ماركس في "استشراق" ادوارد سعيد
هل العقل للغرب والقلب للشرق ؟
مهدي عامل
الكرمل
ربيع 1982
العدد السادس
ابتدئ هذه الكلمة بان أوضح للقارئ غايتها :
في أربع صفحات فقط من كتابه "الاستشراق" , الذي لا يزال يستثير اهتماما بالغا ونقاشا واسعا في العالم العربي وخارجه , يتحدث ادوارد سعيد عن علاقة ماركس بالفكر الاستشراقي وبالشرق الآسيوي , فيقول قولا يستوقف .
غايتي من هذه الكلمة أن أناقش هذا القول وحده , وقد انحصر بين الصفحة 170 والصفحة 173 من الطبعة العربية لهذا الكتاب الذي يتألف من 366 صفحة .
..
لنتابع مع "مهدي عامل" , نقده للنص السعيدي وهو يعالج الماركسية , من خلال دراسته للاستشراق .
سنأخذ من النص "العاملي" الغني والكثيف , ما نعتقده نقدا ماركسيا لادوارد سعيد , وليس دفاعا عن الماركسية فقط .
مهدي عامل :
فليسمح لنا القارئ , إذن , بإثبات هذا النص , كما ورد , بكامله , حتى يتسنى لنا أن نناقش قراءته السعيدية .
يقول ماركس " الآن بالرغم من الاشمئزاز الذي لا بد أن تثيره في المشاعر الإنسانية رؤية هذه المئات من التنظيمات الاجتماعية ذات النظام الأبوي , والكادحة التي لا تسبب أذى , تفك وينحل تنظيمها إلى وحداتها (الأولية) وتقذف إلى لجج من المحبة , ويفقد أفرادها في الوقت نفسه الشكل القديم من الحضارة الذي عرفوه ووسائل تحصيل قوتهم الموروثة , فلا ينبغي علينا أن ننسى أن هذه المجتمعات القروية الرعوية , مع ما تبدو عليه من المسالمة والبعد عن الأذى , كانت دائما وما تزال الأساس الصلب للطغيان الشرقي , وأنها حصرت العقل الإنساني ضمن أضيق نطاق ممكن , جاعلة منه أداة التطيّر المستسلمة دون مقاومة , ومستعبدة اياه للقواعد والأعراف التقليدية , ومجردة اياه من الجلال كله ومن الطاقات الحيوية التاريخية كلها .
لقد كانت انكلترة , دون شك , في تسببها لحدوث ثورة اجتماعية في الهندستان مدفوعة بأكثر المصالح القذرة , كما كانت حمقاء في الطريقة التي بها فرضت هذه المصالح , لكن هذا ليس السؤال الحق .
بل السؤال هو , هل يستطيع الإنسان أن يحقق مصيره دون ثورة جذرية في الوضع الاجتماعي لآسيا , وإذا كان الجواب بالنفي فمهما تكن الجرائم التي قد تكون انكلترة ارتكبتها , فإنها الأداة غير الواعية للتاريخ في انجاز هذه الثورة .
وإذن , فأياً كانت المرارة التي يتركها مشهد عالم قديم يتهاوى في مشاعرنا الشخصية , فان لنا الحق , في منظور التاريخ , أن نهتف بتعجب مع غوته :
" أينبغي إذن لهذا التعذيب أن يعذبنا
ما دام يهبنا متعة أعظم ؟
أو لم تفترس أرواح لا تحصى دون
قيد عبر حكم تيمورلنك ؟" .
يتألف هذا النص من ثلاث فقرات , يعرض ماركس في الأولى والثانية منها رأيه في العلاقة التاريخية بين الاستعمار الانكليزي وبين الهند , وفي آثارها في بنية المجتمع الهندي .
ويؤيد في الفقرة الثالثة , هذا الرأي باقتباس من شعر غوته .
منطق القراءة السليمة يقضي بوضع هذا الاقتباس في سياقه , وبالنظر في معناه في ضوء ما سبق من قول , أي بالتحديد , في ضوء مضمون الفقرتين الاوليين , فالمضمون هذا هو الذي يحكم معنى الاقتباس وليس العكس .
ماذا يقول ماركس في نصه ؟
لو طرح القارئ على نفسه هذا السؤال الذي نطرحه بدورنا على مؤلف "الاستشراق" لكان عليه أن يبحث عن الجواب في نص ماركس , لا في شعر غوته .
ومن الخطأ قلب هذه العلاقة بين النص والاقتباس , لأن في هذا تشويها للاثنين معا . وهذا ما يقوم به ادوارد سعيد . بل هو , في تأويله النص الماركسي , يسقط منه فقرتيه الاوليين , ولا يستبقي من الفقرة الثالثة سوى أبيات غوته التي يقتطعها من سياقها في فكر ماركس , ليضعها في سياق فكره الذي به تكتسب معنى آخر غير الذي لها في سياقها , فيستقيم التأويل بتغييب ماركس في غوته , ويكتفي المتأول بقراءة شعر هذا لفهم ذاك .
ونعود إلى النص الأصلي فنرى , باختصار , أن الكلام يجري في فقرتيه الاوليين , على حركة دياليكتيكية موضوعية هي الحركة التاريخية المادية لتفكك "التنظيمات الاجتماعية ذات النظام الأبوي" في الهند , بفعل الاستعمار الانكليزي وتوسع الرأسمالية .
والكلام يجري , بالطبع , من موقع إدانة هذا الاستعمار الذي يثير "الاشمئزاز في المشاعر الإنسانية" .
لكنه ليس كلاما وصفيا .
أو قل انه لا ينحصر في وصف الآثار المدمّرة لذاك الاستعمار , ولا في وصف هذه المشاعر , بل أهم ما فيه انه يطرح سؤالا يحدده , بوضوح , على الوجه التالي :
" هل يستطيع الإنسان أن يحقق مصيره دون ثورة جذرية في الوضع الاجتماعي لآسيا ؟"
فالقضية الرئيسية في نص ماركس هي , إذن , قضية الثورة وضرورتها , كشرط لتحرير الإنسان في آسيا .
ولئن قرأنا الفقرة الأولى من هذا النص بشيء من العقل , لرأينا أن ما يقف عائقا في وجه هذا التحرير هو , بالضبط , تلك "المجتمعات القروية الرعوية" التي "كانت دائما وما تزال الأساس الصلب للطغيان الشرقي .. " وهي التي تكبح "الطاقات الحيوية التاريخية كلها " .
هذا يعني أن ضرورة التاريخ تقضي بتقويض هذه المجتمعات حتى يتحرر التاريخ , فيتحرر الإنسان بتحريره .
من هذا الموقع ينظر ماركس في حركة تقويض المجتمعات الآسيوية وتفكيكها , وفي العلاقة بين هذه الحركة وبين الاستعمار الانكليزي , فيرى في انكلترا "الأداة غير الواعية للتاريخ في انجاز هذه الثورة" .
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن الترجمة العربية للعبارة الأخيرة من هذا النص ليست دقيقة . فالنص الانكليزي الأصلي لا يتكلم على "انجاز الثورة" بل , حرفيا , على "الاتيان بها" , أو كما ورد في الترجمة الفرنسية , على "استثارتها" .
فبين استثارة الثورة وانجازها فارق كبير هو القائم بين حركة مادية , أي موضوعية , للتاريخ , تؤسس للجديد في تدميرها القديم نفسه , وبين حركة قاصدة تظهر في الوعي المثالي للتاريخ , بفعل إلغاء التناقض المادي فيه , كأنها حركة "إعادة الحياة إلى آسيا فاقدة للحياة" , كما في التأويل السعيدي .
ثمة فرق كبير , إذن , بين أن تكون انكلترا , كما هي في النص الماركسي , "أداة غير واعية للتاريخ " في حركة موضوعية يجري فيها التاريخ بحسب منطقه المادي الديالكتيكي , ومن خارج الوعي والإرادة الإنسانيين , بل ضدهما , وبين أن تكون , كما هي في هذا التأويل , "سيّدة التاريخ" , في حركة قاصدة يجري فيها التاريخ بحسب منطقها الإيديولوجي الذي هو منطق الوعي الاستشراقي , أي الاستعماري .
والفارق هذا هو القائم بين نظرتين للتاريخ : الأولى مادية , والثانية مثالية , بل ذاتية .
ولا يصح تأويل النص الماركسي بحسب هذه النظرة الأخيرة , كما يفعل ادوارد سعيد , لا سيما الفقرة الثالثة نفسها من النص الذي يستشهد فيها ماركس بشعر غوته تؤكد , بوضوح , أن "في منظور التاريخ" يجري الكلام , وفيه تندرج أبيات غوته .
يتابع مهدي عامل , رصد (تأويل) النص السعيدي , عن ماركس , ويقتبس من الاستشراق :
" _ إن على انكلترا آن تحقق في الهند رسالة مزدوجة : الأولى تدميرية , والثانية إحيائية تجديدية _ إفناء المجتمع الآسيوي , وإرساء الأسس المادية للمجتمع الغربي في آسيا ."
عن قصد أثبتنا النص الماركسي بكامله , وعن قصد نثبت هذا الجزء من تأويله السعيدي .
أبمثل هذه الخفة يكون النقد ؟ نتساءل , ونشهد للمؤلف بجرأة قد لا نحسده عليها .
نتابع تسجيل جمل ذات دلالة في نقد مهدي عامل لاستشراق ادوار سعيد , بحيث لا نغرق الموضوع ونقده , معا ..
_ قديمة هي الفكرة التي تردّ ماركس إلى مصادر مسيحية , وتردّ الثورة في مفهومها الماركسي , إلى مثل هذا المشروع . قديمة وبالية .
_ بتكرار (سعيد) منطلقه المعرفي الضمني , إثبات أن فكر الفرد , حتى لو كان فكر ماركس , عاجز عن الخروج على الفكر المسيطر الذي هو فكر الأمة السائد .
_ هكذا تفقد الثورة , بقدرة هذا التأويل ومنطقه , ضرورتها التاريخية , وتنقلب مجرد مشروع رومانسي شائع في أدبيات الفكر السائد , هو مشروع مسيحي لخلاص النفس البشرية , عبر عذابات هي مطهر ضروري لإنتاج المتعة .
يلمس في ما يلي مهدي عامل , عمق رؤية ادوارد سعيد , لماركس والاستشراق , وربطه بينهما , فيقول :
من زاوية الأخلاق ينظر المؤلف في الاستشراق ويدينه .
ومن زاوية الأخلاق أيضا ينظر في الاستعمار ويدينه .
ويظن أن التحرر من فكر الاستشراق ومن فكر الاستعمار _ إن لم نقل من الاستعمار نفسه ومن الامبريالية _ يكون بموقف أخلاقي هو تغليب للقلب , على العقل . فالعقل للغرب وحده . أما القلب , فللشرق . ولا توفيق بين الاثنين , فإما هذا , وإما ذاك .
هنا يتضح المأخذ الأساسي للمؤلف على ماركس : لقد حاول ماركس أن يوفق , في موقفه من الشرق , بين القلب , (في استنكاره عذابات الشرقيين) , وبين العقل (في قوله بالضرورة التاريخية لتحولات المجتمع الآسيوي) , فباءت محاولته بالفشل , وانتهى به الأمر أخيرا إلى تغليب العقل على القلب , فانحاز لغرب في انحيازه للعقل , وانضوى فكره تحت لواء فكر الاستشراق .
خطأ التأويل متعدد الأوجه , مترابط .
تنقلب قضية الاستعمار واستشراقه قضية أخلاقية تجد حلها في إدانة أخلاقية للاستعمار واستشراقه , ليس لها , في منظور التاريخ وحركته فاعلية تذكر .
لكن القضية , في هذا المنظور , ليست قضية أخلاقية , وحلها ليس , بالتالي , حلا أخلاقيا .
إنها , في النص الماركسي , قضية الثورة الاجتماعية في ضرورتها التاريخية .
هذا ما يؤكده ماركس , مباشرة بعد إدانته الاستعمار الانكليزي وآثاره المدمرة , إذ يقول , مستدركا : " لكن هذا ليس هو السؤال الحق , بل السؤال هو , هل يستطيع الإنسان أن يحقق دون ثورة جذرية في الوضع الاجتماعي لآسيا ؟" .
هذا ما يدفعنا إلى القول أن التأويل السعيدي ليس , في حقيقته النهائية , تأويلا للنص الماركسي , بقدر ما هو إلغاء له , بإحلال نص آخر محله يظهره كأنه تأويل لنص ماركس .
..
سنكتفي هنا بما نقلناه من نقد مهدي عامل , لكتاب الاستشراق , في حديثه عن الماركسية وعلاقة ماركس بالاستشراق .
قد نعود تاليا , لمزيد من الاقتباس من رؤية مهدي عامل , عند الوصول إلى موضع النقد هنا , في سياق تقديم الكتاب .
ولكننا فضلنا وضعه بعد استناد ادوارد سعيد على فكر أنور عبد الملك ..
لنتذكر ..
وهل بإمكان أية علاقة أخرى غير علاقة السيد_العبد السياسية أن تنتج الشرق المشرقن الذي جسد ملامحه أنور عبد الملك تجسيدا كاملا ؟
"ويرى المرء إلى أي مدى , بدءا من القرن الثامن عشر والى القرن العشرين , رافق تسلط الأقليات المالكة التي كشف عنها النقاب ماركس وانجلز , والتمركزية الإنسانية التي فككها فرويد , تمركزية أوروبية في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية , وبالأخص في العلوم ذات العلاقة المباشرة بالشعوب غير الأوروبية ."
ويرى عبد الملك أن الاستشراق ذو تاريخ , قاده , في نظر "الشرقي" في الجزء الأخير من القرن العشرين , إلى الطريق المسدود الذي وصف أعلاه .
فقد كان للاستشراق منذ بدئه , إذن , خصيصتان عظيمتان :
1_ وعي للذات علمي طارئ مبني على أهمية الشرق اللغوية لأوروبا .
2_ ميل إلى التقسيم , والتفريع , وإعادة التقسيم , لموضوعه دون أن يغيّر أبدا نظرته إلى الشرق بوصفه دائما نفسه : شيئا لا متغيّرا , متجانسا , وشاذا شذوذا جذريا .
فقد بدت اللغة والعرق موحدين وحدة لا تنفصم عراها , وكان الشرق "الجيد" دون استثناء مرحلة كلاسيكية في مكان ما من هند ضاعت منذ زمن بعيد , أما الشرق "السيئ" فانه استمر في آسيا المعاصرة وأجزاء من شمال أفريقيا , وبلاد الإسلام في كل مكان .
وليس ثمة مثل أفضل اليوم على ما أسماه أنور عبد الملك "تسلط الأقليات المالكة" والتمركزية الإنسانية متحالفة مع التمركزية الأوروبية , في الحالة التالية :
إن غربيا ابيض ينتمي إلى الطبقة الوسطى يؤمن بأنه امتياز طبيعي له لا أن يدير شؤون العالم غير الأبيض وحسب , بل أن يمتلكه كذلك , لمجرد أن العالم الآخر , تحديدا , ليس بالضبط إنسانيا تماما بقدر ما "نحن" كذلك .
ما يهمنا تسجيله , كنقاط استناد مستقبلية :
_ واضح أن ادوارد سعيد غير متمكن من الماركسية , لذلك ذهب إلى تحليل الجانب الأدبي في فكر كارل ماركس , مدخلا لرؤيته المضطربة فعلا عند قراءته للاستشراق .
ولذلك استعان بالمفكر الماركسي أنور عبد الملك , ليقدم الرؤية الشرقية , للاسشتراق الغربي , من حيث أن الماركسيين في الشرق هم من انتبه ودرس وفكك ظاهرة الاستشراق , أولا .
ولا يبدو أن مهدي عامل , قد اعترض على الاقتباس السعيدي لفكر أنور عبد الملك .
_ أنور عبد الملك , يقرأ بدقة رؤية الغرب "العدائية" , للشرق , لغويا .
خريف 2008
..
_________________