الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديـات الثقافيـة > المنتدى الإسلامي

المنتدى الإسلامي هنا نناقش قضايا العصر في منظور الشرع ونحاول تكوين مرجع ديني للمهتمين..

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16-04-2022, 09:13 PM   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥




أصل لفظة القرآن:

القرآن اسم لما بين الدفتين من كلام الله، واختلفوا في اشتقاقه، على أقوال:
- إن القرآن اسم وليس بمهموز، ولم يؤخذ من: قرأت، ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل (أي: غير مشتق)، ويهمز قراءة ولا يهمز القرآن كما يقول: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءانَ﴾ الإسراء 45:
- إنه مشتق، غير مهموز، وفيه اشتقاقان:
أحدهما: أنه مأخوذ من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، فهو مشتق من قرن، والاسم قران (بغير همز). فسمي القرآن قرآناً إما لأن ما فيه من السور والآيات والحروف يقترن بعضها ببعض، أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع مقترن بعضها ببعض، أو لأن ما فيه من الدلائل الدالة على كونه من عند الله مقترن بعضها ببعض، أي لاشتماله على جهات الفصاحة وعلى الأسلوب الغريب، وعلى الأخبار عن المغيبات، وعلى العلوم الكثيرة.
وثانيهما: أنَّه سمي قرآناً من القرائن، وذلك لأن الآيات يصدق بعضها بعضاً على ما قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً﴾ النساء 82، فهي قرائن.
- أو أنه مشتق مهموز، على وجوه:
أحدها: أنه مصدر القراءة، يقال: قرأت القرآن فأنا أقرؤه قرأ وقراءة وقرآنا، فهو مصدر، ومثل القرآن من المصادر: الرجحان والنقصان والخسران والغفران، قال حسان في عثمان رضي الله عنهما:
ضَحَّوا بِأَشمَطَ عُـنوانُ السُجـودِ بِهِ ..... يُقَطِّعُ اللَيــلَ تَســــبيحاً وَقُرآنــــــا
أي: قراءة، وقال الله سـبحانه: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًاالإسراء 78، وهذا هو الأصل. ثم إن المقـروء يسمى قرآناً، لأن المفعول يسمى بالمصدر كما قالوا للمشرب: شراب وللمكتوب كتاب، واشتهر هذا الاسم في العرف حتى جعلوه اسماً لكلام الله تعالى.
وثانيها: إنه مأخوذ من القرء وهو الجمع، قال عمروبن كلثوم:
هِجَـانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأ جَنِيْنَـا
أي: لم تجمع في رحمها ولداً. ومن هذا الأصل: قرء المرأة وهو أيام اجتماع الدم في رحمها، فسمي القرآن قرآناً، لأنه يجمع السور ويضمها.
وثالثها: أنه سمي قرآناً، لأن القاريء يكتبه، وعند القراءة كأنه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب: مَا قَرَأَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ سَلًىٰ قَطُّ، أي ما رمت بولد وما أسقطت ولداً قط وما طرحت، وسمي الحيض، قرألهذا التأويل، فالقرآن يلفظه القاريء من فيه ويلقيه فسمي قرآناً.






 
رد مع اقتباس
قديم 17-04-2022, 09:39 PM   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥





﴿هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾:

وقوله: ﴿هُدٗى﴾ ﴿وَبَيِّنَٰتٖ﴾ حالان من القرآن إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان. وهما حالان لازمتان، لأن كون القرآن: ﴿هُدٗى﴾ هو لازم له، و "بينات"، لأن كون القرآن آياتٍ جليات واضحات وصف ثابت له. وهو من عطف الخاص على العام، لأنَّ الهدى يكونُ بالأشياء الخفيَّة والجليَّةِ، والبَيِّنات من الأشياء الجَلِيَّة.
والعاملُ في قوله: ﴿هُدٗى﴾: ﴿أُنزِلَ﴾. وسبب مجيئه مصدراً إما أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هدى، أو على وقوعِه موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: هادياً، أو على جَعْلِه نفسَ الهُدى مبالغةً.
وقوله: ﴿لِّلنَّاسِ يتعلَّق على الأرجح بـ ﴿هُدٗى﴾.
وقوله: ﴿هُدٗى لِّلنَّاسِ﴾ عام، أي: أنزل لهداية الناس كافة.
أما قوله: ﴿وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ﴾ أي: وأنزل آيات بينات من الهدى. فالهدى الأول عام، والثاني خاص بكونه خاصًا بالبينات.
﴿وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾: مصدر فرق. وقد شاع في الفَرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام.
وقد ذكرناه في قراءة قوله تعالى: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 53البقرة.
والجارُّ والمجرورُ: ﴿مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ صفةٌ لقوله: ﴿هُدٗى﴾ ﴿وَبَيِّنَٰتٖ﴾
و ﴿مِّنَ﴾ للبيان ، فهي، أي:الآيات: بينات من الهدى.
﴿وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾: أي: أنزل آيات بينات واضحات الدلالة

ما معنى قوله: ﴿وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ بعد قوله: هُدًى؟:

جوابه من وجوه:
- الأول: أنه ـ تعالىٰ ـ ذكر أولاً أنه هدى، ثم الهدى على قسمين: تارة يكون كونه هدى للناس بيناً جلياً، وتارة لا يكون كذلك، والقسم الأول لا شك أنه أفضل، فكأنه قيل: هو هدى لأنه هو البين من الهدى، والفارق بين الحق والباطل، فهذا من باب ما يذكر الجنس ويعطف نوعه عليه، لكونه أشرف أنواعه، والتقدير كأنه قيل: هذا هدى، وهذا بين من الهدى، وهذا بينات من الهدى، ولا شك أن هذا غاية المبالغات.
- الثاني: أن يقال: القرآن هدى في نفسه، ومع كونه كذلك فهو أيضاً بينات من الهدى والفرقان، والمراد:
بـ ﴿الهُدَى والفُرْقَانِ﴾ التوراة والإنجيل. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ﴾ الأنبياء 48، وقال:
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ 3 مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ ٱلْفُرْقَانَ﴾ آل عمران 4، فبيَّن أنَّ القرآن مع كونه هُدىً في نفسه، ففيه أيضاً هدًى من الكتب المتقدِّمة التي هي هدًى وفرقانٌ.
- الثالث: أن يحمل الأوَّل على أصول الدِّين، والهُدَى الثاني على فروع الدِّين؛ حتَّى يزول التَّكْرَار.
- الرابع: المراد بالهدى الأول ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة، وبالبينات من الهدى ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير مِن الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية.




﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ﴾:

تفريع على قوله ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ الذي هو بيان لقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ 183، فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ 183، من استئناسٍ وتنويهٍ بفضل الصيام، وما يرجى من عوده على نفوس الصائمين بالتقوى، وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام.
والفاء في قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ للجزاء؛ فكأنه قيل: لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة، فأنتم أيضاً خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة، ومثلها قوله: ﴿فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ﴾ الجمعة 8، كأنه قيل: لمَّا فرُّوا من الموت، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم؛ ليعلموا أنَّه لا يغني الحذر عن القدر.
و "مَنْ" شرطيةً.
و ﴿مِنكُمُ﴾: في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في: ﴿شَهِدَ﴾، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً منكم.
وفي نَصْبِ ﴿ٱلشَّهۡرَ﴾ قولان، أظهرهما أنَّه منصوبٌ على الظرف، والمرادُ بشَهِدَ: حَضَر ويكونُ مفعولُ ﴿شَهِدَ﴾ محذوفاً تقديرُه: فَمَنْ شَهِدَ منكُم البلدَ في الشهرِ. والتعريف في ﴿ٱلشَّهۡرَ﴾ للعهدِ، ولو أَتَى بدَله بضميرٍ فقالَ: فَمَنْ شَهِدَه منكم لَصَحَّ، إلا أنَّه أَبْرزه ظاهراً تَنْويهاً به.
والفاءُ في قولِه: ﴿فَلۡيَصُمۡهُۖ﴾ جوبُ الشرطِ. واللامُ لامُ الأمرِ.

لمن الخطاب في قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ﴾؟:

الخطاب لعامة المكلفين من المسلمين، وهو خطاب عام، ثم بعده يأتي التخصيص: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ﴾.

تعريف الصيام:

"الصيام هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أوَّل الفجر الصَّادق إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة."

وفي التعريف قيود:

القيد الأول :قولنا: "إمساك" هو الاحتراز عن شيئين:
أحدهما: لو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، أو وصل غبارُ الطريق إلى باطنه، لا يبطل صومه؛ لأنَّ الاحتراز عنه شاقٌّ، وقد قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ﴾.
والثاني: لو صُبَّ الطعام أو الشـراب في حلقه كرهـاً، أو حال النـوم، لا يبطل صومه، لأن الإكراه لا ينافي الإمساك.

القيد الثاني: قولنا "عَنِ المُفطرَاتِ" وهي ثلاثة: دخول داخلٍ، أو خروج خارجٍ، والجماعُ.
وحدُّ الدخول: كلُّ عينٍ وصل من الظَّاهر إلى الباطن من مَنفَذٍ مفتوح إلى الباطن، إما إلى الدماغُ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة، أما الدِّماغ فيحصل الفطر بالسّعُوط، وأما البطن، فيحصل الفطر بالحقنة؛ وأما الخروج، فالقيء بالاختيار، والاستمناء يُبْطلانَ الصيام، وأما الجماع فمبطلٌ للصيام بالإجماع.

القيد الثالث: قولنا: "مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِماً"، فلو أكل أو شرب ناسياً، لم يبطُل صومه عند أبي حنيفة، والشَّافعيِّ، وأحمد، وعند مالك يبطُلُ.


القيد الرابع: قولنا: "مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ"؛ لقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ﴾ البقرة 187، وكلمة "حَتَّى" لانتهاء الغاية.

القيد الخامس: قولنا: "إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ". ومن الناس من يقول: وقت الإفطار عند غروب ضوء الشَّمس، قَاسَ الطَّرَف الثاني على الطَّرف الأوَّل من النهار؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع ضوء الشَّمس، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها، وهو مغيب الشمس.

القيد السادس: قولنا "مَعَ النِّيِّةِ"؛ لأنَّ الصيام عملٌ؛ لقوله عليه السَّلام: "إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"*. ومن الناس من قال: لا حاجة لصوم رمضان إلى النيَّة؛ لأن الله تعالى أمر بالصيام بقوله: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾، والصيام هو الإمساك، وقد وجد، فيخرج عن العهدة، وهذا مردودٌ بالحديث.
* أخرجه البخاري (1)،ومسلم (1907).




﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ﴾:

أعيد ذكر الرخصة لئلا يتوهم - بعد تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ويندب التطوع به، وبعد تحديده بشهر رمضان الذي له من الفضل والشرف ما له، أن صوم هذا الشهر حتم لا تتناوله الرخصة، أو تتناوله ولكن لا تحمد فيه. وإن تأكيد الصوم بمثل ما أكده الله تعالى به يقتضي تأكيد أمر الرخصة أيضاً، ولولا ذلك ما أتاها متق لله في صيامه. وقد روى المحدثون: أن بعض الصحابة عليهم الرضوان كانوا - على تأكيد أمـر الرخصة في القـرآن - يتحامون الفطر في السـفر أولاً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم به في بعض الأسـفار فلم يمتثلوا حتى أفطر هو بالفعل، وسمى الممتنع عن الفطر عاصياً.






 
رد مع اقتباس
قديم 18-04-2022, 01:49 PM   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥





﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾:

استئناف بياني كالعلة لقوله: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا ... بيَّن به حكمة الرخصة أي: شرع لكم القضاءَ لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة.
وأراد يُريد، أَرِدْ، فهو مُريد، والإرادة مصدره. وأرادَ الشَّيءَ: راده؛ أي: تمنَّاه أو طلَبه أو أحبَّه أو رغِب فيه، والمفعول مُراد. وقد تقدَّم معنى الإِرادة واشتقاقُها عند قوله تعالى: ﴿مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَاالبقرة 26.
وفعل الإرادة في حق الله بمعنى الحكم، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ۚ الأحزاب17. أو معنى الأمر، نحو قوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ المائدة6.
قالوا: يريد هنا بمعنى أراد، فهو مضارع أريد به الماضي، والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل، فهي ثابتة له تعالى دائماً. وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية.وفي القرآن: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍالحج78، وقوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚالأعراف 157، فيندرج في العموم في اليسر فطر المريض والمسافر اللذين ذكر حكمهما قبل هذه الآية، ويندرج في العموم في العسر صومهما لما في حالتي المرض والسفر من المشقة والتعسير.
والباءُ في ﴿بِكُمُ﴾: للإِلصاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ وهو من مجازِ الكلامِ، أي: يريدُ اللهُ بفِطْركم في حالِ العُذْرِ اليسرَ.
و "اليُسْرُ" في العربية: السُّهُولة، ومنه يقال للغنى والسَّعة: اليسار؛ لأنه يتسهل به الأمور. وسميت اليد اليُسْرَى باليسرى لأنها تلي الفعال باليسر، وقيل: لأنه يتسهَّل الأمر بمعاونتها اليمنى.
وفي قولِه: ﴿وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ﴾: تأكيدٌ، لأنَّ قبلَه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وهو كافٍ عنه.


مدلول إرادة الله في الآية:

هي هنا إرادة شرعية، ومثلها:
- ﴿وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا النساء 27،
- ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا النساء 28،
- ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ المائدة 6،
- ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا الأحزاب 33،
- ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ الزمر 7

اليسر والعسر في العربية:

اليَسْرُ (بفتح فسكون وبفتحتين): اللِّينُ والانقياد، يكون ذلك للإِنسان ولغيره. وقد يَسَرَ ييْسِرُ، وياسَرَه: لايَنَهُ. قال خارجة:
قوم إِذا شُومِسُوا جَدَّ الشِّماسُ بهم ..... ذاتَ العِنادِ وإِن ياسَرْتَهُمْ يَسَرُوا
وياسَرَه أَي: ساهَلَه.
واليُسْرُ ضِدُّ العسر، وكذلك اليُسُرُ مثل عُسْرٍ وعُسُرٍ. وفي الحديث: يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا"*. وقد يُسِّرَ له طَهُورٌ أَي: هُيِّئَ ووُضِع. وقد تَيَسَّرا للقتال أَي تَهَيَّآ له واسْتَعَدّا. ويقال: إِنه ليَسْرٌ خفيف ويَسَرٌ إِذا كان لَيِّنَ الانقياد يوصف به الإِنسان والفرس.
* رواه أنس بن مالك.
وأخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734).
وولدت المرأَة ولداً يَسَراً أَي في سهولة، وقد أَيْسَرَتْ. واليُسْرُ، واليَسارُ، والمِيسَرَةُ، والمَيْسُرَةُ، كله: السُّهولة والغِنى، وفي التنزيل العزيز: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍالبقرة 280. وأَيْسَرَ الرجلُ إِيساراً ويُسْراً، أي: صار ذا يَسارٍ. وهو رجلٌ مُوسِرٌ والجمع: مَياسِيرُ. واليَسَرُ والياسِرُ من الغنى والسَّعَة، واليَسارة: الغِنى، قال:
ليس تَخْفَى يَسارَتي قَدْرَ يومٍ ..... ولقد يُخْفي شِيمَتي إِعْسارِي
ويقال: أَنْظِرْني حتى يَسارِ، أي: مَيْسَرَة، قال الشاعر:
فقلتُ امْكُثي حتى يَسارِ لَعَلَّنا ..... نَحُجُّ معاً قالتْ أَعاماً وقابِلَه
والعُسر (بتسكين والسين وضمها): ضِدُّ اليُسْر، وَهُوَ الضَّيِّقُ والشدَّة وَالصُّعُوبَةُ. وفي التنزيل العزيز: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراًالطلاق 7، وقال: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 5 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 6الشرح. وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَسَنُيَسِّرُه لليُسْرَىالليل 7، أي: سَنُهَيِّئُه للعَوْد إِلى العمل الصالح، فهذا في الخير وفيه: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ﴾ الليل 10، قيل: العُسْرَى: العذابُ، فهذا في الشر. وأَنشد ابْنُ الأَعرابي:
أَبـي تُذَكِّرُنِيــهِ كلُّ نائبــةٍ، ..... والخيرُ والشرُّ والإِيسارُ والعُسُرُ
وَقَدْ عَسِرَ الأَمرُ يَعْسَر عَسَراً، فَهُوَ عَسِرٌ، وعَسُرَ يَعْسُر عُسْراً وعَسارَةً، فَهُوَ عَسِير. قالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: ﴿فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 9 عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ 10المدثر، وهو يوم أعسر أي: مشئوم، كما في قول مَعْقِلٌ الْهُذَلِيُّ:
ورُحْنا بقومٍ مِنْ بُدالة قُرّنوا، ..... وَظَلَّ لَهُمْ يومٌ مِنَ الشَّرِّ أَعْسَرُ
وتعاسَرَ، واسْتَعْسَرَ: اشْتَدَّ والْتَوَى وَصَارَ عَسِيراً. واعْتَسَرْت الكلامَ إِذا اقْتَضَبْته قَبْلَ أَن تُزَوِّرَه وتُهَيِّئَه؛ وَقَالَ الْجَعْدِيُّ:
فَذَرْ ذَا وعَدِّ إِلى غيرِه، ..... فشَرُّ المَقالةِ مَا يُعْتَسَرْ
وأَعْسَرَ الرجلُ: أَضاق أو افْتَقَرَ، فَهُوَ مُعْسِر. والمُعْسِر: نَقِيضُ المُوسِر.والعُسْرةُ: قِلّة ذَاتِ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ الإِعْسارُ. والعُسْر (بِالضَّمِّ): مِنَ الإِعْسار، وَهُوَ الضِّيقُ. وتَعَاسَرَ البَيِّعان: لَمْ يتَّفِقا، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَانِ. وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرىالطلاق 6. والعُسْرَى: نَقِيضُ اليُسْرَى.وَرَجُلٌ أَعْسَرُ يَسَرٌ: يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، فإِن عَمِل بِيَدِهِ الشِّمال خَاصَّةً، فَهُوَ أَعْسَرُ بَيِّنُ العَسَر، والمرأَة عَسْراء، وَقَدْ عَسَرَتْ عَسَراً.
والمُعاسَرةُ: ضدُّ المُياسَرة، والتعاسُر: ضِدُّ التياسُر، والمَعْسورُ:ضِدُّ المَيْسور، وَهُمَا مَصْدَرَانِ.
وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: أَنه جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرةِ، سُمِّيَ بِهَا لأَنه نَدَبَ الناسَ إِلى الغَزْوِ فِي شِدَّةِ الْقَيْظِ، وَكَانَ وَقْتَ إِيناع الثَّمَرَةِ وطِيب الظِّلال، فعَسُر ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وشقَّ.



لِمَ عُدّل عن جملةُ قصر إلى جملتي إثبات ونفي؟:

قيل: قد كان يقوم مقام هاتين الجملتين: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ جملة قصر واحدة، هي: إنما ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ﴾. نقول:
- المقصود ابتداءً هو جملة الإثبات لتكون تعليلاً للرخصة، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيداً لها.
- ويجوز أن يكون قوله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ تعليلاً لجميع ما تقدم من قوله:﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ البقرة 183، إلى هنا، فيكون إيماءاً إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشـقة والعسـر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسـير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم.





﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾:

الواو عاطفة، وفي لام: ﴿وَلِتُكْمِلُواْأقوال أظهرها أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾، والتقدير: ويُرِيدُ لِأنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ، ومِثْلُهُ قَوْلُ كَثِيرِ بْنِ صَخْرٍ:

أُرِيدُ لِأنْسى ذِكْرَها فَكَأنَّما ..... تَمَثَّلَ لِي لَيْلًا بِكُلِّ سَبِيلِ
وقد كثر الكلام في تعدية فعل الإرادة باللام. ومن أمثلته في الظهور: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَالزمر12، وفي الإضمار: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْالصف 8، وأصله: يريدون أن يطفئوا. والفعل الذي بعد اللام منصوب بـ "أنْ" ظاهرةٍ أو مقدرةٍ.
والكَمَالُ: التمام. وقد كَمَل يكمُل (بالضم) كَمَالاً. وكَمُلَ (بضم الميم وكسرها) لغتان. ورجل كامِلٌ وقومٌ كَمَلةٌ مثل: حافد وحفدة. ويقال: أعطه المال كَمَلاً، أي: كله. والتكميلُ والإكْمَالُ: الإتمام. واسْتَكْمَلَهُ: استتمه.
وقد فرقوا بين: الإتمام والإكمال، فقالوا: الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل. وقيل: الكمال: اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به، والتمام: اسم للجزء الذي يتم به الموصوف، ولهذا يقال: القافية تمام البيت، ولا يقال: كماله. ويقولون: البيت بكماله، أو باجتماعه. وقيل: تم: يشعر بحصول نقص قبله. وكمل: لا يشعر بذلك. وقد جمعهما قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي المائدة 3، وإكمال الدين لأن النقص كان عارضاً، وأكمله إتمام إنزال آي القرآن، وإتمام النعمة، لأن نقصان النعمة شيء لابد منه، فلا يمكن أن تكمل نعمة؛ إذ إن نعم الله متوترة مستمرة.
والألفُ واللامُ في ﴿ٱلۡعِدَّةَ﴾ للجنسِ، فيكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصومِه، والمعنى أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين. أو للعهدِ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى قولِه تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وهذا هو الظاهرُ.
والعِدَّةُ: مقدار ما يُعَدُّ ومَبلَغُهُ. والعِدَّةُ الجماعةُ، يقال: عِدَّةُ كُتُب وعِدَّةُ رِجال .وعِدَّة المُطَلَّقةِ والمُتَوَفَّى عنها زوْجُها: مدةُ حدَّدها الشرع، تقضيها المرأَة دون زواج بعد طلاقها، أو وفاة زوجها عنها. والجمع : عِدَدٌ.
وقريء: {ولِتُكَمِّلوا} بتشديدِ الميم.

لِمَ قال: ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ ولم يقل: "وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ"؟:

لما قال:﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ دخل تحته عدة أيَّام الشهر، وأيام القضاء، لتقدُّم ذكرهما جميعاً؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المضي، ولو قال: "وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ" لدل على حكم الأداء فقط، ولم يدخل حكم القضاء.






 
رد مع اقتباس
قديم 18-04-2022, 08:40 PM   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥






﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ﴾:

اللامُ في: ﴿وَلِتُكَبِّروا كهي في: ﴿ولِتُكْمِلوا﴾. وهذا يتضمن تعليلاً وهو في معنى علة متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه.
كَبَّرَ، كَبَّرْتُ، أُكَبِّرُ، كَبِّرْ، مصدره: تَكْبِيرٌ، كُبَّارٌ. يقولون: كَبَّرَ الْمَسْأَلَةَ إذا ضَخَّمَهَا، فجَعَلَهَا كَبِيرَةً.
أما تكبير الله في نحو قوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ المدثر 3، فهو أمر بتعظيمه وإجلاله. وكَبَّرَ الْمُؤَذِّنُ، أي قال: "اللَّهُ أَكْبَرُ" على أفعل التفضيل؛ فالتكبير تفعيل والمراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني، والكِبَر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها، أي لتصفوا الله بالعظمة، وذلك بأن تقولوا: اللَّهُ أَكْبَرُ، فالتفعيل هنا مأخوذ من فَعَّلَ المنحوتِ من قولٍ يقوله، مثل قولهم: بَسْمل وحَمْدل وهَلَّل.
وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الوَاقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة، وإثبات الأعظمية لله في كلمة الله أكبر كناية عن وحدانيته بالإلهية، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئاً من النقص، ولذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد.
وقوله: ﴿عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ﴾: هذا الجارُّ متعلِّقٌ بـ "تُكَبِّروا". تعظِّموه وتبجِّلوه.
وتقديرُ الإِعراب في: ﴿عَلَىٰ﴾ هو: ولِتَحْمَدُوا الله بالتكبيرِ على ما هداكم، كما قدَّره الناسُ في قوله:
قد قَتَلَ اللهُ زياداً عَنِّي
أي: صَرَفَه بالقتلِ عني.
و "ما" في قوله: ﴿عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ﴾: على الأظهر: مصدريةٌ، أي: على هدايته إياكم.
والهداية مرت بنا في أكثر من آية، بدءاً بآية الفاتحة: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦﴾.

ما المراد بالتكبير في الآية؟:

في المراد بهذا التكبير قولان:
1) المراد منه التَّكبير لَيلَةَ الفطر:
قال مالكٌ والشَّافعي وأحمد وإسحاقُ وأبو يُوسفُ ومحمَّد: سُنَّ التكبيرُ في لَيْلَتي العيدين. واحتجوا بالآية، والمعنى: ولتكملوا عدَّة صوم رمضان، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطَّاعة.
واختلفُوا في أي العيدين أوكدُ في التَّكبير؟ فقال الشَّافعيُّ في "القديم": ليلة النَّحرِ أوكد؛ لإجماع السَّلف عليها، وقال في "الجديد" ليلةُ الفطر أوكَدُ؛ لورود النصِّ فيها.
واستدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ﴾ تدلُّ على أن الأمر بهذا التَّكبير وقع معلَّلاً بحصول الهداية، وهي إنما حصلت بعد غُرُوب الشَّمس؛ فلزم التَّكبير من ذلك الوقت.
وقال مالكٌ: لا يكَبَّر في ليلة الفطرِ، ولكنه يكَبَّر في يومه، وهو مرويٌّ عن أحمد. وقال إسحاق: إذا غدا إلى المُصَلَّى. وقال أبو حنيفة: يكرَهُ في غداة الفِطر.
واختلفُوا في انقضاء وقتِهِ، فقيل: يمتدُّ إلى تحريم الإحرام بالصَّلاة. وقيل: إلى خروج الإمام. وقيل: إلى انصراف الإمام. وقال أبو حنيفة: إذا أتى المصلَّى ترك التَّكبير.

وكيفيته عند الجمهور: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثاً، وهو مروي عن جابر، وقيل: يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. وكان ابن المبارك يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. وقال ابن المنذر: كان مالك لا يجد فيه حدّاً، وقال ابن العربي: اختار علماؤنا التكبير المطلق وهو ظاهر الكتاب، وقال أحمد: كلٌ واسعٌ، وحجج هذه الأقاويل في كتب الفقه.

2) المراد بهذا التَّكبير: هو التعظيم للَّه تعالى؛ شكراً على توفيقه لهذا الطَّاعة.
قال القرطبي: ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ قيل: لما ضَلَّ فيه النصارَى من تبديل صيامهم. وقيل: بدلاً عمَّا كانت الجاهليَّة تفعله بالتَّفَاخُر بالآباء، والتَّظاهر بالأحساب، وتعديد المناقب. وقيل: لتعظّموه على ما أرشدكُم إليه من الشَّرَائع.




﴿وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾:

هو ترج في حق البشر على نعمة الله في الهداية، فيكون الشكر على الهداية، وقيل: تشكرون على ما أنعم به من ثواب طاعاتكم.

ما مناسبة الفاصلة لنص الآية؟:

- قولُه: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ﴾ علَّةُ الأمر بمراعاةِ العدَّة، و ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ﴾ علةُ ما عُلِم من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و ﴿وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ علةُ الترخيصِ والتيسير، وهذا نوعٌ من اللفِّ البلاغي البديع.
- خُتِمَتْ الآية بترجِّي الشكر لأنَّ قبلَها التيسير والترخيص. وخُتمت الآيتان قبلَها بترجِّي التقوى، وهو قولُه: ﴿وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ 179، وقولُه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ 183، لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليفِ، فناسَب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّب بترجي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصِ عَقَّب بترجي التقوى وشِبْهِها، وهذا من محاسِن علمِ البيانِ.






 
رد مع اقتباس
قديم 19-04-2022, 11:08 PM   رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥






حول مضمون الآية:

هذه الآية مستأنفة لبيان تلك الأيّام المعدودات التي كتبت علينا، وأنّها أيّام شهر رمضان، وأنّ الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة: هي أنّه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وأفيضت على البشر فيه الهداية ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم، الي جاء بالرسالة الخاتمة. وقد قيلت في إنزال القرآن في رمضان أقوال وأقوال، لكن لم يصب فيها الكثيرون. وقد أشكل الأمر عليهم، لعلمهم بتنجيم القرآن، على مدى أكثر من عشرين عاماً، وبورود آيات في النزول، وأخرى في التنزيل. والنزول يفيد أنه أُنزل دفعة واحدة، بينما التنزيل يفيد أنه تنزل على مراحل. وأكثر الآراء شهرة في التوفيق بين الإنزال والتنزيل قولهم: أنزل دفعة واحدة في رمضان، إلى السماء الدنيا، ثم صار يتنزل مجزئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن لا نفهم: ما الحكمة من إنزاله إلى السماء الدنيا، ولِمَ يبقى في السماء الدنيا لأكثر من عقدين من الزمان؟ ولِمَ بدلاً من ذلك، لا يبلغ جبريل بالآيات وفق الحوادث المناسبات، وينزل لنقلها للرسول؟.

إن السماء الدنيا ـ كما نعرفها ـ إنما تحوي الأجرام السماوية من مجرات وسدم، ونجوم وكواكب، وغيوم وسحب. كما أن الآيات الثلاثة التي تذكر النزول لا التنزيل، وهي:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ البقرة 185،
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ الدخان 3،
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ القدر 1،
توقت للنزول بمواقيت الأرض، فالشهر والليلة إنما يحسبان نتيجة العلاقة بين حركة الأجرام الثلاث: الشمس والقمر والأرض؛ فالشهر القمري يبدأ في اليوم الذي يظهر فيه الهلال وينتهي في اليوم الذي يسبق الهلال الذي يليه، والليلة يحددها مَغرِب الشمس إِلى طلوعها. وطول اليوم يحسب بمقدار الوقت الذي يستغرقه الكوكب لإتمام دورة كاملة حول محوره.
أما المواقيت خارج غلاف الأرض، فلا علاقة لها بمواقيت الأرض، ولو افترضنا أن جسماً يسافر داخل مجموعتنا الشمسية نحو الشمس، فإن وصل ـ افتراضاًـ إلى عطارد، فإن يومه الشمسي يعادل 176 يوماً على الأرض، وهو ما يعادل تقريباً ضعفي الفترة المدارية له. وكنتيجة فإن سنة واحدة على عطارد تساوي نصف يوم عليه، أو إن اليوم عليه يمر خلال سنتين كوكبيتين له. أما إذا قام الجسم برحلة عكسية، لأبعد كوكب من المجموعة الشمسية عن الشمس، وهو بلوتو، ففترة دورانه حول نفسه تساوي 6.39 من يوم الأرض، وتبلغ سنته الواحدة 247.68 سنة من سني الأرض، ولهذا لم يكمل بلوتو مدارًا كاملًا حول الشمس منذ اكتشافه. هذا كله علم لم يطلع عليه من وضع على لسان ابن عباس ـ رضي الله عنهـ هذا القول: "أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسول الله بعضه في أثر بعض"*، فأين ليلة القدر هذه خارج مواقيت الأرض؟!.
* أخرجه الحاكم والبيهقي وصحح إسناده الحافظ ابن حجر.

إن ما نقول به هو رأي أسهل من هذا وأكثر وجاهة، حسب ما نعقل ونفهم. الرأي ببساطة أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقبل القرآن الكريم كاملاً في أول رمضان من البعثة، ولكن استقبله على قلبه، بالمعنى دون اللفظ. ثم على مدى سني البعثة كان يتنزل عليه باللسان العربي المبين. إن للقرآن صيغتين: صيغة معنوية مجردة، وهي الصيغة المحفوظة في علم الله، وصيغة لسانية، هي التي تنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بالشكل الذي نقرؤه اليوم. وثمة إشارات لهذا نفهمها من قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16القيامة، وكأنه كان يسابق الوحي في النطق بالكلمات، فتأتي التهدئة الربانية: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ 19﴾ القيامة، وكأن "قُرْآنَه" هنا تعني أن يقرن المعنى اللفظ، فإذا اقترن المعنى الذي أنزلناه إليك في أول البعثة في رمضان، مع اللفظ الذي أنزلناه في رحلة الوحي هذه، فاتبع تلاوته. وانظر إلى التراخي في: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ للإشارة إلى أن الله ـ تبارك وتعالىٰ ـ سيتولى بيانه للناس على مهل. هذا الفهم يفض إشكالية نزول القرآن إلى السماء الدنيا، علاوة على أن الحكمة من إنزال القرآن إليها وبقائه هناك، تغيب عنا. فإن قيل: فما بال قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا 32الفرقان، ألا يدل هذا على فساد رأيك؟ نقول: بل هذه الآية حجة لنا، ولا تخالف ما قلناه. انظر إلى الفعل ﴿نُزِّلَ﴾ في الآية، أما كان من المناسب أن يقول: "أُنْزِلَ" بدلاً من: ﴿نُزِّلَ﴾. إن الإنزال يوافق نص الآية حسب فهمكم، لا التنزيل. إن الصياغة القرآنية الدقيقة جاءت بفعل التنزيل لبيان أن الكلام حول القرآن المُنَزّل، ولا ذكر فيها لما أنُزِل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم إلهاماً في رمضان. وقد مر المفسرون على فعل ﴿نُزِّلَ﴾ في الآية مرور الكرام، باستثناء قلة قال قائلهم: "و ﴿نُزِّلَ﴾ هنا مرادف: "أنزل" وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم: ﴿جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾"*. وهذا كلام مردود، لأن القرآن ـ كماذكرنا مرات عديدةـ لا يعرف الترادف؛ فكل كلمة فيه، بله كل حرف له مدلوله الخاص به وفق السياق، ولا يمكن بحال أن يحل غيره محله، وإلا اختل المدلول. إنما "أُنْزِلَ" للإنزال، و "نُزِّلَ" للتنزيل في سائر المصحف.
* ابن عاشور في تفسيره للآية: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا 32الفرقان.

ثم بين علة إنزال القرآن، فقال: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ﴾، فهو أنزل حال كونه هدىً كاملاً للناس كافّة، فوصفه بأنّه هدى في نفسه لجميع الناس. وآياته بيّنات واضحات لا لبس في حقّيتها، ولا خفاء في حكمها وأحكامها، من جنس الهدى الذي جاء به الرسل من قبل. ذلك الهدى الذي يفرّق للمهتدي به بين الحقّ والباطل، ويفصل بين الفضائل والرذائل، فحقّ أن يعبد الله تعالى فيه ما لا يعبد في غيره، تذكّراً لإنعامه بهذه الهداية وشكراً عليها. وجعله آيات بيّنات من الهدى الذي أنزل في من الكتب المنزلة على الأمم السابقة، وأنّه من جنسها، ولكنّه الجنس العالي على جميع الأجناس، فإنّه آيات بيّنات من ذلك الهدى السماوي، وكتب الله كلها هدى، ولكنّها ليست في بيانها كالقرآن الذي هو أبينها وأكملها.
ثمّ إنّ هذا التعيين والبيان جاء بعد ذكر حكمة الصيام وفائدته، وذكر الرخص لمن يشقّ عليه، وذكر خيرية الصيام في نفسه واستحباب التطوّع فيه، وكلّ ذلك ممّا يعدّ النفس لأن تتلقّى بالقبول والرضى جعل تلك الأيّام شهراً كاملاً. وليس من الصدف أن يفرض الصيام على المسلمين في الشهر الذي نزل فيه القرآن، وكأنهم يحتفلون به احتفال المتذكر لنعمة الله علينا بإنزال القرآن فيه، ولنصومه شكراً له عليها. ومن الشكر أن تكون هدايتنا بالقرآن في مثل وقت نزوله أكمل، ومنها أن يكون الصيام موصلاً إلى حقيقة التقوى، فإذا لم ننتفع بالصيام في أخلاقنا وأعمالنا، ولم نهتد بالقرآن في عامّة أحوالنا، فأين الانتفاع بالنعمة وأين الشكر عليها؟. ولم يكن كذلك من الصدف أن ينقل إلينا أن جبريل ـ عليه السلامـ كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان.

ثم قال: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، أي: فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله فليصمه. وعلى كلّ من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره له أن يصوم، وإذا لم يره أحد في الليلة الثلاثين من شعبان وجب صيام يومها وكان أوّل رمضان ما بعده. وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد بالشهر هنا الهلال، وكانت العرب تعبّر عن الهلال بالشهر، ولذي الرمة:
فأصبح أَجلَى الطَّرْفِ ما يستزيده ..... يَرى الشهرَ قبل الناس وهو نَحيل
ويردّه أنّهم لا يقولون: شهد الهلال، وإنّما يقولون: رآه، ولا تأتي "شهد" بمعنى: "رأى"، بل إن "رأى" يقابلها: شاهد، لا شهد.
ومَن يفهم الآية على أن شهد بمعنى رأى، يكون قد أخطأ خطأ بيناً وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل.
و "حضر" من معاني "شهد". ويجوز أن يكون شهد بمعنى عَلِم كقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ آل عمران 18، فيكون انتصاب ﴿ٱلشَّهْرَ﴾ على المفعول به بتقدير مضاف أي: علم بحلول الشهر.
فإن كان معنى شهد: حضر أو علم، فهم أن الصيام يجب على المقيم، غير المستثنى بالمرض أو السفر، كما تبينه الجملة القادمة: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.

وقد أعيد ذكر الرخصة لئلاّ يتوهّم - بعد تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنّه خير، ويندب التطوّع به، وبعد تحديده بشهر رمضان الذي له من الفضل والشرف ما له - أنّ صوم هذا الشهر حتم لا تتناوله الرخصة، أو تتناوله ولكن لا تحمد فيه. وكما أُكِد الصيام بـ ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ﴾ بعد: ﴿أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ﴾ 184، فقد أكدت الرخصة بالتكرار في الموضعين. ولا شك أن في تكرار ذكر الرخصة تأكيداً، وأيما تأكيد. وقد بث الله ـ تعالىٰ ـ صنوف الرحمة بهذا التكرار، وقبله بذكر أنه: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ﴾ ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ﴾، فلستم بدعاً في هذا التكليف الذي هو من سمات الإيمان، وبذكر التيسير الآتي في الجملة التالية من الآية، وبالرحمة السابغة في الآية التالية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦﴾، ليسهل على الناس مشقة الصيام، ويعينهم بالصبر عليه.
والشريعة الإسلامية السمحة تراعي أحوال الناس وحاجاتهم، وتكفل لهم حق الترخّص المشروع بتخفيف الأحكام وتيسيرها عليهم في أحوال خاصة لها شروطها وضوابطها. وكما شرع إباحة أكل الميتة أو شرب الخمر لمن خشي على نفسه الهلاك من الجوع أو العطش، والنفس هي أول الضروريات الخمسة، فقال: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٧٣﴾، أباح للمسلم ترك فريضة أو تأخيرها. والرخصة تقابل العزيمة، وهي في العربية: السهولة، وفي الشرع: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، أو ثبوت حكم لحالة تقتضيه مخالفة مقتضي دليل يعمها. أما ما ثبت على وفق الدليل؛ فهو عزيمة. والعزيمة والرخصة حكمان متقابلان، فإذا انتفت العزيمة ثبتت الرخصة، كالصيام في الحَضَر فهو عزيمة، فإذا انتفى الحضر بأن عرض حال السفر على المكلف انتفت العزيمة وثبتت رخصة الفطر. وإن للرخصة ارتباطًا وثيقًا بمقاصد الشريعة بما تحققه من التيسير على المكلفين، ورفع الحرج عنهم في عباداتهم ومعاملاتهم.
وإن للرّخصة أثرًا ظاهرًا في فريضة الصيام، فمن ذلك رخصة الفطر للمسافر في رمضان، وللمريض، ورخصة الفطر للعطش والجوع المفرطين، وللهَرَم والزمانة، وللحمل أو الرضاعة، ورخصة الفطر للتقوّي على إنقاذ غريق أو حريق، إضافة إلى أنواع أخرى من رخص الصيام تعدّ إسقاطًا أو عفوًا كالترخيص للصائم في ابتلاع ريقه المعتاد، والترخيص في المضمضة والاستنشاق، والقبلة لمن ملك نفسه، وهي رخص تظهر الغاية من الصيام، وهو تحقيق معنى التقوى في الصائم المتمثلة في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾، والوصول إلى هذا الوصف لا يمكن إلا إذا كانت النفس مطمئنة وراضية بالعبادة، والرخص هي مما يجعل الأنفس تتشوق إلى العبادة وأدائها بصورة أقرب على ما يرضي الله.
وإن الأخذ بالرخص مشروع، وهو من معالم التيسير التي ارتكز عليها الدين الإسلامي، ومتى وجد الداعي، وتحقق السبب، فلا حرج على المسلم في الترخّص، لكن لا يجوز البحث عن الرخص، وتتبع الأقوال الشاذة والمهجورة، وانتقاء الأيسر منها بحجة المشروعية العامة للترخّص، ففي سلوك هذا المنهج اتباع للهوى، واندفاع نحو التلاعب بالأحكام، وتمييع التشريعات، والتحلُّل منها واحدًا تلو الآخر.
وقد اختلف العلماء فيما إذا كان الأخذ بالرخصة أفضل أم البقاء على العزيمة؟. فقال بعضهم: الصيام أفضل، وقال آخرون: الفطر أفضل. وأرجح الأقوال: أن الأفضل هو فعل الأيسر، بمعنى أنه إذا كان يشق على المسافر الصيام بسبب الحَرّ مثلًا أو طول المسافة، فهذا الأفضل له الفطر، خاصة إذا كانت المشقة شديدة. أما إذا كان السفر لا يشق عليه، كأن يسافر بالطائرة مسافة قصيرة، أو يعرف من نفسه أنه يتكاسل عادة في القضاء بعد رمضان، فهذا الأفضل في حقه الصيام. وفي الأمر سعة، وكلاهما جائز، لا وزر فيه، أو في تركه. وإنّ تأكيد أمر الرخصة بمثل ما أكّد الله تعالى به الصيام، يجعل في الأمرين خير، أيهما اختار المسلم أُجر عليه.

ومجيء: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ﴾ تعليلاً لما قبله، يبين أنه ـ تعالىٰـ يريد فيما شرّعه من هذه الرخصة في الصيام، وسائر ما يشرّعه لكم من الأحكام، أن يكون دينكم يسراً تاماً لا عسر فيه. والمراد بالإرادة هنا حكمة التشريع لا إرادة التكوين. وإنّ في هذا التعبير ضرباً من التحريض والترغيب في إتيان الرخصة، ولا غرو فـ "إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه ، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه"*.
* الراوي: عبد الله بن عباس.
أخرجه البزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (990)، وابن حبان (354)، والطبراني (11/323) (11880).

ثم قال: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ﴾ وهي معطوفة على التعليل المستفاد من قوله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ﴾ كأنّه قال: رخّص لكم في حالي المرض والسفر؛ لأنّه يريد بكم اليسر وأن تكملوا العدّة، فمن لم يكملها أداءً لعذر من مرض أو سفر، أكملها قضاء بعده. أو إنّها لتقوية الفعل كما في قوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ﴾ الصف 8، أي: يريد الله بكم اليسر، وأن تكملوا العدّة، ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ﴾ إليه من الأحكام النافعة لكم، بأن تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده، وأنّه يربّيهم بما يشاء من الأحكام، ويؤدّبهم بما يختار من التكاليف، ويتفضّل عليهم عند ضعفهم بالرخص اللائقة بحالهم، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ له هذه النعم كلّها، بالقيام بها على وجهها، وإعطاء كلّ من العزيمة والرخصة حقّها، فتكونوا من المتقين.
والتعبير بـ ﴿ٱلْعِدَّةَ﴾ دون: "عدّة الشهر"، يشعر بأنّ الأصل في التكليف العام للصيام هو الأيام المعدودات، وكونها رمضان بعينه، خاص بمن شهده ممّن لم تتناوله الرخصة. ولما كان لبعض الناس أعذار، كان إكمال العدة خارج الشهر، ولو قال: "ولتكملوا الشهر" لتوهم ألا يكون ثمة قضاء. وهذا من دقّة القرآن وبلاغته التي لا يخطر مثلها على قلب بشر.
وفي هذا الكلام ترتيب بأسلوب النشر على اللفّ*، فجاء بثلاثة تعليلات:
1) ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾، تعليل لقوله: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ﴾
2) ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ﴾ ، تعليل لقوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
3) ﴿وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾، تعليل لقوله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾.
هذا الأسلوب البياني من النشر واللف مر بنا في مواضع عديدة من السورة، وأشهر مواضعه في التنزيل آيات سورة الضحى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى 3 وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى 4 وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى 5 أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى 6 وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى 7 وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى 8 فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ 9 وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ 10 وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 11﴾ وهي ثلاث مجموعات دلالية، في كل مجموعة ثلاث
آيات هي على التوالي: (3 و 6 و9)، (4 و 7 و10)، (5 و 8 و 11). والسائل في السورة ليس المحتاج، بل هو المستفسر عما يجهله من الشرع، وقد أوضح أسلوب اللف والنشر هذا المعنى، وبينته آية: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى 7﴾.
* من سـحر البيان: اللف والنشـر






 
رد مع اقتباس
قديم 20-04-2022, 09:20 PM   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ
فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦






﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ﴾:

الجُملة معطوفة على الجمل السابقة المتعاطفة، أي: ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥﴾، ثم التَفَت إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده لأنه في مقام تبليغ فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾، أي: العباد الذين كان الحديث معهم.
والكاف في: ﴿سَأَلَكَ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله: ﴿ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ إضمار لمن أنزل عليه.
و﴿عِبَادِي ظاهره العموم، وقيل: أريد به الخصوص: إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب.
و﴿عَنِّي الضمير فيه لله تعالى، وهو من باب الالتفات، لأنه سبق: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ﴾، فهو خروج من غائب إلى متكلم. و ﴿عَنِّي﴾: متعلق بـ ﴿سَأَلَكَ﴾. وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ﴾، مجازٌ عن سرعةِ إجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحس لتعاليه عن المكان.
والفاء في قوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ، جواب "إذا"، وثَمَّ قول محذوف تقديره: فقل لهم إني قريب، لأنه لا يترتب على الشرط القرب، إنما يترتب الإخبار عن القرب.
واستعمال مثل هذا الشرط مع مادة السؤال لقصد الاهتمام بما سيذكر بعده استعمال معروف عند البلغاء قال علقمة:
فَإنْ تسأَلوني بالنِّساءِ فإنّني ..... خَبير بِأَدْواءِ النساءِ طَبِيبُ
واحتيج للتأكيد بـ "إنَّ"، لأن الخبر غريب، وهو أن يكون ـ تعالىٰـ قريباً مع كونهم لا يرونه.
وفي ﴿أُجِيبُ وجهانِ:
أحدُهما: أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً لـ ﴿قَرِيبٌۖ﴾.
والثاني: أنها خبرٌ ثانٍ لـ "إِنِّي"، لأنَّ ﴿قَرِيبٌۖ﴾ خبرٌ أولُ.
وجاء قولُه: ﴿أُجِيبُ﴾ مراعاةً للضميرِ السابقِ على الخبرِ، ولم يُراعَ الخبرُ فيقالُ: "يُجيبُ" بالغَيْبَة مراعاةً لقولِه: ﴿قَرِيبٌۖ﴾ لأنَّ الأَشهَر من طريقتي العرب هو الأولُ، كقوله تعالى: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ النمل 55، وفي أخرى: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ النمل 47، بدلاً من: يجهلون ويفتنون، وقولِ الشاعر:
وإنَّا لَقَوْمٌ ما نرى القَتْلَ سُـبَّةً ..... إذا ما رَأَتْهُ عامِــرٌ وسَــلُولُ
ولو راعى الخبر لقال: مَا يَرَوْنَ القَتْلَ.
والإجابةُ في العربية: الطاعةُ وإعطاءُ ما سُئِلَ، فالإجابةُ من الله العطاءُ، ومن العبدِ الطاعةُ.
وقيل: ﴿أُجِيبُ﴾ ههنا بمعنى: أَسْمَعُ؛ لأنَّ بين السماع والإجابةِ نَوْعَ ملازمةٍ.
و ﴿دَعۡوَةَ ليس المراد بها المَرَّة نحو: ضَرْبَة وقَتْلَة، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ على "فعلة" نحو: رَحْمة ونَجْدة، فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة.
والظاهر عموم الداعي لأنه لا يدل على داعٍ مخصوص، لأن الألف واللام فيه ليست للعهد، وإنما هي للعموم.
والعاملُ في: ﴿إِذَا﴾: ﴿أُجِيبُ﴾، والتقديرُ: أُجيبُ دعوته وقتَ دعائِه.
والياء في آخر: ﴿ٱلدَّاعِ﴾ و ﴿دَعَانِ﴾ محذوفة في قراءات، ومثبتة في أخرى، على تفصيلات في علم القراءات.
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجوُّ الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان. كما دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عباده.

ما قيل في اتصال هذه الآية بما قبلَها؟:

قيلت وجوه:
1) أنَّه لما قال بعد إيجاب شهر رمضان وتبيين أحكامه: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٨٥﴾ فأمر العبد بالتَّكبير الذي هو الذِّكر، وبالشكر، أعلم العبد أنه سبحانه بلُطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشُكره، فيسمع نداءه ويجيبُ دعاءه.
2) أنه أمره بالتَّكبير أولاً، ثم رغبه في الدعاء ثانياً، تنبيهاً على أن الدعاء لا بُدَّ وأن يكون مسبُوقاً بالثناء الجميل؛ ألا ترى أن الخليل ـ عليه السلام ـ لمَّا أراد الدعاء قَدَّم أولاً الثناء؛ فقال: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ الشعراء 78، إلى قوله: ﴿وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ﴾ الشعراء 82، فلما فرغ من هذا الثناء، شرع في الدُّعاء، فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً﴾ الشعراء 83، فكذا هاهنا.
3) أنَّه لما فرض عليهم الصِّيام، كما فُرض على الذين من قبلهم؛ وكانوا إذا ناموا، حرم عليهم ما حرم على الصَّائم، فشَقَّ ذلك على بعضهم؛ حتَّى عصوا في ذلك التكليف، ثم نَدِمُوا وسألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مُخبراً لهم بقبول توبتهم، وبنسخ ذلك التَّشديد؛ بسب دعائهم وتضرُّعهم.

ما قيل في بيان سبب النزول:

ذُكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة وجوهٌ:
- الوجه الثالث فيما تقدم.
- إنَّ يهُود المدينة قالوا: يا محمَّد، كيف يسمع ربُّك دعاءنا، وأنت تزعم أنَّ بيننا وبينَ السَّماء مسيرة خمسمائة عامٍ، وأنَّ غِلَظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك؟ فنزلت الآية الكريمة
- أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان في غزاة خيبر، وقد رفع أصحابُهُ أصواتهُم بالتكبير والتَّهليل والدُّعاء، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اربعوا على أنفسكم فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إِنَّما تدعون سميعاً قريباً وهُو معكُم.
- إنَّ أعرابيّاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقريبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله تعالى الآية.
- إنَّ الصحابة قالوا: كيف ندعُو ربنا، يا رَسُول الله؟ فنزلت الآية.
- إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعو ربنا؟ فأنزل الله الآية.
- سأل أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أين رَبُّنا؟ فأنزل الله الآية.

في نسبة العباد إلى الله:

لفظة "عبد" تجمع على: عبيد، وعباد. والعباد والعبيد مستعبدون لله، أما العباد فهم يعبدون الله عن طواعية، مسلمين إرادتهم الحرة لخالقهم طوعاً. وأما العبيد فمستذلون لله كرهاً وإجباراً، ومع كامل إرادتهم في الدنيا للانصياع لله أو الإعراض عن عبادته، يسلبون الإرادة في الآخرة.
ولفظة "عبد" وإن كانت مرادفة للذل والمهانة إذا أضيفت لغير الله، إلا أنها شـرف وعـزة حين تضـاف لله،
وقد شرف بها الأنبياء، قالها في نوح: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ الإسراء 3، وفي زكريا: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ مريم 2، وقالها عيسى: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ مريم 30، وأضافها لمحمد: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ البقرة 23.
وقد نهى الله عن العبودية لغيـره، فقال: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ الإسراء 23، وخص عباده بالحصـانة من الشيطان، فقال له: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ الحجر 42. ورغم أنه شرف عباده بالذكر في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، لم ينسب "العبيد" إليه ولو لمرة واحدة، وإنما حين ذكرهم قال: العبيد، وجاءت في ثلاث صيغ في خمس آيات:
1) ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ آل عمران 182، الأنفال 51، الحج 10،
2) ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فصلت 46،
3) ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ ق 29.
وفي كل هذه المواضع ذكر للحساب، وكأن المرء من عباد الله ما دام يملك القدرة على الاختيار، فإذا جرد منها للحساب صار عبداً مملوكاً لله مسلوب الإرادة.
أما العباد فذكروا في القرآن الكريم في معظم المواضع لوصف المطيعين لله. وفي التفرقة الظاهرة بين: العباد والعبيد، ألمحوا إلى لفتة لطيفة، هي أن الألف الممدودة في: "العباد" توحي بالعزة والمنعة والأنفة والرفعة، وكأنها مرفوعة الرأس منصوبة القامة باستمرار؛ ولهذا أطلق عليها بعض الباحثين: ألف العزة، وهذه العزة والأنفة والرفعة نلحظها في حياة العباد المؤمنين المطيعين لله تعالى، فالعباد المؤمنون يعيشون حياتهم في الدنيا بعزة ورفعة واستعلاء، يحاربون الظلم، وينفرون من الذل، قاماتهم عزيزة منتصبة لا يحنونها إلا لله، ورؤوسهم مرتفعة عزيزة لا يخفضونها إلا لله. أما ياء: "العبيد" فهي ياء الذلة، وقد استوى كل الخلق في موقف الحساب، فكلهم ذليل صاغر ينتظر أن يحكم الله فيه. ولا شك أنها صفة يحملها الكفار في الدنيا، فهم أذلاء جبناء ضعفاء مهانون، لا يريدون العزة والرفعة، ولا يشعرون بالكرامة والأنفة، تجدهم يحرصون على الحياة ومباهجها كأنهم يعيشون أبداً. إن صياغة الكلمة بهذه الإمالة بياء جاءت وسط الكلمة منبطحة ملقاة بذلة، صورت ما يلحق العبيد من خزي و ذل و هوان و مهانة، على عكس ألف العزة في "العباد" منصوبة القامة مرتفعة الهامة.

والمولى ـ تعالىٰ ـ يخاطب عباده في التنزيل:
- فيوجههم: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ 56العنكبوت،
- ويعظهم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ 10الزمر،
- ويخوفهم: ﴿ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ 16الزمر،
- ويؤملهم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53الزمر،
- ويطمئنهم: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ 68الزخرف،
- ويبشرهم: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ 17الزمر.

ما مدلول:﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ﴾؟:

من المعلوم أن القرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قرباً بالمكان. هذه الحقيقة لا يختلف فيها. وقد فسروا القرب على وجوه:
- إنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعاً لدعائه، مسرعاً في إنجاح طلبه من سأله، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه. فالمراد من الآية الكريمة ليس هو القُرب بالجهة؛ لأنَّه تبارك وتعالى، لو كان في مكانٍ، لما كان قريباً من الكُلِّ، بل إذا كان قريباً من زيدٍ الذي بالشَّرق، كان بعيداً من عمرو الذي بالمغرب. فلَمَّا دلَّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريباً من الكُلِّ، علمنا أنَّ القرب المذكُور في الآية الكريمة ليس قرباً بجهة، فثبت أن المراد منه أنه قريبٌ بمعنى أنه يسمع دعاءهم.
- المرادُ من هذا القُرب العلمُ والحفظُ؛ على ما قال: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ الحديد 4، وقال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ﴾ ق 16، وقال: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ المجادلة 7. ونظيره:
- لا يبعدُ أن يقال: إنه كان في بعض حاضري عهد النبوة من كان قائلاً بالتَّشبيه، فقد كان من مشركي العرب، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته، فإذا سألوه - عليه الصلاة والسلام - أين ربُّنا؟ صحَّ أن يكون الجوابُ: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ﴾، فإنَّ القريبَ مِنَ المتكلِّم يسمعُ كلامَهُ، وإن سألوه كيف يدعُون؛ برفع الصَّوت أو بإخفائه؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ﴾، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدُّعاء؟ صحَّ هذا الجوابُ، وإن سألوه: إنا إذا أذنبنا ثم تُبنا، فهل يقبلُ الله توبتَنَا؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ﴾ أي: فأنا القريبُ بالنظر إليهم، والتجاوز عنهم، وقبُول التَّوبة منهم؛ فثبت أنَّ هذا الجواب مطابقٌ للسُّؤَالِ على كُلِّ تقدير.






 
رد مع اقتباس
قديم 21-04-2022, 09:09 PM   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ
فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦







الدعوة والدعاء في اللسان العربي والتنزيل:

أصل الدعوة في العربية من: دعو؛ وهي إمالة الشيء إليك بالقول والانتظار من الغير الإجابة. وتأتي بمعنى الطلب، والحث، والنداء، كأن يقول دعا بالشيء؛ أي: طلبه، أو دعا إلى الشيء؛ أي: حثه وأمره، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ﴾ يونس 25، أو دعا فلاناً؛ بمعنى ناداه.
وكلمة الدعوة عامة وقد تأتي دعوة للخير أو للشر كما قال: ﴿أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖالبقرة 221.
والدُّعاء مصدر من قولك: دعَوتُ الشَّيءَ أَدعوه دُعاءً، وهو أن تُميل الشيءَ إليك بصوت وكلام يكون منك.
دعا الرجلَ دعوًا ودعاءً: ناداه. والاسم: الدعوة. ودعوت فلانًا: أي صِحت به واستدعيته.
ثم أقامُوا المَصدرَ مقام الاسم؛ تقول: سمعتُ الدعاء؛ كما تقولُ: سمعتُ الصَّوتَ. وقد يوضعُ المصدر موضع الاسم؛ أي: أطلق على واحد الأدعية، كما أقيم مصدر العدل مقامَ الاسم في قولهم: رجلٌ عدلٌ، ونظير هذا كثير.
وعرف الدعاء شرعاً بأكثر من تعريف، منها أنه هو الرغبة إلى الله عز وجل. وهو استدعاءُ العبدِ ربَّه عزَّ وجلَّ العنايةَ، واستمدادُه منه المعونةَ. وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرٌّؤ من الحول والقوّة، وهو سمةُ العبودية، واستشعارُ الذلَّة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجود والكرم إليه.

وقد ورد الدعاء في القرآن الكريم على وجوه، منها:
- العبادة: كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمثَالُكُم الأعراف 194.
- الطلب والسؤال من الله سبحانه: كما في الآية.
- الاستغاثة: كما في قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 40 بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ 41الأنعام.
- النداء: كما في قوله: ﴿يَومَ يَدعُوكُم فَتَستَجِيبُونَ بِحَمدِهِ﴾ الإسراء 52.
- توحيد الله وتمجيده والثناء عليه، كما في قوله: ﴿قُلِ ٱدعُوا ٱللَّهَ أَوِ ٱدعُوا ٱلرَّحمَـٰنَ﴾ الإسراء 110.
- الحثّ على الشيء، كما في قوله: ﴿قَالَ رَبّ ٱلسّجنُ أَحَبٌّ إِلَىَّ مِمَّا يَدعُونَنِى إِلَيهِ﴾ يوسف 33.
- رفعة القدر، كما في قوله: ﴿لَيسَ لَهُ دَعوَةٌ فِى ٱلدٌّنيَا وَلاَ فِى ٱلآخِرَةِ﴾ غافر 43.
- القول: كما في قوله: ﴿فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذ جَاءهُم بَأسُنَا إِلا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ﴾ الأعراف 5.
- السؤال: كما في قوله: ﴿ٱدعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ﴾ البقرة 68.
- التسمية: كما في قوله: ﴿قُلِ ٱدعُوا ٱللَّهَ أَوِ ٱدعُوا ٱلرَّحمَـٰنَ أَيّا مَّا تَدعُوا فَلَهُ ٱلأسمَاء ٱلحُسنَىٰ﴾ الإسراء 110.

أهمية الدعاء:

الدعاء أفضَلُ مقاماتِ العبُوديَّة، واحتجُّوا بأدلَّة:
أولها هذه الآية،
والثاني: قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ غافر 60.
والثالث: قوله: ﴿فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام 43، فبين أنه تعالى، إِذَا لَمْ يُسْألْ يَغْضب.
والرابع: قوله: ﴿ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ الأعراف 55، وقال: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ﴾ الفرقان 77، والآياتُ في هذا الباب كثيرةٌ، فمن أبطل الدعاء، فقد أنكَرَ القرآن، وأمَّا الأحاديث فكثيرةٌ.
ولا أدل على ضرورة الدعاء من حال شرِّ الخلق، وقد طرده الله من رحمته، فدعا الله أن يمهله: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 14﴾ فأجابه رب العالمين إلى طلبه: ﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ 15الأعراف.

الرد على قول: إنا نرى الداعي يبالغ في الدَّعَواتِ والتضرُّع، فلا يجاب:

الجوابُ من وجوه:
1) أحدها: أن هذه الآيات، وإن كانت مطلقةً إلاَّ أنه وردت في آية أخرى مقيَّدة، وهو قوله تعالى: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ﴾ الأنعام 41، والمطلق يحمل على المقيَّد.
2) وثانيها: قوله - عليه الصلاة والسلام" - ما من مسلِمٍ يَدعو، ليسَ بإثمٍ و لا بِقطيعةِ رَحِمٍ إلَّا أَعطَاه إِحدَى ثلاثٍ: إمَّا أن يُعَجِّلَ لهُ دَعوَتَهُ، وإمَّا أن يَدَّخِرَها لهُ في الآخرةِ، وإمَّا أن يَدْفَعَ عنهُ من السُّوءِ مِثْلَها قال: إذًا نُكثِرَ، قالَ: اللهُ أَكثَرُ"*.
* الراوي: أبو سعيد الخدري.
أخرجه أحمد (11133)، والبخاري في الأدب المفرد (710) واللفظ له، وأبو يعلى (1019).

3) وثالثها: أنَّ قوله: ﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ يقتضي أنَّ الداعي عارفٌ بربِّه، ومِنْ صفاتِ الربِّ سبحانه وتعالى أنه لا يَفْعَلُ إلاَّ ما وافَقَ قضاءه وقدره، وعلمه وحكمته، فإذا علم العبدُ أنَّ صفة ربِّه هكذا، استحَالَ منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربِّ، أفعل الشَّيء الفُلانِيَّ، بل لا بدَّ وأن يقول :أفعل هذا الفعل، إن كان موافقاً لقضائك وقدرك؛ وعند هذا يصيرُ الدُّعاء المجابُ مشروطاً بهذه الشرائط، فزال السؤال.
4) ورابعها: أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة:
فقيل: الدعاء عبارةٌ عن: التوحيد والثَّناء على الله تعالى؛ لقول العبد: يا الله الذي لا إله إلا أنتَ، فدعَوتَه، ثم وحَّدتَه وأثنيت عليه فهذا يسمَّى دعاءً بهذا التأويل، فسمي قبوله إجابةً للتجانس، ولهذا قيل: ﴿أُجِيبُ﴾ ههنا بمعنى: "أًسْمَعُ"؛ لأن بين السماع والإجابة نوع ملازمةٍ، فلهذا السبب يقام كلُّ واحدٍ منهما مُقام الآخر، فقولنا: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" ، أي: أجاب الله، فكذا هاهنا قوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ﴾، أي: أَسْمَعُ تلكَ الدَّعوة، فإذا حَمَلنا قوله تعالى: ﴿ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ على هذا الوجه، زال الإشكال.
وقيل: المـرادُ من الدعـاءِ: التَّوْبـة مِنَ الذُّنُوب؛ وذلك لأنَّ التائب يدعُـو الله ـ تعالىٰ ـ بتوبته، فيقْبَلُ توبته، فإجابته قبول توبته إجابة الدُّعَاء، فعلى هذا الوجه أيضاً يزول الإشكال.
وقيل: المرادُ من الدُّعاء العبادةُ، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ غافر 60، والدُّعاء هاهنا هو العبادة.
وإذا ثَبَتَ ذلك، فإجابة الله للدُّعاء عبارةٌ عن الوفاءِ بالثَّواب للمُطيع؛ كما قال: ﴿وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ الشورى 26.
5) وخامسها: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ﴾ إنْ وافقَ القضاء وأُجيب إن كانت الإجابةُ خَيْراً لهُ، أو أجيبه إن لم يسأَلْ مُحَالاً.
6) وسادسها: روى عُبادةُ بن الصَّامت؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمِ يَدْعُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بإِثْمٍ أَوْ قَطيعَةِ رَحِمٍ"*.
* أخرجه الترمذي في سننه (3573)،
خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

7) وسابعها :إِنَّ الله يجيب دعاء المؤمِنِ في الوقت، ويؤخِّر إعطاءَ مَنْ يجيب مراده، ليدعوه فيسمع صوته.

ما قيل في تأويل الدعاء والإجابة في الآية:

قد تؤول الدعاء والإجابة هنا على وجوه:
1) أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله، لأنك دعوته ووحدته، والإجابة عبارة عن القبول؛ إذ لما سمي التوحيد: دعاءً سمي القبول: إجابة، لتجانس اللفظ.
2) أن الإجابة هو السماع فكأنه قال: أسمع.
3) أن الدعاء هو: التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله عند التوبة، والإجابة: قبول التوبة.
4) أن يكون الدعاء هو العبادة، وفي الحديث: "الدُّعاءُ هوَ العبادةُ*"، قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ﴾ ثم قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ 60غافر، والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب.
5) الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسؤول وبمنعه، فالمعنى: إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد.
* الراوي: النعمان بن بشير.
أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجة (3828).

وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر.

أوقات الدُّعاء وأحواله:

- للدُّعاء أحوال يكون الغالب فيها الإجابة، كالسَّحرِ، وفي الثلث الأخير من الليل، ووقت الفطرِ، وما بين الأذانِ والإقامة، وأوقات الاضطرار، وحالة السَّفر والمرض، وعند نزول المطر، والصَّفّ في سبيل الله، والعيدين، تعالى كُلُّ هذا جاءت به الآثارُ.
- وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور، وأن لا يقصد فيه السجع، سجع الجاهلية، وأن يكون غير ملحون.
- ومن الأماكن: في الكعبة، وتحت ميزابها، وفي الحرم، والجامع الأقصى.
- وإذا كان الـداعي بالأوصـاف التي تقدمت، غلب على الظن قبـول دعائـه، وأمــا إن كـان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة الله، ولا يقطع رجاءه من فضله، فإن الله تعالى قال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53الزمر.
- والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار افتقار إلى الله تعالى، والشرع قد ورد بالأمر به، وقد دعت الأنبياء والرسل، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه.
- قال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس، إنهم علماء الحقيقة: يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور الآخرة، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فالله متكفل، فلا حاجة إليها.
وقال قوم منهم: إن كان في حالة الدعاء أصلح، وقلبه أطيب، وسره أصفى، ونفسه أزكى، فليدع؛ وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به.
وقال قوم منهم: ترك الدعاء في كل حال أصلح لما فيه من الثقة بالله، وعدم الاعتراض، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار.
وقال قوم منهم: ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚالطلاق 3.
وهذا كله مردود عليهم بالأدلة من الكتاب والسنة.






 
رد مع اقتباس
قديم 22-04-2022, 01:41 PM   رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ
فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦






﴿فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي﴾:

تفريع على: ﴿أُجِيبُ﴾، أي: إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري.
واللامُ لامُ الأمر.
وقيل في الإجابة والاستجابة: هما بمعنى واحد، ولسنا نرى هذا؛ فلكل لفظة مدلولها المخالف لغيرها، ولا ترادف في القرآن. أما أمثلة الألفاظ التي قالوا: إنها شبيهة باستجابَهُ وأجَابَهُ، ومنها: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ، وأحصدَ الزرعُ واستحصد، واستثار الشيء وأثارَه، واستعجله وأَعْجَله، فلكل منها معنى يختلف فيه عن شبيهه.
والاسـتجابة: اسـتفعال، وفيها هنا الطلب، بمعنى الإقبال على المنادي بالقدوم، أو هو قـولٌ يدل على امتثـال أمر الله، والاستعداد للحضور نحو: لَبيك، ثم أطلق مجازاً مشهوراً على تحقيق ما يطلبه الطالب.
ومعناه هنا: فَلْيَسْتَجِيبُوا لي فِيمَا دَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الإيمانِ، أي: الطَّاعة والعَمَل، كما قال تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ الأنفال 24.
واستجاب لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ مُعَدَّىً بحرف الجرِّ نحو: ﴿فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ الأنبياء 76، 84، 88، 90، وقوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ آل عمران 195، وقوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ الأنفال 9. ومِنْ تعدِّيه بنفسِه قوله:
وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى ..... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ
ومن فَرَّق بين: أَجاب واستجاب، قال: بأنَّ "استجاب" لا يكون إلا فيما فيه قبول لِما دُعِي إليه، وأمَّا "أجاب" فأعمُّ لأنه قد يُجيب بالمخالفة، فَجَعَل بينهما عموماً وخصوصاً.

هل نَفْهَمُ من الإجابة: الاستجابة؟:

والدعاء إما أن يُجاب أو أن يُستجاب. أما إجابة الدعوة فيعني تنفيذها مباشرة سواء أستوعبها الإنسان أم لم يستوعبها، وهي تحصل خارج الوعي البشري. ومن امثلة ذلك:

- ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ 88 قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ 89﴾ يونس. وقد أجاب الدعوة، وحصلت الإجابة خارج منظور موسى وهارون.
- ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ 62النمل، وهذه خصوصية للمضطر، يجيبه الله على الفور لأنه حالة استثنائية، لذلك جاءت الإجابة مقرونة بفاء التعقيب في قوله في سورة يونس: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 22 فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ 23، وفي الإسراء: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ﴾ 67.
- ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ﴾ البقرة 186.

اما الاستجابة فهي شيء آخر، فهي تعني توفير الأسباب وتنبيه الداعي لها:
- ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ 9الأنفال، وقد شعروا بمدد الله لهم، وعاينوا آثاره وهم يقاتلون الكفار، ويرون انهزامهم، وسقوط رموزهم قتلى.
- ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 83 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ 84الأنبياء، وقد تغيرت حاله فور الدعوة، بقول الله له:
﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ 42 وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ 43ص.
- ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ 87 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ 88 وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ 89 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ 90الأنبياء، وبالمثل كان الإنجاء لذي النون، وإعطاء علامة قبول الدعوة لزكريا بغياب النطق عنه لثلاث.
- وثمة استجابة ذات مغزى آخر، هي الوعد بسعادة الآخرة، وهذا ما نفهمه من الاستجابة في خواتيم آل عمران: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ 191 رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ 192 رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ 193 رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ 194 فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ 195﴾.




﴿وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي﴾:

إذا أريد بالاستجابة: امتثال أمر الله، فيكون: ﴿وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي﴾ عطفاً مغايراً والمقصود من الأمر الأول: الفعل، ومن الأمـر الثاني الدوام. أما إذا أريد بها ما يشـمل اسـتجابة دعـوة الإيمان، فذِكْـر: ﴿وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي﴾ عطف خاص على عام للاهتمام به .

القول في تأويل: ﴿وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي﴾:

حمله قوله: ﴿وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي﴾ على الأمر بإنشاء الإيمان، فيه بُعدٌ، لأن صدر الآية يقتضي أنهم مؤمنون، فلذلك يؤول على:
- الديمومة،
- أو على إخلاص الدين، والدعوة، والعمل،
- أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة
- أو بالإيمان وتوابعه،
- أو بالإيمان في: أني أجيب دعاءهم.




﴿لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ﴾:

رَشَدَ) الرَّاءُ وَالشِّينُ وَالدَّالُ) أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِقَامَةِ الطَّرِيقِ؛ فَالْمَرَاشِدُ: مَقَاصِدُ الطُّرُقِ، أما َالرُّشْدُ وَالرَّشَدُ فخِلَافُ الْغَيِّ. وَأَصَابَ فُلَانٌ مِنْ أَمْرِهِ رُشْدًا وَرَشَدًا وَرِشْدَةً .
وهو رشَدَ يَرشُد، رُشْدًا، فهو راشِد، والمفعول: مرشود (للمتعدِّي).
والرشَدَ: الهداية، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر 29، أو أصاب الحق، كما في قوله: ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ الجن 14.
وقريء:
- {يَرْشدون} (بكسر الشين، وبفتحها)، كما قريء:
- {يُرْشَدون} مبنياً للمفعول، كما قريء:
- {يُرْشِدُونَ} بضم الياء وكسر الشين من أَرْشد، والمفعولُ على هذا محذوفٌ تقديرُه: يُرْشِدون غيرَهم.
وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له، وبالإيمان به، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلاَّ وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه، وإنما ذلك مختص بك.

ما هو الرشد في العربية؟:

فِي أَسماء اللَّهِ تَعَالَى الرشيدُ :هُوَ الَّذِي أَرْشَد الْخَلْقَ إِلى مَصَالِحِهِمْ أَي هَدَاهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا، فَعِيل بِمَعْنَى مُفْعل؛ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَنْسَاقُ تَدْبِيرَاتُهُ إِلى غَايَاتِهَا عَلَى سَبِيلِ السَّدَادِ مِنْ غَيْرِ إِشارة مُشِيرٍ وَلَا تَسْديد مُسَدِّد. رَشَد الإِنسان (بِالْفَتْحِ)، يَرْشُد رُشْداً (بِالضَّمِّ)، ورَشِد (بِالْكَسْرِ)، يَرْشَد رَشَداً ورَشاداً، فَهُوَ راشِد ورَشيد، وَهُوَ نَقِيضُ الضَّلَالِ، إِذا أَصاب وَجْهَ الأَمر وَالطَّرِيقِ.
والراشدُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: رَشَد يَرْشُد رُشْداً، وأَرْشَدته أَنا. والرَّاشِدِونَ هم الخلفاء الأربعة، ومن سَارَ سِيرَتَهم مِنَ الأَئمة.
وأَرشَدَه اللَّهُ وأَرشَدَه إِلى الأَمر ورشَّده: هَدَاهُ. واستَرْشَده: طَلَبَ مِنْهُ الرُّشْدَ. وَالْإِرْشَادُ: الْهِدَايَةُ وَالدَّلَالَةُ. وقوله تعالى: ﴿يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ غافر 38، أَي: أَهدكم سبيلَ القصدِ سبيلَ اللَّهِ وأُخْرِجْكم عَنْ سَبِيلِ فِرْعَوْنَ. والمَراشِدُ: مَقَاصِدُ الطُّرُقِ.
والرُّشْدُ هو الاهتداء لمصالح الدِّين والدُّنيا؛ قال تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً ﴾ النساء 6، وقال: ﴿أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ 7 فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ الحجرات 8. وقريب منه قول القائل: الرُّشْدُ والرَّشد والرَّشَادُ: الهدى والاستقامة؛ ومنه قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ﴾.
وقد وردت كلمة "رشد" بمشتقاتها تسع عشرة مرة في القرآن الكريم، وغالب معناها يدور حول حسن التصرف والتدبير والاستقامة والحق والصواب ووضوح الهدى والإيمان. أما صيغها فهي: يرشدون، الرشد، رُشْدًا، رَشَدًا، مُرشدًا، رشيد، الراشدون، الرشاد، الرشيد، رشيد.






 
رد مع اقتباس
قديم 23-04-2022, 01:52 PM   رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ
فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦







حول مضمون الآية:

العلماء يفتتحون المسائل المهمة في كتبهم بكلمة: فإن قلت، وهو اصطلاح ربما استقوه من البيان القرآني، فالظاهر من اللفظ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ﴾ أنه يعلم ـ سبحانه وتعالىٰ ـ أنهم سيطرحون هذا السؤال. لذلك لا نرتاح للقول في أسباب النزول أنهم سألوا فأجيبوا بهذه الآية. والتجريد البديع للجواب من: "قل" على غير ما جاء في نحو: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ﴾ البقرة 189، وقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ۖ﴾ البقرة 220، قيل فيه كلام كثير. وكأن المولى ـ جل وعلاـ أبعد الواسطة بينه وبين عباده، فلم يقل "قل" لتقصر المسافة على العبد، وكأنه قال: إذا دعاني عبدي، وجدني قربه، ألبيه.

أما قوله: ﴿عِبَادِي﴾ بنسبة العباد إليه ـ تعالىٰ ـ ففيه ملمحان:
الملمح الأول هو تشريف العباد بالنسبة إلى رب العالمين، مما يفيد اعتناءه بهم، وحرصه ـ تبارك اسمه ـ على الحنو عليهم. أما الملمح الثاني فهو في مجيء لفظة: ﴿عِبَادِي﴾ بياء ظاهرة، خلاف ما جاء في نحو: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ الزمر 17. إن كلا اللفظتين مضافة إلى ياء المتكلم، لكن ﴿عِبَادِ﴾ حذفت منها ياء الإضافة، وعوض عنها بالكسرة. والقاعدة المعروفة في العربية أن زيادة المبنى تفيد زيادة المعنى، ولذلك فإن ﴿عِبَادِي﴾ أكثر من: ﴿عِبَادِ﴾ لأن حروف الأولى أكثر. وكل موضع في القرآن فيه: ﴿عِبَادِي﴾ يمثل الكثرة والعموم، بينما ﴿عِبَادِ﴾ يدل على قلة؛ فقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ أتبعه بقوله: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ الزمر 18، ولا يخفى أن هذه الفئة التي في هذا الوصف قلة قليلة، فقليل من العباد من يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ولنأتي بمثالين متقاربين:
1) ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ 56 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ 57العنكبوت.
2) ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ 10الزمر.
وثمة فروق:
1) آية سورة الزمر تدعو المؤمنين إلى التقوى، بينما آية سورة العنكبوت تدعوهم إلى العبادة، والعبادة أوسع من التقوى، فجاء المدلول الأوسع باللفظة كاملة، والأضيق حُذِفَ منها الياء.
2) آية الزمر بدئت بـ ﴿قُلْ﴾، فحصرت العباد الذين آمنوا في أتباع الرسالة الخاتمة، لكن آية العنكبوت تخاطب عموم المؤمنين، وتزيد في العموم الآية التالية عليها: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ 57﴾، فكان حق العموم أن يأخذ اللفظة الكاملة، وآية الخصوص اللفظة الأقصر.
3) آية الزمر فيها أمر بالتبليغ، وسياق السورة كله يدور حول التبليغ، إذ تكرر فيه أربع عشرة مرة، بينما سياق سورة العنكبوت مبني على ذكر النفس، ومنه آية المثال، فاقتضى السياق في المثال الأعم ذكر اللفظة دون حذف، والحذف في المثال الأخص.
إذا اتضح هذا، تبين ما في: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ من عموم لا يقف عند المؤمنين وحدهم، بل كل عباد الله بدون استثناء، ليجيبهم كلهم، وفي هذا منة عظيمة من الله لكل عباده، وما عليهم أينما كانوا، ومتى أرادوا، أن يلجأوا إلى رب العالمين، فيجيبهم.

وقال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ﴾، فجاء بالفاء في الجواب، لتفيد السرعة التي تتناسب مع هذا المدد الإلهي. ثم إنه أكّد قربه بـ "إنّ" المشددة التي تفيد التوكيد، ولم يقل: "فأنا قريب" لأنها غير مؤكدة. وقد بينا أنه لم يقل: "فقل" لأنه ـ تعالىٰ ـ تكفل بالإجابة مباشرة، دون حاجة العبد إلى واسطة للسؤال، على غير ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم: ﴿قَالُوا۟ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ البقرة 68، 69، 70، أو قوله: ﴿قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ﴾ الأعراف 134. إن باب الله مفتوح لعباده، وقد أظهر هذا المعنى بقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ﴾، وبكل ما فيها من دلالات القرب والرعاية.
وقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ﴾، ومثله: ﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ هود 61، وقوله: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ سبأ 50، فتح الباب للسؤال عن مكان الله. والإجابة الشافية هي: هو في كل مكان. يقول تعالى للدلالة على القرب: ﴿وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنكُمۡ وَلَـٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ 85الواقعة، فهو أقرب للمحتضر من الجالسين معه يشهدون لحظة موته. بل إنه عبر عن شدة القرب بقوله: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِیدِ 16ق، وهو في السماء، يقول: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ 16الملك، وقالوا في تفسير الآية: قال: ﴿مَّن فِي السَّمَاءِ﴾ أي: أمره وقضاؤه، يعنى أنه من التجوز في الإسناد، أو أن فيه مضافاً مقدراً، وأصله: من في السماء أمره، فلما حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر، وقيل على تقدير: خالق من في السماء. وقيل: هو إشارة إلى الملائكة، وقيل: إلى جبريل الموكل بالعذاب.
وهو في السماء والأرض، لقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ﴾ الزخرف 84، أي: هو المستحق للعبادة في السماء والأرض، خلافاً لشرك المشركين.
ومن ثوابت العقيدة عند المسلمين أن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان؛ لأن المكان والزمان مخلوقان، وتعالى الله سبحانه أن يحيط به شيء من خلقه؛ بل هو خالق كل شىء، وهو المحيط بكل شىء. ومن لطيف ما قيل في الله ما نقله الإمام السبكي فى "الطبقات" عن الإمام جعفر الصادق، قوله: من زعم أن الله فى شيء أو من شيء أو على شىء فقد أشرك؛ إذ لو كان فى شيء لكان محصوراً، ولو كان على شىء لكان محمولاً، ولو كان من شىء لكان محدثاً. أما ما ورد من النصوص الدالة على علو الله عز وجل على خلقه فالمراد بها علو المكانة والشرف والهيمنة والقهر؛ لأنه تعالى منـزه عن مشابهة المخلوقين، وليست صفاته كصفاتهم، وليس فى صفة الخالق ما يتعلق بصفة المخلوق من النقص، بل له جل وعلا من الصفات كمالها ومن الأسماء حسناها.
لكن هذا الاعتقاد ـ على وضوح لفظه وبساطة معناه ـ يخالفه الناس، حتى فيما يدللون به على تفرده ـ تعالىٰ ـ عن خلقـه، فيقعـون في الخلط، نحـو قـول قائل: "فإذا سـألنا إنسان: أين الله؟ أجبنـاه بأن الله ســبحانه: ليس كمثله شـىء، كما أخبر عن نفسـه فى كتابه العزيـز: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 11الشورى والإجابة بـ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ﴾ ليست للسؤال عن مكان الله، بل للسؤال عنه: كيف هو؟ ومن البدهي أن السؤال عن كنه الله لا يجوز، وهو السؤال الوحيد الذي يجب ألا يسئل، لأنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ﴾ يقاس الجواب عليه. أما غير هذا فباب السؤال مفتوح، وجواب كل سؤال ـ عدا السؤال عن وصفه ـ في آيات الله.
أما عن السؤال عن الله سبحانه وتعالى بـ"أين" كمسألة عقائدية، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حكى عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ الصافات 99، وهو كان منتقلاً من أرض الشرك، إلى أرض يعبد الله فيها. ومعنى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ النساء 158، في حق المسيح: رفعه إلى حيثُ لا حُكْمَ فيهِ لغيرِ الله.
وكذا على المجاز تؤول كل صفة لله يشترك معه فيها خلقه كالعلم، والسمع، والبصر، وكل فعل كالنزول، والاستواء، والمجيء.

ولما كان الله قريب بالذات من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، استشكل هذا المعنى على طائفة من المتصوفة، فقالوا بوحدة الوجود، وأن الموجود الحقيقي ولا غير هو الله، بل هو متجل في صور المخلوقات التي نراها كلها، فالوجود هو عين الله عز وجل، ويسمون أنفسهم بـ "الاتحادية" لأنهم يؤمنون أن الله عز وجل متحد بالمخلوقات جميعها، بحيث أصبح الوجود واحداً وليس وجوداً متعدداً. فابن عربي ينكر عالم الظاهر ولا يعترف بالوجود الحقيقي إلا لله، فالخلق هم ظل للوجود الحق فلا موجود إلا الله فهو الوجود الحق، ويقرر أنه ليس ثمة فرق بين ما هو خالق وما هو مخلوق. وحقيقة مذهبه أنّ وجود الكائنات - حتى وجود الكلاب والخنازير، والأنتان والعَذِرات والكفار والشياطين - هي عين وجود الحق، وأنَّ أعيان الكائنات ثابتة في القِدم، لم يخلقها الله ولم يُبدعها، بل ظهر وجوده فيها، ولا يمكن أن يظهر وجوده إلا فيها، فهي غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤها بالوجود، وهو يعبدها وهي تعبده .وأن عين الخالق هو عين المخلوق ، وعين الحق المُنزَّه هو عين الخلق المُشبَّه، وأن الناكح هو المنكوح، والشاتم هو المشتوم، وأن عُبَّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله ، ولا يمكن أن يُعبد إلا الله. وأن قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ الإسراء 23، أي: حَكَم وقدَّر، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فما عُبِد غير الله في كلّ معبود. وأن عُبَّاد الأصنام وقع تقصيرهم من حيث عبدوا بعض المجالي الإلهية، ولو عبدوا كلَّ شيءٍ لكانوا عارفين كاملين، وأن العارف الكامل يعلم ما عَبَد وفي أيِّ صورة ظهر حتى عُبِد، وأن نوحًا ـ عليه السلام ـ أثنى على قومه بلسان الذمّ، وأن أعيان المخلوقات هي نفس الخالق، وأن موسى ما عَتَبَ على هارون لمَّا ذمَّ قومه على عبادة العجل إلا لضيق هارون حيثُ لم يعرف أنهم إنما عبدوا الله! وأن السحَرَة عرفوا صدق قول فرعون: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ النازعات 24، و ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ القصص 38 .
ودعا ابن سبعين إلى وحدة فلسفية عَرَّفَها بـ "الصدور الفيضي"، وحقيقتها: أن وجود الحق هو الثابت بـدءاً، وأنه مادة كل شـيء، والخلق منبثـق منه فائـض عنه، وهو وإن قـال: بأن الوجـود واحـد، فهو يقول بالاتحاد والحلول من هذا الوجه، لأن معنى كلامه أن الحق محل للخلق. وأما العفيف التلمساني فازداد إيغالاً على سابقيه، فلم يفرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين، بل عنده ما ثم سوى ولا غير بوجه من الوجوه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر في البحر وأجزاء البيت من البيت.
ومن أقوالهم:
- وحدة الوجود تعني أن ألا موجود إلا الله، فالموجود كله الله، ووجود ما سواه وهمٌ وخيال.
- التفريق بين العبد والمعبود هو الشرك عينه.
- العبد قبل وجوده كان هو الرب باطناً ، والرب هو العبد ظاهراً.
- أوقفنا على سر الوحدة ، حيث بين لنا أن العشق والمعشوق والعاشق كلها شيء واحد.
ومن شعرهم الدال على مذهبهم قول الحلاج:
قَد تَصَبَّرتُ وَهَل يَصـ ..... بِرُ قَلبي عَن فُؤادي
مازجَت روحُكَ روحي ..... في دُنُـوّي وَبِعـادي
فَأَنــــا أَنـتَ كَمـــا أَنَّـك ..... أُنســــي وَمُـــرادي
وقوله:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنـا ..... نَحـنُ روحـانِ حَلَلنـــا بَدَنـا
نَحنُ مُذ كُنَّا عَلى عَهدِ الهَوى ..... تُضـرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَـإِذا أَبصَـــــرتَني أَبصَــــرتَهُ ..... وَإِذا أَبصَــــرتَهُ أَبصَرتَنـــا
أَيُّهـــا الســائِلُ عَـن قِصَّتنـــا ..... لَــو تَـرانا لَـم تُفَــرِّق بَينَنـا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ ..... مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا
ولا شك أن هذا الفكر تأباه الفطرة السليمة، وهو يخالف النصوص الشرعية المعتبرة، ولذلك هم يخفونه، مخافة أن يؤخذون به، ويَدَّعون أنه علم خاص، لا يكشف إلا لخاصة الخاصة. وكلامهم يبطل الدين من أصله، فكل أحد عندهم على صراط مستقيم، والوعيد لا يقع منه شيء، وعلى تقدير وقوعه، فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة. ومن الغريب أن نجد لقول ابن عربي بإيمان فرعون، انعكاساً له على قول البعض اليوم بأن فرعون من أهل الجنة!.
وبطلان هذه العقيدة أمر متفق عليه بين العلماء، لم يختلفوا في أنها عقيدة كفر وشرك، ودعوا إلى محاربتها ومكافحتها؛ لما تشتمل عليه من إلغاء للتوحيد الحقيقي الذي هو لب دين الإسلام وخلاصته.
والأدلة على بطلانها في الكتاب والسنة والعقل لا تعد ولا تحصى، فمن ذلك قول الله عز وجل:
- ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ الزخرف 15، فانظر كيف حكم الله عز وجل بكفر من جعل له من عباده جزءا، ونسب إليه شيئاً من خلقه، فكيف يكون الحكم إذن فيمن ساوى بين الخالق والمخلوق في الوجود؟!
- ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ 158 سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ 159الصافات، كيف لمسلم أن يدعي وحدة الوجود وهو يؤمن أن الله خالق كل شيء، فكيف يجمع بين الخالق القديم الأزلي والمخلوق المحدث؟!.
- ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ مريم 9، وقوله: ﴿أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ مريم 67، ومن يقرأ القرآن يجد أن من البدهيات المسلمات في جميع أنساق القرآن الكريم وخطاباته أن المخلوق غير الخالق.
- ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ النحل 73، ففرق المولى بين ذاته العليا وغيره من خلقه.
فمن خالف هذا فقد ناقض قطعيات القرآن والدين. ثم إن ما يلزم من دعوى وحدة الوجود من لوازم شنيعة كافية للكفر بهذه العقيدة الباطلة، فمن آمن بها يؤول به الحال إلى استحلال الفواحش، والتسوية بين الإيمان والكفر، بدعوى أن العقائد كلها تؤول إلى الإيمان بوجود واحد على حد زعمهم، وتؤدي أيضاً إلى أن ينسب اللهَ جل جلاله إلى أخس الخلق وأقذر الموجودات من النجاسات والدواب وغيرها، تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً .






 
رد مع اقتباس
قديم 24-04-2022, 01:38 PM   رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ
فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦







حول مضمون الآية:

ثم قال: ﴿أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ: أجيب بنفسي من غير واسطة ﴿إِذَا دَعَانِۖ وتوجه إلي وحدي في طلب حاجته. والمعنى أنه يجب أن يدعى وحده بدون واسطة، لأنه هو الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه بدون واسطة، وهو الذي يجيب دعوته وحده بدون واسطة تعينه أو تساعده أو تنوب عنه في الإجابة وقضاء الحاجة أو تؤثر في إرادته. وقد فسروا الدعوة بطلب الحاجات وقالوا: إن ظاهر الآية أن الإجابة وصف لازم لله تعالى وأنه يجيب كل داع، وليس الأمر كذلك كما هو ثابت بالمشاهدة.وأجابوا بأن المراد أن من شأنه الإجابة فهو يجيب إن شاء كما قال في آية أخرى: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَالأنعام 41. وأجاب بعضهم بأن الإجابة أعم من إعطاء السؤال، وقد ورد في الحديث الصحيح أن الإجابة تكون بإحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له، وإما أن يكف عنه من السوء مثلها. ولا حاجة إلى التأويل إذ لا محل للإشكال؛ فإن الآية سيقت لبيان أن الله تعالى قريب من عباده المتوجهين إليه، فلا حاجة بهم إلى الصياح بتكبيره ودعائه، ولا إلى أن يتخذوا وسطاء بينهم وبينه في التوجه إليه وسؤال رحمته وفضله، بل يجب أن يصمدوا إليه وحده، فإنه هو الذي يجيب دعاءهم وحده.
وأما كيفية إجابته إياهم فليس من موضوع الآية، ولا شك أن العارف بالله تعالى والعالم بشرعه وبسننه في خلقه لا يقصد بدعائه ربه إلا هدايته إلى الطرق والأسباب التي جرت سنته تعالى بأن تحصل الرغائب بها، وتوفيقه ومعونته فيها، فهو إذا سأل الله تعالى أن يزيد في علمه أو في رزقه أو يشفي مرضه أو مريضه، فإنه لا يريد بذلك أن يخرق الله العادات، أو يجعله مؤيداً بالمعجزات والآيات، وإنما يريد المؤمن العارف بالدعاء ما يصلح دنياه أو آخرته، والله أعلم بما يصلحه، فإن أعطاه، أو منعه، فإنما في اختيار الله له الخير. ولا دليل في الآية على أن كل دعاء يجاب، بل هي نفسها دليل على أنه لا يجيب الدعاء إلا الله، فيجب ألا يدعى سواه. والتقييد في قوله: ﴿إِذَا دَعَانِۖ﴾ يعني: إذا خصني بالدعاء والتجأ إلي التجاء حقيقياً بحيث ذهب عن نفسه إليَّ، وشعر قلبه بأنه لا ملجأ له إلا إليّ، وسلك في دعائه الطرق الصحيحة، وهي لا تتحقق إلا بالعلم والعزيمة والعمل. فإن تم للعبد ما يريد بذلك فقد أعطاه الله تعالى من خزائنه التي يفيض منها على جميع متبعي سننه في الخلق، وإن بذل جهده ولم يظفر بسؤله فما عليه إلا أن يلجأ إلى مسبب الأسباب وهادي القلوب إلى ما غاب عنها وخفي عليها، ويطلب المعونة والتوفيق ممن بيده ملكوت كل شيء. فإن سلمت النية، وصلحت الوسيلة، فالدعاء مجاب لا محالة. أما المريض الذي لا يلتمس الدواء، ويكتفي بالدعاء: رب اشفني وعافني، فكأنما يقول: اللهم أبطل سننك التي قلت: إنها لا تبدل ولا تحول لأجلي. أما أن يعطي الله من شاء ما شاء، بأسباب يسخرها هو، فهذا شأنه ـ تعالىٰـ لكنه لا يقاس عليه.

وقوله تعالى: ﴿إِذَا دَعَانِۖ فاستعمل حرف الشرط: ﴿إِذَا ولم يأتِ بـ: "إن" الشرطية، في إشارة إلى أن العبد مطلوب منه أن يكثر الدعاء. إن "إذا" آكد من "إن" التي تأتي في الأمور المشكوك فيها والنادرة والمستحيلة، يقول تعالى:
1) ﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُالبقرة 180،
2) ﴿وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۖ البقرة 196،
3) ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ٨١الزخرف.
أما إذا فتأتي للمقطوع بحصوله، ولذلك جاءت كل آيات القيامة الشرطية بـ ﴿إِذَا:
- ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوهَاالزمر 71، 72،
- ﴿فَإِذَا جَاۤءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِیَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ 78 غافر،
- ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا 1 الزلزلة.
كما تأتي في الأمر كثير الوقوع، نحو قوله تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَـٰشِعَةفَإِذَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡهَا ٱلۡمَاۤءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ فصلت 39، وقوله: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَوٰةِ مِن یَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡا۟ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُوا۟ ٱلۡبَیۡعَۚ الجمعة 9. وقد جمعتهما الآية الكريمة من سورة النساء: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ25، فجيء بـ "إذا" في الأكثر وهو الإحصان، وبـ "إن" في الأقل، وهو أن تأتي بعض المحصنات بفاحشة.
فإذا فهم هذا، علمنا أن استعمال ﴿إِذَا في الآية للحث على كثرة الدعاء، والإلحاح عليه، على عكس لو قال: "إذا دعانِ" فإنها تدل على الندرة. وقد كثر في الموروث تحبيب الناس في الدعاء، وأن الله يغضب إذا أهمل عبده دعاءه.
ثم إن في الفعل في قوله: ﴿إِذَا دَعَانِۖ﴾ ملمحاً آخر، وهو حذف الياء، نظير حذفها في: ﴿ٱلدَّاعِ﴾، فجاء الاختصار في اللفظ ليفيد سرعة الدعاء وسرعة الإجابة. ومثله: ﴿وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّدُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ الإسراء 11، فحذف الواو دل على أَنَّهُ سَهْلٌ عليه ويسارع فيه، كما يعمل في الخير، وإتيانه الشر إليه من جهة ذاته، أقرب إليه من الخير. ونظيره قوله تعالى: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ18 العلق، إذفِيهِ سُرْعَةُ الْفِعْلِ وَإِجَابَةُ الزَّبَانِيَةِ وَقُوَّةُ الْبَطْشِ. وهذا على عكس: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لَا عِوَجَ لَهُطه 108، أيْ: يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ يَوْمَ يَنْسِفُ رَبُّكَ الجِبالَ، أيْ: إذا نُسِفَتِ الجِبالُ نُودُوا لِلْحَشْرِ فَحَضَرُوا يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ لِذَلِكَ، وأياً كان الداعي، فالموقف موقف تهيئة للحساب وهو موقف طويل كما ورد في النصوص، فاقتضى ذلك الإتيان بلفظة ﴿الدَّاعِي مثبتة فيها الياء.

وجاء بسياق الشرط ﴿إِذَا دَعَانِۖ بعد ﴿أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ، بتركيب مقلوب؛ فالمألوف أن يقال: ﴿إِذَا دَعَانِۖ﴿أُجِيبُ دعوته. لكن تقديم الإجابة يفيد وقوعها حتى قبل سؤالها. هذا هو البيان القرآني العجيب. وكأن هذا التركيب : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ يشير إلى حضور الله ـ سبحانه ـ بمجرد أن يُطلب، وهو واجب الوجود في كل زمان ومكان، ووجوده قبل الأزل وبعد الأبد وما بينهما.
وقد بينا بالآيات أن استجابة الله هي إجابته للدعاء مع توفير الأسباب وتنبيه الداعي لها، فيوسف ـ عليه السلام ـ دعا ربه: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚيوسف 34، فرأى يوسف إجابة دعائه بعينيه، وقد كُفي كيدهن.
أما استجابة المؤمنين لله في قوله تعالى: ﴿فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي فقالوا: إن الاستجابة هي الإجابة بعناية واستعداد، أو هي مبالغة الإجابة. وتكون بتحري ما أمرهم به صالح الأعمال وإخلاص العبادة، مع الإيمان به. وقيل: ﴿فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي أي: فليدعوني، أو: فليطلبوا أن أجيبهم، أو فَلْيُجِيبُوا إِلَيَّ فِيمَا دَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ، أَيِ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ. وقال المفسرون في الأمر بالإيمان هنا: إنه أمر بالمداومة عليه؛ لأن الخطاب للمؤمنين. غير أن الظاهر من منطوق الآية أن الخطاب عام، لأن قوله: ﴿عِبَادِي يشمل كل عباده. وقد جمع بين الاستجابة والإيمان، لأن من الناس من يعمل ولا يؤمن، فبين ضرورة اقتران الإيمان بالعمل.وإن حظ من استجاب لله وللرسول من الإيمان أن يحاسب نفسه ويطالبها بأن تكون أعماله الظاهرة التي عد بها مسلماً صادرة عن الإيمان اليقيني والاحتساب والإخلاص لله تعالى.

ومقتضى الظاهر أن يقال في الفاصلة: ﴿وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ وتدعون فأستجيب لكم، إلاّ أنه عدل عنه ليحصل في خلال ذلك تعظيمُ شأن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسأله المسلمون عن أمر الله تعالى. والإشارةُ إلى جواب من عسى أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الله وكيفية دعائه، وليكون نظم الآية مؤذناً بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال: وإذا سألوا عن حقهم عليَّ فإني قريب منهم أجيب دعوتهم، وجُعل هذا الخير مرتباً على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا هل لنا جزاء على ذلك؟ وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أدباً مع الله تعالى فلذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَالصريح بأن هذا سيقع في المستقبل. ويأتي هذا التعليل: ﴿لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَبعد تعليلين آخرين في آيات الصيام، هما: ﴿لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ و ﴿وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥﴾، وجاء بعد هذه الآية تعليل كالأول، لكن بصيغة الغياب: ﴿لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ ١٨٧﴾، فهي التقوى والشكر والرشد، وكلها في خمس آيات متحدثة عن الصيام وآية الدعاء هذه. أما سبب إتيانها وسط آيات الصيام، فقال العلماء أنه يفيد أن وقت الصيام مِن آكد أوقات استجابة الدعاء. غير أن المتأمل في السياق، يدرك أن غاية الصيام النهائية هي الوصول بالصائم إلى التقوى، وهو مطالب بشكر الله تعالى على نعمه الكثيرة، ومنها هذه التشريعية، بما فيها مبدأ التيسير. إن الصيام يهذب سلوك الإنسان ويشعره بقيمة نعم الله، ويصفي روحه، مما يزيد من حسن الظن بالله، والثقة في وعده بالثواب والجزاء. وفوق هذا وأهم، أنه يشعر بمعية الله وعنايته به. وإذا فهم هذا كان حرياً به أن يدعو فيَحْسُنُ الدعاء رجاء بالله ـ تعالىٰـ وهذا من كمال رشد الإنسان.
إن الله
ـ تعالىٰ ـ لا يريد بالإنسـان أكثر من أن يعرف ما يصلحه، ويهتدي إلى الصراط المسـتقيم؛ بأن يحافظ على الفطرة التي فُطِر عليها. ولابد له من رشد مرتبط بعقل صاف ونفس مطمئنة واثقة بربها، تحسن الظن به وتطلب العون منه، ليكون عبداً ربانياً، وأروع صور العبودية لله أن يُظهِر العبد المسكنة لله ـ تعالىٰ ـ ويذل له، والدعاء يكشف عن هذا كله. إن الرشد منزلة لا يرقى إليها إلا العاقل المسؤول، وبالراشدين ـ حقاً ـ تبنى الأمم، وعلى أكتافهم تنهض وترقى. وإن مدرسة الصيام "مفرخة" لأجيال من الراشدين وأولي النهى، ممن يستشعرون أهمية هذا الدين، وخطر العمل له. وإذا أحسن الناس الصيام على وجهه، ولجأوا إلى الله رجاء التأييد والدعم، وأنه هو وحده القادر، تحققت غايات الصيام الروحية، وكانوا من الراشدين.







 
رد مع اقتباس
قديم 24-04-2022, 09:21 PM   رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ ١٨٧








﴿أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ﴾:

مناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم، ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه: كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا، اقتضى عموم التشبيه في الكتابة، وفي العدد، وفي الشرائط، وسائر تكاليف الصوم. ثم إنه انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام، ولأجل هذا الانتقال فُصلت الجملة عن الجمل السابقة.
والجمهورُ على ﴿أُحِلَّمبنياً للمفعولِ للعلمِ به، وهو اللَّهُ تعالى، وقريء مبنياً للفاعلِ، من باب الإِضمارِ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ، لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّل والمحرِّم. أو أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قولِهِ: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾ وهو المتكلمُ، ويكونُ ذلك التفاتاً.
وكذلك في قوله ﴿لَكُمۡالتفاتٌ من ضميرِ الغَيْبة في: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ﴾ و ﴿وَلْيُؤْمِنُواْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ: منصوبٌ على الظرفِ، وناصبه على الأرجح مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ ﴿ٱلرَّفَثُ﴾، تقديرُه: أُحِلَّ لكم أن تَرْفُثوا ليلة الصيامِ.
ولَيْلةُ الصيام: الليلةُ التي يعقبها صيام اليوم التالي لها جرياً على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم التالي لها، إلاّ ليلةَ عرفة، فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة.
وأضيفت الليلة اتساعاً، لأن مِنْ حَقِّ الظرف المضاف إلى حَدَثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدثُ في جزء من ذلك الظرف، والصيامُ ليس في الليل. أو تقول: الليلة: عبارةٌ عمَّا بين غروب الشَّمس إلى طلوعها، ولمَّا كان الصَّيام من طلوع الفجر، فكان بعضُهُ واقعاً في اللِّيل فساغ ذلك.
وقد أراد بليلة الصِّيام: ليالي الصِّيام، فأوقَعَ الواحد موقع الجماعة؛ ومنه قولُ العبَّاس بن مرداسٍ:
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ..... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ
وفيه وجهٌ آخرُ، وهو أنَّه ليس المراد من "لَيْلَةَ الصِّيَامِ" ليلةً واحدةً، بل المراد الإشارةُ إلى اللَّيلة المضافة إلى هذا الحكم.
والأصل في ﴿ٱلرَّفَثُ﴾ أن يتعدى بالباء. وتعديته بـ ﴿إِلَىٰ﴾ ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء، كأنه قال: أُحِلَّ لكم الإِفضاءُ إلى نسائِكم بالرَّفَث.
والرَّفَثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفُث إذا تكلم بالفُحْشِ، فهو في حقيقته: الكلام مع النساء في شؤون الالتذاذ بهن، ثم أطلق على الجماع كناية. وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر. وأَرْفَثَ أتى بالرَّفَثِ، قال العجاج :
ورُبَّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ .....عـن اللَّغــــا وَرَفَـثِ التكلُّــم
وقيل: إن الرفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ من المرأة. وقيل: الرفث: الجِماعُ نفسُه، وأنشد:
ويُرَيْنَ من أَنَسِ الحديثِ زوانيا ..... ولَهُنَّ عن رَفَثِ الرجــالِ يفارُ
وقول الآخر:
فَظِلْنَا هنالِكَ في نِعْمَةٍ ..... وكلِّ اللَّذاذَةِ غيرَ الرَّفَثْ
ولا دليل فيه لاحتمالِ إرادة مقدمات الجِماع كالمداعَبَةِ والقُبْلَةِ.
وقريء: {الرَّفوث}.
والنساء: جمع الجمع، وهو نسوة، أو جمع امرأة على غير اللفظ. وأضاف "النساء" إلى المخاطبين لأجل الاختصاص، إذ لا يحل الإفضاء إلاَّ لمن اختصت بالمفضي.

ما قيل في بيان سبب النزول:

ذكروا في سبب نزول هذه الآية: أنه كان في أوَّل الشَّريعة يحلُّ الأكل والشُّرب والجِماع ليلة الصِّيام، ما لم يرقُدِ الرجل ويصلِّي العشاء الأخيرة، فإن فعل أحدهما: حرم عليه هذه الأشياء إلى اللَّيلة الآتية، فجاء رجُلٌ من الأنصار عشيَّةً، وقد أجهده الصَّوم، واختلفوا في اسمه؛ فقال معاذٌ: اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة، وقال عكرمة: أبو قيس بن صرمة، وقيل صرمة بن أنس، فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سبب ضَعْفِهِ، فقال: يا رسول الله، عملت في النَّخل نهاري أَجْمَعَ، حتَّى أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي لتطعمني شَيْئاً، فَأَبْطَأتْ، فنمت فَأَيْقَظُونِي، وَقَدْ حَرُمَ الأَكْلُ؛ فَقَامَ عُمَرُ - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله إنِّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطية؛ إنِّي رجعت إلى أهلي بعد ما صلَّيت العشاء، فوجدت رائحةً طيِّبةً فسوَّلت لي نفسي، فجامعت أهلي، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ما كنت جديراً بذلك يا عمر، فقام رجالٌ، فاعترفوا بمثله، فنزل قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ﴾.

ومثل هذا الكلام المضطرب، جاءت روايات، نحو:
- ما وراه أبو داود عن معاذ بن جبل: كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العِشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء عُمر يريد امرأتْه فقالت إني قد نمت فظن أنها تعْتَلُّ فباشرها.
- وروى البخاري عن البراء بن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته حتى نسخنَ لك شيئاً فنام، فجاءت امرأته فوجدته نائماً فقالت: خيبةً لك، فبقي كذلك. فلما انتصف النهار أغمي عليه من الجوع.
- وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري عن حديث البراء بن عازب قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ ...﴾ ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث، فقيل كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكماً مشروعاً بالسُّنة ثم نسخ.

هذا قول جمهور المفسرين. واحتجَّوا بوجوه:
1) قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ البقرة 183، يقتضي تشبيه صومنا بصومهم، وقد كانت هذه الحرمة ثابتةً في صومهم؛ فوجب أن يكون التشبيه ثابتاً في صومنا، لقصد أن يكون منسوخاً بهذه الآية الكريمة.
2) قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ﴾ ولو كان هذا الحلُّ ثابتاً لهذه الأُمَّة من أول الأمر، لم يكن لقوله: "أُحِلَ لَكُمْ" فائدةٌ.
3) قوله سبحانه: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ولو كان ذلك حلالاً لهم، لما احتاجوا إلى أن يختانوا أنفسهم.
4) قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ وَلَوْلاَ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّماً عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا على المعصِيَةِ؛ بِسَبَبِ الإقْدام على ذلك الفعل، لما صحَّ قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾.
5) قوله تعالى: ﴿فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ ولو كان الحلُّ ثابتاً قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله تعالى: ﴿فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ فائدةٌ.
6) ما روي في سبب النُّزُول.

لكن أبا مسلم الأصفهاني أنكر أن يكون هذا نسخاً لشيء تقرر في شرعنا وقال: هذه الحرمة ما كانت ثابتةً في شرعنا ألبتَّة، بل كانت ثابتةً في شرع النصارى، فنسخ الله تعالى بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم. أي إنه نسخ لما كان في شريعة من قبلنا. وما شرع الصيام إلاّ إمساكاً في النهار دون الليل فلا نحسب أن الآية إنشاء للإباحة، ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار، والمقصود منها إبطال شيء توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلاّ أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام، وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي، ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضاً مانعاً من الأكل والجماعِ إلى وقت السحور، وإن وقت السحور لا يباح فيه إلاّ الأكل دون الجماع، إذ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة.
ورده على أدلتهم:
1) في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ البقرة 183: التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل الوجوب.
2) وفي قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ﴾: أنَّا لا نسلِّم أنَّ هذه الحرمة كانت ثابتةً في شرع من قبلنا، فقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ معناه: أُحِلَّ لَكُمْ ما كان مُحَرَّماً على غيركم.
3) وفي قوله سبحانه: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ إنَّ تلك الحرمة كانت ثابتةً في شرع عيسى - عليه السلام - ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا، ولم ينقل زوال تلك الحرمة، فكان يخطر ببالهم أنَّ تلك الحرمة باقيةُ علينا، لأنَّه لم يوجد في شرعنا ما دلَّ على زوالها، وممَّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ وكان مما كتب على الذين من قبلنا هذه الحرمة؛ فلهذا كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا، فشدَّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور، فقال تبارك وتعالى: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أُبَيِّنْ لكم إحلال الأكل والشُّرب والمباشرة طوال اللَّيل، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذَّاتها ومصلحتها؛ بالإمساك عن ذلك بعد النَّوم؛ كسُنَّة النصارى، وأصل الخيانة: النَّقصُ.
4) وفي قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾: إن التوبة من العبد :الرُّجُوع إلى الله تعالى بالعبادة، ومن الله سبحانه: الرُّجُوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز، فبيَّن الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما كان ثقيلاً على من قبلنا، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ قال صلى الله عليه وسلم: "عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ "وقال: "فِي أَوَّلِ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ"، والمراد منه التخفيف بتأخير الصَّلاة إلى آخر الوقت؛ ويقال أتاني هذا المال عفواً، أي: سهلاً.
5) قوله تعالى: ﴿فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾: إنهم كانوا بسبب تلك الشُّبهة ممتنعين عن المباشرة، فبيَّن الله تعالى ذلك، وأزال الشُّبهة بقوله: ﴿فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾.
6) ما روي في سبب النُّزُول: إنَّ في الآية الكريمة ما يدلُّ على ضعف هذه الرِّواية؛ لأن الرواية أنَّ القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك خلاف قوله تعالى: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾؛ لأنَّ ظاهره المباشرة، لأنَّه افتعالٌ من الخيانة.
وبالدليل العقلي: ليس من شأن الدين الذي شرع الصيام شهراً على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفاً على المسـلمين، أن يفرضه بعد ذلك ليـلاً ونهـاراً فلا يبيح الفطـر إلاّ سـاعات قليلة من الليل، ثم يعـود للتخفيف بإباحة ما كان محرماً خلال فترة قصيرة محدودة.
إن الرأي الأولى في هذه المسألة هو أن هذا التضييق كان من شرع من قبلنا، وقد جاء التشريع الإسلامي منذ بداية فرض الصيام بنسخه. وهذا هو نوع النسخ الوحيد الذي نقول به في كتاب الله، أما ما عدا ذلك فهو عجز عن التوفيق بين الآيات إن ظُنَّ أن في بعضها شبهة تعارض.






 
رد مع اقتباس
قديم 25-04-2022, 01:55 PM   رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: نظرات في آيات الصـوم

﴿أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ ١٨٧










لِمَ كَنَّى هاهنا عن الجماع بلفظ ﴿ٱلرَّفَثُ؟:

تبين لنا قبح معنى "الرفث"، فلِمَ كَنَّى هاهنا عن الجماع بلفظه؟ خاصة وقد ورد الجماع في التنزيل في مواضع أخرى بألفاظ أخرى:
- ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهَنَّ﴾ البقرة 222.
- ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ البقرة 223.
- ﴿مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ البقرة 237.
- ﴿وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ﴾ النساء 21.
- ﴿فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ النساء 23.
- ﴿فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ النساء 24.
- ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ﴾ النساء 43.
- ﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا﴾ الأعراف 189.
والجواب: أنَّ السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة؛ كما سمَّاه اختياناً لأنفسهم. وكأنه جل جلاله يصف الفعل من وجهة نظرهم، وقد كانوا يرونه تعدياً وانتهاكاً لحرمة الله. ومادة: "رفث" لم ترد في التنزيل إلا في موضعين، هذا الأول، وفيه ظن لحرمة، والثاني في الحج: ﴿فَلَا رَفَثَ﴾ البقرة ١٩٧، قالوا: وفيه نهي عن كُلُّ قَوْلٍ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ.





﴿هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ﴾:

هذه جملة مستأنفة لسبب الإحلال، سـيقت لبيان سبب الحكم; أي: إذا كان بينكم وبينهن هذه الملابسة والمخالطة، فإن اجتنابهن عسر عليكم، فلهذا رخص لكم في مباشرتهن ليلة الصيام؛ فجعل عدم الصبر عنهنّ لكونهنّ لكم في المخالطة كاللباس. وهي كالعلة لما قبلها، أي: أحل لعُسر الاحتراز عن ذلك. ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع، لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتاً ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالبعد عن المرأة. وقيل: اللباس هنا مصدر "لابسه" بمعنى: خالطه وعرف دخائله، لا بمعنى ما ورد من إطلاق اللباس والإزار على المرأة. وذهب كثير من المفسرين إلى أنه كناية عن المعانقة، واستشهدوا له النابغة الجَعْدِي:
إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها ..... تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
وقال بعضهم: إنه كناية عن الستر المقصود من اللباس؛ لأن كلا من الزوجين ستر للآخر وإحصان له، وهو بمعنى الغشيان والتغشي من ألفاظ الكناية عن وظيفة الزوجية.
وقيل: اللباس، أصله في الثوب، ثم استعير في المرأة. يقال للمرأة: هي لباسك، وفراشك، وإزارك لما بينهما من الممازجة. ولما كانا يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه في العناق، شُبِّه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان.
وهي اسـتعارة بجامع شـدة الاتصال حينئذٍ، وقد أحياهـا القرآن، لأن العرب كانت اعتبرتهـا في قوله: لابَسَ
الشيءُ الشيءَ، إذا اتصل به، لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلـة حقيقةً عُرفية، فجاء القـرآن فأحياها وصيَّرها اسـتعارة أَصلية جديدة، بعد أن كانت تبعية منسـية، فقال النابغة الجَعْدِي:
لَبِسْتُ أُناساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ..... وَأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
وقريبٌ منه قول امريء القيس من قبل:
فسُلِّي ثيابي من ثيابكِ تَنْسِلِ
وإنما وحَّد "اللِّباس" بعد قوله تعالى: ﴿هُنَّ﴾؛ لأنه يجري مجرى المصدر، و "فِعَالٌ" من مصادر "فَاعَلَ"، وتأويله: وهُنَّ ملابساتٌ لكم.

ورود لفظ " اللِّبَاسِ " في التنزيل:

ورد على أربعة معانٍ:
1) السَّكَن؛ كهذه الآية.
2) الخلط: قال تبارك وتعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ 82 الأنعام، أي: لم يخلطوا.
3) العمل الصالح: قال تعالى: ﴿وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ الأعراف 26، أي: عمل التقوى.
4) اللِّباس بعينه: قال تعالى: ﴿يَابَنِيۤ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً الأعراف 26.

لِمَ قدّم: ﴿هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ على قوله: ﴿وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ؟:

لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها، والرجل هو البادئ بطلب المخالطة، ولا تكاد المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن.

ما مدلول: ﴿هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ﴾؟:

شرع الله - سبحانه وتعالى - التزاوج للبشر، كضرورة طبيعية، مثل غيره من الكائنات. لكن الهدف منه في غير الإنسان هو غريزي محض للحفاظ على النوع، بينما يتعدى ذلك عند الإنسان إلى ما هو أكثر من ذلك وأهم. والإنسان يتجه للنكاح الذي أنعم به المولى - سبحانه - على البشر ليقوّم به رغباته، فقال جل وعلا: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً النحل 72. وقد قيد الله العلاقة الزوجية بأُطرٍ شرعيةٍ منضبطة من خلالها يستطيع الإنسان أن يحقق رغباته بطريقة تليق بمروءته وكرامته كإنسان، وبما تختلف حياته عن البهائم التي يغلب عليها طابع العشوائية في نظام حياتها. وجاءت الآية بتعبير: ﴿هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ﴾ لتضع معانٍ ما كانت لتظهر لو لم يكن التعبير على هذا الوجه؛ وفيها فوائد تنعكس على المرء والمجتمع، لتحقيق السلام الاجتماعي المرجو من بيئة تعبد الله. وإذا أردنا أن نفصل بعض هذه الفوائد، نقول:
- المرأة ستر وصيانة للرجل من الانحراف والشهوات، وهو كذلك ستر لها بالدرجة نفسها. وكما يستر الثوب الجسد، يستر كلاهما الآخر.
- وكما أن الثوب هو ألصق شيء لجلد لابسه، فكل من الزوجين لصيق بصاحبه.
- ولصوق الثوب بالجسد، يذكر بضرورة التلازم الروحي والعاطفي والنفسي بين الزوجين، بجانب التلازم الجسدي.
- والثوب لأن ساتر للعورات، لابد لكل من الزوجين إخفاء عورات زوجه عن الناس.
- والثوب لا يصلح إلا إذا كان مريحاً، وكذا الصاحب لصاحبته، والصاحبة لصاحبها، وقد عني التنزيل في قوله: ﴿وَصَـٰحِبَتِهِۦ﴾ المعارج 12: الزوجة، وقالوا في قوله: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ النساء 36: الزوجة كذلك، لكن لعل المعنى يتوسع عن ذلك ليكون الزوج للزوجة، أو الزوجة للزوج.
- والعاقل إنما يختار من الثياب ما يناسبه، وكذا اختيار الزوج لزوجه، وقبول الزوجة لمن يناسبها من الرجال، فالعلاقة في اختيار أحدهما للآخر توافقية.
- ومن خصائص الثياب أن تكون للزينة، لذلك فكل طرف زينة وتجميل لنصفه الآخر، ولا يشترط المعنى المألوف للجمال، بل إن الجمال نسبي يختلف من شخص لآخر، والهدف هنا أن يتزين كل منهما بشريكه.
- وكما يحتاج المرء أحياناً للصبر على ثوبه الضيق، يجب أن يصبر كل من الزوجين على أخطاء الآخر،
ويحاول تقويمها بلطف وحكمة.
- ومثل ضرورة التجانس والتوافق بين المرء وزيه، ينبغي أن يكون في العلاقة الزوجية الانسجام والتجانس.
- ومن ضروريات اللباس أن يناسب الطقس، فيقي من البرد، ويحمي من القيظ، وكذلك يحتاج الزوجان للتعاون على الصبر في أحلك الظروف.
- أن كلَّ واحدٍ منهما يخصُّ نفسه بالآخر؛ كما يخصُّ لباسه بنصيبه، وبالتالي على كل منهما أن يكتفي، ولا يتطلع لألبسة الناس.
- لما كانت العلاقة بهذه المخالطة والملابسة فلا ينبغي المجافاة والافتراق والابتعاد مدة طويلة، فهل يستغني المرء عن لباسه؟!
- الاستعارة باللباس، والارتباط به، تلمح لضرورة ملابسة مقدمات المخالطة من ضم وعناق، مما يديم الألفة ويطيل المحبة.
- المقابلة بين: ﴿هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ﴾ مع إفراد: ﴿لِبَاسٞ﴾ يشير إلى المساواة في المشاعر والاحتياجات النفسية والطبيعية.
- كذلك في العبارة إشارة إلى التوحد والتكامل بين الزوجين، تكاملاً حسياً وروحياً.
- والعبارة إن فهمت على وجهها، تكون أقوى من الميثاق الغليظ الذي يربط الزوجين بعقد ملزم.



﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ﴾:

قوله: ﴿عَلِمَ﴾: إنْ كانَتِ المتعدية لواحد بمعنى: عَرَف، فتكونُ "أنَّ" وما في حيِّزها سادَّة مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كانتِ المتعديةَ لاثنينِ كانَتْ سادةً مَسَدَّ المفعولينِ، أو مَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ.

وقوله: ﴿كُنتُمْ تَخْتانُونَ﴾: في محلِّ رفعٍ خبرٌ لـ "أنَّ". و ﴿تَخْتانُونَ﴾ في محلِّ نصبٍ خبرٌ لـ "كان".
و ﴿تَخْتانُونَ﴾: تَفْتَعِلُون من الخيانة، خانَ يخُون خَوْناً وخِيانة، فهم خَوَنَة. وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشيءَ تَنَقَّصْتُه، قال زهير:
بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لم يَخُنْهَا ..... قِطافٌ في الرِّكاب ولا خِلاءُ
أي لم ينقض فقار الناقة. وَالْقَطوفُ مِنَ الدَّوَابِّ: الْبَطيءُ السَّيْرِ.
وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ، وخَانَهُ الدَّهْرُ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ، إذا لم يفِ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ الأنفال 58. والمدين خائنٌ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بِدَينه؛ ومنه قوله تعالى: ﴿لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَٰنٰتِكُمْ﴾ الأنفال 27، وقال تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ﴾ الأنفال 71، فسُمِّيت المعصية بالخيانة.
والاختيانُ: من الخيانة كالاكتساب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة، يعني من حيثُ إن الزيادة في اللفظ تُنْبِيءُ عن زيادةٍ في المعنى.
وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأنَّ ذلك تغريرٌ بها إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرماً عليكم فتُقْدِمُون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى: ﴿يُخَادعونَ اللهَ﴾ البقرة 9، والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ﴾ النساء 107، أي: يخونونها بالمعاصي لأن وبال خيانتهم عليهم. وقيل: ﴿تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ﴾ أي: تتعهدونها بإتيانِ النساء، وهذا يكون بمعنى التخويل، يقال: تَخَوَّنه وَتَخَوَّله بالنون واللام، بمعنى تَعَهَّده، إلا أنَّ النونَ بدلٌ من اللام، لأنه باللامِ أشهرُ.
﴿فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ﴾: معناه على قول مثبتي النَّسخ لا بُدَّ فيه من إضمار، تقديره: تبتم، فتاب عليكم. أما على قول أبي مُسلم: فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتَّوسعة عليكم.
وقوله: ﴿وَعَفَا عَنكُمۡۖ﴾ على قول مثبتي النَّسخ، لا بد وأن يكون تقديره: عَفَا عَنْ ذُنُوبكُمْ. أما على قول أبي مسلم: أَوْسَعَ عَلَيْكُمْ بإباحة الأكل والشُّرب والمباشرة في طول اللَّيل.
ولفظ "العَفْو" يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ نحو: ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ﴾ المزمل 20، وقوله: ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ ۗ﴾ النساء 92، وقوله: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ التوبة 117، معناه كله التخفيف، وهذا مما يقَوِّي قول أبي مسلم؛ لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمارٍ، وتفسيرُ مثبتي النَّسخ يحتاج إلى إضمارٍ وتفسيرٍ.

فيم كانوا يختانون أنفسهم؟:

إنَّه تعالى ذكر هاهنا أنَّهم كانوا يختانون أنفسهم، ولم يبيِّن تلك الخيانة في ماذا، فلا بُدَّ من حملها على شيءٍ له تعلُّق بما تقدَّم وما تأخَّر، والذي تقدَّم هو ذكر الجماع، والذي تأخَّر هو قوله تعالى: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان:

1) الأول: عَلِمَ اللَّه أنَّكم كنتم تستَتِرُون بالمَعْصيَة بالجَماع بَعْد العتمة، والأكْل بَعْد النَّوم، وترتكبون المحرَّم من ذلك وكلُّ من عصى الله، فقد خانَ نفسه؛ وعلى هذا القول: يجب أن يقطع بأنَّ ذلك وقع من بعضهم؛ فدلَّ على تحريم سابقٍ، لأنَّه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم للعادة والإخبار، وإذا صحَّ وقوعه من بعضهم، دلَّ على تحريم سابقٍ، ولأبي مسلم أن يقول: قد بيَّنَّا أنَّ الخيانة عبارةٌ عن عدم الوفاء بما يجب عليهم، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقُّ بطاعة الله، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو حقٌّ للنفس، وهذا أولى؛ لأنَّ الله تعالى لم يقُلْ "عَلِمَ ٱللَّهُ أنَّكم كنْتُمْ تختانونَهُ أنفُسكم"، وإنما قال: ﴿تَخْتَانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا، إن لم يكن أولى، فلا أقلَّ من التساوي، وبهذا التقدير: لا يثبت النَّسخ.
2) القول الثاني: أنَّ المراد: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ لو دامت تلك الحرمة، فمعناه: أنَّ الله يعلم أنَّه لو دام ذلك التكليف الشَّاقُّ، لوقعوا في الخيانة، وعلى هذا التقدير: ما وقعت الخيانة، فيمكن أن يقال: التفسير الأوَّل أولى؛ لأنَّ لا حاجة فيه إلى إضمار الشَّرط، وأن يقال: بل الثاني أولى؛ لأنَّه على الأوَّل يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف، وعلى الثاني: علم الله أنه لو دام ذلك التكليف، لحصلت الخيانة، فنسخ التكليف رحمةً من الله على عباده، حتى لا يقعوا في الخيانة.







 
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 07:45 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط