الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديات الحوارية العامة > منتدى الحوار الفكري العام

منتدى الحوار الفكري العام الثقافة ديوان الأقلاميين..فلنتحاور هنا حول المعرفة..ولنفد المنتدى بكل ما هو جديد ومنوع.

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-02-2024, 10:05 AM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
محمد جاد الزغبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي
 

 

 
إحصائية العضو






محمد جاد الزغبي غير متصل


افتراضي كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)



كيف نفهم قضية فلسطين
(عدسة على التاريخ من حملة نابليون بونابرت حتى طوفان الأقصى)

هذه بعض الفصول من كتابنا الأخير (كيف نفهم قضية فلسطين), والذي وضعنا فيه تاريخ القضية الفلسطينية منذ بداية الفكرة على يد نابليون بونابرت, وحتى اليوم.
أما الكتاب كاملا فقد صدر عن (دار حواديت للنشر) بمصر.









التوقيع

الإيميل الجديد
 
رد مع اقتباس
قديم 11-02-2024, 10:06 AM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
محمد جاد الزغبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي
 

 

 
إحصائية العضو






محمد جاد الزغبي غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

تمهيد


إن التاريخ هو المجال العلمي الوحيد الذي يصلح فيه التعامل مع العدسات المختلفة دون أن تختل الفائدة منه!
بمعنى أن العدسات الزجاجية التي تمتلك القدرة على تكبير الأشياء وتصغيرها، كما تمتلك القدرة على إعطاء الأشياء حجمها الطبيعي.
هذه العدسات لا تعطى صورة حقيقية للأشياء إلا إذا كانت عدسات مستوية غير محدبة وغير مقعرة، وإلا فإنها تضاعف الحجم أو تصغره وتعطي له صورة منافية للحقيقة.
ولا شك أن الحقيقة العلمية في أي مجال هي حقيقة محايدة، ينبغي أن تكون بصورتها الحقيقية وإلا أعطت صورة مزيفة لا تفيد.
وهذا يصلح في كافة العلوم عدا مجال واحد وهو علم التاريخ.
لأن التاريخ باعتباره أخطر العلوم البشرية وأكثرها تفردا" " كان هو العلم الذي تمكن به الإنسان من بناء الحضارات عبر الزمن.
ولأن أساس بناء الحضارة يكمن في دراسة وتحليل التاريخ كي نتعلم منها لإصلاح الحاضر والمستقبل، لأجل ذلك كان التعامل مع التاريخ يتم من خلال ثلاثة طرق.
والطرق الثلاث تمثل الجوانب الثلاث للعدسات.

*العدسة المستوية
ننظر من خلالها للتاريخ نظرة أكاديمية بحثية محايدة، حيث نعتني بتسجيل وتحقيق الأحداث والوقائع التاريخية بدقة كما حدثت بالضبط.
وهنا تكون عين الباحث أشبه ما تكون بعين الكاميرا، حيث تسجل وتلتقط وتوضح الحدث نفسه بشكل محايد دون التدخل بالتحليل واستخراج الدروس أو التفكر.
وتأتي أهمية الدراسة الأكاديمية المحضة في كونها توفر المادة الخام للتاريخ، والتي يتيح وجودها للباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع أن يتأملوا فيها وَيُمَحّصونها بعد ذلك.
ومثالها المراجع الأصلية الكبرى في التاريخ الإسلامي مثل (تاريخ الأمم والملوك) للعلامة ابن جرير الطبري، والذي حرص فيه الطبري على جمع كافة مرويات التاريخ الإسلامي بأسانيدها في كتابه وتركها دون تحقيق أو تمحيص واكتفى بأنه ذكر كافة الأسانيد لكل رواية على حدة.
وهو هنا قام بدوره وترك للباحثين تمحيص وفحص أسانيد الروايات لتمييز الروايات الصحيحة من الضعيفة وهو الذي قام به علماء الجيل الثاني من المؤرخين حتى الأجيال المعاصرة في الدراسات الجامعية والأكاديمية

*العدسة المحدبة
وهي التي تقوم بتصغير الأشياء عن حجمها الأصلي، وهي ضرورية للباحثين في المجال الفكر ي العام والمهتمين بمعالجة واقع المجتمع في كل عصر.
ولكي يقوم هؤلاء الباحثون بمهمتهم فلابد لهم من استكشاف التاريخ وأخذ الأفكار والدروس العامة من أحداثه والربط بينها وبين واقع المجتمع المعاصر كي تتولد الأفكار التي تفيد المجتمع في قضاياه المختلفة.
والباحثون أو المفكرين من هذا النوع لا يحتاجون إلى قراءة التاريخ قراءة سردية كاملة وتفصيلية، لأن أخذ العبرة والدرس يكفي فيه أن تحيط بالأحداث بشكل عام ومختصر ومركز كي تنجح في استخلاص العبرة والدرس من عدة أحداث عبر عدة قرون.
لذلك فهؤلاء يفيدهم النظر إلى التاريخ من خلال العدسة المحدبة التي تقوم بتصغير حجم الوقائع واليوميات وإهمال التفاصيل والاكتفاء بإعطائهم الصورة العامة للحدث التاريخي.
ومثال ذلك كثير من الكتابات الفكرية الهامة في الحضارة العربية أو الغربية سواء من القدماء أو المعاصرين، مثل الموسوعات المختلفة وكتب تاريخ العلوم، وكتب معالجة أزمات المجتمع الأخلاقية والسياسية وغيرها.
ونجد أمثلة هذه الكتابات في تراث مفكرنا الكبير (مصطفى محمود)، وفي تحليلات العالم العراقي (أحمد الكبيسي) في تاريخ وقصص الأنبياء، وكتابات (عباس العقاد) في تحليل التاريخ الإسلامي وفي كتابات (خالد محمد خالد) وغيرهم من مفكرينا المعاصرين

*العدسة المقعرة.
وهي التي تقوم بتكبير حجم الأشياء عن حجمها الطبيعي وتعطيها حجما أكبر بأضعاف.
وهذا النوع من العدسات هو الذي يستخدمه المفكرون الاستراتيجيون وقادة الرأي العام، وعلماء الاجتماع أصحاب الرؤية النقدية النافذة ممن يلعبون أدوارا عظمى في أوطانهم بل ويكون لهم القدرة على تغيير موازين مجتمعاتهم سياسيا واجتماعيا وحضاريا.
وهؤلاء هم من يستخدمون العدسة المقعرة لتكبير أحداث صغيرة الحجم والتأثير بالمقاييس العادية لكنها تصبح بالنسبة لهم أحداثا كبرى وصاحبة التأثير الأكبر في المجتمعات.
حيث يتناولون هذه النقاط الصغيرة ويفصلونها بالشرح والتحليل والتركيز، ليخرجوا منها بأكبر الفوائد المتمثلة في وضع تصور شامل للأزمات ووضع الحلول المناسبة لها
وأول وأكبر المفكرين في هذا المجال هو العلامة (عبد الرحمن بن خلدون) الذي أسس (علم الاجتماع) بكافة فروعه، وانتشرت كتبه وأبحاثه لتكون الأساس الذي اعتمدت عليه حضارتنا والحضارة الغربية في مجالات علم الاجتماع الحضري والسياسي
وامتلك ابن خلدون مكانة عظمى في مجال الفكر الاجتماعي والسياسي، هي نفس المكانة التي حظي بها (الخوارزمي) في مجال الرياضيات بعد تأسيسه لعلم الجبر والتفاضل والتكامل، وكذلك مكانة (ابن النفيس) في الطب والجراحة وغيرهم كثير.
وقد ابتكر ابن خلدون طريقته في النظر للتاريخ عن طريق تركيزه الشديد على تأثيرات البيئة والطباع المجتمعية في صناعة الأحداث، وكتب مقدمته الشهيرة (مقدمة ابن خلدون) التي جعلها تلخيصا لمدى تأثير البيئة والطباع على التاريخ العربي.
ثم كتب بعدها كتابه الموسوعي (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر وغيرهم من ذوي السلطان الأكبر) والمعروف باسم (تاريخ ابن خلدون)
والمتأمل في مجموع ما قدمه ابن خلدون في المقدمة والتاريخ يجد أنه روى التاريخ مختصرا في الأحداث والوقائع لكنه كان شديد التفصيل والتأصيل في النتائج والأفكار.
وقد صاغ أفكاره التي حددت نقاط القوة والضعف وأسباب قيام الحضارات وانهيارها بشرح سلس ولخصها بعبارات جامعة مانعة منها تلك التي شرح فيها آفة الطباع العربية في قوله:
(فهم متنافسون في الرئاسة وَقَلّ أن يُسَلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره)
والتي تم تلخيصها في الحكمة الشهيرة:
(آفة العرب الرياسة)
وهي عبارة تستحق شرحها برسالة دكتوراه، إذ وضع ابن خلدون يده على الداء الأكبر في المجتمع العربي بأكمله ألا وهو حب الرياسة والتصدر، ومهما كانت شدة الحروب على أنفسهم وهم في وقت اجتماعهم تجدهم على قلب رجل واحد لا يقدمون إلا المصلحة العليا.
وما إن يتم لهم النصر ويبدأ التفكير في الغنائم حتى تظهر المصالح الشخصية.

كذلك من أبرز من استخدموا العدسة المقعرة لمعالجة التاريخ مفكرنا الكبير (جمال حمدان) والذي وضع موسوعته الكبرى (شخصية مصر ــــــــ دراسة في عبقرية المكان).
وعنوان الدراسة وحده كفيل بمنحه درجة العبقرية حيث عالج جمال حمدان مبرر الأهمية الكبرى لمصر في سائر عصورها بين دول العالم من خلال التأمل في تاريخها بتوسع، والنظر في أسباب وقوعها دوما في قلب الأحداث الإقليمية والعالمية.
وانتهى في دراسته إلى أن عبقرية المكان الجغرافية هي التي جعلت من بروز أهمية مصر قَدَرا متكررا ومحسوما، كما أن مكانها المتفرد فرض عليها مفهوما واسعا لأمنها القومي يتخطى حدودها باستمرار.
لأنه مع هذا الموقع الواقع في قلب العالم من المستحيل أن تنعزل مصر عن محيطها الإقليمي أو الدولي وتكتفي بحدودها الجغرافية وحدها كصمام أمان.
لذلك دوما كانت في حاجة للتحالفات وللدخول في معارك دفاع عن الأراضي المحيطة بها شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.
كذلك عالج جمال حمدان واحدا من أخطر عيوب الشخصية التاريخية في مصر، وهو عيب شامل متكرر عبر تاريخ مصر القديم والحديث.

فمصر تضيق بالعباقرة فعليا في كل مجال، وبدلا من أن تصبح هذه الحالة منحة تفوق أصبحت في المجتمع المصري آفة خطيرة في كثرة الكم والكيف من حيث النبوغ، مما أدى لأن تكون طاقة المجتمع السلبية موجهة دوما للمتميزين والعقليات المتفوقة الذين ينبغون في الغالب خارج بلادهم، ويبرز القليل منهم داخل البلاد
في نفس الوقت الذي تنساق العقلية المجتمعية لعديمي الموهبة إذا امتلكوا القدرة على النفاق الاجتماعي الذي يجذب العوام بعيدا عن الخطاب النقدي الذي يستخدمه أصحاب العقليات المتفوقة!
فقال جمال حمدان عن هذه الصفة العجيبة:
(واحد من أخطر عيوب مصر هي أنها تسمح للرجل العادي المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق، الأمر الذي يؤدى إلى الركود والتخلف وأحيانا العجز والفشل والإحباط، ففي حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلى القميء، فإنها على العكس تضيق أشدَّ الضيق بالرجل الممتاز، فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون إتباعيا لا ابتداعيًّا، تابعًا لا رائدًا، محافظًا لا ثوريًّا، تقليديًّا لا مخالفًا، ومواليًا لا معارضًا. وهكذا بينما تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها تتعثر أقدامها في العمالقة وقد تطؤهم وطئًا

كذلك من مفكري مدرسة العدسة المقعرة أستاذنا وأستاذ الأجيال (محمد حسنين هيكل) ومفكرنا الكبير (عبد الوهاب المسيري)
وكلاهما توجه بالعدسة المقعرة لأهم قضايا الأمن القومي عن طريق توجيه العدسة المقعرة لأدق التفاصيل المهمة في علاقتنا مع الغرب، فتناولها هيكل من خلال التحليل الفذ للوقائع السياسية، وتناولها عبد الوهاب المسيري من خلال دراسة بالغة العمق للتوجه الفكري الغربي وتتبع مدارسه المعاصرة وانهيارها الأخلاقي والتركيز على إسرائيل كصنيعة غربية محضة بهدف تحقيق الفلسفة المادية القائمة على تحويل البشر لمادة استعمالية –على حد تعبيره-أي تحويل الإنسان لآلة مادية لا تربطها أو تُقَيدها الأمور المعنوية كالأخلاق والأديان.
وهذا التوجه هو الهدف الاستراتيجي الذي قامت عليه الرأسمالية الأمريكية المسماة بالليبرالية الجديدة والتي تجاوزت حتى التطرف المالي في الرأسمالية الأصلية التي وضعها (آدم سميث) بكتابه الشهير (ثروات الأمم).
أما هيكل فقد كان دوره السياسي واحدا من أهم وأخطر الأدوار التي نقلت لنا من الوثائق الغربية والعربية تاريخ منطقة الشرق الأوسط في واحدة من أحلك فتراته وهي فترة القرن العشرين وركز على المشروع الصهيوني وعاونته عقليته المتفوقة ومصادره العميقة والمنتشرة على إخراج أهم موسوعات التاريخ الحديث على الإطلاق.
حيث ركز بالعدسة المقعرة على التفاصيل الخفية شديدة التأثير والتي كان لها أخطر الأدوار في تحويل مسار تاريخ المنطقة خلال الحربين العالميتين" "

من خلال هذه الرؤية نستطيع أن نضع أيدينا على مفتاح الفهم في قضية فلسطين.
لأن النظر إلى القضية الفلسطينية في حدود مُسَمّاها، هو القصور بعينه.
فالقضية الفلسطينية حَمَلَت عنوانا ضخما هو (الصراع الأزلي بين الشرق والغرب)، والذي بدأ في عصره الأول مع تكوين دولة الخلافة الراشدة وسحق فارس والروم، وانتهى هذا الفصل بالريادة والسيادة التامة لدولة الخلافة في عصورها الذهبية.
وبدأ بعدها الفصل الثاني مع ضعف وتشرذم إمارات الخلافة العباسية منذ عصرها الثاني واحتفاظها فقط بالمسمى المنتمي للخلافة، وهي المرحلة التي بدأ فيها الغرب يستعيد قوته وشن حملته الصليبية الأولى ثم سقطت القدس والشام وتكونت إمارات الصليبيين فيهما، وكان هذا الفصل إيذانا بظهور عهد المقاومة وظهور الإمارات القوية المستقلة التي خاضت المعارك ضد الصليبيين من بداية تجربة (نور الدين زنكي) و(نور الدين محمود) و(صلاح الدين الأيوبي) حتى الحملة الصليبية السابعة التي انكسرت في مصر في نهاية العصر الأيوبي وبداية عصر المماليك الذي وقف فيه المماليك أيضا ضد الصليبيين والمغول بالذات في عهد المماليك الأقوياء مثل قطز وبيبرس وقلاوون وأبناؤه خليل ومحمد وغيرهم.
وهذا الفصل انتهى بانتصار الشرق الإسلامي أيضا ولو أنه كان انتصارا بالنقاط لا انتصارا بالضربة القاضية كما هو الحال في عهد دولة الخلافة القوية (الراشدة – الأموية – العباسية)
وبدأت الجولة الثالثة ببداية تكون الخلافة العثمانية التي نشأت كإمارة صغيرة على أطراف الشام العليا وامتدت وتوسعت وسببت انشغالا أوربيا ساحقا بالعثمانيين الذين خففوا الضغط على جبهة الشرق بغزاوتهم ضد الروم.
وكانت العلاقة بين العثمانيين والمماليك علاقة تحالف حتى ثارت الخلافات والطموحات بين (سليم الأول) و(قنصوه الغوري) ودخل سليم الأول لمصر وهنا أصبحت الخلافة العثمانية هي الركن الجامع لأراضي الخلافة الإسلامية التاريخية فضلا على الأراضي الشاسعة التي فتحتها في أوربا بما فيها الإنجاز الأعظم وهو إسقاط دولة الروم بسقوط (القسطنطينية) في عهد (محمد الفاتح)
وهنا تمكنت الخلافة العثمانية من تجديد شباب دولة الخلافة الأولى بعصرها القوي ونجحت في فرض إرادتها على سائر أوربا لتنتهي أحلام أوربا والحملات الصليبية بشكل تام في ذلك العصر بعد أن أصبحت أراضي أوربا نفسها نهبا للعثمانيين.
وبالتالي انتهت الجولة الثالثة من الصراع بتفوق ساحق ولكنه تفوق استمر ساحقا من عصر العثمانيين الأول حتى نهاية عصر السلطان (سليمان القانوني)
وهنا مَرّت الخلافة العثمانية من عهد (سليم الثاني) إلى نهايتها بمراحل ضعف متدرجة، بدأت بسيطة ولكنها تعاظمت بمرور الزمن حتى دخول العصر الحديث.
وبدخول العصر الحديث بقيام الثورة الفرنسية كان المسرح في أوربا قد شهد ميلاد قوى عظمى عسكرية وعلمية لا سيما في بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وهولندا الذين قاموا بغزو البحار والمحيطات واستعمار الأراضي الشاسعة في أقاصي الأرض.
وبدأ النظر يكثر لميراث الخلافة العثمانية في الشرق بالتحديد.
وهنا كانت بداية الجولة الثالثة من الصراع بالحملة الفرنسية على مصر.
وكانت الحملة الفرنسية –كما سنرى-هي السبب الرئيسي في تحويل الشرق الأوسط لمنطقة صراع عالمية شديدة التأثير على العالم أجمع.
لأن المؤامرة الغربية التي تطورت بإضعاف العثمانيين وضرب تجربة (محمد علي) في مصر والتمهيد لاحتلال مصر والشام، هذه الأحداث كلها رسمت خريطة تفصيلية لكل ما حدث بالعالم أجمع بعد هذا التاريخ.
ولنا أن نتخيل أن قضية فلسطين وتوطين اليهود في فلسطين، كان عنوانا لحرب عالمية فكرية خسرها الشرق وربحها الغرب وفرضت النظام العالمي الجديد الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة وأوربا الغربية أصحاب معادلة القوة في كل ركن من العالم حتى اليوم.

لذلك فإن ضرورة فهم القضية الفلسطينية لابد أن يتم في هذا الإطار حتى يمكن القول بفهم أبعاد هذا الصراع

ولهذا كله فإن النظر للقضية على أنها قضية تحرير المسجد الأقصى والأراضي المحتلة والخلاص من العدو، ستكون نظرة قاصرة حتما لأنها تقصر القضية على المقاومة المسلحة المماثلة للمقاومة التي اشتعلت في بلادنا العربية كافة ضد المحتل الغربي خلال القرن العشرين
بينما احتلال فلسطين كان احتلالا عسكريا واستيطانيا مختلفا ووراءه مشروع سياسي واقتصادي متكامل.
فالاحتلال الغربي لمصر والشام والعراق واليمن وليبيا والمغرب العربي، كان احتلال الجيوش والقواعد العسكرية، ومثل هذا الاحتلال محكوم عليه بالرحيل مهما طالت المدة.
أما الاحتلال في تجربة فلسطين فكان احتلال التطويع لا احتلال السيطرة، واحتلال الاستيطان لا احتلال استغلال الموارد فقط، احتلال تأسيس للسيطرة الغربية على الشرق الأوسط لا مجرد احتلال عسكري لأقطار استراتيجية

كما أن النظر إلى القضية الفلسطينية على أنها فلسطينية وفقط، أو مسألة دينية وفقط، أمر قاصرٌ جدا لأن مسألة فلسطين ليست مسألة قومية ضيقة ولا يمكن أن تكون، فالنُظم والتقسيمات الحدودية الحالية كانت تقسيما فرضته القوة الغربية من خلال اتفاقية سايكس بيكو، بينما التقسيم الأصلي في زمن الخلافة العثمانية وما قبلها لم يكن يعرف من الدول المركزية في المنطقة إلا عددا محدودا من الدول ذات العمق التاريخي.
وهذه التقسيمات فرضها الاحتلال لخدمة مصالحه كما سنرى.
ومن ناحية أخطر.
لم تكن فكرة زرع اليهود في فلسطين فكرة قومية أو حتى دينية الهدف منها جمع شتات اليهود، بل الفكرة-كما سنرى-هي استمرار فرض القوة الغربية المحتلة لسطوتها على منطقة الشرق الأوسط بأكمله، ومنع أي محاولة جادة للتوحد بين دول المنطقة سواء كان توحدا جزئيا أو كاملا.

ومن خلال الرؤية المتعمقة أيضا سندرك حقيقة أخرى كان ينبغي أن تكون في مقدمة الحقائق التي يجتمع عليها الناس.
ألا وهي فكرة معرفة حدود الحرب بيننا وبين الغرب.
فالحرب بصورتها القديمة كانت حربا مسلحة أي حرب تكسير عظام وفرض الإرادة بالقوة، لكن الحرب منذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت أصبحت حرب (استراتيجية فكرية) وأصبحت الجيوش فيها أداة وعامل من عوامل القتال لا أكثر.
حيث أصبحت الحرب الفكرية هي الأصل والأساس الذي نجحت به القوة الاستعمارية في تفتيت المنطقة وفرض الحصار عليها دون استخدام القوة المفرطة، أو التكاليف الباهظة حيث وضعت دول المنطقة بأكملها داخل دائرة محدودة لا تخرج منها مهما حاولت.
وبما أن الحرب الفكرية الغربية نجحت نجاحا ساحقا في فرض إرادتها على المنطقة منذ بدايات القرن العشرين، فهذا يعني أن فَهْم هذه الحرب وفهم أبعادها وكيف بدأت أصبح الآن هو الهدف الأهم والأسمى لتأسيس جيل التحرير الذي سيحمل على عاتقه شرف القتال لأجل قضية الأقصى.
فالمعرفة، والمعرفة الواعية وحدها هي التي تؤسس المقاتل ليصبح مقاتلا عن عقيدة واعية، يدرك بها عدوه، ويدرك بها المتخفي في شكل الصديق بينما هو أعدى الأعداء.

وهذا الكتاب محاولة لقراءة وفهم القضية في مجملها بثلاث نقاط.
النقطة الأولى:
وهي أننا سنترك مصادر الكتاب في الهوامش لمن أراد التفاصيل التاريخية كاملة وبهذا تتوفر العدسة المستوية لمن أراد التاريخ كاملا.
والنقطة الثانية:
وهي العدسة المحدبة التي سنسلطها على الأحداث التاريخية لنمزج بين الوقائع العسكرية والاختراقات الفكرية معا ونشرح كيف نجح الغرب في تحقيق النجاح فيها بصبر واستماتة.
والنقطة الثالثة:
وهي العدسة المقعرة التي سنضخم فيها الخطوات التي اتخذها الغرب لتأسيس منهج (الصهيونية المسيحية واليهودية)، وسبب لجوئهم لتلك النظرية في التعامل مع العرب وكيف نجحت خطوات المشروع الصهيوني في إفراز الوضع الحالي للدول العربية.
وهو الوضع المزرى الذي لم تشهده أمة العرب منذ قيامها قبل ألف وأربعمائة عام!
حيث رأينا في الأحداث الجسيمة المعاصرة ما لم نتخيله في أبشع كوابيسنا، حيث تعربد إسرائيل بجيشها وعنفوانها على أقصى اتساع دون أدنى رد فعل من الأنظمة والجيوش العربية للدرجة التي تُعجزهم -حتى عن المساعدات المدنية-بغير الموافقة الإسرائيلية!
ناهيك عن وجود الأنظمة الحليفة لإسرائيل والغرب والتي تعادي المقاومة الفلسطينية بأكثر مما يعاديها الغرب نفسه!
فهذه الظواهر كلها في حاجة إلى تفسير وقراءة تاريخية تزيل اللبس الواقع في نفوس وعقول الأجيال الجديدة التي لا تدري كيف وصلنا إلى هذه النقطة.






التوقيع

الإيميل الجديد
 
رد مع اقتباس
قديم 11-02-2024, 10:09 AM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
محمد جاد الزغبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي
 

 

 
إحصائية العضو






محمد جاد الزغبي غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)


الفصل الأول
في البدء كانت فرنسا

القضية لم تكن أبدا قضية فلسطين.
بل كانت منذ البداية قضية تعامل الغرب مع الخلافة الإسلامية منذ نشأتها، ومنذ انهيار سلطان الروم على الشام ومصر وإفريقيا، ثم انهيار الرومان وتفتت أوربا المسيحية لعدة دول ورثت عن أسلافها عقيدة الحرب تجاه الخلافة الإسلامية عبر عصورها المختلفة.
فجاءت الحملات الصليبية تترى على الشام ومصر تحديدا طمعا في انتزاع موطن قدم يمكنهم من فرض وجودهم الاستعماري مجددا.
لكن تلك الحملات-رغم نجاح بعضها في تكوين إمارات صليبية-إلا أنها كانت تفشل دائما رغم التشتت والتمزق الذي عانته الإمارات العربية المتناحرة
وهكذا مر تاريخ الحملات الصليبية صعودا وهبوطا حتى انتهت آخر الحملات الصليبية إلى غير رجعة بعد أن قامت الخلافة العثمانية واتسعت رقعتها، وامتد سلطانها إلى تخوم أوربا ثم كانت الضربة القاصمة بإسقاط (القسطنطينية) عاصمة الروم التاريخية لتنتهي حقبة المعارك الصليبية على الشرق في صورتها القديمة بعد أن نجحت الخلافة في مد رقعة سلطانها على شرق أوربا، وفرض إرادتها على معظم الممالك الصليبية في أوربا

وبمرور الزمن وضعف الخلافة العثمانية عاد الغرب فجَرّب الحملات العسكرية مرارا في العصر الحديث، ولكن مع الحملات العسكرية انتبه إلى طبيعة المواجهة بينه وبين المسلمين.
حيث كان التساؤل الدائم منذ أول معركة جرت بين المسلمين والرومان، هو الدهشة والذهول الحقيقي من تلك القدرة الفائقة التي اكتسبها العرب والتي مَكّنتهم بدون إمكانيات من إسقاط القوتين العظميين في عصرهما (فارس) و(الروم)
وكانت الفوارق الرهيبة في التسليح والتنظيم والإمكانيات اللامحدودة كلها لصالح الفرس والروم في مواجهة أعداد من العرب لا تجد عددا كافيا من الخيول أو أدوات القتال.
حتى عندما تعملقت الخلافة الإسلامية في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين، كانت الغلبة الساحقة للمسلمين في مواجهة جيوش نظامية أوربية عالية الإمكانيات ومن عدة تحالفات بين دول أوربا.
بل إنه في زمن التشرذم والانهيار وبداية تفتت الخلافة العباسية إلى إمارات صغيرة، ورغم نجاح الأوربيين في تكوين إمارات صليبية في الشرق واحتلال القدس لسبعين عاما، إلا أن الإمارات الإسلامية الصغيرة نجحت في قهر الصليبيين عبر عشرات المواجهات، بل ونجحت في صد المغول أيضا" ".
وتجارب الإمارات الإسلامية المستقلة ونجاحها كان أمرا لافتا للغاية، لأن التمزق كان يضرب وحدة المسلمين في مقتل، لهذا كانت الدهشة واجبة من نجاح تجربة (عماد الدين زنكي) وولده (نور الدين محمود) وهما التجربتان اللتان مهدتا لظهور إمارة (صلاح الدين) وتحرير القدس في معركة (حطين) ثم التصدي للتحالف الأوربي بقيادة ريتشارد قلب الأسد
كما أن الدهشة كانت موجودة على الجانب الآخر من أوربا حيث تأسست إمارة (المرابطين) في المغرب وإفريقيا ببضعة أشخاص يتزعمهم فقيه مقاتل هو (عبد الله بن ياسين) مع الزعيم المغربي (يحيي بن إبراهيم) حيث قاموا بغير إمكانيات بتأسيس بذرة المرابطين لتصبح الإمارة بعد ذلك دولة عظيمة وسامقة نبغ فيها الأمير (يوسف بن تاشفين) والذي نجح في تأخير سقوط الأندلس بيد الصليبيين لعدة قرون، بعد أن خاض أول معاركه ضد القشتاليين بالتحالف مع أمراء الطوائف في معركة (الزلاقة)
ثم مد ابن تاشفين سلطانه إلى الأندلس لتحكمها دولة (المرابطين) ثم دولة (الموحدين) التي وقعت فيها موقعة (الأرك) المماثلة لموقعة حطين في القوة والتأثير لتمتد الإمارة الإسلامية في الأندلس من الفتح حتى السقوط قرابة ستة قرون كاملة بعد أن كادت تسقط بأكملها في يد القشتاليين في عهد ملوك الطوائف
وبطبيعة الحال كان الجواب دائما هو طبيعة العقيدة الإسلامية التي تُوَحد المسلمين تحت راية واحدة بغض النظر عن العرق والجنس واللغة.
وهي نفس العقيدة التي جعلت من القبائل العربية المتناحرة في عهد الجاهلية، قوة عظمى موحدة بالوحي الإلهي مصداقا لقوله تعالى:
(وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ)

لذلك بدأ الغرب مبكرا في دراسة الإسلام وعقيدته وتاريخه من الداخل بحركة بحثية عملاقة المعروفة باسم حركة (الاستشراق).
وكانت الحرب الفكرية قد استوت على سوقها وتأسست في العصر الحديث بداية من عصر النهضة الأوربية وبعد أن نجح الأوربيون في إلحاق الضعف والتآكل بالخلافة العثمانية وَدَفْعِها بالتدريج لكي تتخلى عن ثوابت الشريعة الإسلامية والغرق في محاولات التحديث الأوربية التي كانت الخطوة الأولى للسيطرة الفكرية والسياسية والاقتصادية على البلاط العثماني.

واللافت للنظر أن أوربا في عصر النهضة ومنذ الثورة الفرنسية خاضت حروبا داخلية عنيفة، ورغم ذلك لم تكن تلك الحروب عائقا عن إدراكهم وعقيدتهم الثابتة في عدوهم المشترك المتمثل في الخلافة العثمانية والإسلام بعموم.
وكان رأس الحربة الأوربي الحقيقي يتمثل في بريطانيا وفرنسا، حيث خرجت منهم أكبر الجيوش وأعتى الأقلام البحثية لمحاولة تطويع العثمانيين، وتطويع الشرق والتطلع لإعادة الحملات الصليبية بشكل جديد في العصر الحديث.
لكن البداية الحقيقية بالفعل كانت لدى فرنسا...
وبالتحديد عند إمبراطور فرنسا الشهير (نابليون بونابرت) والذي يُعْتبر القائد الأوربي الوحيد الذي نجح في وضع الاستراتيجية الفكرية والعسكرية الناجحة للسيطرة على الشرق وهدم الإسلام من داخله فكريا، وهزيمة قوته العسكرية خارجيا.
ودور نابليون وحملته الشهيرة على الشرق التي بدأت بمصر وانتهت بالشام، هذا الدور المركزي هو السبب الرئيسي والأساسي الذي استفادت منه بريطانيا بعد ذلك لتفعيل خطة نابليون وفكرته بتأسيس وطن قومي لليهود في الشرق في بؤرة أرض فلسطين بالتحديد.
ليس محبة في اليهود أو محاولة لمساعدتهم.
بل كانت فكرته العبقرية في إنجاح الغزو الصليبي للشرق بأكمله دون أن تتكلف أوربا إرسال الحملات العسكرية والنفقات الباهظة والحروب المتوالية.
وهذه النقطة الخطيرة كانت غائبة عن صفحات تاريخنا ودفينة في وثائق الحملة الفرنسية حتى حقبة التسعينيات من القرن العشرين.
لذلك كان من المهم أن نلخص طبيعة دور نابليون وفرنسا في تأسيس المشروع الصهيوني الذي كان له أكبر التأثير على تاريخ المنطقة والعالم.

*الثورة الفرنسية وأثرها على الشرق الإسلامي.
ربما كان من حق القارئ أن يندهش إذا عرف أن قيام الثورة الفرنسية كان له تأثير عارم وجارف على الشرق الإسلامي.
رغم أن المعلوم بالضرورة من كتب التاريخ أن الثورة الفرنسية كان لها التأثير الأعظم على أوربا باعتبارها الحدث المفصلي الذي أصبحت أوربا قبله مختلفة جذريا عن أوربا بعده.
وتأثير الثورة الفرنسية في الغرب لا علاقة له بموضوعنا، لكن تأثيرها على الشرق يكفي أن نقول بأنه لولا قيام الثورة الفرنسية وظهور شخصية (نابليون بونابرت) في موقع الأحداث، لما بزغت فكرة الوطن القومي لليهود، ولا تكونت دولة الكيان الصهيوني من الأصل!
وبالطبع تخالف هذه الحقائق كل ما درسناه سابقا عن نابليون والحملة الفرنسية والرعاية البريطانية لفكرة الدولة اليهودية.
وسبب ذلك أن الوثائق الكاشفة لهذه الحقائق ظلت مستترة ومهملة عنا حتى تسعينيات القرن العشرين تقريبا!
أي أن وثائق الحملة الفرنسية التي قلبت طاولة البحث العلمي حول الحملة الفرنسية ظلت بعيدة عنا حتى تسعينيات القرن العشرين.
ولكي يدرك القارئ تسلسل الأحداث بترتيبها التاريخي سنبدأ القصة من بدايتها.

حيث ظهر في التسعينيات مرجع بالغ الأهمية للقضية الفلسطينية كتبه أستاذ الأجيال (محمد حسنين هيكل) وأصدره بعنوان (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل) يؤرخ فيه للتاريخ السياسي الخاص بالقضية الفلسطينية واحتوى الجزء الأول من الكتاب على مفاجأة مذهلة وهي أن وثائق الحملة الفرنسية على مصر تم العثور عليها رغم أن هذه الوثائق كان متعارفا بين الباحثين أنها مفقودة وضاعت بعد خروج الحملة الفرنسية وأنها في الغالب غرقت مع الأسطول الفرنسي الغارق بعد معركة أبي قير البحرية الشهيرة.
واقتنع الباحثون أن كنز وثائق نابليون ضاع وتم فقده لأن الوقائع التاريخية تشير إلى أن الأسطول الإنجليزي الذي هزم الفرنسيين في معركة أبي قير قد ترصد للسفن الناجية من الأسطول الفرنسية وأغرقها
وقد بحث علماء التاريخ الحديث في خزائن وزارة الخارجية الفرنسية ووزارة المستعمرات ووزارة الحربية الفرنسية عن تلك الوثائق وبالفعل لم يجدوا منها شيئا
لكن أحد أهم علماء التاريخ الحديث وهو الدكتور (أحمد حسين الصاوي)، خطر بباله أن تلك الوثائق ربما نجت بالفعل وتم تخزينها في محفوظات وزارة البحرية الفرنسية والتي لم يخطر ببال الباحثين أن يطالعوا وثائقها.
وفوجئ الدكتور الصاوي بأن كنز وثائق الحملة الفرنسية يتركز معظمه في تلك المحفوظات، حيث عثر الصاوي على عشرين ألف وثيقة منها تقبع في انتظار التحقيق والبحث.
وهرع الدكتور الصاوي لوزارة الثقافة المصرية ووزيرها (فاروق حسني) ليطلب تمويل الجهود العلمية لتحقيق تلك الوثائق لكنه لم يجد حماسا أو تشجيعا!
وهذا أمر طبيعي لأن شلة وزارة الثقافة ومثقفيها ومن شايعهم كانت الحملة الفرنسية بالنسبة لهم كالكعبة المقدسة، لأنهم ينظرون لها كحملة تنوير!
أضف إلى ذلك أن الحديث عن مشروع نابليون الاستيطاني الذي مهد وخطط لتكوين الدولة اليهودية كانت موضوعا محظورا بالنسبة لفاروق حسني وبقية مثقفي التطبيع الذين ظهروا بمصر على فتر ات متفاوتة ويعطل طموحاتهم المختلفة، فمنهم من كان يسعى لمنصب دولي مثل (فاروق حسني) الذي تقدم لمنصب مدير اليونسكو، ومنهم من كان يسعى لجائزة نوبل ومنهم من كان يسعى للشهرة في عالم الغرب .... الخ تلك الطموحات" "!
وفي النهاية قاد الدكتور الصاوي حملة تبرعات لتحقيق الوثائق ونجح بالفعل في ذلك ليقدم للباحثين مصدرا هائلا أعاد النظر به إلى تاريخ تلك المرحلة من جديد
وكان الاكتشاف المذهل الذي أعلنت عنه وثائق نابليون وأوراقه الخاصة أن فكرة تجميع اليهود في موطن واحد في أرض فلسطين بالتحديد، لم تكن فكرة بريطانية بدأت مع نداءات المؤتمر الصهيوني الأول.
بل كانت الفكرة في الأساس فكرة (نابليون بونابرت).
بل المفاجأة الأعظم أن حملة نابليون على مصر لم تكن بهدف تأسيس إمبراطورية فرنسية في الشرق وفقط كما قالت كتب التاريخ، بل كانت حملة نابليون تهدف في الأصل إلى تخصيب وتجهيز الأرض لتوطين اليهود تحديدا على أرض فلسطين في خطة بعيدة المدى تمنح الاستقرار والديمومة للإمبراطورية الفرنسية في الشرق بحيث لا تتمكن حركات التحرر القومي من إعادة طرد الصليبيين الجدد مرة أخرى
وقد تمكن الإنجليز بعد ذلك من مطالعة خطة نابليون وأعادوا إحيائها وتخطيطها ليتم تنفيذها بخطوات استمرت أكثر من مائة عام قبل التنفيذ الفعلي!

لكن السؤال هنا؟
ما الذي كان يهدف إليه نابليون من فكرة توطين اليهود في فلسطين، وما الفائدة التي كانت ستعود على الإمبراطورية الفرنسية من ذلك؟
وكيف وقعت أوراق خطة نابليون في يد مليونيرات اليهود في إنجلترا وتحمست لها السلطة الإنجليزية باعتبارها خطة عبقرية تحقق لهم احتلال الشرق الأوسط والسيطرة عليه دون التورط في الاحتلال المباشر لكافة الدول العربية؟
ولماذا تحالف الغرب بأكمله حتى اليوم لدعم وجود إسرائيل في المنطقة باعتبارها صمام أمان المصالح الغربية في الشرق الأوسط؟!
هذا ما سنعرفه من تفاصيل فكرة نابليون وشخصيته.

*نابليون وحلم الإمبراطورية الفرنسية في الشرق

المصالح وثروات الشرق دائما كانت المحرك الرئيسي من الغرب في التعامل مع كافة دول الشرق الأقصى والأدنى والأوسط
وعندما احتل الرومان المشرق العربي في الشام ومصر لم يكن الهدف الرئيسي والمحرك الأساسي إلا المصالح الاقتصادية، رغم أنهم دوما يحملون الصليب ويجعلون الشعارات الدينية هي المحرك الظاهر أمام الجماهير.
وذلك لطبيعة التحالف الحاكم بين الكنيسة الغربية والأسر الحاكمة، حيث تقوم الكنيسة بمنح الشرعية الإلهية بالدين لسلطة الحكم، وفي المقابل يعطيها أهل الحكم الشراكة والدعم في مواجهة الجماهير المطحونة.
وليس معنى هذا أن التطرف الديني الصليبي كان زائفا، أو غير موجود بل كان موجودا – ولا زال-وبقوة لدى الكنيسة الغربية، لكن قصور الحكم الأوربي وقادته السياسيين دعموا هذا التطرف ووضعوا قواتهم تحت تصرفه لأنه يتوافق تماما مع مصالحهم السياسية والاقتصادية، ولولا هذا لظلت أحلام الكنيسة باستعادة الشام ومصر مجرد أحلام على الورق.
بمعنى أن حرب الغرب على الشرق كان دافعها لدى الملوك هو الهدف الإمبراطوري والسياسي الاقتصادي، ودافعها عند الكنيسة هو الهدف الديني

وعندما فتح المسلمون الشام وإفريقيا وحاربهم الرومان، ومن بعدهم الإمارات الصليبية كانت الحرب أيضا قائمة للنفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية المتزاوجة مع الشعارات الدينية المتطرفة التي كانت سببا في الحملات الصليبية على الشرق.
وبطبيعة العصر في زمن أوربا الوسيط كانت المواجهة مع الشرق تتمثل في الحملات العسكرية وتأسيس الإمارات الصليبية في منطقتين تحديدا هما مصر والشام.
لكن القوة العسكرية الأوربية كانت تفشل دائما في تلك المواجهات بسبب التحالف الوثيق بين إمارات مصر والشام باستمرار.
حيث أصبح تواصل مصر والشام ضد الاحتلال الصليبي أمرا متكررا ومنهجا محسوما للدفاع عن الشرق والمنطقة بأكملها
وبفشل آخر الحملات الصليبية على مصر وهي الحملة الصليبية السابعة التي وقع فيها (لويس التاسع) أسيرا في المنصورة.
توقف النشاط الأوربي العسكري في فرنسا نتيجة للصراعات الداخلية والخلافات الخارجية حتى بدأت إرهاصات الثورة الفرنسية بعد فترة طويلة مع حكم لويس الرابع عشر حتى نجاحها في عهد لويس السابع عشر، نتيجة لجهود وكتابات فلاسفة (نظرية العقد الاجتماعي)، مثل (جان جاك روسو -لوك – هوبز)
وهم المفكرون الفرنسيون الذين خرجوا بأفكار جديدة مخالفة لأفكار الفلسفة الأوربية العتيقة لأفلاطون وأرسطو وسقراط وهي الفلسفة التي استمرت الكنيسة الغربية في تبني بعض أفكارها لتظل أوربا محكومة بالظلام الحضاري تحت سيطرة الكنيسة وقصور الحكم" ".
فجاءت فلسفة العقد الاجتماعي لتطرح قضية مشاركة الشعب في الحكم ومحاربة استئثار القلة الحاكمة بثروات البلاد
وقد تمت مواجهة هذه الأفكار بعنف السلطة لكنها لاقت رواجا كبيرا بين العوام، خاصة مع العنصرية العنيفة التي كانت تحكم الطبقات في المجتمع الأوربي.

في تلك الأثناء وُلد نابليون في جزيرة (كورسيكا) الإيطالية التي كانت ترضخ لظلم حكام (جنوة) الإيطاليون ولكن هذا الظلم تزايد بمصادفة قدرية جعلت هناك علاقة بين فرنسا وكورسيكا، حيث قامت فرنسا باستئجار كورسيكا لمدة 99 عاما من حكام جنوة فتوجه الغضب الشعبي الساحق في كورسيكا تجاه فرنسا التي كانت تعيش آخر فترات جبروت الأسرة الملكية الحاكمة
وولد نابليون عام 1769 تحت الاحتلال الفرنسي الغاشم، ورغم كون عائلته من العائلات الثرية العريقة إلا أن الاحتلال قام بتضييق سُبل الرزق والعيش لأقصي حد واضطرت أمه لاحتراف الأعمال اليدوية كي تنفق عليه فانحدرت أحوال الأسرة للفقر المدقع
وكعادة الظلم الغاشم ظهر من بين الشعب في كورسيكا زعيم شاب مناضل حاز شهرة واسعة بين العوام وهو (باسكال ياؤولى) قام بتشكيل ميلشيات مسلحة لمقاومة الاحتلال الفرنسي كان منهم والد نابليون وتم قمع حركة ياؤولى بالقوة المسلحة مما حداه للهروب إلى إنجلترا، وعلى إثر ذلك قام والد نابليون بالانسحاب من قوات المقاومة وحاول مد جسور الصداقة مع الحكام الفرنسيين المحتلين خوفا على عائلته
وكان والد نابليون من الآباء العباقرة الذين يجيدون قراءة مواهب أبنائهم فأدرك موهبة ابنه نابليون في هوايته للتاريخ والخطط الحربية، فعمل على إلحاقه بإحدى المدارس العسكرية التابعة للإمبراطورية الفرنسية التي تحتل بلاده عن طريق استغلال علاقته الجديدة مع الحكام الفرنسيين لبلاده، ونجح بالفعل في إلحاقه بمدرسة (برين) الحربية العريقة التي كانت تضم أبناء الصفوة والمتفوقين دراسيا فقط، وعانى نابليون من شظف العيش بين أبناء الأثرياء لذلك عمل على تقوية مركزه الدراسي والتفوق فيه كي يتفادى شعوره بالاحتقار بين زملائه أصحاب النفوذ والثراء الفاحش" "

والواقع أن عقدة نابليون من زملائه كان لها أكبر الأثر في تشكيل عبقريته العسكرية والاستراتيجية لأنه وجد الحل الوحيد لمقاومة تكبر زملائه هو الانفراد بنفسه في المكتبة حيث عكف على قراءة المراجع الكبرى في التاريخ والعسكرية والتخطيط وخاصة مؤلفات المؤرخ الفرنسي (بلو تارك)
ظهر أثر ذلك سريعا عندما أحاطت الثلوج بمدرسته وَعَطّلت فنائها، فتقدم بفكرة عبقرية لقادته وهي استغلال الثلوج في تدريب الطلبة على مقاومة عوامل الجو والحرب في ظل ظروف جوية صعبة. وقد كانت هذه أول تكتيكات حروب الصاعقة الحديثة في أوربا والتي عرفها المسلمون الأوائل قبلهم بقرون.
لكن تطبيقها الأول في أوربا كان على يد نابليون.
وعلى إثر ذلك حاز نابليون على المركز الأول بلا منازع، ومن ثم انتقل للمدرسة الحربية الرئيسية للجيش الفرنسي في باريس وهناك صَدَمَته مظاهر الترف المذهلة للطلاب فتقدم بمذكرة لمدير المدرسة ينتقد فيها تلك المظاهر التي لا تناسب الحياة العسكرية مما لفت إليه الأنظار كضابط موهوب.
وظل نابليون بعيدا عن أسرته في باريس مشغولا في دراسته، حتى وفاة أبيه لكنه قاوم أحزانه واستمر بمدرسته حتى التخرج وخدم في فرقة الجنرال (لافيير) كملازم ثان ولم يتجاوز عمره 16 عاما

وكانت العنصرية في إمبراطورية فرنسا كعادة أوربا موجودة حتى في المجال العسكري, فكانت الترقيات العليا يتم توزيعها بناء على الانتماء للطبقات العليا في المجتمع لا الكفاءة العسكرية وكان نابليون يعلم ذلك بالطبع, لكنه وبقية عوام الشعب الفرنسي كانوا يقرءون ويطالعون أفكار فلاسفة الانقلاب الحضاري في فرنسا الذين تحدثنا عن أفكارهم إلى جوار بروز كتابات المفكر الفرنسي (فولتير ) الذى ركز الدعوة للتمرد والعصيان وهدم نظام الحكم وأفكار (جان جاك روسو ) الداعية لعقد اجتماعي جديد وإعلان حرب مستعرة ضد الحكم الإمبراطوري الإستعبادي
وتزايد التفاعل الجماهيري مع استمرار زيادة الضرائب وتنويعها لصالح الطبقة الحاكمة ورجال الكنيسة فضلا على القمع الشرس للشعب وشحن كافة المعارضين في معتقل (الباستيل) الرهيب الذي كان معتقلا تاريخيا في استخدامه لشتى أنواع التعذيب
وقد زاد من قوة الشحن أن الملك (لويس الرابع عشر) جد الحاكم المعاصر للثورة (لويس السابع عشر) كان قد بنى مجمعا سكنيا رهيبا بالغ الفخامة والاتساع بعيدا عن العاصمة وملأه بالقصور والمنتجعات وأطلق عليه اسم (قصر فرساي) وأصبح مقر الحكم الإمبراطوري ونقل إليه جميع الوزراء والنبلاء والأمراء وكبار رجال الحكم والإقطاعيين ليسكنوا فيه جميعا وتحيط بهم الأسوار الشاهقة، بعيدا عن العاصمة القديمة (باريس)

ورغم أن الهدف الرئيسي من هذا التجمع هو أن لويس الرابع عشر كان يخشى من انقلاب الأمراء عليه فعمل على جمعهم معه في مكان واحد، إلا أن هذا لم يكن الهدف الوحيد بل كان أحد أهم الأسباب هو جمع رجال الدولة في حصن فخم بعيدا عن الفقر المدقع وعشوائية العوام وتمردهم
وقد ورث (لويس السابع عشر) كل حقد الشعب الفرنسي على قصر فرساي ورغم أنه لم يكن حاكما غشوما كسابقيه إلا أن ضِيْق عقله وسيطرة رجال دولته عليه زادت من القمع بعد سيطرة (ماري أنطوانيت) زوجته على مقدرات الأمور واستغلت الملكة حصن قصر فرساي في حجب آهات الشعب عن مَلِكِه وأقنعه وزراؤه أن التمرد يأتي من قلة قليلة كالعادة
ولأن الثورة كانت تحتشد في النفوس بشكل طاغ يذكيها فلاسفة الثورة فقد تعددت التجمعات والإضرابات الشعبية وزادت ضراوتها حتى تجمع في العاصمة عدد هائل من جموع الشعب الفرنسي بغير قائد معروف أو رموز ثورية تقود الجماهير
ولعل هذا هو ما منح الثورة الفرنسية طابعا شعبيا كبيرا.
وفى غياب القادة وقفت الجماهير حائرة إلى أين تذهب؟!
فمقر حكم الإمبراطورية في قصر فرساي، ومقر القمع والقتل في معتقل الباستيل، ووسط هذه الحيرة دوت صرخة أنثوية من عجوز فرنسية بلا مأوى وتعيش على التسول قائلة:
(إلى الباستيل)
وبغير ترتيب مسبق استمعت الجماهير لها وتوجهت إلى معتقل الباستيل الرهيب لتكسر أسواره وتفتك بحراسه وتحرر آلاف المعتقلين في خطوة قذفت الرعب الحقيقي في قلوب الحكومة ورجال القصر، واستمر فوران الثورة رغم استفزازات النبلاء لهم ووصفهم بالرعاع والغوغاء فردت الجماهير بتتبع كل المنافقين ورجال الحكم الموجودون بالعاصمة باريس ووجهوا خطابا مفتوحا للملك لويس السابع عشر بترك قصر فرساي والانتقال لباريس العاصمة حتى يعاين أحوال رعيته" "
كانت الملكة (ماري أنطوانيت) سياسية محنكة وأدركت من انتشار جموع الغضب أن مطلب الشعب للملك بالانتقال لباريس لن يكون المطلب الوحيد وأن الاستجابة له معناها نهايتها ونهاية أسرتها
ولذلك قررت الفرار إلى شقيقها ملك النمسا، وبالفعل أقنعت زوجها بالفرار فحزموا حقائبهم للفرار إلى النمسا غير أن الخبر تسرب إلى جموع الثوار فتمكنوا من إلقاء القبض عليهم جميعا وحملوهم لباريس وهناك كان الشعب قد انتخب عددا من الثوار ليكونوا متحدثين باسمه فقدموا عريضة مطالب إلى الملك عام 1791 تتضمن دستورا وعقدا اجتماعيا جديدا للبلاد
واضطر الملك للقبول بلا قيد أو شرط وأصبحت الأمة هي مصدر السلطات وفق الدستور الجديد المبنى على نظرية العقد الاجتماعي
وهرب أغلب النبلاء والمتحالفين مع النظام الملكي إلى النمسا بطبيعة الحال باعتبار أن الحاكم فيها هو شقيق الملكة ماري أنطوانيت ووقف ملك النمسا في وجه الحكومة الفرنسية الجديدة وانتوى العمل على إعادة الحكم الإمبراطوري بالقوة
وأعلن أن الحكم الملكي الفرنسي هو الأصل وقام بسب الثوار، وتحت تأثير تصرفات ملك النمسا كان الملك الفرنسي المحاصر بالثوار لا يجرؤ على إبداء تأييده لتصرفات صهره ملك النمسا، وخضع للفرمانات التي طالبه بها الثوار من اعتبار كل من فر إلى النمسا خائن، وأعلن الحرب على النمسا وهو مجبر وعندما حاول إبداء اعتراضه على قرار إعلان الحرب على النمسا حاصر القصر أكثر من أربعين ألفا من الثوار
وتطورت الأحداث سريعا في أغسطس عام 1792 واندلعت مظاهرة أخرى أشد عنفا من الشعب وقاموا بمهاجمة القصر الملكي وقتل كافة أفراد الحراسة الملكية وألقوا القبض على الملك وزوجته وزجوا بهم في السجن عقابا لهم على ما فعلوه بالشعب الفرنسي
وفى تلك الآونة اهتزت عروش أوربا كلها في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا والنمسا من قبلهم لما قد تفعله الثورة الفرنسية من تأثير ساحق على شعوبهم المقهورة فكان من الطبيعي أن يحاولوا الوقوف في وجهها بالتآمر ما دام التدخل العسكري لن يجدي، غير أن الشعب الفرنسي قام بمحاكمة سريعة للملك وزوجته وحاشيته وقاموا بإعدامهم تحت المقصلة بعد أن رأى الثوار تواطؤ ملوك أوربا لحماية الملكية الفرنسية وقامت الحروب بينهم وبين وأوربا التي قررت التدخل عسكريا لقمع الثورة الفرنسية بالقوة.

وهنا برز نجم نابليون.
ففي وسط غمار الأحداث وعندما واجهت الثورة الفرنسية منعطفا تاريخيا بعد أن انتوت الدول الأوربية التدخل العسكري لقمع الثورة.
هنا قرر الجيش الفرنسي وقياداته خوض غمار الحرب مدفوعا بقوة الثورة الشعبية.
وشاء القدر أن تكون المواجهة الأولى مع تحالف الجيش الإنجليزي شديد الاحتراف مع الجيش الإسباني، لكن نابليون –الذي قد أصبح ضابطا فذا في الجيش الفرنسي – قَدّم أول إبداعاته عندما نجح في كسر الجيش الإنجليزي في موقعة (تولون)
ورغم أن نابليون كان في عمر الرابعة والعشرين، ولم يكن قائد المعركة الأعلى، إلا أن حنكته وذكاءه في محاصرة الجيش الإنجليزي وبراعته الشديدة في استخدام المدفعية جعلت الجيش المهاجم يبادر للانسحاب تحت تأثير قوة النيران الفرنسية والاستبسال الذي خاض به نابليون المعركة مع فرقته.
ولمع اسم نابليون بشدة بعد هذه المعركة ليصدر القرار بترقيته لرتبة الجنرال، وتنفجر شعبيته وسط العوام كأسطورة حية.
وأدرك الإنجليز أنهم تسببوا في خلق أسطورة فدائية للثورة الفرنسية قد تسبب لهم القلق فيما بعد إذا التف حوله الشعب والجيش
فحاولوا اغتياله مرتين لكنهم فشلوا.
وبعد فشل محاولات الاغتيال بدأ نابليون يظهر كمفكر استراتيجي وسياسي محنك جنبا إلى جنب مع براعته العسكرية
وانتشرت كلماته الشهيرة التي قال فيها (المستحيل كلمة غير فرنسية) وأيضا مقولته العسكرية الشهيرة (الهجوم خير وسيلة للدفاع)
ومن أهم الملاحظات التي ينبغي التوقف عندها في آثار معركة (تولون) أن نابليون كان قائدا عسكريا بارعا لكنه من زمرة القواد أصحاب العنف الوحشي في القتال
فقد كانت الأشلاء المحترقة والضرب بالمدافع بلا تمييز هي سمة معركة تولون مما جعل جنود نابليون أنفسهم يشعرون بالاشمئزاز بعد دخولهم المدينة، وفى هذا كتب الأديب الأمريكي (آلان شوم) عن طبيعة نابليون في المعارك قائلا:
(إن مقارنة أفعال نابليون بجنكيز خان تبيض صفحة هذا الأخير ومجازره وأهواله التي سطرها التاريخ)

وهذه الوحشية في سلوك نابليون الإجرامي الذي لا يمت لتقاليد الشرف العسكري بصلة، هي مجرد تكرار واستنساخ للعقيدة العسكرية الأوربية كلها، بمعنى أن ما كتبه المفكرون والأدباء عن وحشية نابليون وهتلر وموسولينى بالذات، ورغم أنه حقيقي تماما إلا أن هناك ملحوظة بالغة الأهمية وهي أن وحشية هؤلاء كتب عنها المؤرخون الأوربيون والأمريكيون تحديدا للخصومة التاريخية بينهم وبين هؤلاء القادة بفعل معارك نابليون ضد الإنجليز ومعارك هتلر وموسولينى ضد الإنجليز والأمريكيين
وهذه الكتابات انتشرت فقط لمجرد تبييض صفحة قادة يتفوقون في الوحشية بمراحل على تلك الشخصيات وهم قادة الإنجليز والأمريكان الذين قادوا الحربين العالميتين وارتكبوا من المجازر ما تزيد أهواله بكثير أفعال نابليون وهتلر وموسولينى
فالفرنسيون قتلوا عشرات الملايين في مستعمراتهم أثناء احتلالها بعد العصر النابليوني، ومجازرهم في الجزائر وحدها خَلّفت مليون ونصف المليون قتيل تقريبا منهم مئات الآلاف في مظاهرة حاشدة تم ضربها بالطيران
والإنجليز ارتكبوا نفس المجازر في الشرق الأوسط والأقصى رغم سياستهم المنتشرة عنهم أنهم لا يلجئون للعنف المباشر ويفضلون سياسة (فرق تسد)
والأمريكيون في مجموع أعمالهم منذ الحرب العالمية الثانية فقط وحتى اليوم يتفوقون في عدد الضحايا على ضعف عدد ضحايا مجازر الدول الأوربية مجتمعة بدون أدنى مبالغة ويكفي أن بداية مجازرهم المعاصرة كانت بإلقاء القنابل الذرية والنووية على هيروشيما ونجازاكي دون أدنى مبرر عسكري فعلى لهذا الإجراء بعد أن انهزمت اليابان وألمانيا وإيطاليا وأصبح استسلامهم مسألة وقت لا أكثر
إلا أن الوحشية الأمريكية استخدمت القنبلة الذرية الأولى فقط لتعلن للعالم عن وجود سلاح هائل في حوزتها لم يعرف التاريخ الحديث مثله، فجربوه على اليابان في قنبلتهم الأولى، وبعد أن تبخر مائة ألف بشري في لحظة واحدة وأصيب نصف مليون من جراء هذه القنبلة لم يكتف الأمريكيون بذلك وقاموا بإلقاء القنبلة النووية الثانية لمجرد وكان مبررهم يبين مدى الاستهتار المخيف بالحياة البشرية
حيث قالوا لترومان -الرئيس الأمريكي وقتها -أنهم اخترعوا قنبلتان إحداهما انشطارية والثانية اندماجية ويحتاجون لتجربة القنبلتين معا في ميدان القتال، وبالفعل تم إلقاء القنبلة الثانية لتترك نفس الأثر الذي تركته القنبلة الأولى" "
وعبر تاريخ طويل من الوحشية في فيتنام والأميركتين والشرق الأوسط ختموا أعمالهم بما فعلوه في العراق عندما استخدموا الأسلحة الذرية المحدودة وقنابل اليورانيوم الـمُنَضّب لإخضاع المقاومة العراقية في (الفالوجا) تحديدا لتصبح هذه المدينة صاحبة أعلى رقم في معدلات التشوه الجنيني والأمراض السرطانية, فضلا على ما فعلوه قبل غزو العراق من الحصار الذى تسبب في موت مليوني طفل عراقي بدم بارد, حيث تم حظر تصدير الألبان والأدوية إليهم فقط لإخضاع نظام صدام , وعندما سُئلت مادلين أولبرايت عن هذه الفاجعة الإنسانية وكيف يسمح بها الضمير الأمريكي قالت أولبرايت بمنتهى البرود:
(نعم إنها تضحية كبيرة ... لكن الثمن يستحق!)
فالخلاصة من هذه الوقائع هو ضرورة الانتباه لأمرين:
الأول:
أن كثرة المصادر التي تتحدث عن فظائع نابليون وهتلر وموسولينى راجعة بالأساس أنه انتقام تاريخي نفذته الحضارة الغربية التي تتجاهل وحشيتها المماثلة لوحشية هؤلاء القادة
الأمر الثاني:
أن الإرهاب بأعتى صوره ومفاهيمه هو دين أوربي مستمر منذ عهد الإمبراطورية الرومانية وحتى العهد الأمريكي الحالي، بل إن عدد ضحايا النظام الغربي الحالي أضعاف التاريخ الوحشي القديم بسبب اختلاف نوع السلاح، وأن هذه الصورة الوردية التي يصدرونها لنا باعتبارهم دعاة إنسانية إنما راجعة بالأصل لسحر الإعلام الذي يمتلكون مفاصله حتى تمكنوا به من أن يقنعوا بعض المسلمين أن تاريخنا نحن هو تاريخ الإرهاب وأن الغرب دعاة لحقوق الإنسان!
وقصة الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان كشفتها عشرات بل مئات الجرائم التي توضح الانتهازية الغربية في السياسة الدولية وحتى السياسة الداخلية.
وقد لخص المفكر الكبير (نعوم تشومسكي) هذه الازدواجية الغربية في التعامل مع حقوق الإنسان بقوله في إحدى اللقاءات العامة:
(أن جزء كبيرا من مأساة الفلسطينيين يعود إلى أنهم لا يحظون بدعم دولي من الدول الغربية الكبرى، وسبب ذلك يعود في الأصل أنهم لا يملكون الثروات أو القوة التي تعود بالفائدة على الغرب وهذا هو مفهوم الغرب للحقوق.
فلو كنت بلا قوة أو ثروة فأنت لا تملك حقوقا، فلو كنت طفلا زنجيا فقيرا فلن تحظى بأي دعم أو حقوق)
وهو نفس الأمر الذي كشفه المفكر الفرنسي المسلم (روجيه جارودي) الذي فضح السياسة الغربية من الداخل في معظم مؤلفاته" "
فالبرجماتية والنفعية المحضة هي التي تحرك السياسة الغربية بالكامل, حتى ضد مواطنيهم أنفسهم, وقد رأينا في القديم والحديث أدلة ذلك بشكل علني لعل آخرها الحملات الدعائية المضادة لحرب روسيا مع أوكرانيا والتي اتهم فيها الغرب روسيا بارتكاب جرائم حرب بينما جرائم إسرائيل منذ الثلاثينيات ومذابحها الدورية لا تلقى أدنى إدانة أو اهتمام, بل بلغ بهم التبجح أنهم اتهموا المقاومة الفلسطينية في عملية (طوفان الأقصى) بارتكاب جرائم حرب بينما إسرائيل أغرقت غزة بأطنان المتفجرات التي قتلت 6000 طفل و5000 امرأة بخلاف الرجال والشباب حتى أوائل ديسمبر 2023 فقط.
وليس هذا فقط.
بل تم استنفار الآلة الإعلامية في الغرب كله للوقوف ضد المظاهرات الشعبية الغربية الداعمة لفلسطين في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة وتم اضطهاد ومحاكمة معظم من شاركوا فيها أو دعوا لها رغم أنها كانت مظاهرات شعبية مليونيه.
فأين حرية الرأي والتعبير وأين الديمقراطية؟!

وعودة لتاريخ نابليون ...
ونابليون كما قلنا كان عبقريا حساسا، لذلك جاءت الوحشية رد فعل على صدمات نفسية تعرض لها كانت أولها صدمة العنصرية والفقر، وثانيهما صدمة عنيفة تكمن في أنه فشل في قصص حبه حيث فشلت قصته الأولى لرفض حبيبته الزوج منه احتقارا لشأنه
أما قصته الثانية والأشهر وهي قصته مع (جوزفين) التي تزوجها وهام بها فكانت أسوأ أثرا عليه من قصته العاطفية السابقة، حيث كانت جوزفين حديث المجتمع الفرنسي في انحلالها الأخلاقي الذي لم تكن تكتمه، وعندما تزوجت نابليون وأدركت عشقه لها استخدمت عواطفه للسيطرة عليه وجعلته يرفض نصائح واعتراضات عائلته ومستشاريه على العار الذي تسببت فيه جوزفين لسمعته بعد استمرارها في مواعدة عشاقها في فترات غياب نابليون في الحروب
وهذه الصدمات تحديدا غَيّرت في طبيعة نابليون لتكرس الوحشية في شخصيته العسكرية ثم كانت صدمة جوزفين سببا رئيسيا من أسباب لجوء نابليون للفلسفة العلمانية في الحكم وذلك بعد أن ضرب عرض الحائط بالقواعد الكنسية وطلق جوزفين فيما بعد، رغم أن الشريعة الكنسية تحرم الطلاق بقيود كثيرة






التوقيع

الإيميل الجديد
 
رد مع اقتباس
قديم 11-02-2024, 10:13 AM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
محمد جاد الزغبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي
 

 

 
إحصائية العضو






محمد جاد الزغبي غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

* رحلة الصعود وبداية ظهور أفكاره.
رحلة صعود نابليون لمقعد الإمبراطورية لم تكن سهلة لكنها بدأت فعليا بعد انتصار تولون وترقيته إلى رتبة الجنرال وهو بعد في سن الخامسة والعشرين، مما أثار عاصفة من السخط والغضب في أعماق قادة الجيش الفرنسي الجديد الذي تحكمه الثورة، فحاول خصومه استغلال بطش نظام الحكم الثوري الذي يحكم بالحديد والنار ففي تلك الفترة العصيبة التي تكون في أعقاب الثورات غالبا
ونجحوا وقتيا في الزج بنابليون في زمرة المغضوب عليهم لكن شعبية نابليون وعبقريته كان لها أنصارها أيضا وهم من تمكنوا من كشف المؤامرة عليه وإخراجه من سجنه
حيث ظهرت الحاجة الملحة لنابليون بعد أن ضاق النظام الثوري الفرنسي ذرعا من ممارسات النمسا عدوته اللدود، فتم إعلان الحرب على النمسا وحلفائها وتم انتخاب نابليون لقيادة الحملة رغم صغر سنه بعد أن شهدت له التقارير العسكرية بالامتياز، ومنها شهادة أستاذه وقائده السابق الجنرال (دوتيل) الذي شهد له بالنبوغ فتغلبت العبقرية على الروتين
وبالفعل قاد نابليون الحملة على النمسا عام 1794 م، وانتصر فيها انتصارا مذهلا كعادته، وثارت من جديد ثائرة الخصوم ونقموا عليه عند كبار قادة الثورة وخوفوهم من طموح نابليون غير المحدود، مما قَلّص احتفالات النصر المتوقعة بعمله الكبير بحجة الأوضاع الأمنية، وكانت الأوضاع الأمنية في حالة تردى كامل من ممارسات القمع الوحشي لنظام الثورة واتخاذهم تهمة عداوة الثورة كمبرر للبطش
ونظرا للدور الأوربي الغربي في التأليب فقد لجأت بريطانيا وحلفاؤها لمحاولة ضرب الثورة من الداخل باستغلال التيارات السياسية الانتهازية مما تسبب في حالة تطاحن تطور إلى ما يشبه حرب أهليه تمت مواجهتها بالقوة المسلحة من النظام الفرنسي الجديد

ووجد خصوم نابليون الفرصة مواتية لتحطيم شعبيته الساحقة بين جموع الشعب عن طريق العمل على إصدار أمر عسكري مباشر لنابليون كي يقود إحدى الحملات العسكرية لإخماد الثورة المضادة في غرب البلاد ...
وكان هدفهم أن يضعوا نابليون القائد الشعبي في مواجهة الشعب.
ولم يكن نابليون القارئ والمثقف الكبير بغافل عن تلك الخديعة والهدف منها، فرفض الوقوف في وجه الشعب وذهب لوزير الحربية يطلب قيادة حملة عسكرية ضد العدو الإيطالي الذي يعبث بحدود البلاد، فرفض الوزير بعنف وناقشه نابليون بقوة ولم ينجح في إقناعه وغادر مكتب الوزير إلى بيته معتزلا العمل وبالفعل تعرض لفترة قاسية نفذت فيها موارده حتى فكر بالهجرة خارج فرنسا
ثم تدخل القدر لصالح نابليون بعد سقوط الحكومة العرفية للبلاد وبالتالي تغير وزير الحربية وكبار قادة الجيش الفرنسي، وتم ابتداع نظام حكم جديد وهو مجلس الدولة الفرنسي (الديركتوار) وتم استدعاء نابليون لمكتب وزير الحربية الجديد الذي قام بتكريمه بصفة شخصية وسياسية عن دوره العسكري في مساندة الثورة وتولى نابليون بعدها قيادة الجيش الفرنسي على إيطاليا وحقق نصرا ساحقا حيث أسقط إيطاليا في ساعات محدودة وأيضا عاود الإغارة على النمسا ثم كلل انتصاراته بإسقاط النمسا كلها مما أثار رعب أوربا بأكملها من نابليون

وبعد أن تم تتويج نابليون فعليا كقائد لجيوش فرنسا والمتحكم بالأمور فيها قام بإظهار المذهب العلماني شيئا فشيئا
فرغم أن الثورة الفرنسية في الأساس قامت ضد التحالف الانتهازي بين رجال الحكم ورجال الكنيسة، وضد تسلط رجال الدين الكنسي بالخرافات على الشعب، إلا أن الشعب نفسه في فرنسا وأوربا لم يكن يريد تخليا عن الدين ذاته بل كان يريد التخلي عن كل ما اعتبره تَسَلطا في الأحكام، ولهذا لم يتم إعلان العلمانية الفرنسية بشكل مباشر وإنما تم هذا بشكل متدرج، لكن العقيدة الصليبية نفسها ظلت كما هي لم تمس بالتغيير الجذري الذي حدث في الحكم
وتكشف فترة نابليون أن الأحقاد والطبائع الصليبية المكتسبة من كتب الكنيسة الغربية العنصرية، والتي بلغ من عنصريتها أنها حاربت العقيدة المسيحية الشرقية رغم كونهم مسيحيون مثلهم، ثم تسلطوا بالحروب الصليبية والتحريضية ضد المسلمين، هذه العقيدة الصليبية لم تتغير بالاتجاه العلماني مطلقا، بعكس ما يظن أو يروج جهلة العلمانيين العرب.
ويتضح هذا بسهولة من خلال استقراء المنهج الإمبراطوري لفترة نابليون والذي سارت عليه فرنسا وأوربا كلها بعد ذلك بنسب متفاوتة.
حيث ورث نابليون الحقد والتاريخ الصليبي الفرنسي ضد الشرق الإسلامي وراثة كاملة رغم أنه من المفترض كان تاريخا وحشيا وقمعيا ينتمي لأسرة (البربون) الحاكمة في فرنسا.
لكن انقلاب الثورة الفرنسية على حكم الأسرة الحاكمة والكنيسة المتسلطة لم يكن انقلابا على العقيدة الغربية وتاريخها ضد المسلمين.
لذلك جاء نابليون ابنا مخلصا لنفس الميراث الفكري الفرنسي القديم، وكانت تقوده نفس الأفكار التوسعية التي قادت من قبله من الحكام تجاه الشرق.
لكن التعديل الذي أخرجه نابليون هو أن مشروعه الإمبراطوري كان فرنسيا خالصا يريد منه أن تسيطر فرنسا على مقادير القارة الأوربية أولا ثم تنطلق بحملتها لإنشاء إمبراطورتيها في الشرق.
وهو نفس المشروع العنصري الذي قاده (أدولف هتلر) تحت إيمانه بتفوق الجنس الآري على بقية الأجناس البشرية وحقه في السيطرة على أوربا والعالم.

ونجح نابليون في بلورة مشروعه الإمبراطوري غير التقليدي بعد أن استغل كافة قراءاته التاريخية والاستراتيجية المتعمقة وأضاف لها البعد الثقافي اللازم لتنفيذ مشروعه وضمان استقراره.
والمذهل أن مشروع نابليون كان مشروعا استراتيجيا وفكريا يعتمد على حقائق دامغة للتاريخ والجغرافيا يجعل من قارئ المشروع يظن أن القائمين على إعداده هي لجنة رفيعة المستوى من خبراء التاريخ والعسكرية والسياسة الدولية والأديان.

وقد اكتسب نابليون خبرته بفعل حشد الكتب والمراجع التي التهمها في شبابه الأول، وكان معظمها في التاريخ السياسي والديني للشعوب، ولا شك أن قراءة التاريخ هي أهم باب ثقافي يرتقي بالعقل إلى مسافات عالية جدا فوق سِنّه وخبرته.
وذلك يعود إلى طبيعة التاريخ نفسه باعتباره حاشدا بآلاف التجارب والوقائع والحوادث والشخصيات التي تعطي للإنسان أعمارا فوق عمره.
ولم يكتف نابليون بنفسه في هذا المجال، بل حرص على تدشين روح الفدائية والعسكرية والثقافة العامة لدى ضباطه وجنوده، وقام بتنمية الإيمان لديهم بالتفوق الفرنسي والحرية التي نتجت عن الثورة الفرنسية ومبادئها
لذلك فإن السر الحقيقي لتفوق العسكرية الفرنسية في عهده لم يكن قوة السلاح أو التدريب، لأن السلاح والتدريب والقوة كانوا متوفرين في جيوش إنجلترا والنمسا وإسبانيا وروسيا بأكثر من فرنسا نفسها.
ومع ذلك انطلقت الجيوش الفرنسية تحت قيادة نابليون كالوحش الكاسر والتهمت أوربا كلها حتى أنه أقتحم الجليد الروسي ووصل لعاصمتهم، فضلا على نجاحه في هزيمة التحالف الأوربي ضده عدة مرات.
ولم تكن العسكرية الفرنسية قبل نابليون بهذه القوة والجسارة والعنفوان.
لأن سر التفوق يكمن في أن نابليون كان قائدا عسكريا بارعا، وفي نفس الوقت مفكر ومثقف موسوعي من طراز رفيع.
وكان أبرع ما فعله هو أنه اهتم بالجانب المعنوي للجيش والروح القتالية المبنية على عقيدة عسكرية سليمة.
فكان يحرص على أن يكون كل جندي في الجيش له نصيب من القراءة والفكر والثقافة، حتى أنه في طريق حملته إلى مصر وأثناء تفقده الجنود في سفينته، صادف جنديا يتسلى بقراءة إحدى الروايات العاطفية.
فاشتعل غضب نابليون وأمسك بالرواية وألقاها إلى ركن الغرفة وقال للجندي:
(ما هذا الذي تقرؤونه، هذه قراءة تليق بخادمات الغرف، اقرءوا التاريخ فهو قراءة الرجال)
لهذا كان من الطبيعي أن يجعل نابليون من الجيش الفرنسي جيشا لا يُقهر، لأن جيوش أوربا كانت جيوشا مستعبدة، لا يلقى فيها الجنود الاهتمام، بل الاهتمام مُنْصَب فقط على القادة والضباط المترفين والمنتمين للعائلات الأرستقراطية.
وأمثال هذه الجيوش مهما بلغت قوتها وعتادها فإن روحها المعنوية تكون في أدنى معدلاتها نظرا للعنصرية الفجة التي يلاقيها الجنود بينما وقود الحرب في الأصل.
بخلاف انعدام الاهتمام الثقافي وتربية الجنود تربية فكرية واسعة تقنعهم بجلالة المهمة التي يؤدونها، وهو ما كان نابليون متفوقا فيه حتى جعل من جنوده نُسَخا مكررة من فكره وحماسته.

ونأتي الآن لنتأمل عناصر مشروع نابليون تتخلص في العناصر التالية:
الأول:
أنه بعد استقرار الأمور نسبيا في أوربا وضمان حدود فرنسا بانتصارات نابليون التي مثلت ردعا كبيرا للقارة العجوز، رأى نابليون أنه ليس هناك مجال مباشر لمواجهة خصمه اللدود بريطانيا في مواجهة مباشرة وشاملة، فضلا على بقية خصومه من دول أوربا لذلك فالحل هو تكوين الإمبراطورية الفرنسية في الشرق وقطع خطوط مواصلات بريطانيا بالهند التي تعتبر درة التاج في المستعمرات البريطانية.
الثاني:
أنه بعد النظر المدقق إلى ساحة الشرق الأوسط قرر نابليون حقيقة بازغة بالنسبة له، صارت فيما بعد عنوانا لأوربا كلها في التعامل مع الشرق.
حيث قرر نابليون أن (مصر هي أهم بلد في الدنيا)!
ولم يقل نابليون أن مصر هي أهم بلد في الشرق بل في العالم!
لأنه حدد استراتيجية تكوين قوة فرنسية عظمى بضرورة السيطرة على مفاصل الشرق الأوسط الذي يعتبر هو أهم منطقة مواصلات وثروات في العالم.
وبما أن هذه المنطقة ضرورية لتكوين الإمبراطورية، فقد وجد نابليون أن مفتاح السيطرة على المنطقة بأكملها لا يمكن أن يتم بغير السيطرة على مصر التي هي أهم بقعة في المنطقة ومصدر التأثير الأقوى لدول الشرق على كافة المستويات.
من ذلك خرج بتلك النتيجة التي عمل عليها وهي أن مصر مفتاح الشرق والشرق مفتاح السيطرة العالمية ولذلك أصبحت مصر بالنسبة له هي أهم بلد في الدنيا.
الثالث:
من دراسته المستفيضة للحملات الصليبية وقع نابليون على السر الذي وقف خلف فشل كافة محاولات أوربا في السيطرة الدائمة، رغم تمتع بعض الحملات الصليبية باستقرار طويل في منطقة الشام، ورغم تأسيس إمارات كاملة للصليبيين فيها، ورغم فوارق القوة العسكرية بين أوربا والشرق، حيث كانت تلك الحملات دائما حملات غير مستقرة إما بسبب وجود إمارات مسلمة قوية بمصر والشام، وإما بوجود مقاومة دائمة لا تنكسر يتم تتويجها بتحرير المنطقة مرة أخرى.
وكان السر الذي توصل إليه نابليون الارتباط الأزلي بين الشام ومصر تاريخيا منذ آلاف السنين والذي يجعل من القطرين قطرا واحدا متصلا.
فالأمن القومي لمصر منذ عهد الفراعنة وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بالشام، فلا يمكن لحدود مصر الشرقية أن يتم تأمينها بغير نظام حليف في الشام، ولا يمكن لدولة تقوم في الشام أن تضمن أمنها بغير ضمان وجود الحليف في مصر.
وذلك للاتصال الجغرافي بين البلدين والتماهي الديني والثقافي والحضاري بين الشعبين.
وبمراجعة تاريخ الحملات الصليبية توصل نابليون إلى أن مواجهة الصليبيين والمغول كانت دائما وأبدا تتم بالتحالف بين قوى مصر والشام
لذلك فإن انتصار المسلمين في المنطقة كان دائما بفضل وجود الزاوية القائمة التي تتكون من مصر والشام وتطل على بوابة البحر المتوسط من الجانبين.
لذلك وضع نابليون مشروعه على ضرورة فك هذا الارتباط بين ضلعي الزاوية بطريقة تضمن عدم التقائهما أبدا في مستقبل الأيام إذا أراد أن يضمن لمشروعه الاستمرار.

الرابع:
كان العنصر الثالث الذي بنى عليه نابليون مشروعه الاستعماري هو توصله للفكرة الاستراتيجية التي تضمن فك ضلعي الزاوية.
وذلك بزرع كيان غريب على المنطقة عند نقطة التقائهما البرية في فلسطين.
ضلع غريب وَمُعادي ومختلف تماما يتم زرعه في رأس الزاوية بين مصر والشام ليجعل تواصلهما الفعلي مستحيلا أو بالغ الصعوبة على الأقل.
فإذا تم زرع هذا العنصر الغريب بالتوطين في هذه المنطقة وتحت الحماية الفرنسية فهذا يعني ضمان النجاح لمشروع نابليون.
وكان العنصر الغريب الذي يمكنه أداء هذا الدور بكفاءة تامة هم (اليهود).
والواقع أن فكرة نابليون بتأسيس وطن قومي يهودي الديانة معادي بالفطرة للمنطقة فكرة خيالية جدا في ذلك الوقت نظرا لأن اليهود لم يكن لهم تجمع متفق أو وطن قومي بل هم مشردون في أصقاع الأرض وجمعهم في مكان واحد أمر من الاستحالة بمكان.
كما أن إيجاد الدافع والحماسة لتنفيذ هذا المشروع كان صعبا للغاية، حيث كانت الديانة اليهودية نفسها تعارض هذا الحلم!
السبب في ذلك أن شريعة اليهود كانت – ولا زالت-تؤمن بأن موعد تحقق الوعد الإلهي –بزعمهم-في التجمع بأرض فلسطين أو أورشليم هو وعد سيتحقق بعد نزول المسيح المخلص وفق معتقدهم وليس قبله.
أي لابد لهم أن ينتظروا ظهور المسيح المخلص الذي سيدعوهم لاستيطان أرض الأجداد وتكوين دولة (يهوذا) أو (داوود).
وبالتالي فمن المخالف لشريعة اليهود أنفسهم أن يتم تكوين هذا الوطن قبل ظهور المسيح الذين يؤمنون بعدم ظهوره حتى اليوم.
والأهم من ذلك أن عدد اليهود في منطقة الشام والقدس لم يكن كافيا قط لتكوين وطن أو دولة بالشكل الذي يتمناه نابليون في مشروعه.
فاليهود في فلسطين كان عددهم 1800 في الشام منهم 135 يهوديا في القدس!
الخامس:
وهنا جاء العنصر الرابع من عناصر مشروع نابليون وهو وضع الحلول لمعضلات تحقيق حلمه بتكوين دولة يهودية في فلسطين تملك القوة والعتاد لصنع فاصل معادي بين مصر والشام.
حيث كان الحل الأول اختراق مصر بحملة عسكرية من عنصرين متمازجين، وهما العنصر العسكري والعنصر الفكري.
فأعد حملته المكونة من أربعين ألف جندي بأحدث الأسلحة، ومعها في نفس الوقت طابور طويل من العلماء في مختلف التخصصات، فضلا على المطبعة ذلك الاختراع الثوري في النشر وقتها.
ولهذا فالحملة الفرنسية عندما جاءت لمصر بالعلماء والمخترعات الحديثة لم يكن هدفها تطوير مصر أو تصدير الحضارة كما يقول بعض المتغربين في عصرنا الحالي، وإنما جاءت بالعلماء والمطابع كأسلحة حربية لتحقيق هدف الحملة ذاته.
بل إن خطورة تأثير العلماء والمخترعات أن نابليون كلفهم بضرورة ممارسة غسيل المخ على جموع الشعب المصري وإقناعهم بأن الحملة الفرنسية ليست حملة احتلال بل حملة تنوير وحضارة، وأن الهدف العسكري من الحملة هو تخليص مصر من حكم المماليك الذي شاع فساده وكرهه الناس.
وكان الهدف الاستراتيجي لنابليون من هذا أن يرحب المصريون بالحملة الفرنسية بحيث يواجه المماليك وحدهم ويقضي عليهم وتصفو له مصر وشعبها بالتأييد والتشجيع حتى يضمن الاستقرار الكامل للحملة في مصر.
ولذلك أعد العدة لما أسماه (الورقة الإسلامية).
والورقة الإسلامية هو المنشور الذي كتبه نابليون ليتم توزيعه على المصريين وفيها أجمل العبارات المنمقة عن الصداقة والإعجاب المتبادل بين نابليون والخليفة العثماني وعداؤه لحكم المماليك الذين قهروا الشعب المصري.
ثم زاد نابليون في ورقته الإسلامية نفاقا واضحا بإعجابه بالشريعة الإسلامية والمجتمع المصري وبمكانة وإعجاب الفرنسيين بمصر!
وهي بالطبع ورقة خداعية ظن فيها نابليون أنها ستمنحه التأييد الشعبي المصري وبالتالي يستقر له المقام دون الخشية من مقاومة مسلحة ضد حملته.
أما بالنسبة للخلافة العثمانية فلم تكن تمثل مشكلة في ذلك التوقيت لأن قوة الخلافة نفسها كانت قد دخلت مرحلة (رجل أوربا المريض) وبدأت الدول الأوربية بالفعل مرحلة التفكير في كيفية توزيع إرث العثمانيين فيما بينها بمجرد انتهاء الحروب الأوربية ـــــ الأوربية.
لكن الشيء الذي كان يخشاه نابليون هو تحالف السلطان العثماني مع البريطانيين ضده عند دخوله الشام.
وهو ما وضعه في حسبانه بأن تتم عملية احتلال مصر بسرعة قياسية ثم يتوجه بعدها للشام سريعا مع فتح خطوط التفاوض مع البلاط العثماني لمنع تحالفه مع أي طرف أوربي يعطل مشروعه.

أما بالنسبة لليهود.
فقد أعد لهم ورقة أكثر مصداقية وهي المعروفة باسم (الورقة اليهودية).
وقد أعدها أيضا قبل حملته، غير أن الفارق بين الورقة الإسلامية واليهودية أن ورقته اليهودية سبقتها خطوات تنفيذية في أوربا حيث كلف نابليون بعض علماء الفرنسية بالاتصال بحاخامات اليهود المؤثرين في فلسطين مثل (موسى موردخاي) و(جاكوب الجازي) وغيرهم يُطْلعهم فيه على تعاطفه مع المسألة اليهودية والاضطهاد الذي يتعرضون له في أوربا وكان سببا في حملات طرد وتهجير وتضييق في مختلف الدول الأوربية وأنه يتعاطف مع مشروعية وبطولة الشعب اليهودي ويدعمهم لإقامة وطن تاريخي في أرض الأجداد تحت حماية الإمبراطورية الفرنسية.
وهو هنا قام بتمهيد الأرض في فلسطين حتى يقوم بتوزيع ورقته اليهودية في القدس، تلك الورقة التي يخاطب بها نابليون عموم اليهود في العالم ويدعوهم لترك الأوطان التي تحتقرهم وتضطهدهم ليقيموا وطنهم القومي في فلسطين تحت رعايته" "
وفي شأن مشكلة تبعثر اليهود في العالم وعدم تأثير وجودهم في فلسطين فإن نابليون اعتمد على أن مشروعه سيكون خطة بعيدة المدى تتسلح بإمكانيات مادية وسياسية هائلة بحيث يستغل حاخامات اليهود لإعادة اختراع الوعد الإلهي المزعوم لهم بفلسطين وتجاهل ضرورة وجود المسيح لتحقيق الوعد، بحيث يتم اعتبار نابليون مكان المسيح مؤقتا!
وبخبرة نابليون باليهود وتاريخهم فقد كان يعلم جيدا أن أسهل شيء لدى الحاخامات هو تزوير وثائق التوراة لأغراضهم الدنيوية" ".

وبالتالي إذا قامت حملة إعلانية ضخمة برعاية فرنسية لدعوة اليهود لوطنهم المزعوم، فإن العديد قد يستجيبون لها خاصة مع وجود جاليات يهودية كبيرة في أوربا وفي روسيا تبلغ 12 مليون يهودي معظمهم من الفقراء والمضطهدين وأقليتهم من الأغنياء والمؤثرين.
لذلك فإن قوام مشروع نابليون راهن على فقراء اليهود لأن غالبية اليهود من المهمشين المضطهدين في أوربا منذ زمن طويل حيث بدأت حملة الاضطهاد منذ سقوط الأندلس وانتشار محاكم التفتيش البشعة التي قامت بحملات اضطهاد دموية ضد المسلمين في الأندلس ومعهم اليهود الذين كانوا تحت حماية الحكم الأندلسي لقرون طويلة.
ولنا أن نتخيل المفارقة!
أن حماية الخلافة الأندلسية بل والعثمانية لليهود كانت تاريخية، بينما أوربا كان لها سجل هائل من الاضطهاد والتنكيل ضدهم.
وبالتالي فإن هؤلاء اليهود سيكون لدى معظمهم ضعف تجاه وطن يحتويهم بعقيدتهم الدينية المتفقة.
وفي سبيل ذلك دعا نابليون في عام 1807م، إلى عقد مؤتمر أو مجمع يهودي يحضره كل ممثلي اليهود في أوربا ممثلين في رؤساء طوائفهم المختلفة وتم عَقْد المؤتمر فعلا في (سانهردان) ودعا فيه نابليون إلى لم شمل اليهود واتخذ المجمع عدة قرارات، كان أخطرها – كما يقول هيكل – هو البند الثالث الذي جاء فيه:
(ضرورة إيقاظ وعي اليهود إلى حاجتهم للتدريب العسكري لكي يتمكنوا من أداء واجبهم المقدس الذي يحتاج إليه دينهم)
وهذا البند بالتحديد كان هو خلاصة مشروع نابليون، وذلك أنه لم يكن يريد تأسيس دولة أو تجمع يهودي مفتقد للقوة تقوم فرنسا على حمايته من الألف إلى الياء، بل كان يحتاج دولة وظيفية ذات نظام عسكري في مجملها، تقاتل وتدافع عن وجود هذا الوطن تحت ظل الحماية الفرنسية عند الحاجة.
وهكذا أصبح مشروع نابليون منطقيا وقابلا للتنفيذ كاستراتيجية بعيدة المدى تسير بخطوات ثابتة على الأرض.
ولم يبق إلا التنفيذ ببداية الحملة الفرنسية على مصر.
[/right]
[/SIZE][/FONT]






التوقيع

الإيميل الجديد
 
رد مع اقتباس
قديم 11-02-2024, 10:16 AM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
محمد جاد الزغبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي
 

 

 
إحصائية العضو






محمد جاد الزغبي غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)


*الحملة الفرنسية ومصير مشروع نابليون.
أعد نابليون حملته على مصر متسلحا بمنشورات الخداع للمصريين في (الورقة الإسلامية) وبالسياسة التي انتوى ممارستها مع الشعب المصري عن طريق تبرير الحملة بأنها استجابة حضارية من فرنسا لإنقاذ المصريين من ظلم المماليك
ورغم أن مستشاريه من علماء الحملة الفرنسية كانوا مؤمنين بعبقريته بعيدة المدى إلا أن (روسبي) فيلسوف الثورة الفرنسية، عارض حملة نابليون على مصر وتنبأ بفشل ورقته الخداعية على المصريين وتوقع أن المصريين سيرفضونها
فقال:
(إن أكثر الأفكار شذوذا هي التي يظن السياسي فيها أنه قادر على خداع الجماهير لمجرد حمله للسلاح وتملكه للقوة)
وللأمانة كان (روسبي) عبقريا في عبارته تلك لأنه تنبأ بما وقع فعلا عندما فشل نابليون فشلا ذريعا في إقناع المصريين بقبول الغزو!
فقد كان نابليون رغم عبقريته العسكرية والسياسية غافلا عن طبيعة المصريين تجاه الغزاة المخالفين في العقيدة وهو ما جعله يتصور واهما أنهم سيستقبلونه بالورود لمعاناتهم من ظلم المماليك.
كما أنه وقع في وجهة نظر سطحية عندما ظن أن المماليك يحكمون بمقتضى القوة والجبروت التي يخضع لها الشعب المصري بنفس طريقة خضوع الفرنسيين لأسرة (البربون)، وهو تفسير خاطئ تماما لأن معيار العقيدة كان –ولا زال-له دور كبير في استقرار أي حكومة وأي نظام بمصر مهما بلغت قوته.

فالحقيقة التاريخية الراسخة للشعب المصري تتمثل في عنصرين:
* أنهم قد يتسامحون لفترات محددة مع ظلم الحكام ويتمسكون بحفظ كيان الدولة، فإذا بلغ الظلم مداه خرجوا على نظام الحكم لا على الدولة نفسها وكيانها، وتكون ثوراتهم بهدف تغيير الظلم وواقع الحال وليس هدم النظام المتفق معهم عقائديا وتاريخيا.
بمعنى أنهم يتقبلون نظام الحكم الظالم ومساوئه إذا كان الحاكم يتفق معهم في العقيدة والتاريخ وليس غازيا أجنبيا صرفا.
أما إن كان الحاكم يُمثل حكومة أجنبية بالكامل معادية للعقيدة والوطنية والتاريخ فهنا يكون رفض الشعب لهذه الحكومة راسخا حتى لو جاءت تلك الحكومة بأعدل أهل الأرض كي يحكموا به
لذلك رفض الشعب المصري احتلال الرومان رفضا تاما، وظلت المقاومة الشعبية ضدهم مستمرة –رغم اتفاق الرومان مع المصريين في الدين المسيحي-غير أن الكنيسة الشرقية التي تمثلها مصر كانت تخالف عقيدة الكنيسة الغربية مخالفة تامة، ولا تعترف بهم كمسيحيين، ورغم طول فترة احتلال الرومان إلا أن الشعب قاومهم وَفَرّ بدينه وعقيدته لإنشاء المجامع الكنسية في الصحراء لحفظ المعتقد الشرقي، ورفض الخضوع للكنيسة الغربية تماما لعدم اقتناعه بها.
لذلك عندما جاء الإسلام ضامنا لحرية العقيدة ومخاطبا لوعي المصريين في رسالة الإسلام وقف الشعب مع الفتح الإسلامي وانضمت طوائف المصريين للإسلام شيئا فشيئا، وبقي المسيحيون أيضا على حرية معتقدهم دون أدنى تعارض.
كذلك عندما دخلت دولة الشيعة العبيدية المعروفة خطأ باسم (الفاطميين) إلى مصر وتم احتلالها بهدف تحويل المصريين إلى عقيدة الشيعة، ونظرا للاختلاف الفادح بين عقيدة المصريين المنتمية للسُنة المشرفة، وبين عقيدة الشيعة الإسماعيلية المتطرفة التي يمثلها العبيديون
لأجل ذلك حاربهم الشعب حربا طاحنة لمدة ثلاثة قرون وفشل العبيديون في تحويل مصر لمعتقد الشيعة فشلا ذريعا بل إن المصريين تمكنوا من تحويل (الجامع الأزهر) ليكون أكبر جامعة ومرجعية للإسلام السُني بينما الذي أسسه في الأصل كان الشيعة العبيدية ليكون معهدا لعلوم التشيع.

ولهذا رحب المصريون بدخول صلاح الدين الأيوبي لمصر والذي أعلن عودة مصر لحاضنة الخلافة العباسية السنية.
وعندما دخل العثمانيون لمصر، هنا وقف الشعب المصري محايدا، لأن المماليك والعثمانيين كلاهما كانا من أهل العقيدة السنية المتفقة مع معتقد عموم الشعب.
ولم يكن المماليك ذوو شعبية بين الناس نظرا لظلمهم الكبير، كما أن المصريين لم يكن لديهم تحفظات ضد العثمانيين لأنهم أصحاب الخلافة الجامعة.
فرفض الشعب المصري مقاومة العثمانيين مع المماليك وتركوا الصراع بينهم يدور مع التزامهم الحياد ودخلت مصر تحت الخلافة العثمانية دون اعتراض شعبي
بينما عندما تكرر نفس الأمر بحذافيره مع دخول الحملة الفرنسية بغرض محاربة المماليك، رفض المصريون تلك الحملة ورفضوا دعاوى نابليون ووقفوا صفا شعبيا واحدا ضد الاحتلال الفرنسي والاحتلال الإنجليزي بعده

* أن طبيعة المصريين منذ عهد الفراعنة راسخة في رفض الغزاة رفضا قاطعا ولهم مفهوم خاص للغزو الذي يعادونه، وهم الغزاة الذين يأتون إليهم بعقيدة باطلة أو ديانة مخالفة لمعتقداتهم الراسخة، هنا تقوم ثورة المصريين بالسلاح والمقاومة ضد الغازي القادم مهما كانت معاناتهم من نظام الحكم القائم أثناء الغزو ما داموا يرونه متفقا معهم في العقيدة،
أما إن كان القادم إليهم سواء بقوة عسكرية أو على سبيل الدعوة المفردة بعقيدة جديدة لكنها تعتمد على الوحي السماوي
هنا يكون رد فعل الشعب هنا تكون بالاستقبال والترحيب التام حيث تعتبر مصر هي القُـطر الوحيد في الأمم السابقة التي آمن شعبها بكافة الأديان السماوية التي وردت إليها منذ عهد سيدنا (إدريس) عليه السلام، وهم الذين احتضنوا (بني إسرائيل) منذ عهد (يوسف) وخلال عهد (موسي) عليهما السلام وناصروه ضد فرعون وجنوده
فمفهوم الشعب المصري الخاص عن الغزو هو الذي عجز نابليون عن فهمه، بينما فهمه فيلسوف الفرنسيين (روسبي) وحاول إقناع نابليون به لكنه فشل، ولهذا كانت المقاومة عنيفة وقوية من الشعب المصري ضد الغزو الفرنسي منذ اللحظة الأولى وهو ما صدم نابليون.
وبدأ نابليون حملته ورفض قرار مستشاريه حتى من ناحية الخطة العسكرية
فالدخول إلى مصر من سواحل دمياط كان هو الاختيار العسكري الأمثل لكن نابليون رفض بشدة بسبب الذكرى السيئة له مع مطالعته لتاريخ حملة (لويس التاسع) التي دخلت من دمياط وانتهت في المنصورة بسقوط (لويس التاسع) أسيرا، فدخل نابليون من الإسكندرية التي أعلن شعبها النضال بقيادة (محمد كريم)، وتأكدت عقيدة المصريين لنابليون عندما رفض (محمد كُرَيّم) عَرْض الأسطول البريطاني - قبل مجيء الفرنسيين - والذي عرض عليهم النزول على سواحل الإسكندرية للتصدي لنابليون فرفض (كريم) رفضا قاطعا وقام محمد كريم والحامية الإسكندرية مع عموم الشعب بشن الهجوم على الفرنسيين فور نزولهم دون أن يمنحوا نابليون فرصة ممارسة الخداع بمنشوره.
وقام نابليون بفتح نيران مدافعه المتقدمة وسقطت المدينة بعد مقاومة عنيفة خلفت آلاف الشهداء أعقبها نابليون بإعلان الحكم العسكري على الإسكندرية وأصدر قانونه الذي حمل البنود التالية:
* جميع القري الواقعة في حدود ثلاث ساعات من مقر حملة الفرنسيين ترفع علم الفرنسيين.
* كل قرية تقاوم الفرنسيين أو تعلن رفض العلم الفرنسي يتم حرقها بالنار بمن عليها.
* كل قرية تستسلم وترفع العلم ستجد الدعم من الجيش الفرنسي.

وبالطبع كان الرد فوريا على نابليون لا سيما بعد استمر بالزحف نحو القاهرة ورفضت كافة القري والمدن منشور نابليون وأعلنت الجهاد والمقاومة في مواقع مشهودة شملت موقعة الشرقية والمنصورة التي انتقم منها نابليون شر انتقام نظرا لأنها المدينة التي أسقطت (لويس التاسع) وأسرته في دار ابن لقمان وهو ما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه من أن نابليون والثورة الفرنسية لم تنظر لأسرة (البربون) الحاكمة على أن أفعالهم جميعها إجرامية، بل كانوا ينظرون لسياستهم الداخلية فقط.
أما سياستهم تجاه الشرق الإسلامي فقد تبناها نابليون وزعماء الثورة الفرنسية بل كانوا يواصلون منهج أسرة لويس التاسع وينتقمون لها أيضا
وبعد المنصورة واصل نابليون اختراقاته الوحشية بهدف بث الرعب لتفكيك مقاومة الشعب، فاشتبك الشعب مع الغزاة في موقعة دمياط وموقعة قرية الشعراء ثم المنوفية وطنطا ومواقع القاهرة في الجمالية وإمبابة ثم واصل إلى الفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا وأبنود وأسوان،
وكان من المواقف المشهودة لنضال الشعب المصري ما سجله قواد نابليون في مذكراتهم عن مواقف رهيبة واجهوها ومنها موقف طفل من المنيا من قرية (الفقاعي) أثار ذهول الجنرال (ديزيريه) عندما فوجئ بالطفل ذي الاثني عشر عاما يختطف بندقية أحد الجنود ويستخدمها لإطلاق النار على جنود الحملة غير آبه بما يواجه، فألقوا القبض عليه وأحب الجنرال (ديزييه) أن يختبر شجاعته فأصدر حكما بإعدامه وساقوه للمشنقة فظل الطفل ثابتا فجاء به (ديزيريه) مرة أخرى وأمر بجلده وتلقي الطفل ثلاثين جلدة في صبر وَتَحَمّل فازداد إعجاب الجنرال وعرض عليه أن يصاحبه لفرنسا قائلا له أنه يليق بطفل مثله أن يربيه كي يصبح جنديا وضابطا فرنسيا، فرد الطفل بشجاعته:
لا أنصحك لأنك لو ربيتني فإني قاتلك في النهاية.
وغرور ديزيريه الذي دفعه لعرض الجنسية على الطفل يماثل غرور هتلر عندما عرض نفس العرض على البطل الأوليمبي (خضر التوني) ورفضه.
وبلغ عدد شهداء المصريين في المقاومة فترة دخول المحتل الفرنسي فقط حوالي 300 ألف شهيد، تكفي دماءهم والوحشية الرهيبة لنابليون أن تثبت للعلمانيين أصحاب الانتماء للثقافة الفرنسية قدر الجريمة التي ارتكبوها عندما رَوّجُوا لفترة طويلة للاحتفال بمقدم الحملة الفرنسية باعتبارها حاملة مشعل الحضارة والتنوير، فإذا بها كانت مشاعل الحرق الشامل والتي أبيدت فيها قري وأحياء بأكملها بكل ما عليها ومن عليها بالذات في المنصورة وطنطا والمنوفية, فضلا على أن الحملة الفرنسية كانت الخطوة الأولى والكبرى لتوطين اليهود داخل القدس, أي أن الحملة الفرنسية والسياسة الفرنسية التي يروج لها أهل التغريب كانت سببا في أكبر كارثتين على العرب جميعا ومصر خصيصا.


*تضعضع حلم نابليون مع استمرار المقاومة وكان أكثر ما أثار غيظه أن خطته الرئيسية في فصل مصر عن الشام تنذر بالفشل قبل بدايتها لأن الشوام المقيمين بمصر لا سيما طلبة الأزهر وقفوا صفا واحدا ضد مع المصريين ضد الاحتلال، وزادت المقاومة عنفا في كافة أرجاء البلاد وواجهها نابليون بمنتهى القسوة في ثورتيْ القاهرة الأولى والثانية حتى قام بضرب أحياء القاهرة بالمدافع من أعلى جبل المقطم، ودخل الأزهر بخيله بعد أن مارس شيوخ الأزهر دورهم التاريخي في قيادة الناس, وكان قادة الثورة هم الشيخ (سليمان الجوسقي) والشيخ (الشرقاوي) والشيخ (المحروقي)" "
وضغط نابليون بمواصلة الجهود لإخضاع المقاومة بالترغيب والترهيب، لا سيما وأن خطته الإعلامية داخل مصر بدأت بالفعل مع وصول الحملة للقاهرة عن طريق تأسيس أول جريدة في مصر والشرق الأوسط التي أصدرها بعنوان وكانت جريدته (كير دي لي ايجيبت) أو (البريد المصري) الناطق الرسمي والوحيد باسم الاحتلال وأذنابه وإعلامه، وَحَشَاها نابليون بكل ما يمكن أن يلفت نظر المصريين ويكسب ودهم وتأييدهم، واستعان على ذلك بالمحترفين الذين جلبهم معه" ".
ورغم أن أسلوب التأثير الإعلامي باستخدام الصحافة وقتها كان أمرا لم تُجَربه مصر قبل ذلك، ورغم أنه أسلوب شديد التأثير مع العوام، خاصة بعد أن استعان نابليون بمنافقي سلطة الاحتلال من خونة المصريين للترويج له باعتباره ليس محتلا بل بطلا أنقذ مصر من جبروت المماليك!
رغم كل هذا فقد كان رد المصريين العوام على نابليون مفاجئا جدا له ولكبار رجال حملته، حيث استخدموا الدعاية المضادة ضد الجريدة باستخدام الطريقة الخارقة التي تتميز بها مصر وهي السخرية من الاحتلال وأعوانه.
فاتخذوها وسيلة للسخرية من نابليون وجنوده، حتى أصبح من يقتني الجريدة أو يروج لأخبارها هدفا سهلا للسخرية والتحقير.
وكانت الجريدة الفرنسية تنشر أخبار الإعدامات لشيوخ المقاومة أولا بأول، في نفس الوقت الذي كان فيه شيوخ السلطان يُحَرّمون الخروج على نابليون باعتباره حاكما متغلبا!
فكانت ردة الفعل الشعبية محبطة للغاية على نابليون حيث تزايدت أنواع المقاومة واكتسبت المزيد من الأساليب، وصاحبها أيضا انهيار معنويات الجنود في الحملة بعد أن تعرضوا لوابل من الأمراض المعدية فضلا على ما عانوه في طول مصر وعرضها من حرب العصابات المرهقة" ".
بخلاف الصدمة التي تلقاها نابليون والتي تمثلت في أن شجاعة المصريين في الدفاع عن بلادهم وتعدد المواقف البطولية لشيوخهم وشبابهم ونسائهم، والإصرار العجيب على مهاجمة القوات الفرنسية ومواجهة المدافع والنيران.
كل هذه الظواهر وقف أمامها ضباط وجنود الجيش الفرنسي وتبلبلت أفكارهم وشعروا لأول مرة أن نابليون يقودهم إلى معركة غير شريفة بمقاييس الحرية التي رفعتها شعارات الثورة الفرنسية.
فالجيش الفرنسي –كما سبق أن شرحنا-كان ينتصر انتصارات ساحقة في أوربا مع إيمان الجنود بعدالة قضيتهم وأنهم يحاربون الرجعية الملكية في أوربا التي تربصت للثورة الفرنسية وأرادت سحقها، لذلك استبسل الجيش الفرنسي في معاركه ضد مختلف الدول الأوربية.
لكنهم الآن وقفوا موقفا شديد الاضطراب وهم يرون شعبا من الفلاحين يرفض التدخل الفرنسي رفضا تاما وَيُصّر على محاربة الجيش النظامي رغم فارق القوة الهائل، ويرتضي الحرق بالمدافع على أن يستسلم.
وهنا ظهرت الكثير من الأصوات المعترضة من بعض علماء الحملة ومن بعض الجنود والضباط أنهم يهاجمون شعبا أعزل ويقتحمون أرضه لاحتلالها وهو ما ينزع عنهم شرعية القتال وروحهم المعنوية المعتادة، وأن نابليون بخالف –لأول مرة-مبادئ الثورة الفرنسية ويلجأ لنفس أساليب الأسر الأوربية الملكية في استضعاف الشعوب واحتلالها بالقهر.
ومن خلال سياق أحداث الحملة الفرنسية، نستطيع أن نقول باطمئنان أن ورقة نابليون الإسلامية فشلت فشلا ذريعا وأن خدعة نابليون لم تنطل على عموم المصريين.
وأن الفئة الوحيدة التي استجابت لنابليون كانوا مجموعة الخونة المنتفعين مثل (المعلم يعقوب) الذي ذهب لنابليون يطلب منه السلاح لكي يمده برجال للقتال في صف الفرنسيين وبالفعل قاتل يعقوب ومجموعته ضد وطنهم، ولقي جزاءه المستحق لأن الحملة الفرنسية عندما فشلت فر المعلم يعقوب للأسطول الفرنسي ورحل معهم، لكنه مات في الطريق وألقى الفرنسيون جثته في البحر" "
وبناء على ذلك لا يستطيع أحد أن يقول بأن خدعة نابليون انطلت على الشعب أو حتى على بعضه، ولذلك فقد أخطأ أستاذنا الكبير (محمد حسنين هيكل) في حديثه عن أن نابليون صادف توافقا مع بعض فئات الشعب، فهذا غير صحيح من واقع التاريخ ورواية شهود العيان، كما أن ظهور فئة من الخونة المتعاونين مع المحتل قد رفضهم الشعب وسخر منهم، ليس معناه أن هؤلاء الخونة يمثلون نسبة يُعْتد بها أو يعبرون عن فصيل من الشعب.

ولم يستسلم نابليون بل أصر على المضي قدما في خطته، ولهذا ترك نائبه الجنرال (كليبر) يواصل جهوده لإخضاع المقاومة وانطلق هو إلى الشام لإتمام الخطوة الأولى في المشروع.
ووقفت مناعة مدينة (عكا) التاريخية في وجه نابليون وفشل في فتحها في نفس الوقت الذي تلقى فيه خبرا أطار صوابه وهو مقتل الجنرال (كليبر) نائبه في مصر على يد الطالب الأزهري الشامي (سليمان الحلبي)
ولنا أن نتخيل ردة فعل نابليون عندما علم أن الذي نجح في اغتيال أبرع قواده كان شابا شاميا يدرس في مصر مما زاد من حنقه وإدراكه بصحة وجهة نظره بمدى التمازج الرهيب بين مصر والشام ضد العدو الغربي.
وقد انتقم الفرنسيون من (سليمان الحلبي) انتقاما رهيبا حيث أحرقوا يده اليمنى، ثم أعدموه على الخازوق في منطقة (تل العقارب)، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتسليم جثته إلى أطباء الجراحة المصاحبين للحملة الفرنسية حيث استخرجوا جمجمته واحتفظوا بها وحملوها أيضا إلى فرنسا وأودعوها متحفا خاصا لا زال قائما لليوم هو (متحف الإنسان)!
وهذا المتحف لا علاقة بالإنسان أو الإنسانية فهو حاشد بآلاف الجماجم التي كان منها جماجم شهداء الحروب من المقاومة في مختلف البلاد التي احتلتها فرنسا!
حيث يحتوي المتحف على عشرات الجماجم لقادة المقاومة الجزائرية، فضلا على جمجمة البطل (سليمان الحلبي) القابعة حتى اليوم في المتحف وتحمل عبارة (مجرم قاتل)!
وهذا يكشف لنا بعضا من إنسانية فرنسا والغرب!
كما يكشف لنا في وضوح أن الغرب اليوم يعتز بتاريخه المغرق في الوحشية ولا يستنكره بدليل أن فرنسا المدافعة عن الحريات لا زالت تحتفظ بعداوات الماضي في الجزائر ومصر ضد المقاومة الوطنية لهذه الشعوب.
وذلك بدلا من أن تستحي من تاريخ نابليون وخلفائه الذين احتلوا الجزائر وتونس وحاولوا احتلال مصر وأوقعوا ملايين الضحايا في سبيل الميول الاستعمارية!
في نفس الوقت الذي لا زالت تدفع فيه ألمانيا عشرات الملايين لإسرائيل في سبيل خرافة محارق النازية في زمن هتلر!
ولهذا فإن بوصلة الغرب العمياء وتعاملهم المزدوج مع قضايا حقوق الإنسان مكشوف لكل ذي عينين غير أن وكلاء الغرب لدينا من الحكومات والإعلام يحلو لهم دائما استنكار تاريخنا نحن وكأننا نحن الذين ارتكبنا هذه المجازر؟!
وتجد فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الصفاقة الكافية لتنشر الإسلاموفوبيا في العالم باعتبار أن الإرهاب صناعة إسلامية!

المهم.
مع استمرار النضال فشلت الحملة وعاد نابليون إلى مصر ومنها إلى فرنسا كي يواجه اضطرابات الحكم هناك، وزاد من جراحه، تلك الهزيمة التي تلقاها أسطوله في معركة (أبي قير) البحرية أمام الأسطول الإنجليزي بقيادة الأدميرال (ويلسون)
وخاض نابليون عقب عودته من مصر حروبا عديدة ورغم نجاحه في معظمها إلا أنه تلقى الهزيمة الكبرى في معركة (ووترلو) على يد الجيش الإنجليزي أيضا بقيادة الجنرال (ولنجتون)، وانتهت صفحة نابليون بنفيه إلى جزيرة سانت هيلانه.
لكن مشروعه الإمبراطوري كان لا زال قابعا في وثائقه وأفكاره، والأخطر أنه كان معروفا لجنرالاته وعلمائه في الحملة الفرنسية، كما أن كبار الحاخامات اليهود ورموزهم كانت لديهم أجزاء كثيرة من حلم نابليون أهمها الفكرة نفسها.
فكرة توطين اليهود في وطن مستقل تحت حماية القوى الأوربية.
وظلت الفكرة سابحة في مجرى الزمن حتى وقعت في طريق فئة محددة هي فئة أغنياء اليهود الأوربيين الكبار والذين استهوتهم فكرة تجميع اليهود الفقراء في وطن مستقل بعيدا عن أوربا لأن أغنياء اليهود كانوا يعانون بشدة من تطفل واستنجاد اليهود بهم، لذلك جاءت الفكرة حلا عبقريا لكي يتخلص أباطرة اليهود من تلك الفئات التي تنغص استقرار استثماراتهم في أوربا.

واللافت للنظر أن أغنياء اليهود وكبارهم لم يكن لديهم اهتمام بتفاصيل مشروع نابليون، بل كانوا يهدفون منه لفكرة جمع اليهود الفقراء في مكان واحد بعيدا عنهم، بغض النظر عن المكان سواء في فلسطين أو غيرها.
لكن الذي أعاد مشروع نابليون بحذافيره للصدارة، هو أن أباطرة اليهود حملوا المشروع لبريطانيا وعرضوه عليها لتتبناه بريطانيا مع إعطاء المشروع أسباب قوة ونجاح أكثر بكثير من التي كان يمتلكها نابليون!
وقد كانت هذه هي نقطة العبقرية البريطانية المتوارثة كما سنرى في الفصل القادم.







التوقيع

الإيميل الجديد
 
رد مع اقتباس
قديم 11-02-2024, 07:07 PM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
راحيل الأيسر
المدير العام
 
الصورة الرمزية راحيل الأيسر
 

 

 
إحصائية العضو







راحيل الأيسر غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

مر زمن طويل أخي الكاتب والمفكر أستاذ / محمد جاد الزغبي ..
على إدراجك الأخير لمواضيعك الهادفة ..


طبعا لم يتسنَّ لي قراءة الموضوع كاملا ..
سأقرؤه على مهل إن شاء الله
لابد أنه موضوع شامل قيم ككل ما سبق وقرأت لك
من قبل ..



مرحبا بك وأهلا بعد غياب ..
كن دائما وأبدا بخير ورخاء وعفو وعافية..







التوقيع

لم يبق معيَ من فضيلة العلم ... سوى العلم بأني لست أعلم .
 
رد مع اقتباس
قديم 12-02-2024, 12:53 AM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
محمد جاد الزغبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي
 

 

 
إحصائية العضو






محمد جاد الزغبي غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة راحيل الأيسر مشاهدة المشاركة
مر زمن طويل أخي الكاتب والمفكر أستاذ / محمد جاد الزغبي ..
على إدراجك الأخير لمواضيعك الهادفة ..
.
بالفعل أستاذة راحيل صديقتنا العزيزة
لكن أقلام لا زالت في العقل والقلب

اقتباس:
طبعا لم يتسنَّ لي قراءة الموضوع كاملا ..
سأقرؤه على مهل إن شاء الله
لابد أنه موضوع شامل قيم ككل ما سبق وقرأت لك
من قبل ..
مرحبا بك وأهلا بعد غياب ..
كن دائما وأبدا بخير ورخاء وعفو وعافية.
بارك الله فيك
وفي انتظارك






التوقيع

الإيميل الجديد
 
رد مع اقتباس
قديم 12-02-2024, 03:35 AM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
راحيل الأيسر
المدير العام
 
الصورة الرمزية راحيل الأيسر
 

 

 
إحصائية العضو







راحيل الأيسر غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد جاد الزغبي مشاهدة المشاركة

بالفعل أستاذة راحيل صديقتنا العزيزة
لكن أقلام لا زالت في العقل والقلب


بارك الله فيك
وفي انتظارك

وفيك بارك وجعل الجنة دارك
والمصطفى المختار فيها جارك
ومن كل كرب أجارك
وإلى كل خير اختارك

نعم أخي نحن زملاء وإخوة هنا في أقلام
قرأت لك كثيرا هنا
دون أن أعقب على صفحاتك ..

فأنت أخي المكرم
وأنا اختك في أقلام
حفظك الله ورعاك ..



وفي الحقيقة منذ احداث اكتوبر وأنا اقرأ كثيرا عن القضية ..
والمعلومات الواردة هنا جديدة علي .
مستفيضة و مسهبة ..


تقديري لأخي المكرم / محمد جاد الزغبي.






التوقيع

لم يبق معيَ من فضيلة العلم ... سوى العلم بأني لست أعلم .
 
رد مع اقتباس
قديم 12-02-2024, 04:45 AM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
محمد جاد الزغبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي
 

 

 
إحصائية العضو






محمد جاد الزغبي غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

بارك الله فيك وحفظك
ونسأل الله الفائدة بهذا البحث وغيره






التوقيع

الإيميل الجديد
 
رد مع اقتباس
قديم 12-02-2024, 02:06 PM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
هشام يوسف
الهيئة الإدارية
 
الصورة الرمزية هشام يوسف
 

 

 
إحصائية العضو







هشام يوسف غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

أهلا بالصديق "اللدود" الاستاذ محمد جاد الزغبي.

ما زلت أذكر تلك "المناكفات" بيننا قبل عقد من الزمن.
ولا أدري كيف سيكون شكل اللقاء بيننا مرة أخرى بعد هذه المدة.. وما هو تأثير الزمن والأحداث في القناعات أولا، وفي الطاقة للحوار و "المناكفات" ؟
أهلا ومرحبا بك مرة أخرى، وأرجو أن تطيل القيام هنا وتكثر من مشاركاتك الكريمة.







 
رد مع اقتباس
قديم 12-02-2024, 11:38 PM   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
محمد جاد الزغبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي
 

 

 
إحصائية العضو






محمد جاد الزغبي غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هشام يوسف مشاهدة المشاركة
أهلا بالصديق "اللدود" الاستاذ محمد جاد الزغبي.

.
أهلا بك ومرحبا

اقتباس:
ما زلت أذكر تلك "المناكفات" بيننا قبل عقد من الزمن.
ولا أدري كيف سيكون شكل اللقاء بيننا مرة أخرى بعد هذه المدة.. وما هو تأثير الزمن والأحداث في القناعات أولا، وفي الطاقة للحوار و "المناكفات" ؟
أنا أذكرك طبعا لكن لا أذكر المناكفات وأعتقد أنها كانت حوارات مفيدة
لكن تأثير الزمن بالفعل موجود وتطور أوضاعنا كأمة عربية جعلنا زاهدين في الجدل ونفضل عليه النشر وتسجيل الأفكار

اقتباس:
أهلا ومرحبا بك مرة أخرى، وأرجو أن تطيل القيام هنا وتكثر من مشاركاتك الكريمة
باذن الله تعالى
شكرا لك






التوقيع

الإيميل الجديد
 
رد مع اقتباس
قديم 14-02-2024, 09:17 PM   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
رابح مصطفي
أقلامي
 
إحصائية العضو







رابح مصطفي غير متصل


افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

اللهم ارزقنا اهلنا في فلسطين الصبر و السلوان







 
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 08:14 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط