زيـــــد الخيــــــــر
الناس معادن , خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام .
فإليك صورتين لصحابي جليل, خطت أولاهما يد الجاهلية ,
وأبدعت أخراهما أنامل الإسلام .
ذلك الصحابي هو "زيد الخيل " كما كان يدعوه الناس في جاهليته ,
و " زيد الخير " كما دعاه الرسول الكريم بعد إسلامه .
أما الصورة الأولى فترويها كتب الأدب فتقول :
حكى الشيباني عن شيخ من بني عامر قال :
أصابتنا سنة مجدبة هلك فيها الزرع والضرع , فخرج رجل منّا بعياله إلى الحيرة ,وتركهم فيها ,
وقال لهم :
انتظروني هنا حتى أعود إليكم .
ثم أقسم ألاّ يرجع إليهم إلا إذا كسب مالاً او يموت .
ثم تزود زاداً ومشى يومه كله حتى إذا أقبل الليل وجد أمامه خباء "خيمة" ,
وبالقرب من الخباء مُهرٌ مقيّد , فقال :
هذا أول الغنيمة , وتوجه إليه وجعل يحل قيده , فما إن هم بركوبه حتى سمع صوتاً يناديه :
خلّ عنه واغنم نفسك , فتركه ومضى .
ثم مشى سبعة أيام حتى بلغ مكاناً فيه مراح للإبل , وبجانبه خباء عظيم فيه قبة من أَدَم"جلد"
تشير إلى الثراء والنعمة ,فقال الرجل في نفسه :
لابد لهذا المراح من إبل , ولابد لهذا الخباء من أهل .
ثم نظر إلى الخباء _وكانت الشمس تدنو من المغيب _ فوجد شيخاً فانياً في وسطه ,
فجلس خلفه هو لا يشعر به .
وماهو إلا قليل حتى غابت الشمس , وأقبل فارس لم يُرَ قط أعظم منه ولا أجسم , قد إمتطى صهوة جوادٍ عال , وحوله عبدان يمشيان عن يمينه وشماله , ومعه نحو مائة من الإبل أمامها فحل كبير
فبرك الفحل فبركت حوله النوق .
وهنا قال الفارس لأحد عبديه :
إحلب هذه , وأشار إلى ناقة سمينه , واسق الشيخ , فحلب منها حتىمل الإناء , ووضعه بين يدي الشيخ وتنحّى عنه , فجرع الشيخ منه جرعه أو جرعتين وتركه . قال الرجل :
فدببت خلفه متخفياً وأخذت الإناء وشربت كل مافيه , فرجع العبد وأخذ الإناء وقال :
يامولاي , لقد شربه كله , ففرح الفارس وقال :
احلب هذه , وأشار إلى ناقة أخرى وضع الإناء بين يدي الشيخ, ففعل العبد ما أُمر به ,
فجرع منه الشيخ جرعه واحدة وتركه , فأخذته وشربت نصفه , وكرهت ان آتي عليه كله
حتى لا أثير الشك في نفس الفارس .
ثم أمر الفارس عبده الثاني بأن يذبح شاة ,فذبحها فقام إليها الفارس وشوى للشيخ منها وأطعمه بيده حتى إذا شبع جعل يأكل هو وعبداه .
وماهو إلا قليل حتى أخذ الجميع مضاجعهم وناموا .
عند ذلك توجهت إلى الفحل فحللت عقاله وركِبتُهُ ,فاندفع وتبعته الإبل , ومشيت ليلتي و فلما أسفر النهار نظرت من كل جهة فلم أرَ أحدا ً يتبعني .
ثم إلتفت إلتفاتة فإذا أنا بشئ كأنه نسر أو طائر كبير فما زال يدنو مني حتى تبينته ,
فإذا هو فارس على فرس , فما زال يقبل حتى عرفت أنه صاحبي جاء ينشد إبله ,
عند ذلك عقلت الفحل "ربطت الجمل" وأخرجت سهما من كنانتي ووضعته في قوسي وجعلت الأبل خلفي , فوقف الفارس بعيداً وقال لي :
احلل عِقال الفحل . فقلت : كلا , لقد تركت ورائي نسوة جائعات بالحيرة وأقسمت ألا أرجع إليهن إلا ومعي مال أو أموت .
قال : إنك ميت . احلل عقال الفحل ا أبا لك .
فقلت : لن أحله .
قال :ويحك إنك لمغرور.
ثم قال : دلِّ زمام الفحل _ وكانت فيه ثلاث عقد _ثم سألني في أي عقدة أريد أن يضع لي السهم ,
فأشرت إلى الوسطى فرمى السهم فأدخله حتى كأنما وضعه بيده ,فأعدت سهمي إلى الكنانة ,
ووقفت مستسلماً ,فدنا مني وأخذ سيفي وقوسي وقال : اركب خلفي , فركبت خلفه , فقال :
كي تظن اني فاعل بك ؟؟
فقلت : أسوأ ظن .
قال : ولمَ .
قلت : لما فعلته بك , وقد أظفرك الله بي .
فقال : أوَ تظن أني أفعل بك سوءًا وقد شاركت مُهلهِلاً "يعني أباه" في شرابه وطعامه
ونادمته تلك اليلة ؟؟
فلما سمعت اسم مُهلهِل قلت : أزيد الخيل أنت ؟
قال : نعم .
فقلت : كن خير آسر .
فقال : لا بأس عليك , لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك ,ولكنها لأخت ن أخواتي ,فأقم عندنا أياماً
فإني على وشك غارة قد أغنم منها .
وماهي إلا أيام ثلاثة حتى أغار غلى بني نمير فغنم قريبا من مائة ناقة فأعطاني إياها كلها ,
وبعث معي رجالاً يحمونني حتى وصلت الحيرة .
تلك كانت صورة زيد الخيل في الجاهلية , أما صورته في الإسلام فتابعوها ....