معلومات
العضو |
|
|
الحكومة الخفية(منظمة أرجنكون) في قفص الاتهام بعد نصف قرن من العبث بمستقبل تركيا
أخيراً ارجنكون في القفص
أخيراً ارجنكون في القفص
تسجل تركيا هذه الأيام صفحة جديدة في تاريخها, بعدما أمسكت بأهم خيوط الحكومة الخفية, التي ظلت تتحكم في مصير البلد طوال نصف القرن الأخير علي الأقل. (1) هو زلزال سياسي بكل المعايير, تلمس أصداءه فور وصولك إلى استنبول, التي تجري على أرضها محاكمة العصر. اذ لايزال كثيرون غير مصدقين أن كابوس الحكومة الخفية الممثلة في منظمة أرجنكون بصدد الزوال. وهي التي ظلت تتربص بالحياة السياسية منذ منتصف القرن الماضي, محركة عددا من الأحداث الكبيرة أو الغامضة, التي ظلت تهز البلاد وتصدم الرأي العام بين الحين والآخر, من الانقلابات العسكرية الاغتيالات والتصفيات, مرورا بزرع المتفجرات وإطلاق المظاهرات. وصلت إلى استنبول مع بدء المحاكمة الكبرى( الأثنين10/20) التي جرت بضاحية سيلفيري بالقسم الأوروبي من استنبول. ومن الواضح أن الحكومة حرصت على أن تطلع الرأي العام أولا بأول على تفاصيل القضية, حتى يعرف الجميع حقيقة ما كان يجري في تركيا خلال العقود الخمسة السابقة, فنشرت على موقع بالانترنت أسماء كل المتهمين(84 حتى الآن وقد ألقي القبض على25 آخرين في الأسبوع الماضي). كما نشرت لائحة الادعاء المقدمة ضدهم التي وردت في2500 صفحة. وقيل إن هناك5 ملايين وثيقة تؤيد الادعاءات والجرائم المنسوبة اليهم. أكثر ما أثار الانتباه في قائمة المتهمين أن على رأسهم ثلاثة من جنرالات الجيش المتقاعدين, ورئيس جامعة استنبول السابق وأحد كبار الصحفيين. إضافة إلى أعداد من رجال الجيش والشرطة, والقوميين المتطرفين المنخرطين في منظمة حماية الأفكار الاتاتوركية. وأي متابع للمحاكمة التركية يعرف أن القبض علي الجنرالات خط أحمر, باعتبار أن الاصل في النظام السائد أن يقبض الجنرالات علي البلد وعلى المواطنين. وكان لابد أن تحدث معجزة خارقة حتى يحدث العكس. (2) وحدهم المتابعون للحالة التركية ـ فضلا عن عموم الاتراك بطبيعة الحال ـ الذين يدركون دلالة إلقاء القبض على الجنرالات ومحاكمتهم. ذلك أن الجيش هناك محاط بهالة من القداسة, وجنرالاته يعتبرون أنفسهم ورثة أتاتورك وحماة العلمانية والاوصياء على الجمهورية. لكن دولة الجيش لم تستمر وسلطانهم تراجع بمضي الوقت, خصوصا بعدما اشترط الاتحاد الأوروبي على تركيا أن تقلص دور الجيش في الحياة السياسية, حتى أصبحت الاغلبية في مجلس الأمن القومي للسياسيين المدنيين, وحين غلت يد العسكر عن القرار السياسي, صار المجتمع أكثر جرأة في التعامل معهم. تجلت تلك الجرأة حين أصدر رئيس الاركان الحالي بيانا هاجم فيه بشدة الصحف التي انتقدت إهمال الجيش في الدفاع عن أحد المراكز الحدودية في جنوب شرقي البلاد, كان قد تعرض لهجوم من قبل حزب العمال الكردستاني في بداية الشهر الحالي, وحينذاك رد عليه رئيس تحرير صحيفة طرف أحمد الطاق بمقال عنيف كان عنوانه: من أنت أيها الجنرال حتى تهددنا؟ كان المقال جريئا في مفرداته وفي لغته, فلم يسبق ان خوطب الرجل بصفته جنرالا. إذ كان يشار إليه عادة باعتبار الباشا( القائد) أو رئيس الأركان, كما لم يسبق لأحد أن سأله من أنت, ولا بماذا تهددنا بل إن الكاتب سخر منه حين سأله عما إذا كان سيوجه طائراته النفاثة اف16 لقصف مقر جريدة طرف؟ في الوقت ذاته فإن الصحف انتقدت بشدة قائد القوات البرية لأنه مشغول بلعب الجولف أثناء مراسم دفن أحد الجنود الذي قتلته غارة حزب العمال الكردستاني على المركز الحدودي.
(3)كنت قد سمعت بمنظمة( ارجنكون) قبل أحد عشر عاما, حيث حدثني عنها أحد الخبراء المتخصصين في ملفها, وقد طلب مني حينئذ ألا أذكر اسمه, ونشرت في21 مايو1997 مقالا كان عنوانه الحكومة الخفية في تركيا, ركز على نفوذ الجيش في الخريطة السياسية, باعتباره الحليف الرئيسي للمنظمة, قيل لي إن كلمة ارجنكون لها رنينها الخاص في الذاكرة التركية؛ إذ تقول الأسطورة إن الصينيين حين هاجموا القبائل التركية أثناء وجودها في وسط آسيا, موطنها الاصلي, فإنهم سحقوهم وقضوا عليهم, بحيث لم يبق من الجنس التركي إلا عدد قليل من الناس, احتموا بواد عميق باسم ارجنكون وهناك ظلوا مختفين ومتحصنين سنين عددا, تكاثروا خلالها حتي ضاق بهم المكان, ولم يعرفوا كيف يخرجون منه, حتي ظهر في حياتهم الذئب الأغبر الذي دلهم على طريق الخروج, ومن ثم أتيح لهم أن ينفتحوا على العالم ويقيموا دولتهم الكبرى. وإذ أصبح الذئب الأغبر رمزا عن القوميين الأتراك فإن كلمة ارجنكون أصبحت رمزا للحفاظ على الهوية وبقاء الجنس إذ لولاه لاندثر الأتراك ولم يعد لهم وجود. في مقال الحكومة الخفية الذي نشر لي قبل أحد عشر عاما استعرت عنوانا رئيسيا نشرته صحيفة يني شفق آنذاك تساءلت فيه: من صاحب القرار في تركيا؟ ذلك أن رئيس الوزراء انذاك كان نجم الدين اربكان زعيم حزب الرفاه الاسلامي, لكن رئاسة الأركان نازعته سلطته وظلت تمارس ضغوطها عليه حتى اضطرته للاستقالة في نهاية المطاف. تحدثت في المقال عن أنني حاولت أن أتحرى حقائق ذلك العالم الخفي الذي يتحكم في الحياة السياسية التركية. ونقلت عن بعض الباحثين الاتراك الذين لقيتهم قولهم لي: لا تجهد نفسك كثيرا في محاولة التعرف على الحقيقة, لأنها لا تستعصي على المراقب القادم من الخارج فحسب, وأنما تستعصي على الأتراك أنفسهم.. الذين يعرفون أن الخفي منها والمجهول أكثر من المعلوم. (4) منذ صعود القوي ذات الخلفية الاسلامية الي مواقع متقدمة في الحياة السياسية التركية استنفر العلمانيون المتطرفون قواهم وأصبح شغلهم الشاغل هو كيفية قطع الطريق عليهم وإفشال تجربتهم, باعتبارهم يمثلون تهديدا مباشرا للعلمانية والتراث الكمالي. وأصبحت هذه المهمة أحد أهداف منظمة ارجنكون, التي تتعدد الأقوال في منشئها, فمن قائل إنها امتداد لجماعة الاتحاد والترقي التي خلعت السلطان عبدالحميد وقضت على الخلافة الأسلامية, وقائل إنها كانت ذراعا لحلف الناتو الذي انضمت إليه تركيا في بداية الخمسينيات, وانها كانت ضمن المنظمات التي شكلتها المخابرات المركزية في أوروبا لمكافحة الشيوعيين في مرحلة الحرب الباردة, لكن الذي لا يختلف عليه احد أن أصابعها كانت هناك في أغلب القلاقل والاضطرابات التي شهدتها تركيا. وانها انتشرت في مختلف مفاصل الدولة حتي قدر أحد الخبراء اعضاءها بنحو40 ألف شخص. ثمة حادث وقع في شهر نوفمبر من عام1996 يسلط الضوء علي مدي قوة وانتشار تلك المجموعة الخطيرة, ذلك أن سيارة مرسيدس سوداء كانت تسير مسرعة على أحد طرق غرب تركيا, فخرجت عليها سيارة شحن كبيرة صدمتها وقتلت ثلاثة من ركابها, أحدهم كان مدير الأمن السابق لمدينة استنبول, والثاني أحد زعماء المافيا الخطرين والمطلوبين محليا ودوليا, والثالثة ملكة جمال سابقة لتركيا كانت عشيقة الثاني. أما الرابع الذي جرح فقط فقد كان شيخ عشيرة كرديا يتمتع بالحصانة البرلمانية, في التحقيق تبين أن المجموعة كانت قادمة من أزمير, عقب اجتماع عقدته مع وزير الداخلية في الحكومة, وأن السيارة كانت تحمل سلاحا, وحيث قدمت الاستخبارات تسجيلاتها التي تتبعت بها بعض ركاب السيارة, تبين أن السيدة تانسو شيللر نائبة الوزراء في الحكومة كانت على اتصال مع واحد منهم, هي وزوجها الذي لا يقل أهمية عن ذلك أن القضية تمت لفلفتها حيث اختفت البصمات من ملف القضية, وصدرت أحكام مخففة لحق الذين اتهموا فيها وأفلتت إحدى خلايا منظمة ارجنكون من العدالة. وكان أحد الأسباب التي أدت إلى ذلك ان الحكومة كانت ضعيفة في مواجهة الجيش( رئيس الاركان وقتذاك احتج ورفض مساءلة مدير الدرك, معتبرا أن ذلك من اختصاص الجيش وحده). هذه المرة وقعت المصادفة في ظل وضع اختلفت فيه موازين القوة في تركيا. فقد دأبت بعض الأبواق الإعلامية على اتهام الحكومة بأنها تسعى لتطبيق الشريعة في البلاد, وكان ذلك مبررا لتنظيم بعض مظاهرات الاحتجاج باسم الدفاع عن العلمانية. في هذه الأجواء ألقيت قنبلتان على فناء صحيفة الجمهورية المتطرفة( مدير تحريرها متهم في القضية), للإيحاء بأن الإسلاميين يريدون تخويفها. وبعد ذلك قتل أحد المحامين قاضيا في المحكمة العليا, وقال القاتل في التحقيق إنه أقدم على فعلته لأن الرجل من معارضي السماح للمحجبات بالدراسة في الجامعة, وبطبيعة الحال فإن الأبواق العلمانية استشهدت بما جرى, وراحت تحذر من مغبة السياسة التي تتبعها الحكومة. الحادثان وقعا في السنة الماضية, التي كانت أجهزة الأمن تراقب خلالها شقة سكنية في ضاحية العمرانية باستنبول, وحين اقتحمت الشقة وجدت فيها مخزنا للاسلحة وعدة وثائق بالغة الأهمية. إذ اكتشفت أن بها قنابل من نفس الطراز الذي ألقي علي صحيفة الجمهورية, وعثرت علي صورة لقاتل القاضي مع أحد الجنرالات المتقاعدين, وصورة أخري لقائد الشرطة العسكرية السابق, الذي يعد أحد أهم خمسة قيادات عسكرية في البلاد, وصورة لجنرال ثالث مع مؤسس جمعية الدفاع عن الأفكار الاتاتوركية وكانت تلك الوثائق هي الخيوط الأولى التي تتبعتها أجهزة الأمن والتحقيق التي كشفت عن حلقات أخرى في التنظيم الجهنمي, وأشارت إلى علاقة لارجنكون بحزب العمال الكردستاني الانفصالي الداخل في صراع مع حكومة أنقرة. وهناك شكوك يرددها البعض عن علاقة لعبدالله أوجلان بالتنظيم( حماه كان مسئولا كبيرا في الاستخبارات) الذي يكتشف فيه جديد كل يوم لا أحد يعرف بالضبط حجم الجزء الغاطس منه. أحد الخبراء قال لي انهم لا يستبعدون أن يرد التنظيم بتوجيه ضربة من أي نوع للحكومة التي دخلت معهم في مواجهة مكشوفة لأول مرة في التاريخ التركي المعاصر. وقد تأتي الضربة من حركة مفاجئة داخل الجيش, ولا يستبعد ان يتعرض رئيس الوزراء أردوجان للاغتيال, كما لا يستبعد أن يلقي رئيس الجمهورية عبدالله جول المصير ذاته, بحيث يتكرر معه ما جري مع الرئيس الاسبق توركوت اوزال, الذي تتواتر الروايات عن أن تنظيم ارجنكون قام بتسميمه عام1993, لكن الأهم في الأمر أن ارجنكون أصبحت اخيرا في قفص الاتهام, وأن المحاكمة بدأت منذ اسبوع وقد تستمر لسنة أو سنتين.
--------------------------------------------------------------------------------
*جريدة الأهرام المصرية
|