مع القاص عنتر مخيمر (1 ـ 2)
قرأت قبل أن أكتب أكثر من ألف قصة قصيرة
حاوره: أ. د. حسين علي محمد
عنتر مخيمر (1938ـ …) واحد من قصاصي الستينيات، بدأ ينشر كتاباته منذ عام 1963م، فنشر عشرات القصص القصيرة في الصحف المصرية والعربية، وأصدر ثلاث مجموعات قصصية هي: "الناس والعيب" و"لعبة يُباركها الشيطان" "و"في الليلة الأولى قالت شهرزاد"، وأصدر رواية بعنوان "الحب شيء آخر"، وكتابا في الخواطر الأدبية بعنوان "قطوف من فيض الخاطر"، وله كتاب آخر بعنوان ".. ويا أعزائي الكبار معذرة" (وهو دراسات ومقالات أدبية ورؤى ثقافية).
كما أصدر كتاباً يضم سبعة حوارات أجراها مع المفكر العربي السعودي الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع بعنوان "أزاهير الرياض"، وله ستة مؤلفات تحت الطبع هي:
1-حكايات ياسر (قصص للأطفال).
2-أحزان (مجموعة قصص قصيرة).
3-عندما يتحدث هؤلاء (حوارات مع باقة من كبار الكتاب).
4-عندما يتحدث أقطاب الفكر الديني (حوارات دينية).
5-عندما يتحدث العلماء (حوارات علمية).
6-أنت وصحة طفلك النفسية (دراسات تربوية).
وهذه المؤلفات نُشرت متفرقة في الصحف والمجلات المصرية والعربية.
التقيت القاص عنتر مخيمر، وأجريت هذا الحوار معه:
*مَن مِن كتاب القصة القصيرة الذين قرأت لهم قبل أن تكتب أنت نفسك هذا اللون الأدبي؟
-قرأت قبل أن أكتب القصة أكثر من ألف قصة قصيرة، أما الكتاب الذين قرأت لهم فما أكثرهم! .. وكنت أحرص أشد الحرص على أن أقرأ لكتاب من جنسيات مختلفة .. كل الأدباء الأجانب الذين تُرجمت أعمالُهم في مصر قرأت لهم، ومن أشهرهم: جي دي موباسان، وأنطون تشيكوف، وأرنست همنجواي، وألبرتو مورافيا، وسومرست موم، وإدجار ألان بو، ولويجي بيراندللو .. إلخ.
ومن مصر: قرأت أولا أعمال جيل رواد القصة القصيرة: محمود تيمور، وإبراهيم المازني، وإبراهيم الورداني، وإبراهيم المصري، ويحيى حقي، ويوسف جوهر .. إلخ، ثم قرأت للجيل الذي ازدهر إبداعه على صفحات "مسامرات الجيب"، و"قصص للجميع"، و"الكتاب الذهبي"، و"الكتاب الفضي"، بخلاف الصحف اليومية والمجلات الشهرية والأسبوعية التي كنت أقرؤها وأدفع ثمن قراءتها لبائع الصحف، فلم يكن في مقدوري أن أشتريها كلها، ومن كتاب هذا الجيل على سبيل المثال: يوسف إدريس، وعبد الرحمن الشرقاوي، وعبد الرحمن الخميسي، ونجيب محفوظ، وسعد مكاوي، ومحمود البدوي، ومحمود السعدني، وإحسان عبد القدوس .. إلخ. وقائمة الأسماء طويلة.
*ما الذي لفتك إلى الاهتمام بالقصص القصيرة؟ وكيف بدأت تجاربك الأولى في كتابتها؟
-كانت أوقات حكايات جدتي (حواديتها) هي الأوقات الحلوة التي أسعد فيها مساء كل يوم طوال مرحلة طفولتي المبكرة. كنت أنام في حجرة جدتي .. وكانت حكاياتها هي الوسيلة التي تشغلني بها حتى يغلبني النوم، أو بمعنى آخر تهدهدني بها حتى أستسلم للنوم. كنت بعكس كل الأطفال أحب وأرحب بموعد ذهابي إلى الفراش، حيث سأجد جدتي في انتظاري بدفء حنانها وحكاياتها الشائقة.
وفي مرحلة الدراسة الابتدائية عثرت في مدرستي على مكتبة نادرة رائعة للطفل، وكم كانت سعادتي بقصص كامل الكيلاني وغيره، بالإضافة إلى القصص المترجمة عن الأدب العالمي (قصص هانس أندرسون وغيره).
وفي امتحان من امتحانات مادة اللغة العربية (امتحان شهر) فوجئت بأستاذ المادة يطلب منا كتابة قصة قصيرة لم يُحدد موضوعها، ترك لنا أن نكتب ما نشاء. على الفور تواثبت في خاطري حكايات جدتي .. ولم يطل تفكيري، فسرعان ما اخترت قصة يمكن أن يتسع وقت الامتحان لها.
وكتبت القصة بتلقائية، وبلا عناء أو مشقة، بل غمرني سرور غريب وأنا أكتبها .. وبالطبع لم تخل القصة من العبارات والكلمات العامية، ففي مواقف كثيرة من القصة كانت الفصحى لا تُسعفني.
وبعد تصحيح أوراق الإجابة ناداني أستاذ اللغة العربية في حصة تالية، وطلب مني أن أقف. وقفت حائراً قلقاً، وبسبب قصر قامتي، قال لي: تعال هنا لكي يراك زملاؤك. وفي خُطا ثقيلة ذهبت إليه، ووقفت بجانبه مرتجف الأنفاس .. ولكن لم تطل مخاوفي، فقد قال الأستاذ وهو يضع يده على كتفي: زميلكم عنتر كتب قصة جميلة، سيقرؤها لكم، مدّ لي يده بالكراسة، وقد هدأت مخاوفي قليلا.
بدأت في قراءة القصة بصوتي القوي، وبعد سطور قليلة من بدء القراءة نسيت مخاوفي تماماً، وجعلت أقرأ القصة بصوت من يعتلي منصة خطابة. ومع نهاية القصة ارتفع صوت الأستاذ: صفقوا معي له! وكم كنت سعيداً بالتصفيق سعادة لا توصف .. وكانت هذه فيما أظن البداية!
ثم تلاحقت الأيام، وكنت بين وقت وآخر أكتب قصة أقرؤها لزملائي، ثم أُلقي بها في درج من أدراج مكتبي، فلم تكن تخطر في بالي فكرة النشر، باستثناء ما كان يُنشر لي بمجلات الحائط!
ومرت الأيام حتى أقبل عام 1962م، ومع بدء العام الدراسي 62/63 كنت طالباً بالفرقة الرابعة بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية، وذات يوم شاهدت مسرحية "جلفدان هانم"، وأعجبت بالمسرحية على نحو جعلني أتحدث عنها مع زملائي .. وفوجئت بواحد منهم (كانت له اهتمامات صحفية، فقد كان يعمل محررا هاويا بجريدة "السفير" بالإسكندرية) يسألني:
ـ هل يمكنك أن تكتب مقالا عن المسرحية؟
فأجبت في دهشة: نعم، ولكن ما السبب؟
قال: سأنشره لك في جريدة "السفير".
وفي اليوم نفسه ـ بعد عودتي إلى مسكني ـ جلست على الفور لأكتب المقال .. ولم أتناول غدائي إلا بعد أن فرغت منه. ونُشر المقال بعد ثلاثة أيام فقط، وأسعدني أن زميلي نقل إليَّ إعجاب رئيس التحرير بالمقال، وأنه يُرحب بكتاباتي.
وهنا ـ ولأول مرة ـ طافت بخاطري فكرة الكتابة والنشر .. ولما كنت من قراء مجلتي "الثقافة" (كان يرأس تحريرها: محمد فريد أبو حديد) و"الرسالة" (كان يرأس تحريرها: أحمد حسن الزيات) فقد فكرت في أن أحاول معهما، وشجعني أن "الثقافة" كانت تنشر الإبداع الأدبي للأدباء الشبان في "بريد الثقافة"، مع تقديم أو تعقيب. كانت تنشر الأعمال كاملة. أما "الرسالة" فكانت تنشر في "بريدها الأدبي" أشعارا ومقالات وخواطر للأدباء الشبان، كاملة أو مقتطفات منها.
وخلال شهر ونصف كتبت ثلاث قصص قصيرة أرسلتها بالبريد إلى مجلة "الثقافة"، وفي نفس الوقت كتبت مقالا تناولت فيه بالنقد كتابا لكاتب معروف اسمه عبد المنعم الحفني، بعنوان "الحفني وعدة مغالطات!" أرسلته إلى مجلة "الرسالة" .. وبعد عدة أيام كتبت بعض الخواطر وأرسلتها إلى مجلة "الرسالة" أيضا بعد ذلك، ومع أول عام 1963م اُخترت مع بعض زملائي لإعداد مجلة مطبوعة تصدر عن طلاب المعهد، واتفق المعهد مع فتحي الأبياري (نائب رئيس تحرير "أكتوبر" حاليا) ـ مندوب "أخبار اليوم" في الإسكندرية في ذلك الوقت ـ على أن يُشرف على طبع المجلة. وكتبت قصة بعنوان "هكذا خُلقنا" لتنشر بالمجلة، قرأها فتحي الأبياري فأعجب بها، ونصحني بأن أرسل إنتاجي الأدبي إلى صحف ومجلات القاهرة.
ودفعتني النصيحة إلى أن أكتب قصة جديدة بعنوان "في الليل"، كتبتها في أسبوع، ثم قلت لنفسي: إلى من أرسلها؟ الكتابات التي أرسلتها إلى "الثقافة" و"الرسالة" لم تُنشر بعد. فكرت طويلا ثم قفزت إلى خاطري مجلة "الأدب" التي كنت عرفتها منذ شهر واحد؛ فذات يوم كنت أُقلِّب الصحف والمجلات عند بائع الصحف فوقع بصري على مجلة لم أقرأها من قبل، قلبت صفحاتها، ثم أخذتها معي لأقرأها .. هذه المجلة كانت "الأدب"، وأعجبني فيها مقال لرئيس تحريرها: أمين الخولي رئيس جماعة الأمناء، قال فيه: "إنه يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال" .. كلام يُمثل قيمة عظيمة في مجال الفكر والإبداع.
وأرسلت القصة إلى مجلة "الأدب".
ثم تتابعت الأيام .. وانتهى العام الدراسي، وعدت إلى مدينتي "الزقازيق"، وخلال أسابيع أخذت المخاوف والهواجس تُناوشني، وأخذت أقول لنفسي: يبدو أن الكتابات التي أرسلتها إلى "الثقافة" و"الرسالة" أخذت طريقها إلى سلال المهملات.
ثم أقبل شهر أكتوبر 1963م، وفي صباح أول أيام هذا الشهر كانت المفاجأة التي اهتز لها كياني، جعلتني أكاد أطير من شدة الفرح. لقد نُشرت قصة "في الليل" بمجلة "الأدب" .. أخذت أتأمّل اسمي المطبوع، وكأنّ حروفه غير الحروف التي يتكون منها .. قرأت القصة مرات ومرات فبدت في خاطري أفضل مما كنت أظن، وتأججت في داخلي رغبة عارمة في أن أكتب وأكتب وأكتب، وبرقت في رأسي أفكار قصص ومقالات. يجب أن أبدأ فوراً، قلتها لنفسي في عزم وإصرار وتفاؤل.
وحبست نفسي في حجرتي ثلاثة أسابيع كاملة كتبت خلالها ثلاثة أعمال قررت أن أُرسلها إلى مجلة "الأدب"، والأعمال هي:
1-نقد لمسرحية "الطعام لكل فن" لتوفيق الحكيم.
2-نقد لقصة "الطريق" لنجيب محفوظ.
3-قصة بعنوان "أمام المرآة".
كذلك رأيت أن أكتب قصة أخرى لتنشر في مجلة "صوت الشرقية"، وكنت قد عثرت عليها ـ أخيرا! ـ لأول مرة عند بائع الصحف.
ثم توالت الأيام، وجلست أنتظر، ولم يطل انتظاري. ففي شهر ديسمبر 1963م فوجئت بنشر قصة في مجلة "الثقافة". نُشرت القصة كاملة مع تقديم طيب ولكن في "بريد الثقافة". قلت لنفسي: "خير وبركة .. وأول الغيث قطرة".
وتتابعت في عام 1964م أعمالي المنشورة؛ كل الأعمال التي أرسلتها إلى مجلات "الثقافة" و"الرسالة" و"الأدب" و"صوت الشرقية" نُشرت كاملة، وإن كانت الأعمال التي نُشرت في مجلتي "الثقافة" و"الرسالة" كانت في باب "بريد الأدب".
المهم: توهجت طموحاتي، حلقت بي في سماء عالية، وانطلقت أعمل، كتبت مسرحية قصيرة أرسلتها إلى مجلة "الأدب"، وأرسلت قصة إلى مجلة "القصة"، ثم بدأت أكتب قصة طويلة، ومسرحية من ثلاثة فصول.
*ما أهم القضايا التي تؤرقك كأديب؟ وهل انعكس ذلك على إبداعاتك القصصية؟
-بالتأكيد .. لابد أن ينعكس على إبداع الأديب ما يؤرق فكره وما يضطرم في وجدانه، والنفس البشرية هي أهم ما يشغل فكري. تستهويني خفايا النفس البشرية وأسرارها وأدغالها، أحاول أن أنفذ إلى أعماق الإنسان، أن أكشف وجهه الآخر، نعم .. حقيقة الإنسان لا تعكسها قسمات وجهه ولا الكلمات التي ينطق بها لسانه.
ومن القضايا التي تُمثِّل هما من همومي كأديب: الإنسان بين الواقع والأمل .. الإنسان في صراعه مع الحياة ومع الآخرين ومع نفسه، الإنسان حينما يريد أن يؤكد ذاته، أن يفلت من واقع يفزع فكره ووجدانه. في إيجاز: يشغلني الإنسان في معترك الحياة، في حيرته، في يأسه وضياعه، في نشوة انتصاراته وتحقق طموحاته.
*ما أهم سمات أبناء جيلك؟ وهل أنتم تتميزون عن الجيل السابق؟
-نحن جيل بدأ مسيرته مع إشراقة حلوة للحياة .. نشأنا وترعرعنا والحياة من حولنا زاهية مشرقة. تملؤنا كل المشاعر والأحاسيس التي تجعلنا ننظر إلى الغد وملء الخاطر يقين حلو هو أن الغد سيكون أكثر إشراقاً، وأن الأجيال الصاعدة ستكون أسعد حالاً، وأوفر حظا من مباهج الحياة.
نشأ جيلنا وأعلام العزة والكرامة والكبرياء تُرفرف في سماء حياته، وفجأة .. خلال أيام .. بل ساعات، انكشف المستور، انقشع الوهم الهائل الذي نعيشه .. انهار الصرح الشامخ لطموحاتنا وأحلامنا الغالية، وبسبب هول الفاجعة التي أصابتنا في 5 يونيو 1967م أصبحت الرؤية كئيبة وقاتمة، وفي الواقع الجديد واصل جيلنا مسيرته، وهو يُغالب عوامل اليأس والإحباط والضياع مثقلا بهموم طاحنة، بفكر تصدّع بُنيانه، ووجدان ممزق حائر.
*ألاحظ انشغالك بقضايا النقد، ألا يجني ذلك على عملك كقاص؟ ثم ما مُبررات انشغالك بالنقد؟
-بعد أن أفرغ من قراءة أي عمل أدبي تتناوشني عدة أفكار وخواطر، وأحياناً تُلح علي هذه الأفكار بشدة فلا أجد مفرا من أن أطلق سراحها حتى يهدأ خاطري.
النقد عندي إذن انطباعات قارئ، وفي رأيي أن القارئ من حقه أن يقول رأيه .. بل إن حياتنا الثقافية في أشد الحاجة إلى اتساع دائرة الحوار والمناقشة حول أي إبداع أدبي حتى تتأكَّد الصلة بين المبدع والمتلقي، فهذا هو الطريق إلى إثراء حياتنا الأدبية فضلاً عن استنارة الطاقات المبدعة من أجل إبداع أفضل.
*ما رأيك في مقولة "جيل بلا أساتذة" التي طرحها محمد حافظ رجب في الستينيات؟
-في تقديري أنها مقولة خاطئة، فكل جيل لابد أن يتأثَّر بكتابات وإبداع الأجيال السابقة، فمن منا لم يتأثر بطه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وأمين الخولي ..وغيرهم؟ والأديب ليس نبتاً شيطانيا، والأدباء الكبار أساتذة للأجيال الجديدة بفكرهم وإبداعهم.
ليس شرطاً أن توجد صلة مباشرة بين الأديب اللامع والأديب الناشئ، فالكلمة هي خير صلة.
أما سبب المقولة فهو أن أدباء الستينيات خصوصاً خارج القاهرة لم يجدوا التشجيع والاهتمام الذي يريدونه من الجيل السابق، حيث فوجئوا بالأدباء الكبار يعيشون في أبراج عاجية بعيداً عنهم.
وفي الحقيقة: المبدع خير أستاذ لنفسه، فبفضل التثقيف الذاتي وبطاقات إبداعه، وبإرادته وإصراره قادر على أن يُؤكِّد ذاته وأن يُحقق أحلامه وآماله.
*ما رأيك في مطبوعات الماستر التي يُصدرها بعض أبناء جيلك؟
-مطبوعات الماستر علامات مضيئة على طريق مسيرتنا، هي محاولات ناجحة لتأكيد الذات، بل إنها تعكس قيمة إنسانية غالية هي أنه لاشيء يمكن أن يوقف مسيرة مبدع موهوب قادر بعزمه وإرادته على الصمود في مواجهة التحديات التي تُواجهه.
وفي إيجاز يمكن أن أقول إن مطبوعات الماستر كانت إشراقة نهار بدّدت ظلمة ليل كان يُمكن أن يتوه في دياجيره جيل الستينيات.
(يتبع)