قد يختلف مفهوم الحداثة من شخص لآخر ومن أمة لأخرى,أما في الشعر العربي فقد طرأ هذا المفهوم في منتصف القرن السابق عندما وجد بعض الشعراء أن القصيدة العمودية لم تعد لتفي بالتعبير عن شاعريتهم وخلجات نفوسهم بشكل واضح,بسبب التزامها الوزن والقافية ,فكان شعر التفعيلة الذي برز على يدي الشاعرين الكبيرين السياب ونازك الملائكة.
فشعر التفعيلة يلتزم موسيقى معينى وهو راق بشرط أن يتعهده شاعر قدير.
قبل أن أشارك في مفهوم الحداثة بثقافتي الضيقة ومعلوماتي المحدودة
أود طرح سؤال كبير ثم الإجابة عليه,هذا السؤال بالنسبة لي هو لب الموضوع ومداره:ماهي القاعدة التي نحكم من خلالها على الشعراء؟وبمعنى أدق:كيف يمكننا التمييز بين كلام الشعر وبقية أنواع الكلام من صنوف الأدب؟
لوحظ في الفترة الأخيرة اختلاط مفهوم الشعر بمفهوم الخاطرة عنند البعض,وهذا أمر مشين للغاية:أن يختلط الشعر بغيره فيصبح كل من يكتب خواطر نفسه ولواعجها شاعرا بنظر الكثيرين,فهؤلاء يقسِّمون خواطرهم ويضعونها بشكل عمودي دون التقيد بوزن أو قافية أو حتى شيء من الموسيقى التي تجعلنا نحس أن ما يقال شعرا!!!
برأيي أن ما يسمى بالقصيدة النثرية ليس شعرا,وكل ما أتى مخالفا للوزن أو لا يتمتع بتفعيلة وموسيقى معينين لا يمكننا أن نطلق عليه مفهوم الشعر بحال من الأحوال,فلكل أمة من الأمم قواعد ينظم عليها شعراءها القصائد وليس فقط في الأمة العربية,وهكذا لا يختلط مفهوم الشعر بغيره...
فالموسيقا إذا ركن أساسي من أركان الشعر وهي التي تقيم جماله كما تقيم الأعمدة سقف البيت,لو ضاعت لهوى ولم يعد له أي شكل هندسي جمالي...
لم أنته من الإجابة على سؤالي بعد ولكنني أود طرح سؤال آخر كوننا نتحدث عن الموسيقا في الشعر ثم أعود لإكمال الإجابة عن السؤال الأول...
ألا يستطيع كل إنسان أن ينظم كلاما موزونا أو موسيقيا دون أن يملك تلك الموهبة الإلهية التي حبا الله بها الشعراء؟
الإجابة نعم, فبعد تعمقه في قواعد اللغة وفي بحور الشعر وبعد الإكثار من قراءته,يصبح عنده نوع من التعود الذي يأخذ بلسانه إلى أن يقول كلمات تنتظم على نفس الوزن والقافية ثم يسميها شعرا!
علما أنه لاعلاقة له بالشعر من قريب أوبعيد!
هذه النقطة هي أهم نقطة علينا الوقوف عندها اليوم قبل أن نقف على أمر أصحاب الموهبة ممن أضاعوا الشعر الموزون,فإذا كان الشاعر(أقول الشاعروهو صاحب الموهبة بالدرجة الأولى)لم يتعلم العروض أو لم يتمعن في قواعد اللغة ثم كتب كلمات تدل على موهبة فهذا شيء قابل للتحسين ويكون تحسينه بتعلم بحور الشعر وقراءة مستفيضة لفحول الشعراء حتى تستقيم لغته ويرتقي مفهوم الوزن عنده...
أما أن يتعدى من لا يملك أدنى موهبة سوى بعض القدرة على (صف)الكلمات وجعلها تسير رتيبة في وزن واحد فهذه حالة مستعصية ومعالجتهامن الصعوبة بمكان...
لماذا؟لأنه يدعي أن الموهبة كامنة عنده في حين أنها بعيدة عنه كل البعد.
وهذا الامر أخطر بكثير من الأول,فذلك امتلك الموهبة ولكنه لم يحسن الصناعة أما الثاني أراد الصناعة ولم يملك الأدوات بل تعدى على هذا العالم الرائع لينجسه ببعض الكلمات التي صاغها من وحي ثقافته لا موهبته...
وهذا مانراه بكثرة هذه الايام ,يتعلم أحدهم العروض ليقلد الشعراء الحقيقيين,فمثاله كمثال الطفل الصغير الذي يحاول تقليد المهندس الفنان ببعض قطع من المكعبات!
فقد أصبح وللأسف في أيامنا هذه المثقف شاعرا والعالم شاعرا ورجل الدين شاعراأو كما يقال عنهم.
أو لم يعِ هؤلاء أن الموهبة التي تقود الشاعر وتسيره نحو عالمه الجميل ليجلس فيه وينظم شعره هي وحدها صاحبة التحكم فيما يكتب؟وأنها وحدها التي تميزالشاعر عن غيره؟وفوق كل هذا أن الشاعر يولد ولا يصنع؟
أن يكتب شاعر حساس ذو موهبة فذة وذائقة رائعة كلمات خارجة عنالوزن والموسيقى فهذا أمر يمكن معالجته ,أما أن يتعدى من ليس له علاقة بالشعر عليه فهنا يكمن المرض وتكمن المصيبة.
وبالرغم من ذلك فلست متشائما كثيرا من هؤلاء,لأنني لا أشك لحظة واحدة أن ما يقولونه سيذهب أدراج الرياح في المستقبل القريب وسوف تنسى الأجيال كلماتهم الجامدة وحروفهم الجافة ,وأنَّى لاوراق الخريف اليابسة الصفراء أن تبقى إلى الربيع الجميل؟!
أعود الآن لإكمال الإجابة عن سؤالي الأول,وهو كيف نميز بين الشاعر وغيره أو ما هي القاعدة التي نقيس عليها الشعر.
قلت إن الموسيقى شيء ضروري في الشعر,ولا شعر من دون هذه الموسيقى وهذا هو الركن الأول الذي يستند عليه الشعر.
أما الركن الثاني فهو وجود الموهبة عند كاتب هذه الكلمات الموسيقية...
الشاعر كائن غريب عن هذا العالم كائن خرافي بكل المقاييس كائن يبكي ليضحك ويتألم ليسعد ويرى مالا يراه الآخرون ويسمع مالا يسمعونه...
فالشاعر إذ يرى الزهرة الندية لا يرى فيها أوراقها أونداها بل يرى ماأبعد من ذلك.
والشاعر إذ يترنم في هدوء الليل لا يترنم لأن الليل يلفه بل لأن الليل في أعماقه.
الشاعر ليس بتلك الكلمة التي ألصقت على جباه الكثيرين اليوم ,من المداحين والمتفيهقين ,وأقول بصدق قلما تجد شاعرا حقيقيا هذه الأيام...
قد تجد الشعر في عيني طفل يضحك عند إشراق شمس الصباح ويقول ياالله.
وقد تجد الشعر في روح فتاة تأخذك بعيدا عن هذا العالم...
قد تجده في صوت السبيل وفي غفو السنابل.
هذان الركنان هما اللذان علينا الاتكاء عليهما حتى نطلق اسم الشاعر,فلا يدخل أحد في عالم الشعر حتى تنطبق على شعره هاتان الكلمتان:الموهبة والموسيقى.
قد يقول قائل :فكيف يمكننا التمييز بين صاحب الموهبة والمتعدي على الشعر الوازن عليه؟
فأقول :عندما تقرأ لشاعر حقيقي تشعر به يأخذك لعالمه,فتحس وكأنك معه,تبكي معه وتتألم معه وتفرح معه..
انظر إلى شاعر المعرة ابي العلاء إذ يقول:
ليلتي هذه عروس من الزنــ***ج عليها قلائد من جمان
وسهيل كوجنة الحب في اللو***ن وقلب المحب في الخفقان
يسرع اللمح في احمرار كما تســ***رع في البرق مقلة الغضبان
ثم شاب الدجى وخاف من الهجــ***ر فغطى المشيب بالزعفران
كلام جميل!ألم تشعر في الأبيات السابقة أنك تقرأ شعرا؟هذا يكفي.
نستطيع الآن أن نضع مقياس للشعر (وهو الخارج عن كل المقاييس):الشعر كلام موسيقي جميل يصدر عن نفس شاعر موهوب يولد ولا يصنع.
أما ما يتعلق بمفهوم التجديد في الشعر العربي فلي عودة للحديث عن هذا الأمر, المهم أن نعلم القاعدة التي من خلالها نحكم على الشاعر وبعد ذلك يسهل علينا أمر الحداثة إذ راعينا هذه القاعدة ...
وألف شكر للأستاذة يسرى على طرحها هذا الموضوع القيم والرائع بروعة المنتدى الأدبي...
تحياتي
عمر سليمان