ع. الحبيبة
أكتب إليك فور وصول رسالتك الأخيرة، لأن ذلك على ما يبدو هو السبيل الوحيد لأن تنتظم رسائلنا، وتلتقي. وكنت قد أرسلت لك البارحة رسالة مضطربة، أسألك فيها عن مرضك وسبب تأخرك، أرجو أن تكون قد وصلت إليك، لقد سررت كثيراً لأنك أصبحت في صحة جيدة، وأسفت كثيراً لأنني نقلت إليك شيئاً عن اضطرابي وقلقي بسبب آلامك، ولكنك قد لا تتصورين هذه الوحشة الغريبة التي تنشرها هذه المدينة الجرداء بشتائها الكئيب على النفس التي نأى عنها الجمال الذي أحبت، عندما تشعر هذه النفس الحزينة بأنه لا عزاء ولا سلوى إلا هذه الرسالات الصغيرة التي تحمل كل شيء، والتي هي وحدها تستطيع أن تبدد صقيع الفراغ والعزلة. أو لا أُعذر إذا رجوتك أن تكتبي إلي دائماً؟..
لقد لمست في رسالتك شيئاً من المأساة، ولا أعرف كيف أبدأ بلومك على شعور كهذا. أمام الحب وحده يتراجع القدر، لأن الحب هو القدر الأقوى الذي يفرض مشيئته على كل ما في الوجود، لأنه ظفر القلب الإنساني على حكمة الحياة وقوانينها الحصيفة، وتمرده على الموت والزمن والهم. ولكم أود أن أكون إلى جانبك، عندما تشعرين بهذا العذاب النبيل الذي يعلمك إياه قلبك الطيب، بحرارته وجموح نزعاته، إذن لوضعت يدي في يدك وقلت لك في كثير من الاعتزاز؛ يجب أن نبارك الحياة كل يوم، لأنها أتاحت لنا الانطلاق في منزلها الدافئ الكسول إلى رحاب العوالم الغنية الأخرى، التي تصبح فيها الكلمة والهمسة، قانوناً جديداً للحياة، وتعود فيها النظرة والابتسامة شكلاً حياً للعالم. من أجل ذلك نعرف الهم والعذاب، لأن الحب قد اختارنا وضمنا إلى مملكته المتألقة الأشياء، المليئة الساعات.... لماذا تحمل إلي أنفاسك يا عواطف، أبداً، كل هذا التفاؤل وهذا الإيمان.. أقرأ كلماتك في حرارة وشغف لا حدود لهما، وأسمع صوتاً من الأعماق يشعرني بأن فيك، أيتها السُمرة الشاحبة، نفحة من المستحيل. ليس ذلك شعراً ولا خيال مجنون، بل حقيقة مليئة، نشعر بها بكل جوارحنا، وما يشعر به القلب الذي يُعطي هو الحقيقة وحده...
الأشعار القديمة لا تعودي إلى قراءتها، إلا إذا أردت التسلية في الاستماع إلى تلك الإيقاعات المضطربة التي حاولتُ فيها عبثاً أن أغني بعض صور حبك وفتنة عينيك. وآية هذا الاضطراب أنه كان غناء قلقاً حزيناً، في حين تلبث ملهمته إلى الأبد خفقة من الفرح والغبطة. فهلا أشعرتِني أبداً، بأنك هذه الخفقة، وأن العذاب والهم لن يجدا سبيلاً إلى بساطة نفسك بعد الآن، في الرسالة القادمة سوف أرسل إليك قصائد جديدة كتبتها عنك، وقد تعرفين منها الشيء الكثير عن تحوّل تلك الهواجس والهموم إلى إشراق لا نهاية له...
صحتي جيدة. ولكنني لم أستطع استئناف أعمالي العادية بعد ومنها إتمام بوشكين، ولكنني سوف أنهيه هذا الأسبوع في الغالب، وسوف أخبرك عن ذلك. إن موضوع «طبيعة النفس عند أفلاطون» جيد، لولا أنك سوف تضطرين فيه إلى الاهتمام بكثير من الأمور الجدلية «المنطقية» التي أولاها هذا الفيلسوف القديم اهتمامه. وسوف أرسل لك كل ما تقع عليه يدي من مصادر. لقد اتصلت بأسعد فوراً من أجل دفتر الفلسفة اليونانية ولكنه لم يكن في المدرسة، وذهبت إلى البيت فلم أجده أيضاً، ولكنني سوف ألقاه في الليل، وسوف أرسل إليك الدفتر فور حصولي عليه... هل بدأتِ بالدراسة؟ وبماذا بدأتِ؟.
عواطف،
كلما بدأت بالكتابة إليك، تيقظت حولي جميع الأشياء، وامتلكني نوع من الحنين والإرهاف، يجعلني نهبة لكل نسمة ونفحة من صور الطبيعة حولي، أهو اسمك العذب الذي يشيع الحياة والتفتح بأشكال العالم وألوانه فترغمني على التحدث عنها إليك، كما كنت أحدثها أبداً عنك، منذ يومين والضباب يحجب كل شيء في هذه المدينة؛ ضباب يشبه الأردية الواهية التي يسدلها الزمن على الذكريات.. ولكن ذكرى حبيبة واحدة تتمرد على كل شيء، وتمزق كل نقاب، لأنها فوق الزمن، ذكرى؟ بل حياة دائمة وحضور تتوجه فيه عينان دامعتان إلى طريق العودة... تحياتي الحارة إليك وإلى اللقاء.
أين تمضي في الليل مركبة الحب وقد أغلقت عليها الدروبُ واستبدت بها العواصف رعناء، وهبت من جانبها الخطوب وتشكت حوافر الخيل أن يسخر منها هذا المكان الجديب أين تمضي؟ تمضي إلى جنة الأرض إلى حيث كل غصن رطيب حيث ينهال من شفاه الأزاهير نداء.. هنا يعيش الحبيب.
صدقي
***