الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديات الحوارية العامة > منتدى الأدب العام والنقاشات وروائع المنقول

منتدى الأدب العام والنقاشات وروائع المنقول هنا نتحاور في مجالات الأدب ونستضيف مقالاتكم الأدبية، كما نعاود معكم غرس أزاهير الأدباء على اختلاف نتاجهم و عصورهم و أعراقهم .

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-12-2009, 01:12 AM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي قراءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد

حديث الوردة .. حديث النار (1 ـ 4)
قراءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد


بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود

(1)
حسين علي محمد (1950- ) واحد من أهم شعراء السبعينيات، الذين حملوا رؤية صافية نقية، تنبع من فهم واع لهوية الأمة وشخصيتها، وتحركوا من خلال تصور واثق، يؤمن بقيمة الفن ووظيفته في مخاطبة المشاعر والأفئدة، وتجييش العواطف والأحاسيس بما يجعل المتلقي، قارئا أو مستمعا، شريكا في العمل الفني بالاستجابة والتفاعل، وليس مجرد مشاهد لا يفهم أو لا يدري ما يُقال أو يُتلى أو يُقرأ.
إن "حسين علي محمد" شاعر ينتمي إلى الريف المصري، وقد ظل وفيا لهذا الريف منذ مولده وحتى اليوم، يعيش مع أهله وناسه همومهم وآمالهم، دون استعلاء عليهم، أو تنكر لهم، فهو واحد منهم، يُغني أناشيدهم، ويُنشد أغانيهم، دون أن تستهويه أضواء العاصمة، أو تخلعه من جذوره، أو تجعله يبيع هويته في سوق الرق الفكري، الذي يشتري الباحثين عن الشهرة بأبخس الأثمان، وأرخص القيم.
ظل حسين علي محمد في بلدته الصغيرة "ديرب نجم ـ بمحافظة الشرقية" يقرأ ويدرس ويعمل ويقرض الشعر، حتى استطاع بموهبته وخبرته ومثابرته أن يفرض أدبه وإنتاجه في معظم الصحف والدوريات التي تصدر في العاصمة، وبقية العواصم العربية، وأن يكون واحداً من شعراء زماننا الذين يُقدِّمون شعرا عذبا وجميلا، يذهب بطعم الحصرم ـ الذي نتجرّعه بالقوة والإرهاب ـ عبر الوسائط الإعلامية والأدبية، لنفر من الطغاة الذين ظنوا السخف الذي يقولونه أو يكتبونه شعراً وأدباً، وذهبت بهم الصلافة والغرور إلى الحد الذي تصوروا معه أنهم أتوْا بما لم يأت به الأوائل، وأنهم أحدثوا تطورا غير مسبوق وَصَلَ بالشعر العربي إلى ذروةٍ لم يصل إليها أحد من الغابرين! وهيهات أن يكون هذا الأمر صحيحاً، إذ لو كان كذلك ما أعرض عن كلامهم الناس، ولا وقفوا منه موقف "الأطرش في الزفة" .. ولكن الآلة الإعلامية الرهيبة تعمل على قلب الحقائق، وتوهم بالباطل بما لا أساس له في الواقع.
على كل، فإن "حسين" قد نمت موهبته الشعرية من خلال دراسته النظامية التي وصلت به إلى الحصول على درجة "الدكتوراه" (عام 1990م)، وإن كنت أرى أن ثقافته الحقيقية قد نمت وتبلورت من خلال قراءاته ومتابعاته الأدبية والثقافية خارج الدرس "النظامي"، فالتثقيف الذاتي ـ فيما أعلم ـ كان وراء ذلك الوعي العميق الذي يظهر عبر قصائده وأشعاره بأبعاد التراث الإسلامي، الناضج، والواقع الراهن بملامحه المأساوية المتردية، والحلم الجميل بمستقبل أفضل من خلال تتبع ما يجري في الدنيا، ولدى الآخرين من مميزات التفوق والقوة والبناء.
نحن إذن أمام شاعر يملك نضج الرؤية الحضارية على المستوى الفكري، حيث يلتقي الماضي والحاضر والمستقبل في وجدانه وعقله وخياله، وهو بهذا يستطيع إذا أنشد أن يقدم لنا شعراً ذا قيمة، وذا أصالة أيضا .. فضلا عن "الكم" الكبير الذي نشره وكتبه من القصائد والمسرحيات.
نشر "حسين علي محمد" مجموعة من الدواوين أو المجموعات، بعضها بالجهد الذاتي (بطريقة الماستر)، وبعضها عبر أجهزة النشر الحكومية، وأيضا فإن لديه أكثر من مسرحية ومجموعة شعرية لم تنشر، وإن كان نشر بعض قصائدها في صحف ودوريات محلية وعربية متعددة.
من المجموعات التي نشرها بجهده الذاتي"السقوط في الليل" عام 1977م، وساعده في نشرها: اتحاد الكتاب العرب بدمشق، أيضا نشر بجهده الذاتي مجموعته "أوراق من عام الرمادة" عام 1980م، ضمن دورية"أصوات" التي كان يُصدرها في الشرقية مع فريق من زملائه الشعراء والفنانين التشكيليين، وهي أسبق من الدورية الأخرى التي صدرت بالاسم نفسه بوساطة فريق آخر في القاهرة.
ومن المجموعات الأخرى المخطوطة التي لم تنشر بعد: "تجليات الواقف في العراء"، و"زهور بلاستيكية"، و"من دفاتر العشق" .. وله أيضا مسرحيتان مخطوطتان: "الرجل الذي قال"، و"الحاجز الرمادي".
وإلى جانب ذلك فهناك بعض الدراسات الأدبية التي نشرها الشاعر، مثل: "البطل في المسرح الشعري المعاصر"، وصدر في القاهرة عام 1991م، و"القرآن ونظرية الفن"، وقد صدرت طبعته الثانية عام 1992م.
ومازال الشاعر ينشد شعرا، ويكتب دراساته ومقالاته التي تدل على أصالة وعيه العميق.
(2)
من يقرأ شعر حسين علي محمد يستشعر أنه بإزاء شاعر له شخصيته المتفردة في الأداء الفني والرؤية الشعرية، صحيح أننا نستشعر ملامح التقليد في البدايات ـ وهذا أمر طبيعي ـ ولكن مرحلة النضج قدّمت شاعراً يمتلك الأداة التي يستخدمها بتميز، ليعبر من خلالها عن رؤيته الصافية وحلمه المتميز.
في البداية بدا الشاعر معجباً بمجموعة من شعراء التجديد المعاصرين أمثال بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وقد رثى السياب عند وفاته بقصيدة جيدة، ولكن تأثره الواضح ارتبط بالشاعر صلاح عبد الصبور، ولعل ذلك يرجع إلى شهرة الأخير في مطلع حياة حسين الشعرية، وإلحاح أجهزة الإعلام حينئذ على شعره وأخباره، ومن ناحية أخرى فلعل العامل الجغرافي كان من وراء هذا التأثر، حيث ينتمي الشاعران إلى محافظة واحدة هي محافظة الشرقية، ولعل أبرز نماذج التأثر تبدو في قصيدة حسين التي عنوانها "أربع صفحات من مذكرات أبي فراس" التي نشرها في مجموعة "السقوط في الليل"، ويقول في مطلعها:
"أعودُ منْ بلادِ الثلجِ والضبابِ والرؤى المهوِّمهْ
وقلبيَ الصغيرُ وزدةٌ حمراءْ
تنِزُّ بالدِّماءْ
أعودْ
وليتني ما عدْتُ يا صِحابْ
فهاهيَ الوجوهُ مُعْتِمهْ
لمْ تبْتسِمْ لعوْدَتي بالحبِّ والصَّفاءْ
وهاهُمُ الصِّغارُ في الأركانِ نائمونْ
يحلمونَ أنْ تقومَ فوقَ أركانِ المدينةِ المُهَدَّمَهْ
مدينةٌ جديدهْ
مدينَةٌ سعِيدَهْ
لايصدِمُ الصِّغارَ فيها منظرُ الدِّماءِ والأشلاءْ" (ص36)
وإذا كنا في هذه القصيدة نستشعر صورا عديدة تذكرنا بقصيدة "صاحب الوجه الكئيب" خاصة، فإن قصيدة حسين تقودنا بوجه أخص إلى قصيدة صلاح عبد الصبور الشهيرة، التي عنوانها "الخروج"، وفيها يستلهم هجرة الرسول  من مكة إلى المدينة، ليعبر عن تجربة شخصية مرَّ بها، ويقول في أحد مقاطعها:
"لو مت عشت ما أشاءُ في المدينةِ المنيرهْ
مدينةِ الصحو الذي يزخرُ بالأضواءْ
والشمسُ لا تُفارقُ الظهيرهْ
أوّاهُ يا مدينتي المُنيرهْ
مدينة الرؤى التي تشربُ ضوءِا
هل أنتِ وهم واهمٍ تقطّعتْ بهِ السُّبلْ؟
أم أنت حق؟
أم أنتِ حق" (الأعمال الكاملة، ص237)
ولسنا هنا في مجال المقارنة والتقويم بين الشاعرين، ولكننا نشير إلى بدايات الشاعر التي تكون عادة أقرب إلى التقليد والتأثر بالآخرين، منها إلى الاستقلال والذاتية الصرفة، وهو ما صنعه الشاعر فيما بعد، رؤية وأداة.
والحديث عن رؤية الشاعر وأبعادها يقضي مجالا أرحب، ولكننا نشير إليه هنا باقتضاب، لنؤكد على ما يمكن أن نسميه "الواقعية المثالية" .. حيث ينطلق الشاعر من واقعه ليطلب المثال وفق تصور واضح، لا غموض فيه ولا التباس ولا التواء.
وهذا الواقع الذي ينطلق منه هو واقعه اليومي المعاش على المستوى الشخصي ومستوى الأمة. وإن كان ما يجري للأمة ويعصف بكيانها وحضارتها وتاريخها ومستقبلها يمثل العنصر الأغلب والأعم والأكثر أهمية .. قليلة هي القصائد التي تنضح بالهم الشخصي، وقليلة هي الأشعار التي تقدم لنا معالم خاصة في حياة الشاعر تشغله أو تمنعه عن التفكير في واقع الأمة ومأساتها .. إنه شاعر يعيش لأمته، وينسى نفسه إلا في حالات قليلة يمكن عدها على الأصابع، بل إنه يوظف تجاربه الشخصية لتكون معبرا يصل إلى واقع الأمة، أو صدى لواقع الأمة.
من تجاربه الشخصية القليلة التي استأثرت بهمه الذاتي رثاؤه لأبيه الذي فقده، وهي مرثية قصيرة محكمة، يبدو فيها الرضا بالقدر والتسليم بالقضاء مع الإحساس الحاد بالفقد:
" .. وهلْ يسمعُ الشيخُ صوْتَ الرياحِ
بوادي الفناءْ
أيا فرسَ الموتِ ،
أقبِلْ ، وطِرْ بي
ودعْهُ هنا نائماً
مُستريحاً
وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ".
وبصفة عامة فإن التجارب الذاتية تدور غالباً حول الرثاء للأحبة والأصدقاء والشعراء الذين ارتبط بهم عاطفيا وفنيا، ومن خلالها يبث شجنه، ويومئ ضمنا إلى الهم العام الذي يؤرقه ويضنيه، والذي يتفرد بالساحة الشعرية للشاعر، ويفرض ملامحه عليها، وعليه أيضا، كما نرى في قصيدة "الحصار يليق بالشاعر"، حيث يصير الشاعر "مجرَّدُ فرْضٍ في ذاكرةِ الطينِ"!:
"في الشارعِ يقفُ السمسارْ
في النّافذةِ المُخبرُ
في الذاكرةِ بقايا النّارْ
كيْفَ تُخاطبُكَ الأشجارْ
يا رجلَ الأقدارْ
ـ أنت مجرَّدُ فرْضٍ في ذاكرةِ الطينِ
وقبرُكَ
محفورٌ
في الأشعارْ".
ولعل هذه القصيدة القصيرة تجمع عناصر رؤيته في ذلك الصراع غير المتكافئ بينه وبين قوى الشر العاتية المتمثلة في "السمسار": رمز الانتهازية، والميكافيللية، والكسب بلا تعب، والمخبر: رمز السلطة والحصار والملاحقة .. ونتيجة الصراع واضحة سلفاً، حيث إنها محسومة لصالح الجبهة التي يقودها السمسار والمخبر .. أما الشاعر ـ رجل الأقدار ـ فمصيره إلى القبر!، وعلى الرغم من أن القصيدة تومئ إلى ملامح المقاومة والوقوف ضد التيار من خلال "بقايا النار" و"الأشجار"، وسنرى فيما بعد دلالة "النار" على صورة المقاومة والتطهير والأمل، فإن "الأحجار" بكل ما ترمز إليه من صلادة وقسوة وفقدان للإحساس، تعطي ملمحا مأساويا يُكرِّس الهزيمة والموت!! مما يعني واقعية الشاعر ومثاليته في وقت واحد.
وللإنصاف فإن الشاعر على مدى تجربته الشعرية، كان الأمل يومض في أشعاره بالرغم من قتامة الواقع المحبط، والذي يتبدّى عبر تفاصيل الحياة اليومية والأحداث السياسية والاجتماعية، وظل يحلم بهذا الأمل إلى عهد قريب، ولكنه ـ فيما يبدو ـ وصل مؤخرا إلى درجة الاقتناع باليأس وعدم الجدوى، لأنه يرى ما حوله ينبئ عن الهزيمة، ويتحدث عن الموت. ولا بأس أن نورد نموذجاً للأمل الذي كان يُداعب خيال الشاعر باستمرار طوال فترة غير قصيرة، ظل يحلم فيها ـ إلى درجة اليقين ـ بقدوم السلام والأمان:
"لنْ أضربَ في أرجاءِ الوهِمِ الحيْرانِ
سأعودُ لداري فرِحاً
ذات مساءٍ نشوانْ
وستُفرِخُ أطيارُ الحبِّ على نافذتي
وستشدو ..
ذات مساءٍ نشوانْ :
عمَّ الكونَ سلامٌ وأمانْ
عمَّ الكونَ سلامٌ وأمانْ".(من قصيدة "هموم شاعر أشبيلية العاشق")
وإذا كان هذا الحلم يبدو "طوباويا" ساذجا، ينقض ما أشرنا إليه من قبل عن "الواقعية المثالية" لدى الشاعر، فإنه في قصائد أخرى يتشكل وفقاً لقانون التضحية والفداء، وهو يُعلن عنه بخطابية مباشرة:
"أقفُ وأحميكِ من السِّفْلةِ والأوغادْ
وأُقدِّمُ عمري قُربانا
حتى ترتسمَ على أوجهِ أطفالكِ
بسماتُ الأعيادْ
ويظلُّ الشعرُ رسولاً للإيمانْ
سيفاً في الأرزاءْ
أنزفُهُ كلَّ صباحٍ ومساءْ
منْ أجلِ بنيكِ الفقراءِ الشرفاءْ" (ختام قصيدة "وشم على ذراع مصر")
(يتبع)






 
رد مع اقتباس
قديم 06-12-2009, 01:14 AM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: راءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد

حديث الوردة .. حديث النار (2 ـ 4)
قراءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد


بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود

وفي كل الأحوال فإن الهم العام يظل يؤرق الشاعر، ويحضر أمامه في شتى المناسبات التي تجعله يحمل الأمة في حنايا صدره، يهتف لها، ويغني جراحاتها، ويأمل في غدها الجميل، وقد تحزبه هموم آنية، فتضيق أمامه جسور الأمل، وتسودُّ الرؤية، ولكن الأمل يظل قائما في أكثر من صورة يجسدها بصفة عامة إحساسه الحاد بضرورة الحركة نحو الأفضل والأنقى والأصفى.
ثمة ملمح آخر للرؤية الشعرية لدى حسين علي محمد يتمثل في تجاوز الدائرة الوطنية والقومية إلى الدائرة الإسلامية حيث يُعاني المسلمون ألوان عديدة من القهر والعسف، والطرد من بلادهم، وتطهيرهم منها بعد مذابح دامية بشعة ورهيبة، وغير مسبوقة في العصر الحديث، كما حدث في "البوسنة والهرسك" مثلاً، والشاعر لا ينسى في غمرة همومه ما يجري هناك لإخوانه المسلمين، الذين تآمر عليهم أعداء الإنسانية، وأشرار الأرض، وخذلهم المسلمون وصمتوا على ما يحدث لهم.
في قصيدته "أربعة مقاطع دامية أو: صهيب ينادي وا معتصماه!" التي يهديها "إلى سراييفو المحاصرة"، يوجز مأساة المسلم المعاصر، الذي تتناوبه الأرزاء، ويزري به الأعداء، ويعيش حالة بؤس وانفصام لا مثيل لها في تاريخه، ولعل المقطع الأول في القصيدة يُلخص هذه المأساة حين يستخدم النص القرآني في قوله تعالى أول سورة الروم "ألم غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون" لتقديم المفارقة في الواقع الإسلامي الراهن، وبدلا من أن يكون الحكم هو "هزيمة الروم" (غُلِبتْ = على البناء للمجهول) يجعل الشاعر الحكم معكوساً (غَلَبتْ = على البناء للمعلوم)، ويسرد ما تفعله الروم (رمز الإجرام الغربي المعاصر) بالمسلمين في سراييفو (أو البوسنة والهرسك) .. ويكثف الشاعر المفارقة من خلال الإشارات التاريخية إلى الماضي حيث كان المسلمون يغلبون، وكانت جيوش محمد  تحقق انتصاراتها في كل مكان، وكان يستنجد به كل مظلوم، وكل مقهور، وكل خائف:
"مشى الرومُ فوقَ جبينيَ هذا المساءْ
وداستْ خيولُهمو بالسنابكِ وجهَ الضياءْ
وكان "صهيبُ" يُنادي جيوشَ محمدْ
فلمْ تُرجعُ الريحُ حتى الصّدى
وضَاعَ النداءْ
وظلِّي تجمّدْ
فلا الأُفقُ تعلوهُ رايةُ أحمدْ
فلا الخيْلُ خيلي
ولا الظلُّ ظلِّي !"
وبالرغم من اسوداد الواقع الراهن، وسوءاته، وبالرغم من العجز والإحباط الذي يتبدّى في مقاطع القصيدة، فإن الشاعر في المقطع الأخير تراوده الآمال التي يراها بعيدة، ولكنه يتساءل عنها في لهفة وسخرية:
"هلْ تضحكُ الأيامُ للوجْهِ الحزينْ ؟
هلْ تعرفُ المخدوعةُ الحسناءُ
أكثرَ منْ حصادْ التُّرَّهاتْ ؟"
وهكذا فإن مأساة المسلم المعاصر ليست قاصرة على إقليم بعينه، ولكنها حالة عامة تشغل الشاعر في سياق عام يمثل محورا مركزيا في بصيرة الشاعر، وإن تعددت الملامح وزوايا الرؤية.
(3)
إلا الذئاب التي تعوي، وعام الرمادة، والصحاب الجوف، والليل اللدود، والدمع الذي يحفر نهره في الوجه المكدود ..
يبدأ الشاعر قصيدته بمقطع يمتزج فيه الماضي والحاضر، والخاص بالعام، في إشارة ذكية وموحية، بل عامرة بالإيماءات من خلال مفردات تشير إلى الوحدة والجوع والشوق والأمل:
"هذا أنا
وحدي هنا
خلفَ الجموعْ
الجوعُ يقتلُ ناقتي
والشوقُ يعصِفُ بالضلوعْ !"
ثم يُقلِّب معاني هذا المقطع بصورة أخرى تُشير ضمنا إلى الشاعر ووظيفة الكتابة، مع إحساس رومانسي عارم، يحفل بالتشاؤم والأسى:
"هذا أنا
سقطتْ إشاراتُ الكتابةِ ، والدموعْ
سالتْ على وجْهي ، وأوراقُ الربيعْ
سقَطَتْ ، تهاوتْ .. والمُنى
ذبُلتْ بقلبي ، تحتَ أقدامِ الصقيعْ"
وإحساس الوحدة الذي يستشعره الشاعر، ينبئ في المقطع التالي عن وجهين، أو وجه يمكن أن نديره، فيكون خاصا مرة،أي معبرا عن تجربة شخصية، وعاما مرة أخرى، أي يحتضن رؤية اجتماعية تلمّح إلى فجيعة يعيشها المجتمع، حيث لم يبق صامدا ونقيا إلا الشاعر ـ وما يرمز إليه ـ أما الساحة التي تحولت إلى فياف وقفار، فإن الذئاب هي التي تعمرها بالعواء والوحشة، والوحشية أيضا:
"مرَّ الصحابْ
وبحثتُ عنهمْ في الفيافي والقِفارْ
وظللتُ أصرخُ علّني أجدُ الجواب
فلمْ أجدْ غيرَ الذئابْ
تعوي ، ولمْ أجدِ الصحابْ !"
ويُلاحظ أن الشاعر هنا يستخدم قافية "الباء" ذات الجهارة والانفجار في ختام أغلب الأشطر بوصفها قافية ذات دلالة وتناغم مع المناخ المتوحش الذي بستشعره في وحدته وصموده، وصراخه أيضا.
في المقطع الرابع والختامي ـ وهو أطول المقاطع ـ يبدو الشاعر وكأنه يفيق من مثاليته ليجبه الواقع، الذي ينكشف عن جهامة عام الرمادة والصحاب الجوف، والليل اللدود، والدمع الذي يهمي .. وهنا تبدو الحيرة والتخبط، فهل يرجع الشاعر عن متابعة البحث عن الطريق ويستريح من العناء: عناء الوحدة والوحشة، أو عناء مواجهة المجتمع الذي تحوّل إلى ذئاب، أم يُتابع المسيرة ويقف خلف الجموع، يُعرِّض ناقته الجائعة للخطر، وضلوعه للشوق العاصف؟
"ضَلَّتْ خُطاكْ
يا أيها المجنونُ قدْ ضَلَّتْ خُطاكْ
وبحثتَ عنْ أثرِ الخُطا
وبحثتَ عنْ أثرِ الطريقِ
فلمْ تجدْ أثراً هناكْ
عامُ الرمادةِ ، والصحابُ الجوفُ
والليلُ اللدودُ
هواجسٌ ، والدّمعُ يحفرُ نهرَهُ
في وجهِكَ المكدودِ ، هلْ تبْغي الرجوعْ ؟"
ولكن الحيرة تبقى قائمة، والفجيعة تظل جاثمة، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام، لأن الصحاب مروا، ولم يبق إلا الذئاب، وإن كان الشاعر يُقرِّر أيضاً أنه لم يبق في حوزته إلا الدموع!:
"لمْ يبقَ لي غيْرُ الدموعْ
هذا أنا
وحدي هنا
خلفَ الجموعْ
الجوعُ يقتلُ ناقتي
والشوقُ يعصِفُ بالضلوعْ !"
وأيضاً، لنا أن نتأمل هنا "قافية العين" الذي يختتم بها بعض الأشطر في هذا المقطع لنرى تأثيرها الموسيقي الفاجع، والذي يُنبئ عن عمق الفجيعة والحسرة، وهو عمق يتساوى مع موضع خروج العين من الحلق، ودلالته الحزينة اليائسة.
لعل "أوراق من عام الرمادة" التي قرأنا بعضها هنا تُنبئ عن توظيف جيد وساطع، لدلالة عام الرمادة ومعطياته في التعبير عن تجربة الشاعر تجاه لحظة حياتية أو واقع يلتحم به، ويصطلي بأحداثه وأناسه.
من ناحية أخرى فإن الشاعر يستدعي شخصية الشاعر "ابن الرومي" ليطرح من خلالها مأساة الشعراء الصادقين في كل زمان ومكان، عبر حكاية فقر ابن الرومي وجوع أولاده، وعدم قدرته على الوصول إلى أبواب السلطان كي يمدحه وينال نصيباً من المال يُعينه على مواجهة الحياة. وابن الرومي في ذاته شخصية معروفة على مستوى الشعر، ولكن ما يتعلق بها ـ على مستوى الشاعر ـ وقصة فقره، وطموحه إلى مديح السلطان، غير معروف لدى عامة القراء أو جمهورهم على الأقل، وهذا يُضعف التواصل بين الجمهور وابن الرومي، أو بين القراء وقضية العلاقة بينه وبين السلطة، وما يستتبع هذه العلاقة من أثر اجتماعي وخلقي.
ويمكن القول إن الشاعر أخفق في تقديم "ابن الرومي" بوصفه رمزاً ناجحاً على المستوى الفني، كما كانت الصياغة للمقاطع الخمسة التي كوّنت القصيدة "أوراق عن ابن الرومي" متفاوتة من ناحية الإحكام البنائي، فالمقطعان الأول والثاني جيدان، أما المقاطع الثلاثة الأخرى فليست على مستوى المقطعين الأول والثاني، فبينما نجده في المقطع الأول يُقدم توطئة مقبولة، بل مشوقة لما يريد أن يطرحه من خلال ابن الرومي، نجده في المقطع الأخير يلجأ إلى تقديم نهاية غير مبررة (فنيا) وتاريخيا، فضلاً عن صوت جهير يتسم بالتقريرية والمباشرة، وهو ما ينطبق إلى حد ما على المقطعين الثالث والرابع.
ولنقرأ ما قدّمه في المقطع الأول حيث يقدم توطئته التي تعتمد الحكاية والقص:
"افتحْ لي باباً أدخلُ منهْ
يا موْلايَ السُّلطانْ
أبعدني عنكَ الحجَّابْ
طردوني دونَ البابْ
ظنوني أحدَ السِّفْلهْ
خافوا أنْ أفتكَ ـ حاشا ـ بالسلطانْ
وأنا...
ـ علِمَ اللهْ ـ
أعْددتُ قصيدةَ مدْحٍ عصماءْ
وحلُمتُ بأنْ أُلقيَها في حضْرتِكُمْ ذات مساءْ
فتنيلوني شيْئاً
أوْ ترضونَ عليّ"
أما المقطع الأخير، فيبدو صاخباً على هذا النحو:
"عابَ أشعاري وفي منزِلِــهِ .:. كلُّ عَــارٍ ومخَــازٍ ورِيَبْ
أنا لا أشتُـمُ إلاَّ أُمَّــــهُ .:. فلْيزِدْني غضـباً فـوقَ غضَبْ
مالِمَنْ يُغمــزُ في أنْسابِـهِ .:. ويَعيبُ الشعرَ منْ أهلِ الأدبْ"
ويبدو أن الشاعر لم ينتبه إلى أن قصة "ابن الرومي" كان يمكن أن تُشكل في السياق الذي صنعه دلالة أخرى أكثر غنىً وعمقاً، وبخاصة أنها دارت حول محور البحث عن "النوال"، ولكنه آثر فيما يبدو أن تنتهي تلك النهاية التي تعيب فيها "البطانة" أشعار ابن الرومي، وهنا يتوقف الشاعر حسين علي محمد حيث لم نستطع فهم السبب الذي يجعل السلطان ـ ولو من خلال الحلم ـ لا يُجيز قصيدة عصماءَ "قد صيغتْ لآلئها بألفيْ بيْتْ".
(يتبع)







 
رد مع اقتباس
قديم 06-12-2009, 01:16 AM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: راءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد

حديث الوردة .. حديث النار (3 ـ 4)
قراءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد

بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود


(4)
يمكن القول إن لغة "حسين علي محمد" في إطارها العام، أقرب إلى الرمز الشعري منها إلى لغة الخطاب العادي، فمعظم ألفاظه تنحت لنفسها دلالة تتجاوز المعنى المُتداوَل، لتُشير إلى معنى خاص يفرضه أداء الشاعر وصياغته. ومن هنا فإن "الرمز اللغوي" لديه يُشكِّل معجماً له ملامحه وسياقاته التي يُمكن تتبعها عبر قصائده، لنستخلص منها دلالات رمزية توحي بما يلح عليه الشاعر ويؤرقه.
ويمكننا أن نذكر هنا بعض الألفاظ / الرموز غزيرة الاستخدام ، أو التي تُشكِّل بعضاً من معجم الشاعر، ويستطيع الباحث لو أراد أن يغوص في حقولها الدلالية، فيكشف كثيراً من الرؤى والمعطيات على أكثر من مستوى، ومنها على سبيل المثال:
(الحلم ـ الندى ـ الحنين ـ السراب ـ الليل ـ الفجرـ النور ـ العشق ـ الحب ـ الرحيل ـ السفر ـ الغربة ـ الوحدة ـ الموت ـ الحزن ـ الشدو ـ الغياب ـ الصمت ـ الجرح ـ القنديل ـ الفصول الأربعة ـ الخوف ـ الريح ـ الشجرة ـ العصفور ـ الغراب ـ الصحراء ـ اللؤلؤ ـ الغيم ـ القوافل ـ الصهيل ـ النسيان … إلخ).
وكل لفظة منها تأتي مفردة أو مجموعة أو مضافة أو مشتقة أو مرادفة، لتتقلب عبر القصائد بدلالات شتى ومتعددة.
في هذه الوقفة القصيرة نكتفي بالدوران قليلا في حقلي "الوردة والنار"، فكل منهما تملأ حقلا دلاليا يُضيء في أكثر من اتجاه، وقد تكررت كل منهما في عناوينه وسطوره، لدرجة توحي بسيطرتهما عليه، واقتحامهما لشعوره، ولاشعوره أيضا. ففي العناوين يمكن ان نقرأ مثلاً: "الرحيل على جواد النار" ـ عنوان مجموعة شعرية ـ وفي القصائط يمكن ان تقرأ أيضا بعض الأمثلة: "العصفور وكرة النار"، و"ووردة"، و"أيتها الوردة"، و"زهور بلاستيكية"، و"زهرة الصبار"، و"زهور جافة إلى يارا" …
تتحوّل "الوردة" ـ ومرادفاتها ـ في حقولها الدلالية إلى صورة "الحلم الجميل" الوديع، هذا الحلم الذي يتبدّى في أكثر من صورة وأكثر من وجه ـ كما سنرى إن شاء الله ـ وكذلك "النار" التي تُمثِّل الوجه الآخر لهذا الحلم، الذي يمكن أن نسميه "الحلم المناضل" ـ كما فعل الدكتور "علي عشري زايد" في مقدمة لمجموعة الشاعر "شجرة الحلم" ـ إنه الحلم الذي يقضي ـ في كل الأحوال ـ بتحطيم الواقع الظالم وإحراقه وتطهيره .. فالنار مطهِّر فعال، لأنها لا تُبقي أثراً للظلم أو التشويه!!
في مستهل قصيدة "جراح" يقول الشاعر:
"لا يذكرْ
كيفَ الوردةَ صارتْ
مُفتتحا للجرح !"
الورد غالباً مرتبط بالجراح والطعنات والآلام والإحباطات، ولعل المشابهة بين لون الورد ولون الجرح هي التي جعلت الشاعر ـ في العادة ـ يختزل فيها ومن خلالها كثيراً من الأحزان والصعوبات.
وفي قصيدة أخرى قصيرة تحمل اسم "وردة" يلخص الشاعر تصوره لمفهوم عام من مفاهيم الوردة، يكاد يكون هو المسيطر على دلالاتها الأخرى عبر شعره. إنه يصفها في إيجاز شديد بوردة الفجر .. ثم ينوع بعد ذلك أوصافها وملامحها، ولكنها تظل في معظم الأحوال "وردة" الشاعر التي يحلم بها، سواء أكانت قصيدة جميلة أم غاية يسعى إليها، أو وطناً يتغلّب على عجزه وسكونه وهزائمه .. يخبرنا الشاعر بحديث وردته في أبيات أو سطور تحكمها قافية توحي بالعمق والغموض والأحزان في آن واحد:
"هيَ وردةُ الفجْرِ التي
ألقَتْ مباسمَها إليْكَ
ولا تروحُ !
ولكلِّ لفْظٍ نبْضُهُ
ولكلِّ فاتنةٍ جموحُ
ولكلِّ سهْمٍ برْقُهُ
ولكلِّ لاحظةٍ جروحُ !"
وقد تكون الوردة رمزاً رومانسيا حالماً للمستقبل المنشود الذي يملأ جفاف الحياة / الصحراء، بالري بعد الظمأ، ويُعيد الدنيا ربيعاً منتشياً بالنصر بعد عذابات الهزيمة والضياع، كما نرى في قصيدته "بقية الموال" من مجموعته "السقوط في الليل":
"متي يجيُْ الفارسُ المُهابْ
على حصانِهِ السريعْ
ويزرعُ الفلاةَ بالورودِ واللبْلابْ
ونحيا عمرنا ربيعْ ؟"
وفي دوائر الحزن التي تُحيط بالشاعر تتحول "الوردة" إلى علامة على الرحيل والبعث في آن واحد، أو دلالة على الموت والعزاء في الوقت نفسه، شريطة أن تكتسب حالة مغايرة للورد الذي نعرفه في الحديقة، وفي شعر الشاعر .. فهي هنا "وردة أخرى" أو "وردة ثلجية" تنبت في الثلج، أو هي بنت الثلج، وما أكثر دلالات الثلج في الواقع وفي النفس معاً:
"هذي وردتُكَ الأُخرى !
وردتُكَ الثلجيةُ .. تعلو شاهِدَ قبرِكْ
تتفتَّحُ بوْحاً .. وعزاءْ :
ما عادَ القلبُ بصيرا
ما عادَ الحبُّ كبيرا
فابْكِ صباحاً
ومساءْ
وابكِ صباحاً
ومساءْ!" (من قصيدة "زهور بلاستيكية" التي تحمل عنوان مجموعة شعرية).
وترتبط الوردة الثلجية ـ كما نرى ـ بعمق الأحوال الشعورية لدى الشاعر؛ فالقلب الذي فقد البصيرة، والحب الذي تقامأ وتصاغر حتى لم يعد له وجود، يُنبئ عن محنة أصابت الشاعر، وجعلته يُكرّر الدعوة إلى البكاء صباحاً ومساءً، وتبقى "الوردة الأخرى" أو "الثلجية" شاهداً على قبر "الحلم" و"الأمل" الذي لا بد له أن يتجدّد بالرغم من كل شيء!
وإذا كانت "الوردة" بصفة عامة رمزاً للنقاء والصفاء والأمن والاطمئنان والسلام، والحلم الطوباوي الرومانسي، فإنها تأتي في صورة أخرى ـ وما أكثر ما تأتي ـ دلالة على الحبيبة / الوطن، التي أُصيبت بالطعنات والجراح، وأُثقلت بالأحزان والآلام. وفي المقطع الثاني من قصيدة "مواريث" ـ مجموعة "تجليات الواقف في العراء" ـ يُشير الشاعر إلى ما أصاب الوردة من طعنات وأحزان، وإن كنت لا أ دري لم حدّد عدد الطعنات بإحدى عشرة طعنة؟:
"أيتها الوردةُ
في نسغٍكِ إحدى عشرةَ طعْنهْ
وضِمادانْ
تلكَ فضاءاتُكِ مُثقلةٌ بالبوْحِ
وبالأحزانْ
قولي …
كيفَ اخْتَرَمتْ يُمناكِ السمةُ والجُرْحْ ؟"
وفي مطوّلة الشاعر "ثلاثة مشاهد" والتي يتناول فيها مأساة الواقع العربي، العاجز والمُحبَط والذليل، نراه يستلهم مع الرمز الديني سيدنا "نوح" ـ عليه السلام ـ بوصفه المُنقذ من الغرق، رمز الوردة أو الورد، فيصير للوردة أوردة، وتتحوّل إلى كائن حي، يتحدث إليها خرير الذاكرة الصخرية، ثم تتحوّل مرة أخرى إلى بديل للمطر، يُمطر صحراء الروح:
"ألا تمسحُ دمعكَ يا "نوحُ"
ألا تُمطرني بالوردِ النازفِ في بطْنِ السَّدِّ
تُبلِّلُ صحراءَ الروحِ بأمطارِ يقينِكَ ؟"
وتدخل الوردة في سياق التناص أو الاقتباس، بديلا للدنيا في عبارة "علي بن أبي طالب" ـ  ـالمشهورة: "يا دنيا غُرِّي غيري"، وكأنَّ الشاعر يتوهّمَها مُقبلةً عليه، ولكنها في الواقع تتمنّع وتتأبَّى وتُراوغ، والشاعر أيضا يُراوغها بحثاً عنها، أو عن الحلم الضائع:
"يا "وردةُ" غُرِّي غيْري
أخلعُ ثوبَكِ منْ ذاكرتي الناسيةِ
هلُمِّي تحجبُكِ الشمسُ نهارا
تُشرقُ أعمدةُ التذكارِ عشيا
أُلقي في تابوتِ الأجداد جنيني"
وتتحوّل الوردة أو الورد في نهاية القصيدة ـ مرةً أخرى ـ إلى رديف للجنون، يُنذر بالويل في الواقع العربي، المليء بالفوضى والجنون:
"يا ويْلي !
أتساقطُ ورداً وجنونا
في فوْضى الصحراءِ العربيهْ
وثنايا الوهْمْ !"
إن الوردة تتحوّل في ثنايا النسيج الشعري إلىكائن حي، له وجوده الفاعل بإيحاءاته ودلالاته، وينطلق وينطق بكثير مما يُريد الشاعر أن يقوله شعراً .. ويمكن أن نجد نظائر عديدة للوردة في السياق الشعري الفاعل، مثل الزهرة، والنرجس، واللبلاب، والفل، وبقايا الأنواع المنسوبة إلى عالم الوردة والورد.
وتُشكِّل "الوردة" في منعطف آخر، مزيجاً مع "النار"، لتُنتج ثنائية الحلم الهامس مع الحلم المناضل، أو الحلم الأول الذي يقود إلى الحلم الثاني، الذي يود الشاعر أن يُصبح حقيقة .. هاهو في قصيدته الأولى من "تجليات الواقف في العراء" التي يُهديها إلى الشاعر الراحل "محمد العلائي"، يتوجّه إليه بالخطاب، وقد واجه بعد رحيله منذ ست عشرة سنة نوعاً من الجحود والنكران، والسطو أيضا:
"أغلقْ عينيْكَ ثانيةً
أيها المسكونُ بوجعِ النارِ
غيرِ المُقدَّسة
ووردةِ الفوْضى
فالأغوالُ التي ذُعِرتْ منها قصائدُكْ
مازالتْ تتريَّضُ في الساحةِ
بصحبةِ الثعابينِ والدببةِ"
وهكذا يبدو مزيج "وردة الفوضى" و"وجع النار"، محكوماً عليه بالموت أو الرجوع إلى القبر: "أغلقْ عينيْكَ ثانيةً" فالأعداء كثيرون، والقتلة أكثر (الحدأة، الأغوال، الثعابين، الدببة ..).
ويأخذ مزيج الوردة والنار بُعداً آخر، فبالرغم من صخبه وعنفوانه يُعطينا إحساساً يقينيا بالأمل، وانبلاج الصبح، وعن طريق ما يُعرف في بلاغتنا القديمة بالمقابلة والمطابقة، أو ما يُعرف الآن بالمُفارقة، فإن الشاعر يجمع بين صورتين للنار والوردة: (النار المستعرة بالأعراق، والأوردة الثلجية التي صارت وردة)، ويُقدِّم من خلال مُفارقة أُخرى (أهداب الليل ـ أكمام الصبح) معالم الأمل الذي يحلم به، ويُناضل من أجله:
"النَّارُ بأعراقي مُسْتَعِرَهْ
أوردتي الثلْجِيَّةُ صارتْ ورْدَهْ
أهدابُ الليلِ أراها تتفتَّحُ
.. عنْ أكمامِ الصُّبحِ المُمتدَّهْ" (المقطع الثالث من "شجرة الحلم")
وفي المقطع السادس من القصيدة السابقة، والذي جعل عنوانه "عرس الكلمات"، تنفرد النار بالحلم المناضل، وتصير الكامات ناراً، ويُشير الشاعر إلى الدور الذي كانت تلعبه في الماضي كلماته ـ ويقصد شعره طبعاً ـ لتغيير الواقع وترطيب جهامته بالنسبة للناس، وبخاصة الفقراء .. ثم يُوازن بين بعض كلامه الآن حيث صار هشيماً لا قيمة له، وبعض كلامه الان حيث هو نار محرقة مُطهِّرة ، تقوم بدورها في وضوح لا لبس فيه، ويؤكِّد ذلك التكرار الذي تبدأ به السطور الثلاثة الأولى:
"كلماتي كانتْ زاد الفقراءْ
كلماتي كانتْ نبعَ الماءِ الدَّافِقِ في الصَّحراءْ
كلماتي كانتْ مُنذ زمانْ
أما الآنْ
.. فبعْضُ كلامي صار هشيماً تذروهُ الرَّيحْ
والبعضُ الآخر صارَ النَّارْ"
في القصيدة المدوّرة "فيلم عربي" مقطع بعنوان "النار / النار"، تبدو فيه النار مصنعاً يُنضج الأفكار والأجساد، ويُعدُّها لمواجهة الواقع، ولكن ما تفعله النار يذهب بدداً، وتنهبه الثعالب من شتى أنحاء الأرض، وتبدو النار هنا قريناً للأمل المحبط أو الحلم الضائع، أو رديفا للاستلاب والقهر .. يتساءل الشاعر في بداية المقطع:
"لماذا كلُّ هذا الرعبِ ؟ والجسدُ الذي في النارِ أنضجناهُ تأكلُهُ الثعالبُ منْ فِجاجِ الأرضِ ، تنهشُ حدأةٌ في الرُّوحِ ألواحاً من الصَّخْبِ الذي عشناهٌ أحقاباً .."
ويكشف الشاعر ملامح هذا الجسد الذي يُعبِّر عن نصر شامخ (عشناه) أشعاراً من قبل، فيما يُشبه بكاء الماضي، ولكنه يستخدم الجسد (طفلة في النار) مرةً أخرى، آملا أن تقوم النار بدورها في الإنضاج والإثمار:"في نيشانِ نصْرٍ شامخٍ (عِشناهُ) أشعاراً ، تركنا طفلةً في النارِ .. تُنضِجُها سمُومُ القصْفِ والغسقِ المُحمْحِمِ في خضابِ الرملِ والقيعانِ :
هيّا يا جياعَ القلبْ !"
على كل فالنار هنا تظل هي المُنضجة للأمل، الحلم بالرغم من الغيبوبة التي (عشناها) في نصر كذوب (مُتناه) من قبل:
“هذي قبضةٌ مرفوعةٌ بعلامةِ النصرِ الذي (مُتْناهُ) فوقَ الحائطِ المهدومِ .."
ويستخدم الشاعر "النار" منذ مرحلة شعرية مبكرة في معنى التطهير والإنضاج لتحقيق الحلم المناضل، ففي قصيدته "العصفور وكرة النار" تأتي النار مقابلاً للعصفور في تحقيق التوازن والتكامل بين الحلم الجميل المأمول، والحلم المناضل الواقعي، فالعصفور رمز الأول، والنار هي رمز الثاني، وكلاهما ـ كما سبقت الإشارة ـ يُكمل الآخر، ويدعمه ليتحقق على أرض الواقع:
"مع نسماتِ الفجرِ أراني أولدُ ثانيةً في تغريدةِ عصفورٍ دحْرجَ كرةَ النّارِ على أوديةِ الأحزانْ"
إن "كرة النار" هي المطهِّر الذي يأتي على الأحزان والآلام، ويصنع عالماً جديداً، ويحقق الحلم المأمول.
في لفظة "اللهيب" ـ رديف النار ـ نجد المضمون ذاته الذي يحمل معنى التطهير، والقيام بدور المزيل للحزن الأزلي، والصدأ الذي يترسّب على القلوب والصدور .. حيث يتحقق الحلم الذي يرجوه الشاعر ويأمله:
" ونحلُمُ أنّا وُلِدْنا
وأنَّ الصدورْ
ربيعٌ ونورْ
وأنَّ اللهيبَ يمورْ
ويقضي على حزنِنا الأزلِيّْ
ويأكلُ كلَّ الصَّدأْ
فتولدُ فوقَ الشِّفاهِ
ابتسامةُ شعْبٍ ظَفَرْ"
ولا ريب أن الحلم باللهيب أو النار لتطهير الواقع هو حلم عام، على المستوى الذاتي والقومي والإنساني، يبحث عنه الشاعر مع آخرين، ينتظرون ولادة "ابتسامة" فوق شفاه الشعب الصابر، وهنا نتأكد أن النار رمز لمعنى كبير، يحقق للشاعر والأمة: الأمل والنصر والحرية.
(يتبع)







 
رد مع اقتباس
قديم 06-12-2009, 01:18 AM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: راءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد

حديث الوردة .. حديث النار (3 ـ 4)
قراءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد

بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود


(5)
إذا كان الشاعر قد استخدم الرمز الذي ينسجم مع رؤيته تاريخيا ولغويا، فإنه دعَمَ هذا الاستخدام بالشكل الشعري الذي يُتيح له هذه الفرصة الأفضل للتعبير عن هذه الرؤية .. وبصفة عامة يُمكن القول: إن الشاعر اتكأ على الموسيقا السريعة الأقرب إلى الدفقات الشعورية المتلاحقة، والنغمات الراقصة، التي ما تكون غالباً ـ ويا للمفارقة ـ في ساعة الموت أو الوحدة أو الإحباط أو القهر! وهي موسيقا تقوم عادة على بحرين صافيين: "المتدارك" و"المتقلرب"، وفيهما ما فيهما من تدافع أو تدفق نغمي يتناغم مع حالات الفرح والحزن، وإن كانت رؤية الشاعر بصفة عامة تُثير من الشجن والأسى أكثر ما تُثير من المرح والبهجة، ونادراً ما نجد الشاعر يعبر إلى موسيقا البحور المركبة، بسبب إلحاح رؤيته الشعرية على التعامل مع الواقع الممتلئ بالجراح والآلام والأحزان.
ولعل لهذا السبب أيضاً تفاوتت قصائده قصراً وطولا، وإن كانتْ عموماً أميل إلى الإيجاز والتركيز، ومُحاولةً أن تكون القصيدة دفقة شعورية واحدة، تجمل رؤية الشاعر وهمومه .. ومن ثم تعددت صور القصيدة أو الشكل الشعري لديه، فهناك القصيدة التقليدية، وقصيدة التفعيلة، والقصيدة المدورة، وهناك أيضا ما يسمى بـ"قصيدة النثر"، فضلاً عن محاولاته في المسرح الشعري، وشعر الأطفال.
وتكاد تكون القصيدة التقليدية (العمودية المقفاة) نادرة، ولم أجد فيما لديَّ من إنتاجه غير قصيدة واحدة قصيرة لا تتجاوز خمسة أبيات بعنوان "شتاء على القلب":
أقبِلْ على درْبِنا ، إني إليْــكَ ظَمي
أشْـرِعُ أماميَ بابَ الفتْحِ لا النَّـدَمِ
الليْلُ في جُرْحيَ الممْرورِ بعضُ شذى
فافْتحْ ذراعيْكَ واحْضُنْ بـوْحَ مُنْهَزِمِ
الليْـلُ والآهُ في نبْضي قدِ امْتَزَجـا
فأوْرَقَ الحُـــلْمُ في بوّابةِ الحُمَمِ !
حدِّقْ بشوْقِكَ ، أمْطِرْني بفيْضِ ندى
لعلَّ صمْتيَ مُشتــــاقٌ إلى النَّغَمِ
يا أيُّها النَّبْـعُ ، يا ذكْرَ الرياضِ أَعِدْ
لمسْمَعِ القلْبِ موسيقـا من القِمَـمِ !
ولعل بداية الشاعر من خلال شعر التفعيلة، هي التي وجّهته بحكم الإلف إلى الإنشاد من خلال تفعيلاته التي تطول سطورها أحياناً، بل وتتطور في بعض القصائد إلى ما يُسمّى "التدوير" أو "القصيدة المدورة"، وهي عبارة عن فقرات شعرية طويلة تتكوّن من عدد كبير من التفغيلات، قد يصل أويتجاوز ثلاثين تفعيلة في الفقرة الواحدة، والفقرة الشعرية في هذه الحالة تعدُّ بمثابة البيت أو السطر الشعري، وهناك عدد واضح الحضور من "القصائد المدورة" سواء في مجموعاته المبكرة أو الجديدة، منها على سبيل المثال: "العصفور وكرة النار"، في مجموعته "أوراق من عام الرمادة"، و"الأميرة تنتصر" في مجموعته "شجرة الحلم"، و"لماذا تظل العصافير تشدو؟" في مجموعته "السقوط في الليل"، و"جراح" في مجموعته "تجليات الواقف في العراء"، و"فيلم عربي"، و"محاولة للنسيان"، و"السر الأعظم"، و"خمس صفحات من كراسة المجنون" في مجموعته "زهور يلاستيكية"، وقد أشرنا من قبل إلى بعض التماذج، ونورد هنا نموذجاً آخر يكشف أكثر كيف تتتابع التفعيلات لتشكل الفقرة الشعرية ـ بديلا عن البيت ـ دفقة شعورية متناغمة رغم كثرة عدد التفعيلات وعدد الجمل أيضا. يقول في قصيدة "محاولة للنسيان":
"لماذا تُناديكَ هذي السفوحُ بخضرتِها ؟ وبهذي الفلولِ الأليفةِ ؟ (كانتْ تسوقُ تراباً فيرتجُّ منا الفؤادُ ، طيورُ أبابيلَ تُسقِطُ أحجارَها ، وأفيالُ صنعاءَ تتركُ أسوارَها ، وورْدتُكَ / النارُ تُفرغُ كأْساُ".
ويقول في أحد مقاطع "الأميرة تنتصر" الذي تطول تفعيلاته بصورة ملحوظة، معبرا عن لحظة الصدام بالصليبيين في المنصورة بينما جسد الصالح أيوب مُسجّى، و"شجر الدر" تُدير المعركة:
*أولادُكِ يامصرُ الحرةُ يأتونَ ، وإني مُبْتهِلٌ في السَّحَرِ إلى اللهِ ، وأحمِلُ سيْفي كيْ أدفعَ عنْكِ الأعداءَ ، وهذا شجرُ النيلِ الأسمرِ يتحرّكُ ويُقاتلُ أعداءكِ . هذي ذرَّاتُ ترابِكِ نارٌ وبراكينُ تُحمحِمُ في الميدانِ ، وهذا صوتُ الحافرِ يخلعُ أفئدةَ الصُّلبانِ ، وإنّا مُعتكِفونَ على حُبِّكِ يا مصْرُ ، نُصلِّي للهِ ، وفي القلبِ القرآنُ (أهذا قصرً الصالحِ نجْمِ الدينِ .. فهيّا ندخلْ مملكةَ الريحِ ، ونبْعثُ في الجسدِ الميِّتِ روحاً ، نحفرُ فوقَ نوافذهِ الصَّامتةِ الليْلةَ ـ هذا الفرْحَ / النَّصْرَ / الذُّرَّهْ !".
والتدوير له مزالقه الفنية التي توقع في النثرية بصفة خاصة ما لم يكن الشاعر واعياً لطبيعة التدوير بوصفه وسيلة متناغمة مع مع الرؤية الشعرية المتدفقة، وقد لاحظ الدكتور "علي عشري زايد" في مقدمته لمجموعة الشاعر "شجرة الحلم"، أن قصائده سلمت من المزالق إلى حد كبير "وإن كان الشاعر لم يسلم تماماً من الوقوع في مزالق النثرية وعدم الانضباط التي يقود إليها استخدام هذا الأسلوب" (ص25).
وقد لاحظ الدكتور "عزالدين إسماعيل" أنه قد تحقق من خلال عملية التدوير في الشعر مزية كان من الصعب من قبل تحققها، وهي ألا يرتبط الجرس الصوتي للكلمات بإيقاع الوزن، دون إلغاء لهذا الإيقاع.
وعلى هذا الأساس ـ كما يقول ـ فإن كل تدوير تُنفى عنه هذه الوظيفة، حين تقوم كل عبارة فيه، أو بعض هذه العبارات مستقلة إيقاعيا ومعنويا .. ومن ثم يفقد التدوير مبرره الفني (الشعر العربي: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الفكر العربي، ط3، ص431).
أي أن الكاتب يرى أن تكون الفقرات شحنات نفسية ومعنوية، تتكامل العبارات في تقديمها للكاتب، فإذا استقلت عبارة فنية إيقاعيا ومعنويا عن الأخرى فَقَدَ التدوير معناه.
وبالنسبة لشاعرنا "حسين علي محمد" فإن التدوير كان وعاءً مناسباً لتدفقه الشعري والشعوري معاً، وإن كان شرط الدكتور عز الدين إسماعيل بالنسبة لترابط الإيقاع بالمعنى، لم يتحقق تماماً، وهو ما أشرنا إليه قبل قليل من خلال كلام الدكتور علي عشري زايد.

وسوف نلاحظ بصفة عامة أن الشاعر يحرص على نوع من التقفية بالنسبة لسطوره، أو فقراته الشعرية، مما يتضح في كثير من النماذج التي قدّمناها سلفاً ـ وهو ما يعني احتفاء الشاعر بالإيقاع، بالرغم من ميله إلى التجريب فيما أسماه بـ"قصيدة النثر"، فقدرته الموسيقية وسيطرته على الإيقاع (وزناً وقافيةً) تُؤهِّلُ للاستغناء عن هذا اللون الذي ابتدعه بعض الشعراء لغايات غير أدبية .. فالقصيدة النثرية المزعومة، لا تُمثل إلا حالة تعبيرية نثرية مغايرة تماماً للشعر الذي يعتمد على الإيقاع أولا وآخرا؛ فلا شعر بدون إيقاع، وقد سبق لأدباء عديدين ـ لعل أبرزهم "الرافعي" يرحمه الله ـ كتابة هذا اللون من النثر الذي يعتمد على الصورة والخيال والتكثيف، بصورة جيدة وراقية، دون أن يدّعوا أنه قصيدة نثرية، أو نثر شعري، ولأنني لا أريد أن أخوض كثيراً في هذه المسألة، فسأكتفي بتقديم نموذج من هذا اللون الذي كتبه الشاعر تحت مسمّى "القصيدة النثرية"، وهاهو مقطع مما كتبه تحت عنوان "أحمد زلط"، يقول فيه مُشيراً إلى رحلته للعمل في اليمن:
يمسحُ نظارتَهُ الطبيهْ
استعداداً لسهرةٍ شجيةٍ
مع محمد حسين هيكل ومحمد زغلول سلام
والسنهوتي وصابر عبد الدايم
ومحمد عبد الحليم عبد الله
قبلَ أنْ يُلقيَ بالكتب إلى عُبابِ النهرِ
متتبعا آثارَ بلقيس !
وواضح أن هذا النص ـ وغيره أيضا ـ يشد الشاعر إلى طبيعته الأصيلة بالرغم من محاولته الانفلات من الإيقاع، ليقلد من كتبوا "قصيدة النثر"، فهناك ما يمكن وزنه، فضلاً عن إنه يكتب كلامه على هيئة الشعر، مما يؤكد أن تلك المحاولة في كتابة القصيدة النثرية، ماهي إلا نزوة سيُقلع عنها في يوم قريب، لأن طبيعته الأصيلة ـ وهي الشعر ـ أقوى في كل الأحوال من محاولات الهبوط إلى قاع النثرية.
(6)
ثمة ظاهرة شعرية جديدة نباركها ونؤيدها، وندعو إليها، وهي الكتابة الشعرية للأطفال، فمنذ المحاولات القديمة لأحمد شوقي ومحمد الهرّاوي وبعض الشعراء في مصر والدول العربية، لم يكتب المعاصرون شعراً للأطفال إلا قليلاً، ومع الإغراق في الضبابية والإلغاز الذي سقط فيه فريق من شعراء السبعينيات في مصر والعالم العربي، فإن الكتابة الشعرية للأطفال تُصبح حدثاً مهما تنبغي الحفاوة به، حتى لو كانت قيمته الشعرية متواضعة، أملاً في تنميته وازدهاره وتفوقه .. وبخاصة أن أدب الأطفال العرب يُعاني عموماً من فقر حاد، لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا.
يُحسب لشعراء السبعينيات أن أحدهم (وهو أحمد زرزور)، قد فاز بجائزة تشجيعية حول أشعاره للأطفال، وإن كنت للأسف لم أطلع على هذه التجربة، كذلك فهناك من أطلعني على بعض نماذجه التي لم تُنشر في هذا المجال مثل الشاعر أحمد فضل شبلول . أما شاعرنا "حسين علي محمد" فقد أعد مجموعة قصصية شعرية للأطفال بعنوان "مذكرات فيل مغرور" تضم ست قصص أو حواريات شعرية، تحمل قيما خلقية نبيلة، واداءً فنيا ناضجاً.
وأتصوّر أن اتجاه شعرائنا نحو أدب الأطفال سوف يُسهم في حل معضلات فنية عديدة، لعل أبرزها الخروج من دائرة الغموض والإبهام التي تجتاح بتيارها وعواصفها كثيراً من النماذج الشعرية التي تُطرح في الساحة للكبار .. كذلك أتصوّر أن هذا الاتجاه سيُخرج الشعراء أنفسهم من دائرة الرتابة والتكرار، والتي حوّلت الكثير من النماذج الشعرية (وخاصة ما يأتي منها في إطار الشعر الحر) إلى فصائد تقليدية، يمكن الاستغناء يواحدة منها عن مائة، لتشابهها ونمطيتها .. أيضا فإن التوجه إلى أدب الأطفال سيُثري التجربة الشعرية العربية المعاصرة عامة، وتجربة أدب الأطفال خاصة.
وفي إيجاز يمكن أن نجد في تجربة "حسين علي محمد" الشعرية للأطفال خصوبة وثراءً واضحيْن، فقد اتجه الشاعر إلى مجال القص أو الحكْي، وهو أساس أدب الأطفال عموماً؛ لأن القصة أو الحكاية هي المجال الذي يعشقه الأطفال ويحبونه على تفاوت أسنانهم وأعمارهم، ولذا فإن الشعر حين يأتي مرتكزاً على القصة أو الحكاية يتسلّل إلى أعماقهم ومشاعرهم، ويجذبهم للتفاعل مع النص والعيش معه، على العكس من الوصف الخارجي لبعض التجارب التي لا تقوم على القص أو الحكي .. ولعلنا نتذكّر أن قصائد شوقي للأطفال كانت تعتمد على "الحدوتة"، مما جعل الأطفال ـ بل والكبار ـ يتناغمون معها ويتفاعلون.
يقدم "حسين علي محمد" مجموعة من القصص التي تستدعي التاريخ الحقيقي أو الأسطورة، ومن النوع الأول القصة الأولى "مذكرات فيل مغرور"، وتتحدث عن قصة "أبرهة الأشرم" الذي حاول هدم الكعبة بعد أن حاول أن يُقيم لنفسه كعبة في اليمن تحج إليها العرب، وسماها "القليس"، أما النوع الثاني فمعظمه يرتكز على أساطير هندية، تدعو إلى الخير والحق والعدل ..
وأسلوب الشاعر في قصصه سهل وبسيط، ويعتمد على ألفاظ قريبة المنال، بعيدة عن المجاز ـ غالباً ـ ولا تجنح إلى مزالق الكلمات ذات المعاني المتعددة.
وفي كل الأحوال فقد استخدم الشاعر نظام الشعر التفعيلي الحر لينطلق في قصصه وحكاياته على سجيته، ويُوصِّل مفاهيمه إلى الأطفال، ولنأخذ مثالا من "مذكرات فيل مغرور"، بعد هزيمة "أبرهة الأشرم" وأفياله، وعدم قدرته على هدم الكعبة:
"أُبصِرُ "عبدَ المطَّلبِ" وجبهتُهُ ترتفعُ
إلى علياءِ سماءْ
يضحكُ جذلاً مسروراً
: قدْ جاءَ الطفلُ مُحمَّدْ
نوراً يرتفعُ إلى آفاقِ الجوزاءْ
ينحازُ إلى الضُّعفاءِ الفقراءْ"
وربما كانت قصص الأساطير أكثر إحكاماً من الناحية الفنية لدى الشاعر، ويقل فيها الإلحاح على مخاطبة الكبار الذي تفرضه العادة والإلف، ولعل قصة "الطفل الأخضر" من أفضل قصصه الشعرية، لبساطتها من ناحية، وإحكامها الفني من ناحية أخرى، وهي تحكي قصة طفل يتيم فقير، يتصف بالأمانة، يسمع الساحر "دندش" عن أمانته فيختبرها، وينجح محمود، فيكافئه الساحر:
أنت أمينٌ يا محمودْ
وسأُعطيك هديَّهْ
خذ هذا الخاتمَ يا محمودْ
سيساعدُكَ كثيراً في المستقبلْ"
وترمد عين السلطان، وتعمى، ويقول الطبيب إن شفاء العين في زهرة "شجر القشدة" في قمة جبل "عبقر"، ولا يستطيع أحد أن يصل إليها، ويسمع محمود القصة، فيُصرُّ على تحقيق طلب السلطان، ويستخدم الخاتم الذي أهداه له "دندش"، ويعود بعد جهد بالمطلوب .. فيشفى السلطان، ويقول لعائلته:
"محمودٌ ولدٌ طيبْ
وشجاعْ
بنتي "نرجسُ" معجبةٌ بهْ
سأُزوِّجها ـ لو يرغبُ ـ لهْ"
وتبدو الغاية من القصة أكبر من المكافأة التي حصل عليها محمود من الملك، بالزواج من ابنته، وتولي السلطة من بعده، إنها تكمن في الوعي بقيمة العمل والجهد والمبادرة، وهو ما يُفصح عنه الحوار التالي بين الساحر دندش ومحمود بعد نجاح الأخير في الحصول على زهر "شجر القشدة" التي شفي بسببها السلطان:
"دندش: أنت شجاعٌ ، وجريءٌ، وصبورْ
محمود: لولا خاتمُكَ الذهبيّْ
ما كنتُ وصلْتُ
لقمة (عبقرْ)
دندش: الخاتمٌ لا يفعلُ شيئاً يا ولدي
أنت شُجاعْ
وسأحكي قصتكَ لمنْ ألقاهْ"
وهكذا يملك الشاعر مفاتيح الخطاب الشعري للأطفال في لغة شفافة وبسيطة من خلال الحكي والقص، ويستلهم في كل الأحوال نماذج تراثية ملائمة وشائقة.
ولعلنا في هذه المناسبة نأمل أن يتوجّه الشعراء إلى تراثنا الإسلامي ليأخذوا من قصصه وحكاياته ما يلائم أطفالنا قصصا ومسرحيات وحواريات، فما أغزر هذا التراث، وما أكثر ما يمتلئ به معينه الذي لا ينضب ولا يجف.
***
وبعد؛
فهذه الرحلة السريعة والخاطفة مع شعر "حسين علي محمد"، تُنبئ عن شاعرية شاعر ناضج ومتمكن، يملك لغة الشعر بأبعادها الفنية المتنوعة، ويملك أيضا الرؤية الشعرية المنتمية إلى الأمة الإسلامية بتراثها المضيء، وحاضرها المضطرم، ومستقبلها المنشود
د. حلمي محمد القاعود
......................................
*من كتاب القاعود "الورد والهالوك"، دار الأرقم، الزقازيق 1993، ص ص 69 ـ 97،







 
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 09:26 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط