية المريضة المخادعة إلى مزيد من اللمسات لكشف سماتها الغامضة وخطوطها المشتبكة. وقد جاء ذكر الكافرين باللفظ الصريح: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، لكن المنافقين لم يأت ذكرهم في هذه الآيات صريحاً، بل قال تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وهذا ملمح يشير إلى خفائهم وتسترهم ومراوغتهم، فحمل اللفظ سلوكهم بالتلميح دون التصريح. ومن العلماء من يقسم المنافقين إلى عتاة ممعنين في النفاق، مثل ابن أبي وهذه الآيات تفصل سلوكهم، وآخرين أقل خطراً مكانهم في فئة الكفار المذكورين في الآيتين السابقتين. وهذا الرأي يرده إطلاق حكم الله على المنافقين كل المنافقين ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ النساء 145، دون تقسيم أو تخصيص. الآيات من أول السورة تقسم الناس إلى ثلاث فئات: مؤمنين وكافرين ومنافقين. هذا تقسيم اعتباري. غير ان التقسيم الحقيقي هو أنهم فئتان: مؤمنون وكافرون، والمنافقون جزء من الكافرين، لذلك لهم من صفات الكفار المذكورين في الآيتين نصيب. غير انهم لشدة كفرهم وخطرهم استحقوا أن تضاف لهم أنصبة من الغي والضلال أكثر، فيخصون بالذكر في ثلاث عشرة آية. وبمعنى آخر: عرضت السورة من اتصف بالإيمان البسيط، ثم من اتصف بالكفر البسيط، ثم من اتصف بالدين المركب من إيمان ظاهر وكفر باطن. الآيات التي أسهبت في ذكر المنافقين لا تنحصر في سبب النزول. إنها لم تكن في نفر من أساطين المنافقين سواء كانوا من منافقي المشركين أو اليهود فحسب، بل هي أعم من ذلك وأوسع. إن أولئك النفر من رواد النفاق أتوا في زمن محدد وانقرضوا خلال بضع عشرات من السنين، وليس من المعقول أن ينزل فيهم وحدهم قرآن يتلى طالما كان على الأرض مسلمون. إنها آيات تصف المنافقين على شتى أشكالهم وفي كل عصر. جاء المولى جل وعلا بذكر هذا الفرع المخصوص من الكافرين، وتوسع في وصفه وعرض جهله وفساده وغيه وبين عاقبة أمره. إن المنافق جامع للكذب، والجبن، والمكيدة، وأفنَ الرأي، والعته، وسوءَ السلوك، والطمَع، وإضاعَة العمر، وفوات الخير، وزوالَ الثقة، وعداوةَ الأصحاب. أما الكذب ففي ادعائه الإيمان﴿قَالُوا آمَنَّا﴾برغم أنهم قالوا لناصحيهم قَبْلُ: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾. وأما الجبن فلأنه جبن من إظهار عقيدته الفاسدة، وأظهر للناس عكس ما يبطن. وأما المكيدة فلأنه عجز عن مواجهة المجتمع المسلم لجأ للاستقواء بالمشركين ليعينهم على الإضرار بالمسلمين. وأما أَفَن الرأي فلأنه لم يحسن اختيار حلفائه ومناصريه، وهو يرى شأن الإسلام يعظم، وكان حرياً به لو كان راجح العقل لناصر القوة المتنامية للمؤمنين بلسانه وقلبه. وعتهه لضعف عقله وسفهه حين ظن أنه يمكنه محاربة الله في عباده. وأما سوء السلوك فلأنَّه أخفى صفاته المذمومة وأظهر ما يرى أنه يخدع فيه الناس، فلما صارت هذه عادته تنامت فيه صفاته السيئة وتمكنت منه حتى أضاعت عليه كل خير. وأما الطمع فلأن دافعه الأول للنفاق كان إعفاءه من دفع الجزية، أو رغبته في حصة من الغنائم، أو فوزه وأهله بحظوة عند المؤمنين. وأما إضاعة العمر فلأنه صرف وقته وجهده إلى نصْبِ الحيل لإخفاء نفاقه، والكيد للمؤمنين، فأضاع على نفسه فرصة الرجوع إلى الحق، أو الأمل في ثواب الآخرة. وأما زوال الثقة فلأنه صار في موقع شك حينما نزلت آيات بينات تكشف الملامح النفسية والسلوكية للمنافقين. وأما عداوة الأصحاب فلأنه مع استمرار إعراضه أمام من ينصحونه بأن يؤمن كما آمن الناس إذا كان الناصحون من المسلمين، يفقدهم إذ يولونه ظهورهم حين يفقدون الأمل فيه. والمنافقون كأضرابهم من الكفار عطلوا حواسهم، فاستحقوا أن يوصفوا بالصمم والبكم والعمى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ البقرة 171، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ الحج 46. وهم فئات متعددة: فئة تحسد المسلمين على ما نالوا من حظوة منذ نزلوا يثرب، يرأسهم رأس النفاق عبد الله بن أبي الذي قال فيه سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رَسولَ اللَّهِ، اعْفُ عنْه واصْفَحْ، فَلقَدْ أعْطَاكَ اللَّهُ ما أعْطَاكَ، ولَقَدِ اجْتَمع أهْلُ هذِه البَحْرَةِ علَى أنْ يُتَوِّجُوهُ فيُعَصِّبُوهُ، فَلَمَّا رَدَّ ذلكَ بالحَقِّ الذي أعْطَاكَ شَرِقَ بذلكَ، فَذلكَ الذي فَعَلَ به ما رَأَيْتَ."* * في حديث طويل رواه الشيخان، واللفظ هنا للبخاري، من رواية أسامة بن زيد. وفئة أخرى هم اليهود وهم أهل مكر وخديعة يكيدون لكل نبي، حتى إن أنبياءهم لم يسلموا منهم. وبالرغم من أنهم كانوا يعلمون باقتراب خروج نبي آخر الزمان، ويهددون أهل يثرب به: " قد تقارب زمان نبي يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرم" ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ 89﴾ البقرة، .ثم إن يهود المدينة انقسموا إلى ثلاث فرق: فرقة انشرح قلبها للإيمان، مثل عبد الله بن سلام، وفرقة بقت على شركها، وهم أكثر اليهود، وفرقة نافقت، مثل عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه إشعال فتنة عثمان، وتأسيس فكر التشيع*. * السبئية من الرافضة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ وكان أول من كفر من الرافضة وقال على رب العالمين فأحرقه علي وأصحابه بالنار المعارف لابن قتيبة، ص 622. وفئة ثالثة هي الأعراب، وقد نافقوا تقليداً لمنافقي المدينة، دون سبب منطقي يدعوهم إلى معارضة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه. لذلك قال فيهم المولى جل وعلا: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ﴾ التوبة 97. ومن المفسرين من أورد لسلمان الفارسي في تفسير ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ 11﴾ قوله: ما جاء هؤلاء بعد. وقيل: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد*. والتاريخ يزخر بالذين أفسدوا في الأرض بدعوى الإصلاح. ومن هؤلاء المفسدين تلك الحركات الباطنية التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية عبر العصور. هذه الحركات التي ظهرت للتلبيس على المسلمين وإضعاف عقائدهم عن طريق تخفيف التكاليف، أو إباحة المحرمات، أو نشر الخرافات والمنكرات. وهم أخطر على المسلمين من الكفار، إذ أن عداوة الكافر للمسلم واضحة، وكيده ظاهر متوقع، بينما أولئك يتزيون بلباس أهل الحق في الوقت الذي يعادون فيه الدين القويم والعقيدة الصحيحة. * تفسير الطبري، ج1. ومنذ تولى عبد الله بن سبأ كبر الإفساد لدين الله، توالت الحركات الخبيثة في نفث السم والنفخ في نار الفتنة، فخرجت الإسماعيلية والعلوية والقرامطة والدرزية والنصيرية وغلاة الصوفية والبهائية، واجتهد الاستعمار الغربي في نشرها وإذكاء نيرانها في المجتمعات الإسلامية، فانخدع بها كثيرون من العامة انتموا إليها فعلا شأنها وازداد انتشارها. وقد كان من علماء الإسلام من أدرك خطر هذه الحركات الهدامة، فتصدوا لها بتفنيد عقائدها الشاذة، والتحذير منها. والمنافقون مثلما يدعون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يدعون الإصلاح بينما الإفساد هو حقيقة حالهم. إن معيار الصلاح هو الالتزام بمنهج الله لأنه هو الخالق، وهو لذلك أدرى بخلقه، وهم خالفوا منهج الله. إن كل مَنْ يحاول أن يُغيِّر من منهج الله أو يبطله مفسد، لذلك قال فيهم: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ 12﴾، بل إنهم يتهمون المؤمنين بالسفه: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ وفي الحقيقة هم يناقضون أنفسهم. فإذا كان المؤمنون سفهاء، فلمّ تدعون أنتم الإيمان؟ فإذا كان هذا هو رأيكم بالمؤمنين فهو اتهام لكم أنتم أيضاً. هذه هي السفاهة بعينها. لذلك برأ الله المؤمنين من السفاهة وطبع بها هؤلاء الجاهلين: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وفي هذا التصوير البديع لحركة المنافقين بين الادعاء والتظاهر العلني بما يخالف ما في القلوب في ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ ثم في لقائهم بشياطينهم في الخفاء بعيداً عن أعين المؤمنين ليكشفوا عن حقيقة ما في قلوبهم من سواد وظلمة: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾. هذا التصوير الرباني لعلنية الإيمان وخفاء أحابيل الشيطان يفضح الباطل وأهله، ويعلي من شأن الإيمان وأهله. المنافق يستتر باعوجاجه بالرغم من أنه يشي بما في دخيلة نفسه، ويجاهر بكلمة الحق ولا تجاوز لسانه. لذلك فإن الله يعامله بما يناسب خبثه في التناقض بين ما يظهر وما يبطن، فيجعله في موضع سخرية في الدنيا والآخرة: يمده في طغيانه، فيزداد نفاقه وتتضاعف ذنوبه، وهو حين ينافق ويبذل كل وسعه ألا يكشف المؤمنون أمره، يُظهر الله دخيلة قلبه لرسوله والمؤمنين بصفات وعلامات يُعرف بها، ويحار الكافرون والمشركون في معاملته في العلن خشية فضح أمره، ثم يكون جزاؤه في الآخرة الخزي والثبور على رؤوس الأشهاد. كان جزاؤه على قدر جنايته، إذ اختار أن يبيع سلعة الجنة، ليشتري بها دنيا زائلة بجاه ومال يزول عنه حين يوسد في القبر، فإذا لقي الله لم يجد أثراً لكلمات قالها لسانه ولم يشعر بها قلبه، ووُضع الضلال في ميزانه ليسحب إلى جهنم. وقتها يدرك أنه خسر كل شيء، يومها: ﴿يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا 27﴾ الفرقان.
|
|||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 56 | |||
|
![]() (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١) (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ): هذا النداء من باب الالتفات، إذ أنه - جل وعلا - لما بين أحكام الفِرَقِ الثلاث: المؤمنين والكفار والمنافقين، أقبل عليهم بالخطاب. (يَٰٓأَيُّهَا): "يا" حرف للنداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل، وقد يحذف نحو: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا) يوسف 29. وينادى به المندوب والمستغاث. وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ به، ولأنه أصل حروف النداء، كان مشتركاً لنداء القريب والبعيد، ولا مصوغ لقول من قال باختصاصه بالبعيد. وقد يراد به مجرد التنبيه فيليه الجمل الاسمية والفعلية، قال تعالى: (أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ) النمل 25. وقال الشاعر: أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ وقال آخر: يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِمُ ..... وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ و "أي" اسم منادى في محلّ نصب، ولكنه بني على "الضم"؛ لأنه مفرد معرفة، والمرفوع بعدها صفة لها. وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه، ولا بد وأن يردفه اسم جنس، أو ما جرى مجراه، ليتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء. ولـ "أي" معانٍ أخر كالاستفهام، والشرط، وكونها موصولة، ونكرة موصوفة لنكرة، وحالاً لمعرفة. و "ها" زائدة للتنبيه لازمة لها، والمشهور فتح هَائِهَا، ويجوز ضمُّها إتباعاً للياء. ولا توصف "أي" هذه إلا بما فيه الألف واللام، كما في الآية، أو بموصول هما فيه، أو باسم إشارة نحو: (وَقَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ) الحجر 6، وقال الشاعر: ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي .... عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا أيهذَانِ كُلا زاديكما و (ٱلنَّاسُ) صفة "أي"، أو خبر مبتدأ محذوف.واستعمال القرآن الكريم للفظة (ٱلنَّاس) تقدم الكلام عنه عند قوله تعالى: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ) البقرة 8، وهو اسم جمع نودي هنا وعرف بأل ليشمل كل أفراد مسماه، لأن الجموع المعرفة باللام للعموم ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول. و (ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ): جملة أمرية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية. مناسبة الآية لما قبلها: هذا استئناف ابتدائي ثني به العِنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الثلاث المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله، ومثلت حال كل فريق وضربت له أمثاله، فإنه لما استوفى أحوالاً للمؤمنين وأضدادِهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشاداً لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال. ولم يكن ما ذكر آنفاً من سوء صنعهم حائلاً دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصاً على صلاحهم وأنه غني عنهم، كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ، فيرى انكسار نفس مرباه، فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه اسـتصلاحاً وحباً لخيره، فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم إلى مصالحهم. النداء في القرآن: على ست مراتب: 1) نداء مدح، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). 2) ونداء ذم، مثل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا)، (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ). 3) ونداء تنبيه، مثل قوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ) الانفطار6، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ). 4) ونداء إضافة، مثل قوله: (يَٰعِبَادِيَ) العنكبوت 56، الزمر 53. 5) ونداء نسبة، مثل قوله: (يَا بَنِي آدَمَ)، (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ). 6) ونداء تسمية، مثل قوله: (يا إِبْرَاهِيمَ)، (يا دَاوُودُ). الناس المقصودون في الآية: في الناس المنادون هنا وجهان: الوجه الأول: إنّهم الذين يقولون: آمنّا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين ذلك الإيمان الذي يملك القلب ويصرِّف النفس في الأعمال، وهو المقبول عند الله تعالى. وإنّما هم آخذون بتقاليد ظاهريّة ليس لها ذلك الأثر الصالح في أخلاقهم وأعمالهم؛ فهم يخادعون الله تعالى بالتلبّس ببعض صور العبادات والأقوال. والوجه الثاني - وهو الراجح -: إنّ الخطاب عامّ للناس كافّة، ووجه الاتّصال بين الآيات على هذا، أنّه لمّا بيّن تعالى في أصناف الناس هذا الصنف - الذي احتقر أفراده نعم الله تعالى عليهم، واستعظموها وأكبروها على مَنْ قبلهم، فحرموا أنفسهم من أجلّ المزايا الإنسانيّة، وأجلّوا سلفهم حتّى رفعوهم إلى مرتبة الربوبيّة - خاطب الناس عامّةً بأن يعبدوه ملاحظين معنى الربوبيّة والخالقيّة التي تشملهم ومن قبلهم من السلف، فتنظّمهم جميعاً في سلك العبوديّة للخالق تعالى شأنه. ولا يكون كذلك الصنف الخاسر الكفور بنعم المشاعر والعقل وهداية الدين؛ إذ لم يستعملوا عقولهم في فهم ما أُنزل عليهم، بل اكتفوا بتقليد بعض رؤسائهم وعلمائهم، زاعمين أنّه لا يقوى على فهم كتاب الله تعالى غيرهم، كأنّ الله - تعالى - أنزل كتبه وخاطب بها نفراً معدودين في وقت محدود، ولم يجعله هداية عامّة للأمّة، وإنّما ألزم سائر الناس في سائر الأوقات الاكتفاء بإتّباع أولئك الرؤساء وإتّباعهم، وإتّباع أتباعهم، وهلمّ جرّا، ثمّ تركوا أتباعهم اتّكالاً على شفاعتهم، واكتفاءً بالانتساب إليهم، وزعماً: إنّ الله أعطاهم ما لا يعطي مثله لأحد سواهم، وإن عملوا مثل عملهم، تعالى الله عن الظلم والمحاباة وهو ذو الرحمة التي لا تنتهي وذو الفضل العظيم. لِمَ خص الرب لا الإله بالأمر بالعبادة: إنه - تعالى - قال: (رَبَّكُمُ) فجاء بالإضافة، ولم يقل: "اعبدوا الله"، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذاناً بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج. وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله، فإن المشركين - وإن أشركوا مع الله آلهة - إلا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص ببعض الأصنام، كما كان لثقيف مزيد اختصاص باللات وتبعهم الأوس والخزرج. فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد فهي أخصر من الموصُول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله: (ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ) صريحاً في أنه دعوة إلى توحيد الله، ولذلك فقوله بَعْدُ: (ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ) زيادة بيان لموجب العبادة، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة، كما أن فيه إضافة لاستحقاقه لمعنى الإلوهية مع الربوبية المتضمنة في قوله: (رَبَّكُمُ). |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 57 | |||
|
![]() (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١) ما أصل العبادة في اللسان العربي؟: العَبْدِيَّةُ والعُبُودِيّةُ والعُبُودَةُ بضَمِّهِما والعِبَادَةُ بالكسر: الطاعةُ. وقال بعضُ أئمة الاشتقاقِ: أَصلُ العُبُودِيّةِ: الذُّلُّ والخُضُوعُ. وقال آخَرُونَ: العُبُودَةُ: الرِّضا بما يَفْعَلُ الرَّبُّ والعِبَادَةُ: فِعْلُ ما يَرْضَى به الرَّبُّ، والأَوّلُ أَقوى وأَشَقُّ، فلذا قِيلَ: تَسْقُطُ العِبَادةُ في الآخِرَةِ لا العُبُودةُ لأن العُبودَةَ ألا يرى مُتَصِرِّفاً في الدَّارَيْنِ في الحقيقةِ إلا الله. وعَبُد العَبْدُ عُبُودَةً وعُبُودِيَّةَ، وأَما: عَبَدَ الله فَمَصْدَرهُ: عِبَادَة وعُبُودة وعُبُودِيّة أَي أَطاعه. وعَبَد اللهَ يَعبُده عِبادَةً ومَعْبَداً: تَأَلَّه له . وفرقوا في النسبة، فقالوا: نقول: عباد الله، ونقول: عَبَدَةُ الطَّاغُوتِ، أي إن من يعبد الله هو من العِباد، ومن يعبد غيره هو من العَبَدة. أما في قوله تعالى: (قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّٰغُوتَۚ) المائدة 60، هو معطوفٌ على قوله: (وجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ) وهو نَسقٌ على: (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) والمعنى: مَن لَعَنَه اللهُ ومن عَبَدَ الطَّاغُوتَ مِنْ دونِ الله عز وجل أي أَطاعَهُ يعْنِي الشيطانَ فيما سَوَّلَ له وأَغْواه. والمعروف عند أهل اللغة: أَعْبَدْتُ فلاناً أَي استَعْبَدْتُه، وأَعبدَنِي فلانٌ اتَّخَذَنِي عَبْداً أو صَيَّرنِي كالعَبدِ. والاعْتِبَادُ والاسْتِعْبادُ: التَّعْبِيدُ، يقال: فُلانٌ استَعبَدَه الطَّمَعُ أَي اتَّخَذَه عَبْداً. وعَبَّد الرَّجُلَ واعْتَبَدَه: صَيَّرَه عَبْداً أَو كالعَبْدِ له. وتَعَبَّدَ: تنَسَّكَ وقَعَدَ في مُتَعَبَّدِهِ أَي مَوضِع نُسُكِه. وتَعَبَّدَ البَعِيرُ: امتَنَعَ وصَعُبَ. وتَعَبَّدَ فُلاناً: اتَّخَذَه عَبْداً كـ اعْتَبَدَهُ وعَبَّده واسْتَعْبَدَه. والمُتَعَبِّد: المُنْفَرِدُ بالعِبَادَةِ. وعَبَّدْت الرجُلَ: ذَلَّلْتُه حتى عَمِلَ عَمَلَ العَبِيدِ. والمَعْبَدُ والمُتَعَبَّد: مَوْضِعُ العبَادَةٍ. والمُعَبَّدُ من الأضداد، فيقال في البعير: مُعَبَّد أي مُذَلَّلٌ، ومُعَبَّدٌ إذا تُرِكَ ولم يُرْكَبُ. وكذا: طريقٌ مُعَبَّدٌ إما أنه: مسْلُوكٌ مُذَلَّل مُوطُوءُ، أو مُكَرَّمُ مُعَظَّم، كأَنّه يُعَبَد، ومنه قول حاتم: تَقُولُ أَلا تُبْقِي عليكَ فإِنَّني ..... أَرى المالَ عِنْدَ المُمْسِكِينَ مُعَبَّدَا وما المراد بالعبادة في الاصطلاح الشرعي؟: العبادة - إذن - هي: التذلّل للغير بقصد التعظيم، وهي بهذا المعنى لا تجوز إلا لله. ومن العلماء من فرق بين العبادة والعبودية؛ إذ أطلق العبودية على إظهار التذلّل والخضوع، وجعل العبادة أبلغ منها، لأنها الغاية في التذلّل. وهي الشرع عبارةٌ عمّا يجمعُ كمالَ المحبّةِ، والخضوعِ، والخوفِ، أو هي: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمالِ الباطنةِ والظاهرةِ، فالصلاةُ، والزكاةُ، والصيامُ، والحج، وصدقُ الحديث، وأداءُ الأمانة، وبرُّ الوالدين، وصلةُ الأرحام، والوفاءُ بالعهود، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، وجهادُ الكفّارِ والمنافقينِ، والإحسانُ إلى الجار واليتيمِ والمسكينِ وابنِ السبيل والمملوكِ من الآدميين والبهائمِ، والدعاءِ، والذكرِ، وقراءةِ القرآن الكريم، وأمثال ذلك هي من العبادة. كذلك فإن حبُّ اللهِ وخشيته، والإنابة إليه، وإخلاصُ الدين له، والصبرُ لحكمه، والشكرُ لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكلُ عليه، والرجاءُ لرحمته، والخوفُ من عذابه، وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمثال ذلك هي من العبادة لله. لذلك فإنَّ عبادةَ الله هي الغايةُ المحبوبةُ له، والمرضيةُ له، التي خَلقَ الخلقَ لها، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) الذاريات 56، أي: خلقتهم ليتوجهوا إليَّ بالعبادة، ولهذا أرسل جميع الرسل. والعبادةُ تتضمّنُ كمالَ الحُبِّ ونهايته، وكمالَ الذُّلِّ ونهايته. وعبادة الله تشمل كلّ ما يتعلّق بالدين؛ بحيث تشمل أركانَ الإيمان، وأركان الإسلام، ويدخل فيها معنى الإحسان. ويأتي الأصل اللغوي لكلمة العبادة متوافقاً مع المقصود بلفظ الدين؛ أي بمعنى: الخضوع، والطاعة؛ فعبادة الله والدينونة له تجمع الخضوع لله - تبارك وتعالى - إلى جانب حُبّه، فهو يدينُ لله، ويخضع له، طاعةً، ورغبةً، وحُبّاً. وعلى الرغم من أنّ أذهان الكثيرين تنصرف إلى الطقوس والشعائر والصلوات بشكل خاصّ إذا ذُكِرت كلمة "عبادة"، إلّا أنّ الإسلام أكّد على أنّ حياة الإنسان كلّها عبادة لله، لقوله تعالى: (قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ 162) الأنعام، فالصلاة، والمناسك لا تزيد عن أن يكون لوناً واحداً من ألوان العبادة، في حين أنّ العبادة بمعناها العام أكثر شموليّة؛ إذ تستغرق حياة الإنسان كلّها. إن كلّ ما يقوم به المسلم في حياته يمكن أن يكون عبادة لله – تعالى - ممّا يعطي حياته معنىً، وغايةً، وهدفاً. ومن أشكال العبادة: - العبادات الاعتقاديّة أو القلبيّة، وهي تتّصل بكلّ ما يعتقده الإنسان بالله؛ من أنّه الأحد، وهو القادر على الضرّ، والنفع، وهي تفيد توجُّه القلب إلى الله بالحبّ، والرغبة، والرجاء، والخوف، والتوكُّل عليه، وغيرها. - العبادات اللسانيّة وعلى رأسها تلفُّظ المسلم بالشهادتَين، وتشمل كذلك تلاوة القرآن، وذِكر الله - تعالى - والنصيحة للناس، وغيرها. - العبادات البدنيّة، ومن أشكالها الكثيرة: الصلاة، والصوم، والحجّ، والجهاد في سبيل الله. - العبادات الماليّة، وذلك من خلال إنفاق المال في وجهه المشروع، وأداء حقّ الله فيه، كالزكاة والصدقات. - العبادات المركّبة وهي التي تتكوّن من أكثر من نوع من أنواع العبادات، كالحجّ. والعبادات باعتبار التذلل الاختياري والاضطراري لله: - عبادة كونيّة تعني الخضوع لأمر الله تعالى الكوني، وهي شاملة لجميع الخلائق مؤمنهم وكافرهم، قال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا 93) مريم. - وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا 63) الفرقان. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 58 | |||
|
![]() (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١) (ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ): (ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ): الظاهرأنه منصوب على النعت لـ (رَبَّكُمُ). وفي أصل معنى الخَلْق وجهان: 1) الإنشاء، والاختراع، والإبداع: وفيه صورتان: ... أ) اختراع الشَّيء على غير مِثَالٍ سبق، وهو جل وعلا: (خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ) الزمر62، و (هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ) الحشر24، وهذه الصِّفة ينفرد بها الباري تعالى، والكفار مقرُّون بأن الله هو: الخالق، لقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ) الزخرف87، فامتن عليهم بما يعترفون به، ولا ينكرونه. ... ب) إبداع من أدوات مخلوقة، وهو ما يسمونه بالاختراع، وهو شكل من أشكال الخلق، مثل اختراع آلة، أو إنتاج عمل فني، وهذه الصّفة - على هذا النحو - لا يختص بها الله تعالى. 2) التقْدِيرِ؛ ومنه قول زُهَيْر: وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ..... ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي وإنه - تبارك اسمه - لما أمر بعبادة الرب، بقوله: (ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ) أردفه بما يدل على وجود الصانع وهو خلق المكلفين وخلق من قبلهم، وهذا يدل على أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال. (وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ): محلُّه النصبُ لعطفِه على المنصوبِ في: (خَلَقَكُمۡ). و (مِن قَبۡلِكُمۡ): صِلةُ الذين، و (مِنْ) لابتداء الغاية. والتقديرُ هنا: والذين كانوا من زمان قبلَ زمانكم. ما الفرق بين: الخلق والبرء والجعل: - لفظة الخلق هي أقرب الألفاظ في العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة "خلق" في اصطلاح أهل الإسلام فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى: (أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ 17) النحل، وقال: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ) فاطر 3. وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره. ومن العلماء من جوز إطلاقه على غير الله على سبيل المجاز، كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل، ومن قبيل هذا ما قالوه في خلق عيسى - عليه السلام - لهيئة الطير، كما حكى القرآن عنه: (وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ) المائدة 110، فإن ذلك مراعىً فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة "خلق" في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى. ومن هذا الاعتبار قول الله تعالى: (فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ 14) المؤمنون. - أما البرء فهو الإصلاح، فالبرء في العربية معناه: القطع والفصل والإصلاح. تقول: برأت العود وبروته، أي: قطعته ونحته وبريت القلم: أصلحته وأعددته للكتابة. وبرئت من المرض إذا تمثلت للشفاء وسلمت من الآفات وأصبحت معافىً. والباريء هو المصلح الذي يعطي كل شيء ما يناسبه من الخلق والتكوين والتسوية وفق علمه وإرادته وقدرته؛ فالله (هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ) الحشر 24، فبدأ بذكر الخلق، وثنى بالبرء وهو تسوية الخلق، ثم جاء بالتصوير الذي هو جعله للمخلوق في صورته المثلى، ومنه معنى قوله: (وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ) الأعراف 11. - وأما الجعل فهو حالة بعد الخلق، فقوله: (ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ) الأنعام 1، يشير إلى أنه - تبارك وتعالى - أوجد السماوات والأرض على غير مثال، ثم أوجد الظلمات والنور من العلاقة بين هذه المخلوقات. كذلك في قوله: (وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفِۡٔدَةَۚ) الملك 23، يؤشر على تأخر هذه الحواس عن خلق الإنسان، كما أن في مدلول الجعل هنا تمكين وظيفة السمع والإبصار والوعي. وللجعل أكثر من مدلول في التنزيل العزيز، فهو بمعنى التصيير، نحو قوله: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَۖ) المائدة 60، ونحو: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) البقرة 125. وَجَاء أَيْضا بِمَعْنى الْخَبَر فِي قَوْله تَعَالَى: (وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ) الزخرف 19، أَي أخبروا بذلك. وبمعنى الحكم في مثل قوله: (أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ) التوبة 19، أي: حكمتم بذلك، وَمثله: (قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا) يونس 59، أَي: حكموا بالتحليل والتحريم من عند أنفسهم. ما الفائدة في قوله: (وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ) بعد: (ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ)؟: - علمهم بأن الله - تعالى - خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة. - من قبلهم كالأصول لهم، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع، كأنه - تعالى - يذكرهم عظيم إنعامه عليهم، أي: لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 59 | |||
|
![]() (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١) (لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ): جملة: (لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) أظهر ما قيل فيها أنها تعليل للأمر بـ (ٱعۡبُدُواْ) فلذلك فصلت، أي: أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا. وهذه الجملة لا يجوز أن تكون حالاً؛ لأنها طلبية، ومفعول (تَتَّقُونَ) محذوف أي: تتقون الشرك، أو النار. (لَعَلَّكُمۡ): "اللام" فيها هي "لام" التأكيد كاللام التي تدخل في "لقد"، فأصل "لعل": "عل"؛ لأنهم يقولون: علك أن تفعل كذا، أي: لعلك. وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد، كان قول القائل: افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك، أي معناه: افعله؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه. و"لعل" أصلها الترجي، والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات، والتوقع، وذلك مستحيل على الله سبحانه، فيكون استعمال القرآن له على أحد ثلاثة وجوه: أ) على بابها من الترجّي والإطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين، ولما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم، والطمع، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية. ويكون معنى: (لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) طه 44، أي: اذْهَبَا على رجائِكُمَا. ويكون معناها في الآية هنا: لعلَّكم تتقون على رجائكم وطمعكم. ب) وقيل: إن العرب استعملت "لعل" مجردة من الشك بمعنى لام "كي". والمعنى هنا: لتتقوا، وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر: وَقُلتْـمُ لَنَـا كُفُّـوا الحُـرُوبَ لَعَلَّنَــا ..... نَكُفّ وَوَثَّقْتُــم لَنَـا كُلَّ مَوثِـقِ أي: كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت "لعل" للشك لم يوثقوا لهم كل موثق. فَلَمَّا كفَفَنْاَ الحَربَ كَانَت عُهُودُكمُ ..... كَشَبّه سَرَابٍ في المَلا مُتَألقِ ويكون المعنى في الآية على هذا الوجه: اعْبُدُوا رَبَّكُم؛ لِكَيْ تَتَّقُوا. ج) وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء كأنه قال: متعرّضين للتقوى. والتقوى هي الحذر مما يكره، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها، وهو حصول صفات الكمال التي يجمعها التدين، وقد تقدم القول فيها عند: (هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ 2) البقرة. ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثراً للأمر بالعبادة؛ فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين، فإن التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضحُ الفائدة. ما مدلول "لعل" في حق الله؟: المحققون يقرون بامتناع أن يكون معنى "لعل": الترجي في حق الله. ومن العلماء من قال بأن جميع ما في القرآن من: "لعل" هو للتعليل. لكن حمل "لعل" في القرآن على معنى واحد لا يستقيم؛ بل إن معناها يختلف من موضع إلى آخر حسب سياقها وموضعها، فهي في ابتداء الكلام تفيد معنى غير المعنى الذي تفيده إذا جاءت بعد طلب، ومعناها في كلام اللهليس كمعناها في كلام غيره. وذهب كثير من العلماء إِلى تأويل معنى كلمة: "لعل" الواردة كلام الله، فبينوا أنها إذا وردت في كلامه سبحانه عزّ وجل فإِنّها تفقد معانيها الحقيقية الأصلية وتكتسب معاني جديدة. وقالوا: إِن كلمة "لعل" تأتي في كلامه ـ عزّ من قائل ـ بمعنى "الطلب". وعلى سبيل المثال، يقول القرآن الكريم: (وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ 204) الأعراف، ولا يعني هنا أنّ رحمة الله تشمل كل من يستمع أو ينصت إِلى القرآن أثناء قراءته، بل أنّ الاستماع والإِنصات يكونان مقدمة من مقدمات نيل رحمة الله، وهناك مقدمات أُخرى مثل فهم القرآن وتدبر آياته والعمل بأحكامه. وقد تبيّن لنا أنّ نيل رحمة الله لا يتحقق فقط بالاستماع والإِنصات إِلى القرآن فقط، بل يجب لنيل هذه الرحمة توفير المقدمات الاُخرى لذلك. وقوله تعالى مخاطباً موسى وأخاه هارون - عليهما السلام -: (فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ 44) طه، وغني عن البيان القول بأن الله يعلم أن فرعون لن يستجيب لهما، لكنه - تعالى - قال لهما: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه. ومن استعمالها في الإشفاق قوله تعالى: (وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٞ 17) الشورى، فإن الساعة مخوفة في حق المؤمنين. لِمَ قال: (لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ)؟: التقوى قصارى أمر العابد، وأقصى جهده. ولما أمر بالعبادة التي هي فعل المأمور به، جعل التقوى التي هي الاحتراز عن المَضَارّ، هدفاً وغاية للعابد. الاستدلال بالآية على الصانع: هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار، سأل بعض الدهرية الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - ما الدَّليل على الصانع؟ فقال: ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا: نعم. قال: فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم (أحسن الحرير)، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل، والشَّاة فيخرج منها البَعَر، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها (جمع نافجة، وهي سُرّة غزال المسك) المسك، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه، وكانوا سبعة عشر. وسئل أبو حنيفة - رضي الله عنه - عن الصَّانع فقال: الوالد يريد الذكر، فيكون أنثى، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع. وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها، ظاهرها كالفضّة المُذَابة، وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فلا بُدّ من الفاعل؛ عنى بالقلعة البيضة، وبالحيوان الفرخ. وقال آخر: عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل، وبالآخر لسع، والعسل مقلوب لسع. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 60 | |||
|
![]() (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١) حول مضمون الآية: لما قَدَّمَ اللهُ - تعالى - أحكام الفرق الثلاثة: المؤمنين والكفار والمنافقين، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من باب الالتفات المذكور في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). والالتفات كما قدمنا من قبل هو ظاهرة بلاغية تتجاوز النسق اللساني المعروف، من خلال الانزياح عن المطابقة، إلى المخالفة، بالانتقال من المخاطب إلى المتكلم، ومن الجمع إلى المفرد، أو من زمن الماضي إلى الحاضر، وما يشبه ذلك. ومن فوائده: أ) حمل المخاطب على الانتباه لتغير وجه الأسلوب عليه، ب) وحمله على التفكير في المعنى، ج) ودفع السآمة والملل عنه، لأن بقاء الأسلوب على نمط واحد، غالباً ما يؤدي إلى الممل. وهذه الفوائد عامة للالتفات في جميع صوره، أما الفوائد الخاصة فتتعين في كل صورة، حسب ما يقتضيه المقام. والالتفات في الآية أفاد تلك الفوائد السابقة، وزاد عليها: د) الالتفات لمخاطبة المكلفين بلا واسطة، زيادة في إكرامهم وتقريبهم، فيحصل لهم شرف المخاطبة والمكالمة. هـ) إشعار العبد بأنه إذا كان مشتغلاً بالعبودية فإنه يكون أبداً في الترقي، بدليل أنه في هذه الآية، انتقل من الغيبة إلى الحضور. و) كانت الآيات المتقدمة في حكاية أحوالهم، وأما هذه الآيات فإنها أمر وتكليف، ففيه كلفة ومشقة فلا بدّ من راحة تقابل هذه الكلفة، وتلك الراحة هي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته، كما أن العبد إذا ألزم تكليفاً شاقاً فلو شافهه المولى وقال: أريد منك أن تفعل كذا فإنه يصير ذلك الشاق لذيذاً لأجل ذلك الخطاب. والناس اسم جمع نودي هنا وعرف بـ "أل"، ليشمل كل أفراد مسماه، لأن الجموع المعرفة باللام للعموم ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول. والعهد أو التخصيص يحدده السياق، فمن ذلك قوله تعالى: (ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ 173) آل عمران، والسياق بَيَّنَ بقول: (إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ) أن لدينا طرفان من الناس، أولهما المتكلم، وثانيهما المخبر عنه، فـ "الناس" الأولى غير "الناس" الثانية، أما الأولى فتخص بعض قبائل العرب الذين حذروا المسلمين من المشركين، الذين هم "الناس" الثانية. ومثلها قوله تعالى حكاية عن ساقي الملك في سورة يوسف: (لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ 46)، ومنطوق الآية يبين أن الناس المقصودون هم فئة معينة يعنيها الساقي؛ فالناس هنا هم الملك وحاشيته الذين أرسلوه ليوسف - عليه السلام - ليسأله عن تأويل رؤيا الملك. أما احتمال العهد في الآية هنا، فضعيف؛ فلذلك كان الخطاب عامّاً للناس كافّة في جميع العصور، مؤمنهم وكافرهم، أي لكل من يصل إليه، سواء أكان ممن يحضر وقت سماع هذه الآية، أو لم يحضر، ومن عاصر زمن نزولها، ومن لم يعاصره، ومثلها قوله تعالى: (قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا) الأعراف 158. ولأن هذا الذكر الحكيم كتاب مفتوح لكل البيئات والعصور، يكون النداء لكل من تصل إليه الآية. ولسنا نرى ما رآه بعض أهل السلف من أن هذا الخطاب لا يوجه للمؤمنين، لأن المؤمن يعبد ربه، فلا حاجة لطلب العبـادة منه. وهذا القول مردود؛ إذ أن معنى إضافة المؤمنين للخطاب هنا، هو حثهم على استدامة العبادة، وللكافرين أمر بابتدائها. هذا النداء الإلهيّ المشعر بأنّ نسبة الناس الأوّلين إلى الله تعالى كنسبة الآخرين واحدة: هو الخالق وهم المخلوقون، وهو المستحقّ للعبادة وهم المأمورون بها أجمعون. قد خلقهم الله جميعاً، وأمر عباده بعبادته، لأنه خالقهم من أولهم لآخرهم، أجيال يرسل لها الله الرسل بالكتب، ليرشدها إلى عبادته، فمنهم من أطاع، ومنهم من عصى: (قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلُۚ كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّشۡرِكِينَ 42) الروم، فأمرنا أن نسير في الأرض، ونبحث لنعتبر بتاريخ مَنْ قبلنا. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ) الذي يربيكم، ويرعاكم، ويرزقكم، كما فعل لأسلافكم الذين اتخذ بعضكم منهم شركاء له، رغم أنهم كانوا مثلكم، محتاجين لتربية الله، مفتقرين إليه. |
|||
![]() |
![]() |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | تقييم هذا الموضوع |
|
|
|
|