|
|
|
|
المنتدى الإسلامي هنا نناقش قضايا العصر في منظور الشرع ونحاول تكوين مرجع ديني للمهتمين.. |
![]() |
مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان) |
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 25 | |||
|
![]() ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨﴾ ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ﴾: الواو لِعطف طائفة من الجمل على طائفة أخرى هي الواردة في الآيتين السابقتين. و ﴿مِنَ﴾: للتبعيض. واللام في ﴿ٱلنَّاسِ﴾ للعهد أو الجنس. إن كانت للجنس مثل: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ﴾ الأحزاب 23، فهي على المطلق. وإن كانت للعهد فقد عني بها قوم أو مجموعة أفراد بأعيانهم كقوله: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾ التوبة 61، أي أن يكون المعنيون بالناس: الكفار والمنافقين جميعاً. أما ما جمع الفئتين في جنس واحد، فهو اتحادهما في الكفر، وزاد عليهم المنافقون الخديعة والاستهزاء. و ﴿مِنَ ٱلنَّاسِ﴾: خبر مقدم، و ﴿مَن يَقُولُ﴾ مبتدأ مؤخر. و ﴿ٱلنَّاسِ﴾: اسم جمع لا واحد له من لَفْظِهَ، ويرادفه: أَنَاسِيّ، جمع إنسان أو إنسي، وهو حقيقة في الآدميين، ويطلق على الجِنّ مجازاً. ما قيل في اشتقاق لفظ ﴿ٱلنَّاسِ﴾: اختلف النحويون في اشتقاقه، فقيل: - أن أصله همزة ونون وسين، والأصل: أناس اشتقاقاً من الأُنس،لأنه أنس بحواء. أو لاستئناسه بمثله، كما يقول الشاعر: وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ ..... وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ..... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ - أنه من نون وواو وسين (نوس) فقلبت الواو ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، والنَّوسُ: الحركة. - أنه من نون وسين وياء (نسي) ثم قلبت الياء إلى موضع السين، فصار: نيس، ثم قلبت الياء ألفاً لما تقدم في (نوس) وسموا بذلك لنسيانهم؛ ومنه الإنسان لنسيانه؛ قال أبو الفتح البستي: فَإِنْ نَسِيتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفةً ..... فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا ..... سُمِّيتَ إِنْسَاناً لأنَّكَ نَاسِي تعدد معاني لفظة ﴿ٱلنَّاسِ﴾ في القرآن الكريم: جاءت لفظة الناس في القرآن الكريم لتدل على طوائف مختلفة من البشر، منها: - كل البشر: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ آل عمران 9. - كل البشر ما عدا المسلمين: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ المائدة 82. - البشر ما عدا اليهود: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ آل عمران 112. - بنو إسرائيل: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ النمل 16. - أهل مصر الجزيرة: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ يوسف 49. - الملأ المجموع يوم الزينة: ﴿قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ الأعراف 116. - كل البشر بعد نزول القرآن: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ الإسراء 89. - المشركون: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يونس 104 . - المنافقون: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ﴾ الحج 11. - المناطق المحيطة بمكة: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ العنكبوت 67. - ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ أي جماعة من عبد قيس، ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ آل عمران 173، وقيل: المقصودون هم طائفة من المشركين فيهم أبو سفيان. - الصحابة: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ﴾ الأحزاب 63. - الحجيج: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ﴾ التوبة 3. - جماعة من البشر: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ القصص 23. ﴿مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾: و ﴿مَن﴾: موصولة، وشرطية، واستفهامية، ونكرة موصوفة. ولا تقع على آحاد ما لا يعقل مطلقاً. وأكثر لسان العرب أنها لا تكون نكرة موصوفة إلا في موضع يختص بالنكرة، كقول سُوَيْدِ بْنِ أبِي كاهِلٍ: رَبِّ مَن أنْضَجْتَ غَيْظًا صَدْرَهُ ..... لَوْ تَمَنّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ فَكَفى بِنا فَضْلًا عَلى مَن غَيْرَنا ..... حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إيّانا وفي هذه الآية: لفظ: ﴿يَقُولُ﴾ للواحد، و﴿ءَامَنَّا﴾: للجمع، لذايُرجع للجمع. والقول هو اللفظ الموضوعُ لمعنى، ويطلق على اللَّفْظِ الدَّال على النسبة الإسنادية، وعلى الكلام النَّفساني أيضاً، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ المجادلة 8. وتراكيبه كلها تدل على الخفّة والسرعة. و ﴿ءَامَنَّا﴾: فعل وفاعل، و ﴿بِٱللَّهِ﴾ متعلّق به. وكررت الباء في قوله: ﴿بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ للمعنى المتقدّم في: ﴿وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ﴾ البقرة 7. و ﴿ٱلۡأٓخِرِ﴾: صفة لـ "اليوم" وهذا مقابل الأوّل، ويجوز أن يُرَاد به الوقت الَّذي لا حَدّ له، وهو الأبد القائم الذي لا انقطاع له، والمراد به: يوم القيامة. واليوم الآخر هو اليوم الذي يبتدئ بالبعث ولا ينقطع أبداً، وقد يراد منه اليوم الذي يبتدئ بالبعث وينتهي باستقرار أهل الجنة في الجنة . وأهل النار في النار . واليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه "اليوم الآخر" ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم، لأنه لا ليل بعده. لفظة ﴿مِنَ﴾ صالحة للإفراد والتثنية والجمع: قد وردت بالمفرد على مُرَاعاة اللَّفظ، كما وردت بعد مُرَاعاة المعنى في قول الشَّاعر: لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو ..... نَ إِذَاَ كَافَحَتْهُ خَيْلُ الأَعَادِي وكذا قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ﴾ الطلاق 11، إلى أن قال: ﴿خَالِدين﴾، فراعى المعنى، ثم قال: ﴿فَقَدْ أَحْسَنَ الله له رِزْقاً﴾، فراعى اللفظ بعد مُرَاعاة المعنى. وهذا الحمل جاز فيها من جميع أحوالها، أعني من كونها موصولة وشرطية، واستفهامية. كما جاءت في مواضع أخرى بالواحد كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ الأنعام 25، والجمع كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ يونس 42، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى. توارد مجيء قوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن﴾ في التنزيل: قوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن﴾ كأنه قال: من الناس ناس يقولون كذا، مثل ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا﴾ الأحزاب 23. وجاءت هذه الصيغة مشاكلة لـ: - ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ البقرة 204، قيلت في المنافقين. - و ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ البقرة 165، وهم المشركون. - و ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ البقرة 207، وهي في مدح صنف مخصوص من المؤمنين. وهو وإن لم يعلن عن المقصود بـ: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ﴾ في الآية لكنه صرح بذكر بعضهم في: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ ﴾ التوبة 101. ما الإيمان؟: اختلف في ماهيـة الإيمان ما هو؟ واختصرت الآراء في خمسة أقوال: 1) التصديق، لا مسمى له غيرُ ذلك وهو مسماه في العربية، فينبغي ألا ينقل من معناه لأن الأصل عدم النقل إلا أنه أطلق على تصديق خاص بأشياء بيّنها الدين. وأما النطق والأعمال فهي من الإسـلام لا من مفهوم الإيمان لأن الإسلام الاستسلام والانقياد بالجسـد دون القلب. ودليل التفرقة بين الإسـلام والإيمان قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ الحجرات 14. ومنها حديث جبريل المشهور، وأورد أصحاب هذا الرأي، وهم جمهور العلماء أدلة أخرى كثيرة. 2) الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان بالشهادتين للإقرار بذلك الاعتقاد، وبذلك يدخل الإنسان في أهل القبلة. واحتج أصحاب هذا الرأي بقوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 35فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 36﴾ الذاريات، وحديث وفد عبد القيس يثبت أن الإيمان يشمل العمل*. * عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قَدِم وفْدُ عبدِ القَيسِ علَى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: "مرحبًا بالوفدِ، ليسَ بالخزَايا ولا النَّادِمينَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ بينَنا وبينَكَ المشرِكينَ، وإنَّا لا نَصلُ إليكَ إلَّا في أشهرِ الحرمِ، فحدِّثنا بأمرٍ إن عمِلنا بِهِ دخلنا الجنَّةَ، ونَدعو بِهِ مَن وراءَنا، قالَ: آمرُكُم بثلاثٍ، وأنهاكُم عن أربعٍ، آمرُكُم: بالإيمانِ باللَّهِ، وَهَل تَدرونَ ما الإيمانُ باللَّهِ؟، قالوا: اللَّهُ ورسولُهُ أعلَمُ، قالَ: شَهادةُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وأن تُعطوا منَ المغانِمِ الخُمُسَ، أنهاكُم عَن أربعٍ: عمَّا يُنبَذُ في الدُّبَّاءِ، والنَّقيرِ، والحنتَمِ، والمزفَّتِ" رواه الشيخان: البخاري (523)، ومسلم (17) باختلاف يسير، والنسائي (5692) واللفظ له. ورد هذا الرأي بالقول بأن هذه أخبار آحاد قد يستدل بها لمجرد التقريب، على أن معظمها لا يدل على إطلاق الإيمان على حالة ليس معها حالة إسلام. 3) الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين، ذلك أنهم لكمال حالهم ومجيئهم في فاتحة انبثاق أنوار الدين لم يكونوا يفرضون في الإيمان أحوالاً تقصر في الامتثال، وتمسك به من أخذوا بظاهر ألفاظ الأحاديث، وبذلك أثبتوا الزيادة والنقص في الإيمان بزيادة الأعمال ونقصها، لقوله تعالى: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ الفتح 4، وفي الحديث: "الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَةً"*، أي إن للإيمان درجات. وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ"**، أي ليس متصفاً حينئذٍ بكمال الإيمان، أو أن إيمانه غائب وقت ارتكابه للكبيرة. * من رواية أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: (الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ). صحيح مسلم (35). ** الراوي: عبد الله بن عباس، صحيح البخاري (6782). 4) الإيمان اعتقاد ونطق وعمل، فإذا اختل أحدها بطل الإيمان، وهو قول الخوارج والمعتزلة، على تفصيلات كثيرة من الحكم بالكفر أو العصيان، وهي مبسوطة في كتب العقيدة. 5) الإيمان هو الإقرار باللسان إذا لم يخالف الاعتقادُ القولَ فلا يشترط في مسمى الإيمان شيء من المعرفة والتصديق، فأما إذا كان يعتقد خلاف مقاله بطل إيمانه، وهذا يرجع إلى الاعتداد بإيمان من نطق بالشهادتين وإن لم يَشغل عقله باعتقاد مدلولهما بل يكتفَى منه بأنه لا يضمر خلاف مدلولهما. أما من يضمر خلاف ما نطق به من الشهادتين، فهو خالد في النار يوم القيامة. والذي نطمئن إليه أن: - الإيمان والإسلام يأتيان أولاً، ثم تليهما الأعمال، ويتضح هذا من توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، إذ أمره بدعوتهـم إلى الشـهادتين أولاً، فإن اطاعوا طالبهم بالأعمـال على مراحل*. فلولا أن للإيمان والإسلام الحظ الأول، لما قدمهما، ولولا أن الأعمال لا دخل لها في مسـمى الإسلام، لما فرق بينهما. * عن عبد الله بن عباس قال: قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ: "إنَّكَ سَتَأْتي قَوْمًا أهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إلى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ علَى فُقَرَائِهِمْ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ". أخرجه الشيخان: البخاري (1496) واللفظ له، ومسلم (19). - استحقاق الثواب والعقاب للمسلم ينبني على مستويين: 1) قبول الإيمان القلبي، الذي هو أساس الدين، 2) ثم يكون التفاضل بين الناس في الثواب على مدى اجتهادهم في الطاعات، وكذلك التمايز في العقاب على قدر التفريط في الطاعات أو الولوغ في المعاصي، فكلما زاد سـوء العمل زادت العقوبة. هي إذاً عملية تفاعلية بين القلب والجوارح، بين الروح والجسد. وهنا يفهم زيادة الإيمان ونقصانه، وهو أمر يعود بكليته إلى الله، فهو المطلع على ظواهر الناس وبواطنهم، وهو وحده الذي يعلم السر وأخفى. لِمّ خصوا إيمانهم ﴿بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ فقط؟: - اكتفوا بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، ليوحوا أنهم حازوا الإيمان من جانبيه: فالإيمان بالله هو أصل الاعتقاد، والإيمان بالله يستتبعه الإيمان برسوله، والإيمان باليوم الآخر هو الباعث على سائر الأعمال. - ويحتمل أنهم اكتفوا بالتصريح بالإيمان بالله واليوم الآخر استثقالاً منهم للاعتراف اللفظي بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرادوا الإيهام بجملة الإيمان مع بقائهم على الشرك. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 26 | |||
|
![]() ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨﴾ ﴿وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ﴾: لما ذكر كذبهم بقولهم: ﴿ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ فكرر حرف الجر (الباء) مع العطف، في محاولة منهم لتأكيد إيمانهم المدعى ولنفي الريبة وإبعاد التهمة عنهم، جاء بباء السببية المقابلة لباءهم للتأكيد على زيف إيمانهم، فقال: ﴿وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ﴾، وأردفها بأوكد الألفاظ، إذ نفى جنس الإيمان عنهم بالكلية، وهو أبلغ من قولك: وما يخرجون منها، لأن الجملة الإسمية تعني الثبات والديمومة. ولا نوافق من قال: باء ﴿وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ﴾ زائدة، لا في هذا الموضع ولا في غيره، نحو ما استدلوا به بقوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ المائدة 37. إننا نؤمن أن القرآن الكريم هو الكتاب المحكم الذي لكل حرف فيه وظيفة، بلا زيادة أو نقص. وحرف الباء هنا أضاف معنى دلالي لا يفهم من دونه. كفر الكافر أقبح أم كفر المنافق؟: - قالوا: كفر الكافر أقبح، لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب، صادق باللسان. - لكن آخرين قالوا: إن المنافق كاذب باللسان لأنه يكذب بادعائه الإيمان، يقول تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ الحجرات 14، وقال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ المنافقون 1. - الكافر مجاهر، والمنافق مداري، فصار المنافق بهذا أقبح لأنه قصد التلبيس. - الكافر صادق، والمنافق رضي بالكذب. وقد وصفوا بالتردد الظاهر بين المعسكرين. يقول الله جل وعلا: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ﴾ النساء 143، فكانـوا يكذبـون ليحققـوا معادلـة أن يكونـوا هنـا وهناك، ويحسبون ضمن هؤلاء وضمن أولئك. - المنافق قصد الاستهزاء، بخلاف الكافر، لذلك غلظ كفره: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ النساء 145. - المنافق أعظم جرماً، بدليل ذكر الكافرين في آيتين، والمنافقين في ثلاث عشرة آية، كما أن: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ست آيات قصار، و ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ إحدى عشرة آية طوال. ونرجح أن المنافق كافر جمع خصائص الكافر وزيادة. زاد على مساويء الكافر بأخلاق الكذب والجبن والمكيدة وأفن الرأي والبله وسوء السلوك والطمع وإضاعة العمر وزوال الثقة وعداوة الأصحاب واضمحلال الفضيلة والغش والخيانة والمداراة والتحايل. ما سبب مجيء نفي إيمانهم بالجملة الإسمية؟: هم إذ قالوا: ﴿مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾، افترض أن يرد عليهم بنحو: "وما آمنوا". لكن الرد جاء في قوله: ﴿وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ﴾ لاعتبارات: - لو قال: "وما آمنوا" لكان المعنى يحتمل نفي الإيمان عنهم في السابق، لكنه لم يقرر نفي احتمال أن يؤمنوا في الحاضر أو المستقبل. - لأن الجملة الفعلية تدل على الاهتمام بشأن الفعل دون الفاعل فلذلك حكى بها كلامهم لأنهم لما رأوا المسلمين يتطلبون معرفة حصول إيمانهم قالوا: ﴿آمَنَّا﴾. - أول الفروق بين الفعل واسم الفاعل هو تعلق صيغة الفعل بالزمن. فقوله تعالى:﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ المائدة 38، ولم يقل: من سرق، ومن سرقت، لاعتبار أن هذا الحكم لا يوقع إلا على من كانت السرقة صفة لازمة لهما. ويبقى بالتعزير ردع من سرق مرة أو مرتين، أو من لا تتحقق فيه دلالة اسم الفاعل: "السارق". وكذا في الزاني والزانية، اللذين التصقت بهما صفة اسم الفاعل، لممارستهما الفاحشة في العلن، حتى ينكشف فعلهم لأربعة شهود.وهذا لا يعني أن ممارسة الفاحشة مباحة، ولكن الحكم جاء لوقاية المجتمع من التحلل والإباحية و الفساد، وأوجدت أحكام أخرى لحماية الأسر، مثل حكم الملاعنة. وفي الآية لو اسـتعمل صيغة فعلية بدلاً من اسـم الفاعل، لدلت على زمن محدد: سـابق، أو حاضـر، وهذا ليس المقصود من الآية. - من الفروق بين الجملة الفعلية والاسـمية أن الجملةُ الاسمية تدل على الاهتمام بشأن الفاعل أي أن القائلين: ﴿آمَنَّا﴾ لم يقع منهم إيمان. ولذلك قدمت الجملة الإسمية بـ ﴿هُم﴾، بينما كان تقديم الجملة الفعلية بالفعل، مما دل على اهتمامهم بإظهار الإيمان لإيهام المؤمنين بصدقهم. - نفي المطلق أي الإيمان كله، يستلزم نفي المقيد المتمثل في الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو أبلغ وأقوى. - يوضح معنى الآية قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ المنافقون 1، فهم قالوا حقاً، لكنهم يقولونه بأفواههم وتخفي صدورهم عكسه، لذا شهد الله بكذبهم. ما سبب عدم قتل المنافقين؟: 1) أعرض عنهم النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يسبب قتله لهم تغيراً لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام دون أن يعلموا حكمة قتله لهم، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّه كانَ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ"*. * حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة: " أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيره فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبيّ يمشي في الناس فأقتلَه، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخلَ النارَ؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:" بَلْ نَرْفُقْ بِهِ وَنُحِسنْ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا "، وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم :"كَيْفَ تَرَى يا عُمَرُ، أما واللهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لأرْعَدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ أَمَرْتَهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتَهُ"؛ قال: فقال عمر: قد والله علمت لأمرُ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أعظم بركة من أمري. الطبري، في تفسير: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ المنافقون8. 2) أراد أن يحسن إليهم تألفاً، كما كان يعطي الصدقة للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفاً لهم، وفي هذا قال تعالى ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ التوبة 5، 3) لا يخلو أن يكون للمنافقين أقرباء من المؤمنين، وقد يوغر قتل المنافق صدور ذويه من المخلصين، لذا احتمل أن يكون في قتل المنافق مضرة لبعض المؤمنين، من ذلك ما روي عن رأس النفاق وابنه عبد الله. 4) لم يقتلهم لأنه لا يخاف على المؤمنين من شرهم مع وجوده بين أظهرهم، لا سيما وأنهم كانوا أضعف من أن يمثلوا خطراً على الدين، أما بعده فيقتلون إن أظهروا النفاق. أما منهم من آذى المسلمين وحارب الإسلام فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، مثل النضر بن الحارث وأبي عَفَك. 5) منع من قتلهم ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع علمه بنفاقهم، فعصموا بما يظهرونه من إيمان لفظي دماءهم وأموالهم. 6) رغب صلى الله عليه وسلم في تعليم المسلمين أن الحاكم لا يحكم بعلمه، بل وفق قرائن إدانة لا تقبل الشك. حول مضمون الآية: لمـا انتقـل في الآيات السـابقة من الثنـاء على القـرآن بذكـر المهتديـن به بصفاتهـم، ثم انتقـل منهم إلى ذكـر أضدادهم، وهم الكافرون الذين صرحوا بالكفر، وعارضوا الإيمان جملة، وهم على قسمين: جاحدين لا يسمعون، ومعاندين يعرفون الحقّ ولا يذعنون. جاء بفريق ثالث، له ظاهر الإيمان وباطنه الكفر. والمفسرون قالوا: إن الفريق الثاني هو طائفة المشركين العرب، بينما الفريق الثالث يشمل منافقي العرب واليهود. لكن هناك غياب لأهل الكتاب الذين لم ينافقوا. إن الهدف من عرض الفئات الثلاثة ـ فيما نرى ـ هو لحصر الناس، كل الناس، في تلك الفئات، دون أن يخرج منها أحد. وأهل الكتاب على ثلاث أصناف: صنف آمن وحسن إيمانه، وهذا داخل مع المهتدين، وصنف نافق، وهؤلاء حاضرون في فئة المنافقين، وصنف ثالث، هو بقيتهم الغالبة جاهر برفض الإسلام، وهؤلاء لم يصنفهم المفسرون. والذي نراه أنهم داخلون في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ حتى: ﴿وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٧﴾. وقد ذكر القرآن المتقين، ثم تلاهم بذكر الكافرين، ولم يأت بعاطف، إظهاراً للمخالفة، فهؤلاء أضداد أولئك. أما حين جاء بالمنافقين بعد الكافرين، قدمهم بحرف العطف، فقال: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ﴾ ليدل على أن هؤلاء من أولئك السابق ذكرهم. فكأن التقسيم المنطقي هو: (متقون) و (كافرون و منافقون). وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية ؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً، وهو في الباطن مؤمن. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام (رض)، ظل الأمر بين مؤمن وكافر، لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف. فلما أظهر الله كلمته في وقعة بدر، وأعلى الإسلام وأهله، وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، وانضم إليهم بعض اليهود. أما المهاجرون فلم يكن فيهم منافقون، لأنه لم يكن أحد مجبر على الهجرة، فيترك ماله وأهله وأرضه، إلى مجتمع جديد لما يستقر. والنفاق هو إظهار الخير وإبطان الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب، ومنه ما جاء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"*.أما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام، فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها. ومن لطف الله بالمؤمنين، أن أظهر لهم أحوالهم بأوصاف يعرفون بها، لئلا يغتر بهم المسلمون، وليرجعوا عن كثير من فجورهم. قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ التوبة 64. وفي التعبير بـ ﴿يَقُولُ﴾ في الآية إيماء إلى أن ذلك لا يتعدى قولاً باللسان غير مطابق للواقع، أو الاعتقاد، فالمؤمن لا يحتاج لأن يجدد قوله بالإيمان طالما أفعاله تدل عليه، وما يفعل ذلك إلا من يشك في إيمانه، فيحاول إثباته بقول دون عمل، وفيه تمهيد لقوله: ﴿وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ﴾ التي وقعت في موضع الحال من ضمير ﴿يَقُولُ﴾، أي: يقولون هذا القول في حال أنهم غير مؤمنين. *الراوي: أبو هريرة. صحيح البخاري (33). وإنما اقتصـر القـرآن الحكيم من أقوالهـم على قولهـم: ﴿ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ مع أنهـم أظهـروا الإيمـان بالنبي صلى الله عليه وسلم إيجازاً لأن الأول هو مبدأ الاعتقادات كلها لأن من لم يؤمن برب واحد لا يصل إلى الإيمان بالرسول إذ الإيمان بالله هو الأصل وبه يصلح الاعتقاد وهو أصل العمل، والثاني هو الوازع والباعث في الأعمال كلها وفيه صلاح الحال العملي. أو هم الذين اقتصروا في قولهم على هذا القول لأنهم لغلوهم في الكفر لا يستطيعون أن يذكروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم استثقالاً لهذا الاعتراف فيقتصرون على ذكر الله واليوم الآخر إيهاماً للاكتفاء ظاهراً ومحافظة على كفرهم باطناً. وقد فند الله تبارك وتعالى مزاعم من يدعي الإيمان بالله واليوم الآخر، فقال: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ ﴾ المجادلة 22، فجمع الإيمان كله في سلة واحدة. إن الإيمان برب العالمين ويوم الدين يقتضي الالتزام بسائر مقتضيات الإيمان، ومنها الملائكة والكتب والرسل، وأن يحب لله ويكره لله من يحاربونه ويصدون عن رسوله. ومما لا شبهة فيه أن استحقاق الثواب والعقاب على قدر أعمال القلب والجوارح، ومن لم يؤمن ولم يسلم يخلَّد في النار لأنه لم يأت بالمقصود من الإيمان والإسلام، وهما أصل الدين. والناس تتفاضل في مدى تحصيلهم للعبادة بمعناها العام، فمنهم من ارتقى إلى مستوى المقربين، أو التزم بشرع الله مع هنات وتقصير، أو ارتكب ما يقتضي العقوبة، أو رفض الدين بجملته. وما يستوي الهدى والضلال، ولا أن يستوي عند الله الملك العدل رجلان أحدهما لم يؤمن ولم يسلم والآخر آمن وأسلَم وامتثل وانتهى، إلا أنه اتبع الأمَّارة بالسوء في خصلة أو زلة فيحكم بأن كلا الرجلين في عذاب وخلود. ولا شك أن كثيراً من الناس لا يخلو أحدهم من التلبس بالمعصية، لكن ميزان الحكيم الخبير لا ظلم فيه ولا جور. وقد توسع الفقهاء في مسألة العفو عن العصاة، فمنهم من خلدهم في النار، ومنهم من أنجاهم منها، ومنهم من جعل مصيرهم بين الدارين. والحق أن الأولى أن يوكل أمرهم لله، خروجاً من افتراضات وتكهنات لن توصل ليقين. إن الشريعة ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام لمجرد تعمير العالم الأخروي من جنة ونار لأن الله تعالى قادر على أن يخلق لهذين الموضعين خلْقاً يعمرونهما إن شاء خَلْقَهما، ولكن الله أراد تعمير العالَمين الدنيوي والأخروي، وجعل الدنيا دار اختبار لصقل النفوس البشرية، وتهيئتها لتعمير العالم الأخروي، وأنزل الدين لتصحيح الفطرة عن الإنسان بعد أن أفسدتها الشهوات. وكان الدخول في الهدى بالإيمان والإسلام على مراد الله، لتحقيق مبدأ الخلافة في الأرض، الذي وكل به بنو آدم. وبالإيمان وبالإسلام جميعاً يبنى المجتمع المثالي، وإن تفاوت الناس فيه لتفاوت التزامهم بالشرع، وقهرهم لنوازع الشيطان وهواجسه. وكشف الله تبارك اسمه للمنافقين بقوله: ﴿وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ﴾، كما فضح نواياهم، أظهر شــقاءهم وعذابهم في الدنيا قبل الآخرة. إن إيمانهم لفظي لا يَنْفُذ لقلوبهم، يتظاهرون به، فيشاركون المؤمنين طقوس العبادة مكرهين، فلا يؤجرون على صلاة أو صيام أو صدقة، وتنتابهم الحسرات لضياع أوقاتهم وأموالهم فيما لا يرجون منه نفعاً أكثر من الظهور بمظهر المؤمنين. وإذا نودي لمعركة، حاربوا مع المؤمنين مكرهين، فإذا مات أحدهم فيها اعتبروا موته هدراً للحياة بلا طائل، وقتلوا أنفسهم حزناً عليه وأسى ، فكأنهم بنفاقهم قد نالوا الشقاء في الدنيا والآخرة، فلا ارتاحوا في الحياة، ولا أثيبوا في الآخرة. بينما المؤمن حين يصلي أو يزكي أو يُقتل في سبيل الله يرجو الجنة، ويسعى إليها مخلصاً قولاً وعملاً. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 27 | ||||
|
![]()
|
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 28 | |||
|
![]() ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾: هذه الجملةُ الفعلية يحتمل أن تكون في موضع الحال، جواباً لسؤال مقدَّر، وهو: ما بالُهم قالوا آمنَّا وما هم بمؤمنين؟ فقيل: يُخادعون اللهَ، ويحتمل أن تكونَ بدلاً من الجملةِ الواقعة صلةً لـ ﴿مَن﴾ وهي: ﴿يَقُولُ﴾ في قوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ﴾ 8، ويكون هذا من بدلِ الاشتمال، لأنَّ قولَهم كذا مشتملٌ على الخِداع فهو نظيرُ قول الشاعر: إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعــــا .... تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا ..... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجَا والخِداعُ أصلُه الإِخفاء، ومنه الأَخْدَعان: عِرْقَان مستبطنان في العُنُق ومنه: مَخْدَع البيت، فمعنى خادع أي: مُوهِمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه، وقيل: هو الفساد، قال الشاعر: أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ ..... طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ وقريء: {يَخْدَعون}. ومعنى يخادعون الله أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى، وقيل: لعدم عرفانِهم بالله تعالى وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ. حقيقة المخادعة: 1) أصل هذه المادة يدل على إخفاء الشيء، فالخَدْعُ: إِظْهَارُ خِلَافَ مَا تُخْفيه، يقال: خَدَعَهُ يَخْدَعُهُ خَدْعًا وخِداعًا أي: خَتَلَه، وأراد به المكروه مِن حيث لا يعلم. والاسم الخَدِيعَةُ، وقيل: الاسم هو الخداع. والخِدَاع اصطلاحًا هو إظهار خيرٍ يُتَوَّسل به إلى إبطان شرٍّ، يؤول إليه أمر ذلك الخير المظْهَر، وهو مذموم. وكذلك الانخداع لأنه تَمَشّي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم لأنه من البله، وأما إظهار الانخداع من التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم، يقول الفرزدق: اسْتَمْطَرُوا مِن قُرَيْشٍ كُلَّ مُنْخَدِعٍ ..... إنَّ الكَرِيمَ إذا خادَعْتَهُ انْخَدَعا تِلكَ الفَتاةُ الَّتي عُلِّقتُها عَرَضاً ..... إِنَّ الكَريمَ وَذا الإِسلامِ يُختَلَبُ 2) للمخادعة طرفان: خادع ومخدوع. والخادع هو المنافق، أما المخدوع هنا فممتنع لأن عالم الغيب والشهادة لا يُخدَع. وقد جرت المشاكلة في اللغة في مثل قول الشاعر: أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا ..... فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا 3) المشاركةُ في المخادعة من طرف الله والمؤمنين، إذ أن مخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا، وكشف ألاعيبهم. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ النساء 142. ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم. 4) إذا أخذنا بقراءة: {يَخْدَعون}، وبقول من قالوا: إن لفظ المخادعة لا يقتضي المشاركة بين اثنين، ومثله: طرقت النعل، وطارقت النعل، ومثله كثير في ألفاظ المفاعلة، يدل اللفظ على خداع من طرف واحد هو المنافق. ما المراد بمخادعة الله؟: بداية، إن مخادعة الله ممتنعة لسببين: 1) هو يعلم السر وأخفى. فإن كان يعلم ما في بواطنهم، لم يصح أن يُخدع. 2) هم لم يعتقدوا أن الله أرسل الرسول إليهم، فلم يكن في قصدهم مخادعة الله، فلا يؤخذ اللفظ على ظاهره، ويؤول. وتأويل دلالة مخادعة الله على وجوه: 1. بأن الله قصد بقوله: ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ﴾ خداع الرسول، فذكر نفسه، وهو يقصد رسوله، وهذا التفخيم وتعظيم شأن الرسول ورد في مثل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ الفتح 10، و ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ الأنفال 41، و ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ النساء 80، فالمنافقون لما خادعوا الرسول الذي يحمل رسالة الله قيل إنهم خادعوا الله تعالى. 2. أو أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر صورة من يخادع، ولتشملهم أحكام المؤمنين، مع علمه تعالى بكفرهم. 3. يحتمل أن يكونوا يعتقدون أنهم يخادعون الله على الحقيقة، فهم إن كانوا لا يؤمنون بالله، فهم بالتالي لم يكونوا عارفين به ولا يعرفون صفاته. ما غرهم بالخداع؟: كانوا يرون صفح النبي وإحسان معاملة المؤمنين لهم رواجاً لحيلهم، ولذلك قال كبيرهم: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ المنافقون 8، فاطمئنـوا وزادوا من محاربتهم لله ورسـوله في الخفـاء، وبلغ من غرورهـم أن ظنـوا أنهم يخدعون الله. ما الغرض من خداعهم لله؟: 1) نيل الإكرام والتعظيم كسائر المؤمنين، 2) الطمع في أموال الغنائم، 3) دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار، ومنها القتل، 4) إفشاء النبي والمؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى الكفار. ﴿وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ﴾: جملة: ﴿وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ﴾ حال من الضمير في: ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم، أي خداعهم مقصود على ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا. وقُرئ: {وما يُخْدَعون} مبنياً للمفعول، وتخريجُها على أنَّ الأصلَ وما يُخْدَعون إلا عن أنفسِهم، فلمّا حُذِف الحرف انتصبَ على حدِّ: تَمُرُّون الديار ولم تَعُوجوا وفي قراءات أخرى: - {وَمَا يَخْادَعُونَ} بحجة مطابقة اللفظ، و - {يُخَدِّعون}، مِنْ خَدَّعَ مشدداً، و - {يَخَدِّعون} (بفتح الياء والتشديد)، والأصل: يَخْتَدِعون فأدغم. ﴿إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ﴾: إلا في الأصل حَرف استثناء،ِ وأنفسَهم مفعول به، وهذا الاستثناءُ مفرغٌ. والنفس حقيقة الشيء وعينه، ولا اختصاص لها بالأجسام. يقول تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ الأنعام 12، ويقول: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ آل عمران 28، والمقصود في الآية أن ضرر خداعهم راجع إليهم، ولا يتخطاهم إلى غيرهم، يقول الشاعر: إذا أنـا لــــمْ آتِ ذا عيبَ نفســه ..... وإن كان في كِـنٍّ عـن الجــنَ والأنـسِ 1) قرئت هناك: {وما يَخْدعون}، فجعلوا القراءتين بمعنى واحد، أي: فاعَلَ بمعنى فَعَل. 2) ويُحتمل أن تكونَ المفاعلةُ ـ كما قدمنا ـ صادرة من اثنين، فهم يُخادعون أنفسَهم، حيثُ يُمَنُّونَها الأباطيلَ، وأنفُسُهم تخادِعهم حيث تُمَنِّيهم ذلك أيضاً فكأنها محاورةٌ بين اثنين، ويكون هذا قريباً من قول الآخر: لم تَدْرِ ما لا ولستَ قائلَهـا ..... عُمْرَكَ ما عِشْت آخرَ الأبدِ ولـم تُؤامِرْ نَفْسَـيْكَ مُمْتَرِياً ..... فيهـا وفي أختِهـــــا لم تَكَـدِ يؤامِرُ نَفْسَيْهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ ..... أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبانَ أَمْ لا يَطورُها ...أ- أنه تعالى يجازيهم ويعاقبهم على خداعهم، فترجع عاقبة أمرهم عليهم، ...ب- أو أنه تعالى يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين في الدنيا ويصرفه إليهم. والمعنى أن دائرة الخداع راجعة عليهم. والإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يُخدع كانوا مخادعين لأنفسهم لأنهم يمنونها بالأماني الباطلة، وهي كذلك تمنيهم. وقوله تعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ النساء 142، يبين أن خداعهم مردود عليهم: 1) في الدنيا بالاستدراج والإمهال الذي يزيدهم عذاباً، 2) أو باطلاع النبي والمؤمنين على أحوالهم التي اسروها، 3) في الآخرة بضرب حجاب بينهم وبين المؤمنين، 4) أو باطلاع أهل الجنة عليهم، وطلبهم أن ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ فيرد المؤمنون المتنعمون: ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ الأعراف 50. ما الفرق بين المكر والكَيْد والخِدَاع ؟: أولاً: المكر: هوإرادةُ وتدبيرِ فعلٍ خفيّ بحقِ من لم يعلم بما يراد بهِ ولم يحتسب أن يأتيهِ هذا الفعل من حيث أتى منه،بقصد إرادة الماكر فعل السوء بالممكور به في غفلة منه عما يراد به وعدم حذره من شر يأتيه من جهة الماكر. ومن أمثلة المكر في كتاب الله: - ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ يوسف 102، فسمى فعل إخوة يوسف مكراً لأنهم تخفوا في تدبيرهم. - ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ الأنفال 30، وهو قد وصف إرادة المشركين إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمكر لظن المشركين أنهم يتخفون به، لكن الله تعالى عالم السر وأخفى أنبأ نبيه بمكرهم، وأعلمه بتصديه سبحانه لمكرهم بما هو أشد منه وأوقع. - ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ فاطر 43. وكأن المكر متعدد، وأشده المكر السيء، وهو الكفر أو الشرك أو صد الضعفاء عن الإيمان. ويكون جزاء مكر السيء على قدر حجمه. ثانياً: الكيد: يعني:كل تدبير لفعل خفي أو ظاهر يريد منه الكائد استفزاز المكيد لارتكاب فعل سيء بإرادته دون جبر أو إرغام. ومن أمثلة الكيد في كتاب الله: - قوله تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ آل عمران 120، إذ جعـل شـرط النجاة من كيد الكافـرين هو الصبـر والتقوى، وهي أعمـال قلبيـة تنجي من تآمرهم ببث الفرقة والتثبيط. - ويقول تعالى على لسان يوسف (ع): ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ يوسف 33، فهـو يدعو ربه أن يصرف عنه كيدهن خشـية أن ينجـح كيدهـن فيرتكب الفحشاء. - وفي كيد فرعـون ضد موسى (ع) يقـول الحق جل وعـلا: ﴿فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ﴾ طه 60، وكان كيد فرعون هو السحرة وما يأتون به من أثر على أعين الناس لصدهم عن اتباع موسى عليه السلام. - ويقول تعالى: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ يوسف 67، وكيد الله ليوسف في ظاهره اتهام لبريء بالسرقة، لكنه جمع لشمله مع أخيه، وتمهيد لتحقق رؤياه قبل أن يكيد إخوته له. لذلك قال تعالى: كِدْنَا لِيُوسُفَ ولم ينسب الكيد ليوسف. - ويقول تعالى في خطاب إبراهيم صلى الله عليه وسلم لقومه: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ الأنبياء 57، فهو يتوعد بأن يكيد اصنامهم أي يدفعها لارتكاب خطيئة، أو يلقي في روعها أن تتقاتل فيما بينها. فلما حطم أصنامهم أبقى على كبيرهم وعلق الفأس في رقبته كأنه هو من فعلها. أراد أن يلقنهم درساً في أن هذه الأصنام لا نفع لها، حتى أنها لا تستطيع حماية نفسها، فكيف ترعاكم؟! ثالثاً: الخداع: هو تدبير خفي يقوم به الخادع بإيقاع الضرر بالمخدوع من حيث لا يحذر أو ينتبه. فثم طرفان: خادع ومخدوع. والخداع في كتاب الله لم يأتِ في حق الكفار بل كان في حق اليهود أو المنافقين فهؤلاء عداوتهم لله ظاهرة ويعلمون بعداوة الله لهم بعكس الكفار الذين لا يؤمنون بوجود الله أصلا بينما المنافقين مرتابين في الله ينتقصون من قدرته ويشككون في تمام إحاطته وعلمه ، واليهود يعلمون أيضا عداوة الله لهم ويعلمون بغضه لهم وعقابه المستمر على سوء أفعالهم : يقول الحق جل وعلا في اليهود ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنفال 62، وفي المنافقين: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ النساء 142. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 29 | |||
|
![]() ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ ﴿وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾: هذه الجملةُ الفعليةُ استئنافية. وقالوا: منصوبة على الحال من فاعل: ﴿يَخۡدَعُونَ﴾، ومفعوله محذوف، والتقدير: وما يشعرون أنَّ وبالَ خداعِهم راجعٌ على أنفسِهم، أو اطِّلاعِ اللهِ عليهَم. ويكون المعنى: وما يَرْجِعِ وبالُ خِداعِهم إلا على أنفسِهم غيرَ شاعِرين بذلك. لكن الأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ لأنَّ الغرضَ نفيُ الشعورِ عنهم البتةَ من غير نظرٍ إلى مُتَعَلِّقِه. والأولُ يُسَمَّى حذفَ الاختصارِ، ومعناه حَذْفُ الشيءِ لدليلٍ، والثاني يُسَمَّى حذفَ الاقتصار، وهو حَذْفُ الشيءِ لا لدليلٍ. والشعورُ: إدراكُ الشيء من وجهٍ يَدِقُّ ويَخْفى، مشتقٌّ من الشَّعْرِ لدقَّته، وقيل: هو الإِدراك بالحاسَّة مشتقٌّ من الشِّعار، وهو ثوبٌ يَلي الجسدَ، ومنه مشاعرُ الإِنسانِ أي حواسُّه الخمسُ التي يَشْعُرُ بها. أي: لا يحسون لتمادي غفلتهم. والشعور إدراك بالحواس الخمس الظاهرة، ويقال: شعرت بكذا إذا أدركته، ومنه أُخِذَ الشاعر لإدراكه دقائق المعاني. ونفي الشعور عنهم لغياب الإدراك كمن فقد حواسه، أو لا يشعرون باطلاع الله نبيه على كذبهم. ما هو مفهوم الشعور؟: قالوا: إن الشعور باختصار هو الوعي. لكن الوعي مصطلح فلسفي. وكثيراً ما يقال إن الشعور هو ما نفتقده رويداً رويداً، عندما ننتقل من حالة اليقظة إلى حالة النوم، وما نسترده شيئاً فشيئاً عندما نعود إلى الانتقال من النوم إلى اليقظة. وثمة من عَرَّفَه بالإدراك الدقيق، فهو على هذا الأساس مستوى من العلم، ينطوي على البيان والوضوح. لكن المسألة ليست بهذه البساطة، ففي قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ البقرة 12، يجرّد القرآن الكريم المنافق ذا الوجهين من قدرة التشخيص الدقيق، وكذا في: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ الشعراء 113، جاء المعنى بمستوى آخر من الإدراك، وهم يصفون أتباع نوح (ع) بالأرذلين، فينفي عنهم الشعور بمصائر العباد، ومثله: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ الأنعام 123. وما ورد في القرآن الكريم عن الشعور يؤكد أنه يسري في كل الموجودات: مما جاء عن الكائنات الحية من غير الإنسان: - يقول: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ النمل 18. فيشهد القرآن ـ بصراحة ووضوح ـ على أنّ النمل تتمتع بشعور خاص، لأنّها عندما مر على واديها سليمان وجنوده راحت نملة تخاطب بني نوعها وتحثّها على الدخول في بيوتها لئلّا يسحقها سليمان وجنوده. - ويقول على لسان الهدهد: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ 22 إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ 23 وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ 24 أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ 25 اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 26﴾ النمل، إن الهدهد طالع، وتفكر، ثم إن سليمان عليه السلام أرسله برسالة لملكة سبأ، قائلاً له: ﴿اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ 28﴾ النمل، وهذا لا يكون إلا لمن يملك الحواس والمشاعر. - يذكر القرآن من منن الله على سليمان (ع) أن علمه منطق الطير، فقال: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ النمل 16، وهذا يكشف عن وجود منطق خاص للطير كاشف عن شعوره بما يقول، كما أمده بجيشٍ ضخمٍ من الإنسان والجن والطير، كلها تأتمر بأمره. يقول تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾ النمل 17. وهكذا يستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ الطيور والنمل تتمتع بنوع خاص من الوعي والشعور، وأنّه لو أُتيح للإنسان أن يحكم على الكون كله، لاستطاع أن يتحدث معها ويعرف حديثها، وأن يستفيد منها في إرساء النظام التوحيدي وتقوية دعائمه، وتحطيم مظاهر الشرك والوثنية وتقويض قواعدها، كما استفاد سليمان من الهدهد ذلك الأمر، لكن هذا قد لا يتيسر لأحد إذا كانت دعوة سليمان (ع): ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ ﴾ ص 35 تشمل علم منطق الطير. ومن الجمادات: - قال تعالى عن الحجارة: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ البقرة 74، - وقال: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ الأحزاب 72، - وقال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ 11﴾ فصلت. غير أنّ طائفة من المفسرين فسّروا هذه الآيات ونظائرها بالمعاني المجازية ، وبأنّ كل هذا الذي يخبر عنه القرآن تم بلسان الحال، لا بلسان المقال، وهو أمر لا مبرر له، إذ لا دليل على حمل مثل هذه الآيات على غير ظاهرها. وتأويل هذه الحقيقة ـ التي يتحدّث عنها القرآن بصراحة ـ بمعانٍ مجازية ، ومحامل لم يقم عليها دليل. والعلم ليس بإمكانه نفي المعنى الحقيقي للآيات، لأن وظيفة العلم إنّما هي الإثبات فقط ، لا للنفي والإنكار. والعلم لم يبلغ مرحلة الإحاطة بحقائق الكون حتى ينكر ما لا يعرف. فماذا عن: - ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ الأعراف 143. - ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ مريم 90. يتبين من هذه الآيات ومثيلاتها أن كل ما في الكون مستجيب لفطرة الله، ولا تخفى ما في دلالة: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ﴾ من العموم والشمول لكل شيء. على أنّ الآيات المرتبطة بيوم القيامة تكشف النقاب عن وجود هذا الوعي والشعور، حيث تخبرنا عن تكلّم أعضاء جسم العاصي لتشهد عليه يوم العرض العظيم: يقول تعالى: - ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 24﴾ النور. - ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ 65﴾ يس. هذه الآيات ونظائرها تفيد سريان الشعور والفهم في جميع أجزاء الكون وذراته. أما عن حقيقة هذا الشعور والوعي، فنجهلها، لكننا لا يمكن أن ننكرها، لمجرد أن رؤيتنا المحدودة وبصائرنا لا تصل إليها. إن قوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 49﴾ الذاريات يثبت إن الكون كله مخلوق على نمط واحد بإرادة الله جل وعلا، هذا النمط هو الازدواجية التي لا يستثنى منها إلا رب العالمين، فهو وحده الواحد الأحد. وتلحق بهذه الحقيقة التكوينية إرادة إلاهية تؤكد انسجام كل الخلق في حقيقة كونية ذكرها رب العزة بقوله: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ الإسراء 44. إن الله هو مصدر الحياة وأصلها السرمدي الأبدي، وقد شاء أن ينشيء نظاماً متكاملاً، فجعل كل الكائنات ترتبط به بالتسبيح بالفطرة والجبلة، ولا يتخلف عن هذا إلا الكائن المكلف الذي يختار أن يخرج عن النظام الإلهي، فيلقى جزاءه يوم يجمع الله الخلائق، بينما يثاب الذي انسجم مع ما جبل عليه. وإن العلم الحديث أجرى في العقود الأخيرة تجارب على بعض الحيوان والنبات، فأثبت بنتائج كثيرة وجود الشعور عند الحيوان، من ذلك: - أن من الحيوانات ما ينفق كمداً لغياب قريب، وقد زادت الأدلة العلمية التي تؤكد شيوع مشاعر الحزن بين الحيوانات لفقدان أقرانها، فبعض الحيوانات تنزوي وتمتنع عن مخالطة غيرها وتعزف عن النوم والأكل وحتى الصيد والتزاوج حتى تنفق. - يتواتر عند الناس خصائص سلوكية لبعض الحيوانات، مثل وفاء الكلب وانتقام الجمل وتآلف الدولفين مع البشر، وهذه أنماط من الشعور بلا شك. - وأن الحيوانات منتجة الألبان يكثر إنتاجها عند سماع الموسيقى. - وأن للنباتات أجهزة عصبية شبيهة بالأجهزة في الحيوانات تصدر ردود فعل تشبه الصراخ إذا تعرضت لقطع أو تسخين. وقد مكن للعلم التوصل لهذه النتائج بفضل تطور أجهزة استماع دقيقة تسجل الأصوات التي لا تسمعها الأذن المجردة. أما ما يخص الجماد، فقد انتشرت منذ سنوات أبحاث لعالم ياباني درس الماء على تقنية النانو، ووجد أن بلوراته يتحسن شكلها الهندسي لسماع تعبيرات إيجابية، مثل ذكر الله، وأن شكلها الهندسي يزداد عشوائية وبشاعة عند سماع تعبيرات سلبية، كالسباب. وأكد أن شكل بلورة الماء يتغير وفق النقاء والفساد، مما يعني أن تركيب الماء يتغير بتغير البيئة عليه، فلو نقل من نهر لمستنقع ازداد بشاعة، على عكس نقله من ماء آسن إلى مجتمع مياه نقية. ما الفرق بين: الشعور والإحساس؟: الحسّ مصدر حَسَّ، وهو الإدراك بأحد الحواس الخمسة، وعُضو الحَسّ: عُضو أو بناء مُتَخَصِّص كالعين أو الأذن أو اللِّسان أو الأنف أو البشرة تعمل كعضو استقبال حِسِّيّ، ومنه قوله تعالى: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ مريم 98، وقوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ آل عمران 52 أي إنه ظهر منهم الكفر ظهوراً، بان للحس. وقد تطورت دلالة الحس من المعنى المباشر إلى معان مجازية، مثل: لا أسكت الله لك حِسًّا، وهو دعاء بطول البقاء، وحسَّ فلانًا: قتله قتلاً ذريعًا مستأصِلاً رأسَه، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ۖ ﴾ آل عمران 152، و "حَسَسْتُ اليهوديَّ" لما أظهر عداوتَه. والحس بداية العلم، ويكون بواسطة الحاسّة. أما الشعور، فكما يفهم مما فصل من قبل، هو علم يوصل إليه من وجه دقيق كدقة الشعر ولهذا قيل للشاعر شاعر لفطنته لدقيق المعاني، وقيل للشعير شعيراً للشظية الدقيقة التي في طرفه خلاف الحنطة. ويمتنع أن نطلق الشعور على الله، لأن الاشياء لا تدق عنه. والقول بأن فلاناً لا يشعر، هو ذم له، وكأننا قلنا: لا يعلم، وكأنك قلت: هو لا يحس. والشعور قد يدرك بالإحساس، أو أعضاء الحس، ولهذا هو ممتنع على الله. ولإدراك الفروق، نقول: - معظم أحاسيسنا هي انعكاس لما تتلقاه حواسنا الخمسة، كإحساسنا بالبرودة والحرارة، أما المشاعر فهي تحليلات وإدراكات، منطقية وغير منطقية، نابعة من داخل الأنسان؛ نتيجة أحاسيسه، و كردة فعلٍ على عواطفه. - الإحساس وقتي، يستغرق المدة الزمنية بين عملية أخذ البيانات، وتفسيرها من قبل الدماغ البشري، لإنتاج المعلومات عن البيئة المحيطة، كاستمتاعنا مثلًا برائحة زهرة، فهو يمكن أن يتغير أو ينتهي بسرعة، بينما الشعور حالة عاطفية تنشأ عند تحليل و تفسير العقل البشري للمشاعر والعواطف، وهي تتأثر بالتجارب الشخصية والذكريات والمواقف والمعتقدات الموجودة لدى الفرد، فتستمر فترة أطول من الأحاسيس. - يعد الإحساس عملية أقل تعقيدًا من الشعور، كرؤية شيء ما أو لمسه، أما الشعور فيتعدى ذلك إلى إضفاء قيمة معينة للأشياء أو الأشخاص، كشعور الرضا أو الإعجاب أو الكراهية، فالشعور يعتبر من أنواع التقييم أو الحُكْم على الأشياء والأشخاص؛ ويحتل دورًا بارزًا في تشكيل معتقداتنا وسلوكياتنا ومواقفنا؛ لذا فالشعور عملية معقدة للغاية مقارنةً بالإحساس. الحس إذاً بداية العلم، والشعور علم دقيق يتسم بالوضوح والتفصيل في المعلوم. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 30 | |||
|
![]() ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ حول مضمون الآية: لمّا كان إخفاء شيء عن الله تعالى محالاً؛ فسّروا مخادعتهم لله هنا وهناك بأنّه خداع في الصورة لا في الحقيقة؛ لكنهم لقصور عقولهم ظنوا أنهم يفلتون بادعاء ما لا يضمرون. والعمل الظاهر الذي لا يصدّقه الباطن إذا قصد به إرضاء آخر، يسمّى في العربية: مداجاة ومداراة ومخادعة، ولا يصلح لهذا الموقع إلا المخادعة، فالمداجاة ستر العداوة، وكل طرف يخفي عداوته عن خصمه، قال قَعْنَبُ بْنُ أُمِّ صَاحِبٍ: كُلٌّ يُدَاجِي عَلَى الْبَغْضَاءِ صَاحِبَهُ وَلَنْ أُعَالِنَهُمْ إِلَّا بِمَا عَلَنُوا إن كل إنسان تتنازعه قوتان: أحدهما تأمره بسلوك طريق الحق، والعمل بما يقتضيه، والأخرى تجمل له الطريق المعوج، وتضع فيه الشهوات والأهواء. فإذا أعمل فكره، وترجح عنده طريق الخطأ، خدع نفسه بمبررات تزين له اختياره، فيكون تطور الصراع النفسي: منازعة، فمخادعة، فترجيح. وهذا يحدث في الأمور كلها، كبيرها وصغيرها، ويمر مروراً سريعاً، حتى لا يكاد يلتفت إليه المرء، لذلك قال تعالى: ﴿وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾. والشعر (بفتح الشين وسكون العين وفتحها) استعير منه الشاعر الذي يسمى شاعراً، لفطنته ودقّة معرفته، ثم صار متعارفاً عليه لمن يزن الكلام ويقفيه، والشعور أي العلم بما دق من الحسي والعقلي. وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدلّ على هذا المعنى، أي إدراك ما فيه دقّة وخفاء. ومما يلاحظ في استعمال القرآن للشعور: - لم يرد فيه إلا بصيغة الفعل، باستثناء: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ 224﴾ الشعراء. - لم يرد الفعل للمفرد. - وروده لم يخرج عن صيغ: النفي والاستفهام، إلا في آية بالنهي، هي: ﴿فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا﴾ الكهف 13، الشرط، هي: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي ۖ لَوْ تَشْعُرُونَ 113﴾ الشعراء. - مدلوله سلبي في حق من لا يشعرون في كل الآيات التي ورد فيها. إننا لا نستطيع فهم مخادعتهم لله ما لم نراجع مقدار معرفتهم بالله. ثم بعدها يتضح لنا مدلول قوله تعالى: ﴿وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾. إن المنافقين على صنفين: منافقي العرب، ومنافقي أهل الكتاب. أما مشركوا العرب فمعرفتهم بالله غامضة لغياب الإرث العقائدي الإلهي عنهم. هم يحملون صورة باهتة للخالق، دخلتها أساطير المزاوجة بينه ـ حاشاه ـ وبين الملائكة والجن، فهو عندهم كائن له رغبات وشهوات، يخلق ويترك لمخلوقاته تسيير الكون. وأما أهل الكتاب، وهم في عصر النبوة بنو إسرائيل، فيجسدون الله ـ جل وعلا ـ ويشخصونه في رجل يأتي مع بعض ملائكته لإبراهيم صلى الله عليه وسلم في طريقه لعقاب قوم لوط، وينازل يعقوب (ع) فيكاد يعقوب أن يغلبه، ويري نفسه لموسى (ع) من فتحة الكهف وهو يمر كالطيف. هذا الفهم المعوج من كلا المنافقين، العربي واليهودي، لا يستغرب معه أن يظن أنه يستطيع خداع الله، ويتعامل معه معاملته للبشر، وقد عرض الله جل وعلا مثل هذا الفهم المريض لهم في قوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ المائدة 33، أو قوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الأحزاب 57، وكأن عندهم طاقة على محاربة الله، أو قدرة على إيذائه. وقد فسر المفسرون مثل هاتين الآيتين بأن قالوا: محاربتهم لله في محاربة دينه أو رسوله، وكذا إيذائه، لكن الأمر يتعلق أكثر بعقيدتهم تجاه الله، وظنهم أن بمقدورهم تغيير قدر الله أو منع مشيئته. إن هذه العقيدة القاصرة التي سولت لهم مشابهة الله لعباده في الإحساس والشعور، والتخطيط والتدبير، والمكر والخداع، غيبت عنهم الشعور، فجعلتهم من الغافلين. وإذا غفلوا عن حقيقة الإيمان بالله، بتنزيهه عمن سواه، فإنما يخدعون أنفسهم، ويوردونها المهالك. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 31 | |||
|
![]() ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠﴾ ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ﴾: الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ التقديمِ، مثل: ﴿وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ البقرة 7. و ﴿فِي قُلُوبِهِم﴾: قد يقصد بالقلب العقل، مثل قوله تعالى ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ الأعراف 179. والمرضُ: فعله: مَرِضَ يَمْرَض. وهو الفتورُ، وقيل: الفساد، ويُطلق على الظلمة، وأنشدوا: في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ ..... فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ وقال أهل العربية: المرض والألم والوجع نظائر. ومنه قيل: فلان يمرض الحديث أي يفسده ويضعفه. وقيل: المرض في القلب: الفتور عن الحق، وفي البدن: فتور الأعضاء، وفي العين: فتور النظر. والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجاً غير تام. وبمقدار الخروج يشتد الألم، فإن تم الخروج فهو الموت. وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضاً يخرجها عن كمالها، وإطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب. وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي. وعلى المجاز قال علقمة بن عبدة الفحل يذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها: فَإنْ تَسْألُونِي بِالنِّساءِ فَإنَّنِي ..... خَبِيرٌ بِأدْواءِ النِّساءِ طَبِيبُ فوائد بلاغية في قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ﴾: 1) في تقديم الخبر فِي قُلُوبِهِم على المبتدأ ﴿مَّرَضٞ﴾ مبالغة في تمكن المرض من القلوب، 2) ﴿فِي قُلُوبِهِم﴾ تفيد أنه مخفي ومتمكن، 3) قال: ﴿فِي قُلُوبِهِم﴾ عقب ذكر الخداع لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع، 4) في تنكير: ﴿مَّرَضٞ﴾ فتح الباب لاحتمالات أن يكون الحسد أو الغل أو الضغينة أو الرياء، كقوله تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ آل عمران 118 و ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ آل عمران 120، وإن النفاق كان يجمعها كلها، كقول الشماخ بن ضرار: أجاملُ أقواماً حياءً وقد أرى ..... صُدورَهُم تَغْلي عليَّ مِراضُها وَالهَمُّ يَخْتَرِمُ الجَسيمَ نَحَافَةً ..... وَيُشيبُ نَاصِيَةَ الصّبيّ وَيُهرِمُ اصبِرْ على حسدِ العدوِ ..... فإن صبرَك قاتلُــهْ فالنــــــارُ تأكلُ نفسَـها ..... إن لم تجدْ ما تأكلُهْ ما هي أمراضهم النفسية؟: هي: 1) الكذب: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا ... وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ 2) الغباوة: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ ويتفرع عنها: 3) العجب: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ 4) الغرور: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ 5) الجهل: ﴿وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ 6) الكفر: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ 7) السفه: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ 8) فساد الرأي: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ 9) الخوف: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ الحشر 13 10) اللؤم: ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ التوبة 67 11) خون الأمانة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ النساء 107 12) العزلة: ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ 13) جفاء الطبع: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ 14) الجبن: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ المنافقون 4، ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ الحشر 12 15) المذلة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المنافقون 8 16) التستر: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ﴾ 17) دوام الضلال: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ 18) ازدياد النقائص: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ 19) الخداع: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويتفرع عنه: 20) عداوة الناس: ﴿لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ﴾ النساء 143 21) النكاية: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ 22) أن يصير هزأة للناس: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ 23) الفساد: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ 24) العقوبة: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ما أسباب أمراضهم النفسية؟: هي متعددة، وتشمل: 1) فوات الرياسة عنهم، ومنهم ابن سلول الذي كانوا في يثرب يجهزون لتنصيبه ملكاً عليهم، 2) حسدهم على ما يرونه من إعلاء شأن المسلمين، وتتابع انتصاراتهم، 3) ما داخل قلوبهم من الجبن والخور وفساد العقيدة واضطرارهم لاتباع المسلمين في حروبهم، 4) الاضطراب النفسي في التفكير المستمر لانتظار لحظة ضعف أو هزيمة للمسلمين، عبر عن هذا الاضطراب رأس النفاق حين قال ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ المنافقون 8 وقد سبقها قوله تعالى بـ ﴿يَقُولُونَ﴾ ليدلل على أنه لسان حال كل المنافقين، لا رأسهم فحسب، 5) ممالأة الكفار ويهود المدينة على المسلمين، مما يزيد مرضهم مع كل فشل لهم. ﴿فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ﴾: هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها، مُتَسَبِّبَةٌ عنها، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم، إذ المرادُ بالمرض هنا أمراض القلوب مثل: الغِلُّ والحَسَد لظهور دين الله تعالى. و "زاد" ألفها منقلبة عن الياء التي تظهر في المضارع: يزيدُ. يستعمل الفعل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كـ أعطى وكسا، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: زاد المال، فهذا لازمٌ، وزِدْتُ زيداً خيراً، ومنه الآية، وقوله تعالى: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ الكهف 13، و "زدتُ زيداً" ولا تذكر ما زِدْتَه، وزدْتُ مالاً، ولا تذكر مَنْ زِدْتَه وألفُ "زاد" منقلبةٌ عن ياء لقولهم: ما مدلول: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾؟: قال بعض المفسرين: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ دعاء عليهم، ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكاً ونفاقاً جزاءً على كفرهم وضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن القدرة، ومثلوا بقول الشاعر: تَبَاعَدَ عَني فَطْحَلٌ إذ رأيتُه ..... أمِينَ فزادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا يا مُرسِلَ الريحِ جَنوباً وَصَبا ..... إِن غَضِبَت زَيدٌ فَزِدها غَضَبا وهو تفسير لا نراه موفقاً لأسباب: 1) لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء، 2) ولأن تصدي القرآن لشتمهم ليس من دأبه، 3) ولأن الدعاء عليهم بالزيادة ينافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية، في الهدي النبوي. ومنه الحديث الشريف: "قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ علَى المُشْرِكِينَ قالَ: إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً"*. * الراوي: أبو هريرة. صحيح مسلم (2599). ومعنى قوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي: - شكًّاً على شكٍّ وفسادَاً على فساد. والمرض في القلب يصلح لكل ما خرج به الإنسان عن الصحة في الدين. - بما أنزل من القرآن، فشكّوا فيه كما شكّوا في الذي قبله، نحو: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ التوبة 124 حتى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ 125﴾ التوبة. - بأن طبع على قلوبهم، لعلمه تعالى أنهم لا يؤثر فيهم تذكير ولا إنذار. - قال أرباب المعاني: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها. وقوله: ﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾ أي: وكلهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ بما يفنى عما يبقى. ﴿وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ﴾: معطوف على قوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ إكمالاً للفائدة، فكمل بهذا العطف بيان ما جره النفاق عليهم من فساد الحال في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة. وتقديم الجار والمجرور للتنبيه على أنه خبر لا نعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ العلم بأنها من صفاتهم الثابتة. ﴿أَلِيمُۢ﴾: فعله: آلم إذا أوجع. والإيلام: الايجاع. والألم: الوجع، وقد ألم يألم ألماً. والتألم: التوجع. ويجمع أليم: ألماء، مثل: كريم كرماء، وآلام، مثل: شريف شرفاء. و ﴿أَلِيمُۢ﴾ هنا بمعنى: مُؤْلِم، وضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع، والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ ..... يُؤَرِّقنُي وأَصْحَابِي هُجُوعُ ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتٍ ..... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ ويجوز أن يكون فعيل هُنَا للمُبَالغة، وعلى هذا تكون نسبة الألم إلى العَذَابِ مجازاً، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب. ورود عَذَابٌ أَلِيمُۢ في التنزيل: قد وردت في القرآن الكريم للعذاب صفات أخرى، فهو عظيم، أو مهين أو شديد، أو مقيم، أو غليظ، أو عذاب السعير، أو عذاب الجحيم. ولكل نوع من هذه الأنواع ما يناسب مقامه في السرد القرآني. أما العذاب العظيم فعلى عظيم الذنوب، مما يقتضي تقدير الله تعالى لحجمه. وأما العذاب الأليم، فورد بالتعريف في ست آيات نصفها تصف عذاب المخالفين في الدنيا، والنصف الآخر جاء على الإجمال في قوله تعالى: 1. ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ 50﴾ الحجر، 2. ﴿إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ 38﴾ الصافات، 3. ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ 37﴾ الذاريات. أما تنكير "أليم" وتعريفه بالإضافة، فقد ورد في أكثر من سبعين موضعاً لعقوبات مختلفة، في أكثرها أخروية، وفي موضعين منها جاءت الإضافة إلى رجز في: ﴿هَٰذَا هُدًى ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ 11﴾ الجاثية، وجاء "أليم" موصوفاً في: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ 102﴾ هود. ما الفرق بين العذاب الأليم والعذاب العظيم؟: 1) ﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٧﴾ 2) ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠﴾ 1) توعد الله تعالى العصاة المذنبين في القرآن الكريم بالعذاب العظيم، في نحو: ... - ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 14 إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ 15﴾ النور، فجاء بالمطابقة بين الإثم الذي وصفه بالعظيم، وهو الخوض في عرض المؤمنات الغافلات، والعذاب الذي ينتظر من حمل وزر الإفك، فناسبت العقوبة حجم الذنب، لولا فضل الله ورحمته. ... - ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 33﴾ المائدة، في الحرابة بين العقوبة الدنيوية، وأظهر حجم العقوبة الأخروية بصفة: عظيم، دون تحديد لحجمه إذ أنه لعظم الجرم الذي يفسد استقرار المجتمع وأمنه، ترك تقدير حجم العقوبة لله تعالى. ... - ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا 93﴾ النساء. كذلك الأمر مع القاتل المتعمد بغير حق، فهو يرتكب كبيرة تؤثر على غيره من المسلمين، فيترك حساب حجم العذاب لرب العالمين. ... - ويندرج هنا الكافرون، لخروجهم على شرع الله، وإصرارهم على العناد والكبر حتى يختم على قلوبهم وأسماعهم، ويغشى على أبصارهم، ثم يموتون على ذلك. 2) أما العذاب الأليم فهو المؤلم الموجع. وقد ورد في التنزيل في نحو: - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 77﴾ آل عمران، فبين أن من يبيعُ دينه وإيمانه من أجل دنيا لربح زائل، لا حظ لهم في الآخرة، ولا يستحقون من الله خيراً، ولا تطهيراً، ويعذبهم عذاباً شديداً. - ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ 116 مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 117﴾ النحل، ومن يحلل أو يحرم بالهوى، ويحيل أمر هذا التشريع إلى الله كذباً، ما يلبثوا أن يعودوا إلى الله ليلقوا عذاباً أليماً. - وفي هذه الآية عن المنافقين كانت علة العذاب الأليم هي الكذب بقولهم ما يخالف ما في ضمائرهم. 3) يختلف العذاب العظيم عن العذاب الأليم في أن: ... - العذاب الأليم قد يكون من البشر، مثل قوله تعالى: ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 25﴾ يوسف، أما العذاب العظيم فلم يرد إلا من الله العظيم. ... - العذاب العظيم أعم وأشمل من العذاب الأليم. ... - العذاب العظيم منسوب إلى قدرة الله سبحانه وتعالى التي لا حدود لها، بينما العذاب الأليم راجع إلى إحساس المعذب به. أما عن الفرق بين الآيتين، إضافة لما تقدم، فإن فى آية الكافرين كان "العذاب العظيم" لأن قلوبهم وصفت بالختم ، بينمـا فى آية المنافقين كان "العذاب الأليم" لأن القلوب وصفت فيها بالمرض، ولأن الختـم أشـد من المـرض كان العذاب هناك أشد. ﴿بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ﴾: ﴿بِمَا﴾:الباء سببية، أي بسبب تكذيبهم الرسول، وكذبهم في قولهم: ﴿ءَامَنَّا﴾ وقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، ومَا مصدرية أي: بكونهم يكذبون. و ﴿يَكۡذِبُونَ﴾: يكذب فعل مضارع، ماضيه كذب، ومصدره التكذيب، والكذبهوالإخبار بالشيء على غير ما هو عليه. وقريء: {يُكَذِّبُونَ} بمعنى يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من كذّبَ على المبالغة أو التكثير. ولعل في ورود القراءتين إثبات جمعهم للرذيلتين: الكذب في دعوى الإيمان، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم. و﴿بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ﴾ في ادعائهم الإيمان، أما شهادة التوحيد فحق، لكن شهادتهم بألسنتهم على عكس ما في قلوبهم فهو الكذب، ومثيله في ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ المنافقون 1. لِمّ جعل العذاب الأليم جزاء الكذب دون الكفر؟: في قوله:﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ إنما تضمن الكذب الكفر، فهم في كذبهم بادعاء الإيمان، جمعوا بالكذب مثالب الكفر وزيادة بالخداع والتدليس على المؤمنين، فصار الكذب بهذا المعنى أولى أن يذكر ويعاقب عليه، ومن هنا كانت عقوبتهم أكبر من الكافر "فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ"*. * "علَيْكُم بالصِّدْقِ، فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وإيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا". وبهذا الإسنادَ لَمْ يَذْكُرْ في حَديثِ عِيسَى: ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ، ويَتَحَرَّى الكَذِبَ. وفي حَديثِ ابْنِ مُسْهِرٍ: حتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ. رواه الشيخان: البخاري (6094)، ومسلم (2607). |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 32 | |||
|
![]() ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠﴾ حول مضمون الآية: إن السلام النفسي نعمة من نعم الله تبارك وتعالى. والإيمان يحقق هذا السلام ويزكيه، وكلما اقترب المرء من ربه، ازدادت مساحة الطمأنينة في قلبه، فارتاحت نفسه، وانعكس هذا التآلف بين الروح والجسد على سـكون وحـركته، وصـلاته بمن حولـه. أما إذا انقسـم بين ما يشـعر به وما يظهره للناس، حدث خلل نفسـي أشبه ما يكون بمرض الانفصام. هذا التناقض بين العقل والقلب، أو الظاهر والباطن، يخلف بلا شك عللاً نفسية تصيب صاحبها، فيكون الرجل منهم رجلين: أحدهما مع نفسه وخاصته، والآخر مع المجتمع الذي يخالطه طوال يومه، ويضطر أن يسايره بما يناقض معتقده وقناعته. وهذا حال المنافق. فقد السلام والانسجام بين فكره ولسانه، وبين ما يبطن وما يظهر. وفي حرصه على أن يُبْقِيَ ما في قلبه موصداً عمن يخشى أن يفشي سره، جعله في خوف دائم، يتلفت حوله إذا نًفَّسَ عما في داخله لمن يثق به، خشية أن يفضح. ثم إنه يعيش صراعاً مريراً إذا دُعي للمشاركة في أمر للدين. إنه يرفض الدين بمجمله، فكيف يجبر على نصره؟ فيخرج لأدائه مكرهاً، يقول تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ 54﴾ التوبة، وهم إذ أجبروا على مخالطة المؤمنين، فلا يقدرون على مفارقتهم، وقد اقتحموا عليهم ديارهم: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ 57﴾ التوبة، لكن لا مفر لهم من معاملة أولئك المهاجرين ومن أسلموا من الأنصار، فيتجملون أمامهم مجبرين بقول تعبيرات الإيمان، وأداء شعائر الإسلام التي فيها اختلاط مع الناس، لكن يقتلهم الرعب خوفاً من أن يفضحهم الله، بعد أن أمنوا أنفسهم من أن يكشفهم المؤمنون، ويقلبون في رؤوسهم الأفكار فيما عسى يبررون لو أخرج الله ما في قلوبهم للمؤمنين. يقول تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ﴾ التوبة 64، وهنا ملمح آخر يؤكد أنهم يعلمون في دواخلهم أن هذا الدين حق. وهذا يزيد من أمراض قلوبهم. هي قلوب خائفة من كل شيء حولها، مرتعبة، مضطربة، لا تقوى على البوح بما تحس، ولا على معارضة ما تكره، وهي ترى المحيط يذخر بأناس ترى فيهم صور الدين الحق الذي تبغضه، وتتمنى زواله. وإن لفظ المرض ينسحب على أربعة أوجه: 1) المرض البدني، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ 80﴾ الشعراء. 2) الحرج، كما في قوله تعالى: ﴿أَوْ كُنتُم مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ﴾ النساء 102. 3) الزِّنَا، ومنه قوله تعالى: ﴿فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ الأحزاب 32. 4) داء النفس، كهذه الآية. وإن مرض القلوب المسـبب لاختلال المزاج، وســوء التصرف، ناتج عن ضعف العقل. وقد يكون ضعف العقـل مكتســباً من البيئـة والتنشـئة، وهذا هو حال المقلّـدين الذين لا يســتعملون عقولهم، وإنّمـا يكتفون بما وجدوا عليه أسلافهم، فيأخذونه كما هو دون نظر أو تدبر. هؤلاء قال المولى فيهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ الزخرف 23، وهم الذين سيندمون يوم يرجعون إلى الله، فيعتذرون له: ﴿رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ﴾ الأحزاب 67، فلا ينفعهم عذرهم ولا ينجيهم من عذاب أليم. وفي قوله جلت حكمته: ﴿وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ﴾ إشارة واضحة إلى أنهم يَكْذِبون، لا يُكَذِّبون. إن الله يتوعدهم بالكذاب لعلة كذبهم، لا تكذيبهم: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 33﴾ الأنعام. أما سبب جعل العذاب جزاء الكذب دون الكفر، فلأن الكفر داخل فيه، وهو واجهة سلوكهم، وموجه نفاقهم. وكأن الكذب هو أول الشرور، المؤدي إلى غيره من سوء الطبائع والأخلاق. ولذلك حذّر القرآن منه أشدّ التحذير، وتوعّد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم، إلاّ فشت فيهم كلّ جريمة وكبيرة؛ لأنّه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة، ومَنْ كان كذلك لا يترك قبيحاً إلاّ بالعجز عنه. نعوذ بالله من الكذب، ومن شرور الكاذبين. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 33 | |||
|
![]() ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ 12﴾ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾: معطوف على ﴿يَكۡذِبُونَ﴾ 10، ويجوز أن يعطف على: ﴿يَقُولُ ءَامَنَّا﴾ 8 بمعنى: ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا، لكن الأول أوجه. و ﴿وَإِذَا﴾ هنا ليست شرطية، بل ظرفُ زمنٍ مستقبل، وقد تأتي للزمنِ الماضي كـ "إذ"، أو للمفاجأة. و "إِذَا" لا تكونُ إلا في الأمرِ المحقق أو المرجَّحِ وقوعُه، فلذلك لم تَجْزم إلا في شعر لمخالفتِها أدواتِ الشَرط، فإنها للأمر المحتمل. وقولُه تعالى: ﴿قِيلَ﴾ فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ، و ﴿لَهُمۡ﴾ جارٌّ ومجرور متعلِّق بقيل، واللامُ للتبليغ، و "لا" حرفُ نهي تَجْزِمُ فعلاً واحداً، و "تُفْسِدوا" مجزومٌ بها، علامةُ جَزْمِه حذفُ النون لأنه من الأمثلةِ الخمسةِ، و ﴿فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ متعلّقٌ به. والقائمُ مقامَ الفاعل هو الجملةُ من قوله: ﴿لَا تُفۡسِدُواْ﴾ لأنه هو المقولُ في المعنى. والتقديرُ: وإذا قيل لهم هذا الكلامُ أو هذا اللفظُ، فهو من باب الإِسنادِ اللفظي. وجواب "إذا":﴿قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ﴾. والْفَسَادُ: نقيض الصلاح. نقول: فَسَدَ يَفْسُدُ وَيَفْسِدُ وَفَسُدَ فَسَادًا وَفُسُودًا، فَهُوَ فَاسِدٌ، وهم: قَوْمٌ فَسْدَى. يقول تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الَّلهُ لَفَسَدَتَا﴾ الأنبياء 22، ونقول: فَسَدَ الطَّعَامُ إذا أَنْتَنَ، ولم يعد صَالِحاً لِلأَكْلِ، وفَسَدَتْ أَخْلاَقُهُ: اِنْحَلَّتْ، اِنْحَرَفَتْ، وفَسَدَتْ أُمُورُهُمْ: اِضْطَرَبَتْ وَأَدْرَكَهَا الْخَلَلُ، وفَسَدَتْ آلاَتُ الْمَعْمَلِ: أَصَابَهَا التَّلَفُ وَالْعَطَبُ وَالْخَلَلُ. وَأَفْسَدَهُ هُوَ وَاسْتَفْسَدَ فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ. وَتَفَاسَدَ الْقَوْمُ: تَدَابَرُوا وَقَطَّعُوا الْأَرْحَامَ. يقول: يَمْدُدْنَ بِالثُّدِيِّ فِي الْمَجَاسِدِ ..... إِلَى الرِّجَالِ خَشْيَةَ التَّفَاسُدِ وَالْمَفْسَدَةُ: خِلافُ الْمَصْلَحَةِ. وَالِاسْتِفْسَادُ: خِلَافُ الِاسْتِصْلَاحِ. وَقَالُوا: هَذَا الْأَمْرُ مَفْسَدَةٌ لِكَذَا أَيْ فِيهِ فَسَادٌ. قَاْلَ الشَّاعِرُ: إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَهْ ..... مَفْسَدَةٌ لِلْعَقْلِ أَيُّ مَفْسَدَهْ من القائل: ﴿لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾؟: قالوا في ذلك عدة أقوال: - الله تعالى، - الرسول صلى الله عليه وسلم حيث بلغه عنهم الفساد، فراجعهم فيه، - بعض المؤمنين، - بعض من يلقون إليهم الفساد كان يقبله منهم، وينقلب ناصحاً لهم ألا يفسدوا. ورود لفظة الفساد في التنزيل الحكيم: الملاحظ أن كثيراً من آيات القرآن التي ذكر فيها الفساد جاء مرتبطاً بالأرض التي هي موطن الإنسان وفيها نشاطه، ويظهر منها أن الإفساد في الأرض يعرض الأمن الاجتماعي للضرر، وعن شيوع الفساد قال تعالى: - ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ البقرة ٣٠، والآية تعرض مشاهدات الملائكة لتجربة الكائن البشري الأول في الأرض قبل اصطفاء آدم. - ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ البقرة ٢٠٥. والسعي هو المشي السريع وهو مستعار هنا لإيقاع الفتنة والتخريب. - ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ الروم ٤١، وسبب الفساد في الآية معاصي الناس وشرورهم. - ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ البقرة ٢٥١. وجاء في الدفع كذلك: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ الحج 40، والدفع هو الرد، فلولا الله تعالى يرد أهل الحق أهل الباطل عن شرورهم، لبغوا ونشروا الفساد في الأرض. أما الإفساد على دائرة أضيق، فمنه: - قبض اليد والغرور: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ القصص 77. - السرقة: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾ يوسف 73. - القتل العمد: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ المائدة 32. - حد الحرابة: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ المائدة 33. - الكفر: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ ص 28، وفيها مقابلة بين العمل بمقتضى الإيمان ونقيضه، ويؤكد المعنى قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ محمد 22. ما الفساد في الأرض؟: الفساد نقيض الصلاح. وهو خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به. أو هو خروج الشيء عن الاعتدال، قليلاً كان الخروج أو كثيراً، ويستعمل ذلك في النفس والبدن. والمفسَدَة خلاف المصلحة، والاستفسادُ خلاف الاستصلاح، قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ الروم 41، والفساد هنا الجدب في البر، والقحط في البحر. يعني المدن التي على ضفاف الأنهار.وقد يستعمل الفساد في الأرض في غير معناه، فالخير والعدل قد يكون فساداً عند الظلمة، من ذلك قوله تعالى حكاية عن الملأ من قوم فرعون: ﴿أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ الأعراف 127، فالاسـتقرار والثبات هو في عبادة غير الله، أما التوحيد فجعلوه من الفساد في الأرض، وهذا المعنى نفسه كرره فرعون في قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ غافر 26. لكن الكلمة الفصل كانت لله تبارك وتعالى، يكلم فرعون وهو يكابد سكرات الموت غرقاً: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ يونس 91. أما الفساد في معناه الاصطلاحي، فقد يكون: 1) عقدياً وهو أسوأ أنواع الفساد وصوره، وهو أساس كل فساد. وأريد بالفساد في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ النفاق، وهو من الكفر. ومن هذا النوع من الفساد جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ"*. * الحديث بكامله رواه النعمان بن بشير، وأخرجه الشيخان: البخاري (52)، ومسلم (1599). 2) وقد يكون أمنياً واجتماعياً. والأمن أساس النعم، ومن فقد الأمن لم يشعر بسائر النعم، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا"*، فقدَّم الأمن على الصحة والرزق. * عن عبيد الله بن محصن الأنصاري. خلاصة حكم المحدث: حسن. أخرجه الترمذي (2346) واللفظ له، وابن ماجه (4141). 3) وقد يكون مالياً. والمال هو عصب الحياة الاجتماعية، لذلك حرص الإسلام على تنظيم المعاملات المالية للمجتمع وأفراده من بيع وشراء وإجارة ومضاربة وميراث وهبة وصدقة وزكاة، حتى لا يحدث ظلم أو جشع أو غبن فردي أو جماعي، ولتنتظم شؤون الأفراد والجماعات في المجتمع الإسلامي. ولعل من آفات كثير من المجتمعات الإسلامية تفشي الفساد الاقتصادي، مما يفسر أهم أسباب التخلف الحضاري للمسلمين في تلك الدول. 4) وقد يكون أخلاقياً. وأخطره التعدي على الأعراض، وجعل الإسلام العفة الأخلاقية في الفروج من الإيمان، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ 5 إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ 6 فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ 7﴾ المؤمنون. وقد نظم الإسلام أمور الزواج والطلاق، وحرم الزنا، فالأمة بخير ما لم يفشو فيها الزنا، بل إنه جل وعلا أهلك قوم لوط بشيوع الشذوذ الجنسي فيهم. لِمَ كان النفاق من الفساد في الأرض؟: - إظهار معصية الله تعالى، لأن التمسك بالشرائع يحفظ للناس أرواحهم وذويهم وأموالهم، يقول تعالى ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ محمد 22. - مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، مع كونهم في الظاهر مع المؤمنين، مما يجريء الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة، وفيه فساد عظيم في الأرض. - دعوتهم في السر إلى تكذيب الرسول، وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه. بين الفساد والإفساد: الإفساد: فعل ما به الفساد، والهمزة فيه للجعل، أي: جعل الأشياء فاسدة، والفساد أصله تحول منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملاً على مضرة وإن لم يكن فيه نفع من قبل. يقال: فسد الشيء بعد أن كان صالحاً، ويقال: فاسد إذا وجد فاسداً من أول وهلة، وكذلك يقال: أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه، ويقال: أفسَدَ إذا أوجد فساداً.وإن الله تعالى خلق الأرض صالحة وأودع فيها البركة: ﴿وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ﴾ فصلت 10. وإن إيقاع البشر للفساد يأتي على مراتب: 1) إفسادهم أنفسهم بالإصرار على المعاصي وما يترتب عليها من مفاسد أخر. فكل معصية إفساد.يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ ۚ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ يونس 40. 2) ما يلحق بالذرية والأبناء والأتباع في اقتدائهم بالكبار المتبوعين في مساويهم، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ نوح 27. 3) إفساد الدائرة المحيطة بالمفسدين عن طريق بث أخلاق وصفات ودعاوى الفساد، وذلك بالإسراف في المعاصي حتى يتعدى أثرها إلى غير أصحابها. يقول تعالى على لسان صالح (ع) ناهياً قومه عن اتباع مسلك المفسدين: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ 151 الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ 152﴾ الشعراء. 4) إفساد الدائرة الأوسع في المجتمعات عن طريق إشاعة الأمراض الاجتماعية المفسدة بواسطة المضلين مثل إثارة فتن الشبهات والشهوات، والوقوف في وجه المصلحين وإحداث العقبات في طرقهم زعماً بأنهم يقفون ضد مصالح الناس. قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ 12﴾ البقرة. 5) الإفساد الناشئ عن فساد الرؤساء، لأنهم ينشرون الفساد بقوة نفوذهم واستخدام سلطاتهم وقوتهم. وهو ما أنطق الله به ملكة سبأ: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ﴾ النمل 34. والرئاسة قد تكون بالسلطة كفرعون، أو بالقوة العسكرية، كهامان، أو بالسلطة الاقتصادية كقارون، أو بالسلطة الدينية كالأحبار والكهان. وهذه الفئة الأخيرة جعلوها في مقدمة أسباب تخلف الغرب في عصور الظلام، لما نشروه من فساد في المجتمعات الأوروبية وقتئذ. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 34 | |||
|
![]() ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ 12﴾ ﴿قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ﴾: الجملة جواب ﴿وَإِذَا﴾ التي في صدر الآية. ﴿إِنَّمَا﴾: "إنَّ" حرفٌ مكفوفٌ بـ "ما" الزائدة عن العمل، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم. وجملةُ ﴿نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ﴾في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بـ قالوا. والإصلاح لفظة مشتقة من صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً. والمَصلَحة واحدة المصالح وهي ما يتم بها الصَّلاحُ. والاسْتِصْلاح: نقيض الاستفسـاد. وأَصْلَح الشيءَ بعد فساده: أَقامه. وأَصْلَحَ الدابة: أَحسـن إِليها فَصَلَحَتْ. والصُّلْحُ: تَصالُح القوم بينهم. والصُّلْحُ: السِّلْم. ويفهم من هذا أن الإصلاح يعني تغيير حال الشيء واتمام ما يعتريه من نقصان يفسد وظيفته، لإعادته إلى الاستقامة بحسب ما تدعو إليه الحكمة، ومنه الإصلاح بين الزوجين المتنازعين، وبين طوائف المسلمين، ومنه: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ الحجرات 9. من القائل: ﴿إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ﴾؟: هم المنافقون. وكأنهم يظنون في دينهم أنهم هم المصلحون، أو أنهم في مداراتهم للكفار، مع ادعائهم الإيمان يظنون أنهم يتوسطون للإصلاح بين المؤمنين والكفار، لذلك قال سبحانه وتعالى عنهم ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ النساء 62، و ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ فاطر 8. وفي قصر الحكم باستخدام ﴿إِنَّمَا﴾ يزكون أنفسهم زاعمين أنهم لا شائبة فيهم، إذ أن كل ما يفعلونه لا يخرج عن الإصلاح. وهو ما يسمى بقصر القلب، إذ لما قيل لهم: لا تفسدوا قالوا: إنما نحن مصلحون، أي قلبوا الحكم بالإفساد إلى الإصلاح الدائم والمستمر كما تدل الجملة الإسمية. ما هو الصلاح؟: هو اعتدال الحال واستواؤه على الحالة الحسنة. ومن معالم الصلاح في القرآن: - أنه ليس خاصاً بالمسلمين ولا محصوراً فيهم؛ بل هو فيهم وفي غيرهم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ البقرة 62. ويتضح لنا من الآية أن من يعمل الصالحات يسمى صالحاً، يقول تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ 113 يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ 114 وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ 115﴾ آل عمران. - الصلاح هو أعمال تتفق على صلاحها البشرية كلها؛ كالعدل والصدق. والصلاح ليس فقط في الشعائر الخاصة بالمسلمين؛ ولا حتى في عقائدهم وحدها. وعلى هذا فمن كان مسلماً مؤدياً للشعائر لكنه يظلم ويستكبر ويجرم فلا يكون قد عمل الصالحات. لذا قُرن عمل الصالحات بأداء الشعائر بالعطف في آيات كثيرة، منها: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ البقرة 82. مما يدل على أن الإيمان والصلاة من خصائص الدين، بينما عمل الصالحات من غاياته. والذي يُدخل الجنة هو الجامع بينهما، فالعبادات بدون الصلاح ناقصة، والصلاح بدون العبادات ناقص. - العمل الصالح إذن مسبوقاً بالإيمان هما معاً قوام التقوى في مقابل المفسدين الفجار: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار﴾ ص 28. وهنا يأتي وعد الله لهم بخير الدارين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ المائدة 9. - قال تعالى ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء 105، فتبين أن معالم الصـلاح القرآني من عـدل وصـدق وشـهادة بالحق وتواضع ومحاربة للظلـم والســرقة متحققـة في عصرنا في غير المسلمين؛ لذلك استحقوا وراثة الأرض. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ"*. ولن يعود للمسلمين وعد الله بوراثة الأرض إلا بعد أن يتحلوا بصفات الصلاح. * رواه أبو هريرة، وأخرجه مسلم في صحيحه (145). بين الإفساد والإصلاح: إن الصراع الأبدي على ظهر الأرض، منذ مروق الشيطان، وعقده العزم على إغواء بني آدم، كان وسيظل بين المصلحين والمفسدين. وقد بشر الله تبارك وتعالى أهل الصلاح بأن لهم الفوز، وهم وراثة الدار الآخرة، يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ القصص 83. وكما أن للمفسدين طرقهم وأساليبهم، يسترشد المصلحون بمنهج الله وهديه في إقامة الإصلاح: - أول خطوات المنهج: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ 151 الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ 152﴾ الشعراء، وموسى (ع) يوصي أخاه هارون حين استخلفه على قومه قائلاً: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ 142﴾ الأعراف. والمفسد قد يكون بين الناس، ينشر سمومه، وهم لا يدرون بفساده، يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ 204 وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ 205﴾ البقرة. والمفسد إن خدع الناس، إلا أن الله تبارك وتعالى مطلع على القلوب، وهو الخبير بالنوايا، يقول جل وعلا: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ 28﴾ ص. - ثم إن اتباع الهوى، يؤدي للفساد، ولو لم يقف المصلحون في وجه الأهواء ومروجيها على حساب الحق، لفسدت الأرض. يقول تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ المؤمنون 71، ولكن من رحمة الله أنه يدفع فساد المفسدين بجهاد المصلحين. - إن مسؤولية المصلحين عظيمة، فواجبهم أن يعتصموا بحبل الله جميعاً ضد المفسدين، فالمفسدون مهما تباعدت ديارهم واختلفت ألوانهم وألسنتهم، فإنهم جبهة واحدة وصف واحد ضد الإصلاح والمصلحين. وما لم يكن للمصلحين صف واحد ضدهم فالفساد سيظل يكبر ويكبر حتى لا يستطيع أحد أن يقف أمامه، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ الأنفال 73. - إن إنقاذ الأرض من المفسدين في كل الأزمنة والأمكنة، إنما يتم إذا قام أهل الحق والإصلاح بمسؤولياتهم في إنفاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول جل وعلا: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ﴾ هود 116. ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾: ﴿أَلَآ﴾ مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، وتفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها، كقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ﴾ القيامة 40. ﴿وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ﴾:اسـتدراك للإخبار عنهم أنهم هم المفسدون. ومفعول "يشعرون" محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون،أو أنهم معذبون. وقيل أنه لا حذف، وليكون المعنى نفي الشعور عنهم بالكلية، وكأنهم من البهائم لإهمالهم الفكر والنظر. بلاغة الرد على زعمهم الصلاح: حين يقال لهم: لا تفسدوا في الأرض، يردون بجملة إسمية فيها تأكيد وحصر، فهم يرون أنهم مصلحون لأنهم يتمسكون بتراث الآباء وما استنبطه رؤساؤهم من تعاليم الأحبار والشيوخ، وكيف نترك هذا الإرث التليد، ونتبع ما يخالف ما نشأنا عليه؟ وهذا تعبير قوي، يلزم الرد عليه أن يؤتى بتركيب أقوى منه، وأبلغ. 1) بُدء الرد بـ أَلَا المنبهة للدلالة على تحقق ما بعدها، وإظهار أهميته. 2) والتوكيد الأول بـ: ﴿إِنَّهُمۡ﴾، هنا قرن بـ أَلَا المفيدة للتنبيه، وذلك من الاهتمام بالخبر وتقويته للدلالةً على سخط الله تعالى عليهم. وأدوات الاستفتاح مثل "ألا" و "أمَا" لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه. 3) والتوكيد الثاني بتقديم ضمير الفصل ﴿هُمُ﴾، وهذا مشترك بين الصيغتين. 4) هم جاءوا بادعاء الصلاح منكراً، وهذا ضعيف إذا قورن بـ ﴿ٱلۡمُفۡسِدُونَ﴾ المستهلة بلام العهد في: ﴿ٱلۡمُفۡسِدُونَ﴾، وحصر الفساد بهم يفيد نفيه عن غيرهم، فالفساد متعلق بهم دون سواهم، حتى أنه أصبح سجية لهم، كالوصف الملاصق لموصوفه لا يفارقه. 5) ثم تأتي إضافة أخرى بنفي الشعور عنهم، وكأنهم ليسوا هم المفسدين فحسب، بل إنهم فاقدوا الشعور. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 35 | |||
|
![]() ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ 12﴾ حول مضمون الآيتين: نقل ابن جرير عن سلمان، أنه قرأ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١﴾، فقال: لم يجيء أهل هذه الآية بعد*. ويحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. والتاريخ زاخر بأمثلة الفساد والفاسدين في الأرض. وقد أورد الله سبحانه وتعالى في القرآن نماذج منها في الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، وفي ويأجوج ومأجوج، وفرعون وقارون، وعاد وثمود ومدين وقوم لوط. وبعد عصر النبوة الزاهر جاء الخوارج والقرامطة والباطنية والبهائية. ولعل أخطر من هؤلاء من يدعون أنهم مسلمون ويحاربون الإسلام في كل أشكاله ومظاهره بدعوى الوطنية والقومية، ومنهم من استلموا شؤون الناس في ولايات عامة وبذلوا قصارى جهدهم في تدمير عقائد الناس للسيطرة عليهم وإخضاعهم لسلطتهم، مما أخر الأمة وجعلها في ذيل الأمم بعد أن كانت الحضارة الإسلامية مرآة للتطور والتقدم حتى أن الغرب الذي كان يعيش في الظلام لم يتقدم إلا بعد أن استنسخها. * تفسير الطبري 1/288. إن مفهوم الاصلاح يعتبر من المفاهيم المركزية في القرآن الكريم. وقد جاء الإسلام لإصلاح ما أفسد فطرة الإنسان التي فطره الله عليها. ومن المفاسد العقدية ما أدخله أهل الكتاب على الدين من تحريف وتبديل وتأليف وإخفاء، فأفسدوا العقيدة، وأوجدوا صورة لله ولأنبيائه وكتبه، الدين الحق بريء منها. ورسالة الأنبياء كلها إنما جاءت لتقويم الانحراف، وتعديل مسـار الحياة ليعود الناس إلى التوحيد، وليلتزموا بشـرع الله الذي يضمن لهم الصلاح والإصلاح. وقد قالها شعيب (ع) لقومه صريحة: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ﴾ هود 88، وهذا كان لسان حال كل نبي إلى قومه. والقرآن الكريم يعرض أدوار الأنبياء ـ قادة التوحيد ـ في الإصلاح ـ بشتى صوره ـ السياسي والاجتماعي والاقتصادي: - نوح (ع) يرد على التفرقة الطبقية بقوله: ﴿وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ هود 31، - وهود (ع) ينصح قومه بتذكر أن مصيرهم إلى الموت، فيقول: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 128 وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ 129﴾ الشعراء، وعليهم أن يعودوا إلى الله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ 52﴾ هود، - وصالح (ع) يقلل من جبروت قومه الذين خرجوا على الله استغناءاً عنه بقوتهم بعد أن خلفوا قوم هود، فيقول لهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ هود 61، - ولوط (ع) يريد عودة قومه عن الشذوذ إلى ما حلله الله، فيقول وقد بلغ بهم الشذوذ حده: ﴿يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾ هود 78، - وشعيب (ع) يأمر قومه بالعدل والقسط، فيقول: ﴿أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 85﴾ هود. والمولى جل وعلا يعرض لنا في القرآن الكريم نموذجين مفصلين في الإصلاح: - أولهما هو موسى (ع)، وقد أنشأه نشأة خاصة ليحمل عبء دعوة قومه، فيبدأ بالرؤوس، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ 23 إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ 24 فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۚ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ 25﴾ غافر، فكان الصراع بَعْدُ، بين قوى الفساد ممثلة في السلطة والسلاح والمال، وقوى الإصلاح المؤيدة بالله، لينتهي بآية إغراق الفاسدين. ثم ينتقل المشهد إلى محاولات نبي الله لإصلاح فساد طباع قومه حتى يلقى الله. - وثانيهما هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي شاء له الله أن يأتي للإصلاح شأن البشر جميعاً، فيتصدى لفساد كفار قريش، ثم تتوسع مهمته في المدينة ليواجه فساد أهل الكتاب والمنافقين، ولا ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن يرسل رسائل الدعوة لجيران الدولة الإسلامية، فيكون دوره في الإصلاح عالمياً، ليكون رحمة للعالمين. والاصلاح من أكثر المفاهيم ارتباطاـً بالتطور الحضـاري الإنسـاني. وعملية الإصلاح تحتاج لاسـتمرارية وطول نفس، لأن الفساد إنما هو تلبية للأهواء، وهي منوعة ومتجددة. ولأنها محفوفة بالشـهوات، تلقى قبولاً سريعاً من الضعفاء والجهلاء. والحق دائماً أصعب من الباطل، فالحق له تكاليف ومسئوليات، بينما الباطل يستغل تبعات الحق، فيسقط عن الناس بعضها أو كلها. والمتأمل لحركة التاريخ يجد أن المصلحين عادة يصطدمون، بأقلية فاسدة مستبدة جاثمة على رقاب الناس. فإذا عزلت هذه الفئة عن التواصل مع الناس، خلت الساحة لعمل المصلحين، واستطاعوا التأثير في الناس لإرجاعهم إلى جادة الصواب. وإن أغلب الدول الحديثة إنما قامت على انقاض أنظمة تسرب اليها الفساد واستأثرت فيها الأقلية بخيرات الشعوب، وهدر مصالح العامة مما يجعل تلك الغالبية مستعدة للانخراط في عملية الاصلاح عندما ترى جديتها ومصداقيتها. لكن قوى الإصلاح تحتاج لتأييد وموافقة من الغالبية التي عليها أن تدرك أن الخلاص من الفساد، لا يكون إلا باتباع خطط المصلحين. وإن التفاف الغالبية من الناس حول الفكرة الاصلاحية هو ما يمكن لها النجاح. وهذا يحتاج في الأساس إلى خطاب تجديدي إصلاحي، وخطة ذات أبعاد فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية مبنية على أسس سليمة تراعى المصلحة العامة، وتضيق دائرة الفساد. إن الإصلاح لا يعني الهدم والإحلال، فقد يكون في النظام القائم ما هو صالح. والمنهج القرآني يعلمنا أن المجتمع الإسلامي الوليد أقيم على مزيج من القيم الجديدة وما صلح من قيم الجاهلية. فالعربي مجد في جاهليته الشرف والعفة والغيرة والشجاعة والمروءة والبر بالآباء. أما فساد العقيدة والعبادة، فهو ما جاء الإسلام لنقضه وإحلال شرع الله محله. وحتى في العبادة، كان الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمرة من شعائر الجاهليين، لكنهم كانوا يؤدونها بصفير وتصفيق، ومنهم من يطوف ويسعى عارياً، والكعبة ملأى بالأصنام، فأبطل رسول الإسلام كل هذا ووضع قواعد ومعايير للطواف والسعي والحج والعمرة. كذلك لم يأت الإصلاح دفعة واحدة، بل تدرج، حتى لا يتسبب في مفاسد أكبر لو فرض على مجتمع ما زال متأثراً بالجاهلية. والتدرج إنما يبنى على فقه الواقع، وفهم طبيعة المجتمع. والتغيير للإصلاح ليس بالضرورة في تغيير الرؤوس، ما دام الممسك بزمام السلطة لا يمانع في عملية الاصلاح. والإزاحة لا تكون إلا إذا كان رأس السلطة من معوقات العملية الإصلاحية، ومن المنغمسين في الفساد. إن الحكم عند المصلحين ليس غاية، وإنما هو وسيلة للقضاء على الفساد. فإذا كانت الدولة تقوم بهذه الوظيفة، أو تشارك فيها، أو لا تمنع مباشرتها، فقد وجدت للمصلح البيئة المناسبة لقيامه بدوره في المجتمع. إن مباديء الشورى والعدل والحرية، هي أساس تشكيل نظم الحكم الحديثة. وإن الحفاظ على ضروريات الإنسان الأولية: النفس، والعرض، والعقيدة، والمال، هو هدف الإصلاح في كل العصور، فإذا مس أحد هذه الأساسيات صارت الدعوة للإصلاح ضرورة ملحة مثل الهواء والماء. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 36 | |||
|
![]() ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ ١٣﴾ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ﴾: الكلامُ عليها كالكلامِ على نظيرتِها قبلها. و ﴿ءَامِنُواْ﴾: فعل وفاعل، والجملةُ في محلِّ رفع لقيامها مقامَ فاعلِ: ﴿قِيلَ﴾. ﴿كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ﴾: الكافُ في محلِّ نصبٍ، نعت لمصدرٍ محذوفٍ، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمانِ الناس. و "ما" مصدريةٌ في محلِّ جر بالكاف، و ﴿آمَنَ ٱلنَّاسُ﴾: صلتُها. والألفُ واللامُ في ﴿ٱلنَّاسُ﴾ تحتملُ أن تكونَ جنسيةً، أو عهديةً أو للاستغراق العرفي. وقوله: ﴿ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ﴾ أي: إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق، مما يدل على أنّ مجرد الإقرار لا يعد إيماناً، بل إن تحقق مُسَمّى الإيمان يقتضي الإخلاص. ما مدلول ﴿النَّاس﴾ في الآية؟: الألفُ واللامُ في "الناس" تحتملُ أن تكونَ: 1) للجنس، والمراد: الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، 2) أو عهديةً، ويقصد بها: - الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، - أو من آمن من اليهود وحسن إسلامه مثل عبد الله بن سلام، - أو وجوه الأنصار مثل السعدين ومعاذ بن جبل وأسيد بن حضير، إذ هم الناس حقيقة، ومن عداهم ليس من الناس لعدم تمييزه للحق من الباطل. - أو طائفة من المنافقين الذين سئموا كلف النفاق ومتقياته، وكلت أذهانهم من ابتكار الحيل واختلاق الأعذار. 3) أو هي للاستغراق العرفي، فيراد بالناس من عَدَا المخاطبين. وهي كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر، فلذلك يأتون بكلمة "الناس" في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء، قال عَمْرو ابن البَرَّاقَة النِّهْمِي: ونَنْصُرُ مَوْلانا ونَعْلَمُ أنَّهُ ..... كَما النّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وجارِمُ العِزُّ في العُزْلَةِ لَكْنَّهُ ..... لا بُدّ لِلنَاسِ مِنَ النَاسِ ﴿قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ﴾: ﴿أَنُؤۡمِنُ﴾: الهمزة للإنكار أو الاستهزاءِ، واللام في السفهاء عائدة على الناس، لتحقيرهم لهم واعتبارهم سفلة الناس لأن أكثرهم من العامة غير ذوي الحظوة من القوم. ومحلُّ: ﴿أَنُؤۡمِنُ﴾ النصبُ بـ ﴿قَالُوٓاْ﴾. ﴿كَمَا﴾: لفظ مركب من حرف التشـبيه الجار "كـ" و "ما". و "ما" قد تكون اسـماً أو حرفاً، ولعلها هنا حرفاً مصدرياً، مثل قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ الأحقاف 35. ﴿ٱلسُّفَهَآءُۗ﴾: الألفُ تحتمل أن تكونَ للجنسِ أو للعهدِ. والسفه: الخِفَّةُ، تقول: "ثوبٌ سفيه" أي خفيفُ النَّسْج. وتسفهت الريح الشجر إذا مالت به. قال عدي بن الرقاع: مَشَيْنَ كما اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ..... أَعَالِيْهَا مَرُّ الرَّيَاحِ النَّوَاسِمِ سَفِيهُ الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إذَا مَا ..... بَدَا فَضْلُ السَّفِيهِ عَلَى الحَلِيمِ نَخافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلامُنا ..... فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الخامِلِ لِمَ وصفوا المؤمنين بالسفهاء؟: كأنهم لما قيل لهم أن يتبعوا الحق أسـوة بالمؤمنين، نعتوا المؤمنين جميعاً بالسـفاهة، من نواحٍ: - هم كانت لهم الحظوة والمنعة قبل وصول المهاجرين إلى المدينة، فعدوا كل من آمن سفيهاً، وخاصة أن الأنصار شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم، فكان هذا عند فاقدي الإيمان من السفاهة والحمق. - أما المهاجرون فكان أغلبهم من الفقراء، والفقر عند أولئك المتكبرين سفاهة وضعة. هذه النظرة الدونية حكاها التنزيل الحكيم بقوله: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا﴾ المنافقون 7. - وأما المهاجرون الذين كانوا ميسورين في مكة فسـفاهتهم أنهم عادوا قومهم، وضحوا بالأهل والمال والجاه ليتبعوا النبي. - وأما من آمن من اليهود فكانوا عند قومهم سـفهاء لأنهم تركوا ما كانوا يتمتعون به من حظوة عند أهل يثرب لأنهم أهل دين سماوي، ليتبعوا ديناً جديداً يسحب البساط من تحت أقدامهم. ﴿أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ﴾: هي مثل: ﴿أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ ١٢﴾ مع فروق بين الشعور والعلم سنبينها. لِمَ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنهم هم السفهاء؟: - لأنهم يتناقضون مع أنفسهم بقولهم هذا. فكيف تتهمون المؤمنين بالسفاهة وأنتم تزعمون أنكم منهم؟ أليست هذه عين السفاهة؟! - ولأنهم أضاعوا فرصة النجاة، وتمسكوا بأوهام الرياسة والعلو في الدنيا. ومن سـفاهة منافقي العرب أنهم ظنوا أن الإسلام يفقدهم الرياسـة، مع أن الإسلام أعز سـادتهم الذين آمنوا أمثال سعد بن عبادة وأسـعد بن زرارة وسعد بن معاذ ومعاذ بن جبل. - أو أولئك الذين تعلقوا بالأماني والتعلات، فقالوا﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ آل عمران 24 أو ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ المائدة 18. - هم كل أولئك، لأن المنافقين عرب ويهود. لِمَ قال هنا: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ وقال في الآية السابقة: ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾؟: 1) الفساد في الأرض أمر محسوس، وهو مما يدرك بأدنى تأمل، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، فقال: ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾، بينما السفه هو جهل، مضاد للعلم، والسفاهة صفة لا تكاد تخفى، وقد قالت العرب السفاهة كاسمها، قال النابغة: نُبِّئْتُ زَرْعَةَ والسَّفاهَةُ كاسْمِها ..... يُهْدى إلَيَّ غَرائِبَ الأشْعارِ تَبَغّى ابْنُ كُوزٍ والسَّفاهَةُ كاسْمِها ..... لِيَسْتادَ مِنّا أنْ شَتَوْنا لَيالِيا ولأن العلم يحتاج إلى نظر يفضي إلى الإيمان والتصديق، 2) النفاق وما فيه من الفتن والفساد يُدرَك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم، فناسبها ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾ أما الوقوف على أمر الدين، والتمييز بين الحق والباطل، فيحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر، وهم يفتقرون إليه، لذا نفاه عنهم فقال: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، 3) السَّفَه هو خِفَّةُ العقل والجهلُ بالأمور، قال السمَوْءَل: نخافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحلامُنا ..... فنجهلَ الجهلَ مع الجاهلِ - فجاء بـ أَلَا المؤذنة بالتنبيه للخبر، هي تأتي حين يكون الخبر مهماً سلباً أو إيجاباً، - وبصيغة القصر مثل: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ ليدل على ان السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين. وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحِلم لا محالة لأنهم ضدان في صفات العقول. - وبالتأكيد بـ إِنَّ وضمير الفصل ﴿هُمُ﴾ لتوكيد الخبر، وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر. |
|||
![]() |
![]() |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | تقييم هذا الموضوع |
|
|
|
|