|
|
منتدى القصة القصيرة أحداث صاخبة ومفاجآت متعددة في كل مادة تفرد جناحيها في فضاء هذا المنتدى..فهيا لنحلق معا.. |
![]() |
مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان) |
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | |||
|
![]()
ضرب حسن عامله على كتفه ضربة موجعة ولكنها ليست مهينة وقال له: "لقد أمرتك أن لا تأتيني في البيت، اذهب إلى النادي وسألحق بك" لأنني أعرف حسن معرفة شخصية فسأصفه للقارئ الكريم، ولن أقول إنه فتى وسيم، في أوائل العشرينات، محبوب لأسباب كثيرة وكذا وكذا ولكنني سأخبر القارئ الكريم بصفات حسن الشخصية، كان حسن أقل الناس رضا عن نفسه، تحس هذا من حركاته العصبية، كأنه يشعر بالعار على الدوام، مع أن كل الناس في بلدتنا تحترمه وتظن أنه محظوظ، إلا أن شيئا يشبه الطموح في داخله كان يأكله أكلا لما. "أين الفلوس؟ هممم هاتها، قلت لك أيها الغبي لا أريد أن أستلم أمام امرأتي أي مال، هه.. كم؟" سأل عامله بعد أن انتهى من عد المال وعيناه مفتوحتان بما يشبه الجنون. "أين بقية إيرادات الشاحنات؟ ما هذا كل المبلغ، ما هذا كل المبلغ" كان اقتناء الشاحنات التي تنقل مواد البناء وتشغيلها أو تأجيرها عملا مربحا في بلدتنا الصغيرة، إذ كانت المدينة الأم لا تبعد كثيرا عن بلدتنا، وحتى بعد قيام الحرب في أجزاء كبيرة من البلاد لمدة طويلة، ظلت المدينة تبني نفسها وتتوسع، مما يوسع رزق حسن، فلم تكن هذه المواد تكلفه غير شحنها، فهي من الجبال والمقالع القريبة منا التي لا يملكها أحد، وقد ساعده على هذا أن ظلت أقاليمنا في أمان تام كأن الحرب في الأقاليم البعيدة لم تقم إلا في بلد آخر، لكن الاقتصاد هذه الأيام بدأ بالتأثر لثقل هذه الحرب على البلاد كلها، وقل العمل قليلا مما زاد من استياء حسن الفطري. كان لا يزال يربح كثيرا، ولكن لا شيء يبهج حسن، وأقل شيء يثير استياءه، كان حسن محترما من كل الناس، فأبوه الذي ورث ابنه معظم ماله في حياته كان قد بنى له سمعة واحتراما بين الناس يتمناهما غيره، وكان يعيش حياة عائلية مستقرة، فزوجته يقال إنها تحبه كثيرا، وهو يحبها على ضجر بها، وقد ولدت له مرتين، صحيح أن أحد الأطفال المهذارين قال مرة إن وجهها يشبه وجه حصان، إلا أن مرضها الذي نشأت معه قد يكون أضاف إلى وجهها صفة النحول فعبر الطفل عنه بهذا الكلام، أو أنه ربما قال ذلك لعداوة بينه وبينها، فقد اشترت يوما منه شيئا من بضاعته ولم تعطه حقه كاملا، فحسن لم يكن يعطيها الكثير، وأنبه القارئ الكريم إلى أن حسن كان يفخر بثرائه ويُدِل، إلا أنه لا يستطيع يوما أن يزدهي بسعادته أو يباهي برضاه عن نفسه، فاستياؤه في النادي كان ظاهرا دائما: "هؤلاء المساكين، انظر إليهم، لقد لجأوا من الحرب قبل سنتين وإلى الآن لم تُبلِّغهم الدراهم التي يجنونها حتى كفاف العيش" قال لحسن ذلك أحد جلسائه محاولا أن يثنيه عن استيائه الظاهر وسحنته الكالحة: "ألسنا أيضا مساكين؟ ما الذي ننعم به نحن أيضا؟ ألا ترى أننا كذلك لسنا على ما يرام؟" قال حسن ذلك غاضبا وقام إلى بيته ليتناول غير مسرور وجبة شهية هو وزوجته التي قيل مرة أيضا أنها كالخمر. بعد ستة أشهر كان كل شيء قد اختلف، فبعد أن استحوذت قوات العصابات على مدينتنا الأم كان يُسمع في بلدتنا مثل هذا الحوار: "لا نعلم متى يتوجهون إلينا أيضا، وإلى كل البلدات الأخرى، قيل إن حامية المدينة قد تركت المدينة قبل دخولهم بساعات، والموظفين الكبار والمسؤولين يشاهَدون كل يوم مغادرين على الطرقات الرئيسية إلى المدن الآمنة بعرباتهم الفارهة" قال حسن لزوجته: "حين يأتي هؤلاء الناس الله أعلم ماذا سيحصل، لقد فكرنا أن نسد الطريق بأتراس من تراب، ولكن الأتراس تحتاج إلى من يقف لها، والرجال تحتاج إلى سلاح، ونحن لم نملك الوقت لنستعد، إذا كانت الحامية انسحبت، فماذا نفعل نحن؟!" لم يكن أمر وصول العصابات إلى بلدتنا غير مسألة وقت، فلم نكن بعيدين كثيرا من المدينة الأم، وبعد أن بلغتنا العصابات كان اختلاف الحال كل يوم محسوسا حتى لنا نحن من عايشناه لحظة بلحظة، لأنه كان سريعا ومحوريا، وليعذرني القارئ إذا كنت أروي له بعض الأحداث بعد دخول الجند بضبابية كما أتذكرها، فأنا نفسي كنت تحت وطأة حمى حارة، فلم يكن ما يرى معقولا أبدا، ولا متخيلا، أكثر ما يعلق في ذاكرتي أن البضائع لم تعد متوفرة إلا بأثمان عالية، كان الناس يجوعون حقا، وكان الجنود لمدة طويلة يبيعونهم ما يسرقونه من غيرهم، ويسرقون منهم ما يبيعونه لغيرهم، وكان الناس في الأساس يعتمدون في مأكلهم على لحوم بهائمهم، ولا يظن القارئ الكريم أن تلك رفاهية، فالبهائم كانت ستموت على أي حال، لأن العلف لم يعد بأسعار معقولة، ولم تعد أي تربية أو تجارة مربحة، فالإيرادات لو كانت هناك إيرادات كلها تنهب في الطريق قبل أن تصل إلى خزائن أصحاب رؤوس الأموال، الصغار والكبار، معظم الأعمال توقفت، الوظائف كلها معلقة بشكل أكيد، أصحاب المهن توقفوا أو شبه توقفوا، مهندسو الألومنتال توقفوا تماما، لم يعد هناك زبائن، لا توجد امرأة تجهز ابنتها فتأتي إليهم لتعطيهم قياسات المطبخ، وتعطيهم عربونا، فيشرعون بالعمل على الفور، مع أن الناس كثر زواجهم، إلا أنه كيف تحمل مالا في جيبك على كل حال، ستتهم بأي شيء ويسرق المال، أذكر أنهم قالوا إن حسن مثلا باع بعض أنعامه في السوق، فلم يكد ينهي بيعها ويقفل إلى البيت حتى ناداه عسكري من العصابات، فاتهمه لا أدري بم اتهمه، نعم اتهمه بأنه قتل أخاه، نعم بكل بساطة، ونقله إلى مبنى أقرب إلى مركز المدينة الكبيرة التي عانت الويلات، مبنى متهدم من تلك المباني، عاصبا عينيه، فأخذ بطاقة هويته ليتأكد من أنه ليس عسكريا نظاميا، وهو إجراء روتيني خطير، ثم أخذ ماله وهويته وانصرف ببساطة دون أن يقول لحسن كلمة واحدة تفهمه أي شيء، بالطبع حسن حل عصابة عينيه بعد قليل، وأخذ يحاول أن يرجع إلى المدينة، فلاقى بعض أفرادهم واشتكى لهم، فقالوا إن هؤلاء المجرمين ليسوا منا، وضحكوا منه، فمشى يؤنب نفسه. مشى يفكر في كل شيء عبثا، ولا يتوصل إلى أي نتائج، إلى أن انتهى فكره إلى أمر أصبح يهمه أكثر من أي شيء في ذلك الحين، وهو الثلج الذي فاته أن يشتريه لتستعمله زوجته غدا، وهي تعتمد عليه في تبريد الأنسولين منذ انقطاع الكهرباء الذي دام شهورا طويلة، فلا كهرباء الآن حتى في البلدات التي كانت متمتعة بها سابقا، ونذكر للقارئ أنه بسبب انقطاع الكهرباء بعد الحرب أصبح الثلج أغلى من وجبات العائلة اليومية مجتمعة، وذلك لأن مصانع الثلج تعتمد على الكهرباء أيضا، فلما انقطعت اضطر أصحاب مصانعه إلى إعمال المولدات، ولم تكن المحروقات كذلك إلا بأسعار خيالية بعد الحرابة التي وقعت إبان الحرب، وقطع الطرق على الشاحنات والبضائع، كان كل هذا يساهم في جعل كل مستهلَك عزيزا بما في ذلك الثلج، إضافة إلى أن المناخ القاسي لبلداتنا ومدينتنا كان يتعذر معه شرب الماء بلا تبريد، وكان الناس هنا خاصة لا يعرفون طريقة أخرى لتبريده. حين تذكر حسن أمر ثلج زوجته غضب أشد الغضب، إنه لا يملك في جيبه أي مال سائل، ويتعذر أن يحول من التطبيق البنكي للثلاج لأن الشبكة في ذمة الله كالكهرباء، إلا أن تحضرا لبرهة قصيرة بما يشبه أن يكون غلطة، قرر حسن أخيرا أن يذهب إلى تاجر -من التجار الجدد- يؤجره دكانا في السوق، أو فلنقل إن هذا التاجر استأجر الدكان بما يشبه الغصب والاستحواذ، فهو مسنود من قوات العصابات، وهو يشتري منهم المسروقات التي تتدفق من المخازن وحتى بيوت النازحين ويبيعها إلى تجار جدد أصغر منه، وكان حسن يتجنب هذا الرجل وماله، ولم يكن قد أتى إلا لأنه أصبح يريد المشاكل: "هل أجد عندك شيئا اليوم، أنا لا أملك شيئا" قال ذلك للمستأجر التاجر الذي هو مسلح أيضا. نبش التاجر جيوبه وقال باستعلاء لحسن "تعال بكرة" "إذا لم تستطع الدفع كل هذه المدة فلا بد أن أسترجع دكاني" "اسمع، تعال بكرة، لا بد أن تأتي بضاعة جديدة اليوم، إن جنودنا البواسل قد علموا بأن بلدة .... كانت مناصرة للعهد القديم، فذهبوا إليها اليوم بقوات وأنزلوا بأهلها عقوبة شديدة، ولا بد أن يأتي الرجال اليوم ببضائع ثمينة من بيوت الأثرياء أولئك الذين كانوا أعمدة العهد القديم، وأساس بنيانه، فهم لديهم المحلات والتجارات والسيارات، بالمناسبة ماذا كنت تعمل قبل هذا كله، إنك تشبه الأساتذة، أو أو أو ..." لم يكن هذا التهديد الضمني بعمالته قد أقلق حسن بقدر ما أقلقه اسم تلك البلدة التي ذكرها التاجر، ويا للرزيئة، فهي البلدة التي تصل إليها شاحناته التي نذكر للقارئ أنها لم تعد تنقل إلى المدينة التي اجتيحت مواد البناء، وإنما أصبحت تنقل المواد الغذائية من المدن الآمنة إلى الحدود البعيدة لمدينتنا، ثم يؤتى بتلك المواد الغذائية سرا لتقي الموت من بقي على قيد الحياة، ومن لم ينزح، لقد كان حسن في هذه اللحظة ولأكثر من حدث حصل معه يعلم أن سائقيه لا بد أن يكونوا قد احتُجزوا بتهمة ما لأنهم يأتون من أماكن داخل سيطرة خصوم هذه العصابات، وأن الشاحنات صودرت، ولم يبق له إلا سيارته الصغيرة التي خبأها في منزله، وإن لم تكن فعلت هذا بهم العصابات، لأنها تريد أن تحافظ على قليل من الحس القانوني في المنطقة، فقد يكون فعلها من هو أجرم منهم، وهم من تقول عنهم العصابات أنهم عصابات، ويظن الناس أنهم بعض أفرادها على أية حال. ما إن استقر في ذهن حسن أنه لن يلقى فلسا واحدا من إيرادات شاحناته بعد اليوم حتى مشى وفي نيته أن يستجدي الناس في الشارع ثمن ثلج زوجته، وقد فعل. أذكر قبل ذلك أنه حين عاد حسن إلى بلدته بمشقة أثار استغرابه أن المجرم الذي عصب عينيه وأخذه وسلبه آخر ماله كان يتجول في البلدة بكامل زيه وسلاحه، ويبدو أنه لم يتعرف عليه حين لقيه، فهناك أمر آخر يجب أن ألفت انتباه القارئ الكريم إليه ليعلم حجم الفوضى التي حلت آنذاك، فهناك أناس خاصة من هؤلاء العصابات كانوا يغيبون لأيام دون أن يعوا شيئا، فإذا ما تعاطوا أخذوا ينسون كل ما يفعلونه في يومهم، وأطلقوا النار في أي وقت بشكل عشوائي، وذلك ما كان يسبب رهبة شديدة للسكان، فكانت بعض الأمهات تزعم لأطفالها أن هذه أصوات ألعاب نارية، ولكن كل هذا لا يفلح، لأن الأطفال كانوا يرون الأسلحة، وأذكر قبل هذا الاجتياح بمدة وحين بدأت الأخبار تنبئ بدنوه من بلدتنا أن طفلة من بنات بعض أصحابي قصت علي رؤيا تقول أنها حلمت بأن أحدهم يقفز في أرض دارهم مسلحا بساطور، ثم يقتل كل من فيه، ثم أصرت أن هذا حدث بالفعل، يا للأطفال! إن خوف الحدث يكون أحيانا أصعب من الحدث نفسه، يقال إن الشيطان مخيف لأنه غير معلوم الشكل، فأحدهم تصوره ذا قرون، وآخر بذيل، وآخر بعينين ناريتين، وهكذا خوف كل شيء، وقلت لصاحبي هذا الكلام فقال لي إن أمها من يعبئها بهذا الخوف هي وإخوانها، لأن أمهم خوافة وتريد أن تنزح إلى المدن التي ما زالت آمنة، وهذا ما حدث أيها القارئ، فقد نزحت كثير من العائلات ولا سيما الأطفال والنساء قبل أن تصل العصابات إلى بلدتنا وبعد وصولها، ومنهم من بقوا لأن لا أقارب لهم في المدن الآمنة، ويقولون أنهم لا يستطيعون أن يتكلفوا أسعار الفنادق والشقق المفروشة، هذا لا سيما بعد أن كثر النزوح فبلغ الطلب على هذه الشقق والفنادق ذروته، وأصبحت أسعارها مضاعفة عشرة أضعاف أو عشرين ضعفا. كان سوق بلدتنا الذي يقصده حسن يعج بالمسروقات، وحتى أن السارقين لم يتورعوا عن سرقة المقتنيات الشخصية، فمرة أحضروا عطور شابة عروس من عائلة ثرية فرت مع زوجها فور أن سمعت أن العصابات على أبواب المدينة، وأحضروا ثلاجتها فيها باقي طعامها، وهذا رجل كبير يشتري سجادة صلاة من سجادات منزلها المخملية، انصرف وهو يقبلها ويضعها على رأسه. وشوهد رجل أتى من قرية يرغب في شراء ميكرويف وُصف له، لكنه يحتار الآن ويتردد لأنه لا يعرف "هذا الشيء كيف يتصل"، وكان البائع أيضا لا يريد أن يبيع هذا الشيء لهذا الرجل لأنه حتى لو اتصل " فكيف تتكلم به وهو يريد كهرباء، ولا كهرباء في قريتكم يا أحمق الريف" وشوهدت فيتامينات كانت سرت شائعة أنها حبوب سحرية تحبب المرأة إلى زوجها، فكانت النسوة يقتنينها، ثم ما لبثت طبيبة بيطرية عاطلة من قبل الحرب أن أعلنت لهن أن هذه الحبوب "لا سحرية ولا شيء" وإنما "هي حبوب لتكبير الأرداف" فظهر الحبور على وجوه فتيات الحي وقلن: "أحسن وأحسن". وبيعت جلسة جلد أصلي اشتراها قروي مسن وقال إنه كان يريد منها قطعة واحدة، فلما لم تكلفه شيئا كثيرا وأصر بائعها أن يبيعها كاملة أخذها كلها لا مغتاظا ولا فرحا "والقطعة كنت أريد أن أضعها على عربة الحمار فأرتاح عليها "، ثم شوهد بعد ذلك ينزلها على الأرض ويضع عليها البرسيم الذي يأتي به من المزارع كحجرة يحفظه فيها ريثما يأتي الزبون، ولما قال له أحدهم "لو كنت تعرف قيمتها لما فعلت بها ذلك" رد عليه الشيخ ملوحا بعصاه "ما دمت تعرف قيمتها لماذا لا تشتريها مني أيها البغل" فقال له العارف بها "صحيح" ومضى. وشوهد رجل في الثمانين يأكل شبسا في السوق بلذة كاملة وافتتان، وكان ينظر إلى الناس كيف يأكلونه ثم يأكله مثلهم ويقول: "لقد رأينا هذا من قبل، لكننا لم نكن نرضى أن نخسر فيه. حين بلغ حسن السوق ولم يجد ثلجا ثار وغضب، ولما رآه أحد المسلحين القائمين على سوق المسروق أقبل عليه وسأله عن هويته: "أرني هويتك قبل كل شيء، وافتح تلفونك وأعطني إياه، لا بد أنك أحدهم، أو تخبئ أحدهم" حين انتهى منه العسكري أمره بالانصراف، بعد أن أذله بنظراته ونبرته إذلالا شديدا، كان حسن لا يفكر بكل هذا، بل يفكر في الثلج فحسب. ترك حسن المكان ومشى قليلا فناداه عسكري آخر وأمره بما أمره به الأول، ثم أذن له في المضي، لكنه عاد فناداه وأمره أن لا يسلك ذلك الطريق الذي كان سلكه، فكان من ذلك على حسن أن يلف حول البلدة كلها حتى يصل إلى بيته، وهو ذل ما كان يحتمله حسن لولا أنه يتحرك الآن كمن يسير في نومه، كان يجاهد أن يدبر الثلج، لأن الأنسولين لو تعرض لقيظ بلدتنا لفسد، ولا ندري متى يتوفر مرة أخرى. أخذَت إبرة الأنسولين قائلة: "لا بد أن يأتي الآن"، كانت أسماء جائعة ترتعد منه نظرت إلى المائدة ومدت يدها لتنال منها شيئا بيد مرتجفة ثم سحبت يدها تقول : "الله الله يا امرأة، ما هذا الجشع؟!" "وايم الله لا أستطيع أن آكل لقمة واحدة وحدي" أخذت تحسن منظر السفرة هنا وهناك: "لو كان الأمر لي لفررت بنا اليوم الأول، فماذا يقع للمرء هنا غير الذل وماذا يحقق سوى التعرض للأذى؟ لكن هؤلاء الرجال لهم رؤوس أيبس من الصخر، يخافون من أن يقال أنهم خافوا، إنهم يرتكبون الحماقات ليغطوا على ضمائر نفس بشرية هم يخجلون بها، ثم ينسبون إلينا هذه التي بنظرهم دنايا، ويحتقروننا من أجلها. بواطن ربما كانت عندهم أخطر شأنا منها عندنا، سأفعل ما يحب، وما كان لي أن أتعداه أو أكسر روحه، ولكنني أخشى أنه فقد عقله واتزانه، وسطا على نفسه تعاظمها، آه يا زوجي العزيز، لقد اشتقت إلى ولدَي، متى يثوب إليك رشدك؟" حين حضر حسن أخيرا، كانت أسماء تستند إلى الجدار كمن يسبّح، فقد قررت بعد أن تأخر زوجها أن تصلي العشاء محاولة أن تكبح نفسها عن التفكير الكثير، والسغب الشديد. جلس حسن إلى المائدة ممتعضا، وأخذ يؤنبها على انتظاره مادا يده إلى الطعام، فلما لما ترد نظر إليها نظرة فيها تعالٍ، ثم تبدلت هذه النظرة تبدلا تاما "اللعنة علي" كانت أسماء مغشيا عليها. وضع حسن في فمها الفاغر بيضة مغلية، ثم سحب البيضة ولعن نفسه مرة أخرى، كان ينظر إلى وجهها بقلق جم وهو يفتش في جيبه عن السكاكر التي يعطيها الباعة كباقي حساب ووضع في فمها أكثر من واحدة. نظر من فوق السور، "يا أميمة، تعالي تعالي، يا أميمة أختك أختك" أخرج السيارة، وحمل أسماء إليها بعون أميمة، وركبت إلى جانب أختها، وانطلق انطلاق السهم، وتُرك البابان على مصراعيهما، وهكذا وجدتهما في الغد. بالله عليك يا أميمة دعيها تفيق: قال ذلك وهو يميل على أميمة إلى الخلف ويهزها هزا يكاد يكون فيه عداوة "اللعنة علي، لعنة الله علي، لعنة الله علي" كان يقطع الطريق بما يشبه الانتحار، ينوي أن يصل إلى أقرب مدينة آمنة أو بلدة، وكان مستعدا لأن يركب بسيارته ظهر أي من يعترض طريقه، كان قلبه ينزف، وجسمه ثقيلا، وكلما بكى شهق شهيقا مخيفا، كان يريد أن يعيش غير حياة، لكن ليس من غير أسماء. بعد أن أفاقت أسماء في المستشفى كانت دموع باردة تنساب على خدي حسن وهو واقف كتمثال ناظر إلى الشوارع المسالمة الخالية من مظاهر العنف والتسليح، أسعده أن الشوراع نظيفة، والملاءات نظيفة، والناس وادعة ولطيفة، كان يطير قلبه فرحا لأي مظهر إيجابي يراه الآن كأنه لم يره في حياته، هنا شيخ يسأل الناس فيعطونه، هنا رجل لا يستطيع حمل شيء فيساعده الآخر، هناك عروس تحف بها أخواتها كطيور ليخترن لها جهاز عرسها، وعلى الرصيف بنات صغيرات يدرجن مع أبويهن في فساتين زاهية، يضحكن تارة ويبكين تارة، دلالا عليهما، لم يكلحن لرؤية سلاح ولم تخفق قلوبهن لصوت رصاصة، نسجت لهن أيادي الإنسان الرحيم كسوتهن السابغة وجواربهن الرائقة الصغيرة. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]() الأديب الكريم/ عبدالرحمن ا لخطيب المحترم .. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 3 | ||||
|
![]() اقتباس:
تحيتي وامتناني |
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 4 | |||||
|
![]() مرحبا بأخي المكرم أستاذنا / عبد الرحمن الخطيب
|
|||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 5 | |||
|
![]() أهلا بالأستاذة راحيل، شكرا على تصويبك أولا. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 6 | |||
|
![]() أحب تجارب النفسانيين كثيرا، وسبرهم للشخصيات، وأظن أن علاجاتهم ناجعة، فكثيرا ما يجعلون المرء بأساليبهم وأسألتهم يفهم نفسه، وكان كلامك عن هذا مناسبا جدا في سياق هذه القصة. |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 7 | ||||
|
![]()
|
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 8 | ||||
|
![]() اقتباس:
كن بخير ولذ وانعم وطب عيشا أستاذي الفاضل |
||||
![]() |
![]() |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | تقييم هذا الموضوع |
|
|