الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > منتديات اللغة العربية والآداب الإنسانية > منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي

منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي هنا توضع الإبداعات الأدبية تحت المجهر لاستكناه جمالياته وتسليط الضوء على جودة الأدوات الفنية المستخدمة.

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-03-2008, 10:39 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
ابراهيم درغوثي
أقلامي
 
إحصائية العضو







ابراهيم درغوثي غير متصل


افتراضي بنية اللغة في رواية : وراء السراب ...قليلا لابراهيم درغوثي/ تونس

بنية اللغة في رواية " وراء السراب قليلا "
لإبراهيم درغوثي
د . محمد تحريشي
كلية الآداب
جامعة بشار / الجزائر
شكلت اللغة في هذه الرواية التجسيد المادي لتلك الأفكار التي حفزت الروائي التونسي إبراهيم درغوثي على الكتابة وراء السراب قليلا ، لتتماهى مع تلك القيم الجمالية و الفنية التي تنهل من التراث اللغوي و الأدبي و الفني ، و تستفيد من الخطاب العربي المعاصر ، و كأنها تريد أن تمزج بين عنصرين لتنتج تفاعلا فنيا يقارب الأشياء و لا ينسخها أو يقررها ، أو يكتب عنها بلغة مفضوحة لا تنزاح عن دلالاتها المعجمية . إنها كتابة تسعى إلى تخطي التجربة السردية ذاتها ، كتابة تؤسس لسردية عربية منشودة .
و كانت لغة هذا الروائي ، لغة تلك الصورة المنحوتة من عبق التاريخ و من خصوصية تجربة الكاتب الروائية التي اختارت هذه المرة مناجم الفوسفات بالجنوب التونسي.
و أما لغة النص الروائي فكانت فصيحة، و كم كانت مناسبة لرسم معالم الحدث الروائي و نقل حواراته . و على الرغم من بساطتها فإنها كانت عميقة عمق معرفة الرجل باللغة العربية و أسرارها التعبيرية و قدرتها على الانزياح لتجاوز المألوف و المعتاد من القول و الكلام مما حمل النص بحمولات جمالية و دلالات فنية متعددة جعلته ينفتح على قراءات محتملة ، فكانت وراء السراب قليلا حقا و حقيقة .
جاءت الرواية في ستة فصول و خمسة عشر بابا تؤرخ لتونس و المغرب العربي في فترة زمنية ، و في حيز جغرافي محددين ، و اتخذت عالم المناجم عينة فنية لتقف على قيم جمالية تؤسس للصراع بين المالك و المنتج في حوارية جمالية تغوص في جزئيات تاريخية تكشف عن أن الرجل نبش في التاريخ و قلب صفحاته و عاش أحداثه ووقائعه ، فذكر الأسماء و المواقع ، و سمح للنص بأن ينزاح عن الواقع ليلامس الخيال عبر اللغة : وسيلة الكاتب الوحيدة للانزياح .
و إذا كان المبدع لم يضع للرواية فهرسا في الأخير ، فإن تتبعا لجزئيات هذا العمل الإبداعي يجعلنا نكتشف مخطط الرواية الذي جاء على صيغة فيها كثير من التجريب المنطلق من مدارسة للكتابة الروائية العربية : تقع الرواية " وراء السراب قليلا " في ستة فصول كما أسلفنا من قبل ، و قد رأينا أن نقدم فهرس الرواية على الشكل الآتي :

الفصل الأول عنوانه : باسمك اللهم أدخل هذه القرية آمنا
الباب
الصفحات
عدد المشاهد
الأول
9-24
3
الثاني
25-30
1
الثالث
31-42
6
الرابع
43-52
3
الخامس
53-68
4
السادس
69-75
2
الفصل الثاني تغريبه السودان في عهد الأمان
السابع
77-88
1
الثامن
89-96
1
الفصل الثالث هستيريا الأرواح المنسية في أعماق الأنفاق
التاسع
99-106
3
العاشر
107-150
3
الفصل الرابع بغايا لهموم عملة شركة فسفاط قفصة
الحادي عشر
129-150
1
الفصل الخامس حكاية "الرومي الذي عشق مسلّمة
الثاني عشر
151-161
3
الثالث عشر
162-176
5
الفصل السابع هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
الباب الرابع عشر
178-190
5
الباب الخامس عشر
196-210
5

و مما يلاحظ غياب الفصل السادس إذ انتقل المبدع مباشرة إلى السابع و تباين عدد أبواب كل فصل و عدد مشاهد كل باب . و إذا كان الدرغوثي ميز بين مشاهد الباب الأول بثلاث نجمات فإنه عمد إلى ترقيم المشاهد فيما بعد ، و كأن الدرغوثي يبدأ كل باب بما يشبه ملخصا موجزا لما سيقع من أحداث وهو بمنزلة الفرش ، من ذلك في قوله في بداية الباب السادس : " في ذكر عودة العزيز من صفاقس و دخوله عتيقة فاتحا م ويحتوي أسرار طرده من رحمة العائلة و تفاصيل عن العريضة التي تم بمقتضاها الطرد . كما يحتوي الحوادث التي قادته إلى الهجرة القسرية من عتيقة إلى قرط حدشت .
و من ذلك ما بدأ به الباب الحادي عشر : و فيه حديث عن حب ميلود الطرهوني لحسيبة النائلية و كيف منع رجال القبائل نساء الماخور عن العمال الطرابلسيين . و أعاجيب تتعلق بنبوة عرافة التقت الطرهوني في الصحراء و ملائكة نزلت من السماء لتواري في ثرى المتلوي قتلى الفتنة الطرابلسية ... الخ ...
إن هذا الملخص هو بمنزلة الفرش الذي يغري القارئ نحو مغامرة جديدة في تتبع ما سيسرد من أحداث . إنه تكثيف للصورة و اعتصار للتجربة وومضة برق في ليل عاصف.

جمالية العنوان :

يطرح عنوان هذا العمل السردي أكثر من سؤال نتيجة لطبيعة التشكيل اللغوي
" وراء السراب قليلا" الذي هو المفتاح الأول لقراءة هذا النص . و يكشف عن أن الرجل يهتم بصناعة العنوان وممارسة التجريب من العنوان نفسه . و يوحي هذا التشكيل بالثبات و الاستقرار ، فليس قبل السراب و لا فيه إنما خلفه قليلا . إنها وجدة لغوية تقوم على التجريب و الاشتغال اللغوي من خلال عملية الإسناد في هذا التشكيل اللغوي.
إن " وراء السراب قليلا " يقتضي وجود ما قبله و ما بعده، فقد يكون ما قبلها " حدث أو وقع " لتدل على فعل كلامي يعبر عن أحداث ووقائع مفترض وقوعها وراء السراب قليلا ، و قد يكون للدلالة على فعل وقع و كأنه لم يقع ، وجد ولم يوجد.
يقودنا هذا التحليل إلى أن جملة العنوان قيلت أو تقال من مكان بعيد يخضع للخداع البصري الذي يهيئ للروائي مشهد السراب فبينه و بين وراء السراب قليلا مسافة . و هذا ما يحمل النص بدلالات محتملة تجعل القارئ معنيا بما يقع من أحداث على الرغم من المسافة الفاصلة بينه و بين النص.
إن السراب هو بمنزلة المرآة التي تعكس وقائع لا تكاد تظهر بجلاء واضح إلا صورا فنية متقطعة يلفها الغموض و الضبابية و تحتاج إلى كثير من الجهد و الضنى و التحقق لتظهر ، و من ذلك قد تمحي هذه الصور كأنها لم تقع من قبل و تتلاشى بفعل الزمن و القصد و النية . و كأنها قول الشاعر العربي و هو يعيش حالة من الوجد :
" و أصبحت من ليلى الغداة كقابض* على الماء خانته فروج الأصابع" .
و يتحاور هذا العنوان " وراء السراب قليلا " مع عنوان عمل سردي آخر شكل حلقة مهمة في تجربة الكتابة عند نجيب محفوظ و نقصد بذلك رواية " السراب "التي وجد فيها الاتجاه النفسي في النقد العربي الحديث ضالته فاتخذها نموذجا للقراءة النفسية للنص السردي . و إن كنت هاهنا أشير إلى التقاطع ، فمن باب أن هذا العمل على العموم ، و عنوانه على وجه الخصوص ترسب لدى الكاتب من جملة ما ترسب لديه من نصوص سردية شكلت بطريقة أو بأخرى نقطة انطلاق بوعي من الكاتب أو بدون وعي منه .
تحكم " وراء السراب قليلا " فاتحة اقتبسها الكاتب من ديوان محمود درويش( لماذا تركت الحصان وحيدا )
... و في الصحراء قال لي الغيب: أكتب.
فقلت : على السراب كتابة أخرى
فقال : أكتب ليخضر السراب
فقلت : ينقصني الغياب
و قلت : لم أتعلم الكلمات بعد
فقال لي : أكتب لتعرفها و تعرف أين كنت و أين أنت ، وكيف جئت ، ومن تكون غدا،
ضع اسمك في يدي و اكتب لتعرف من أنا، واذهب غماما في المدى...
فكتبت : من يكتب حكايته يرث أرض الكلام ، و يملك المعنى تماما.
إن لعنوان هذه الرواية " وراء السراب قليلا" قيمة جمالية أخرى تريد منا أن نولي هذه العبارة العناية و الاهتمام، و يكون الابتداء بها على أنها شبه جملة خبر مقدم لمبتدأ نكرة مؤخر قد يكون: رجل ، مصنع منجم أ مجتمع ، عذاب ، استغلال ، قهر ... و بذلك يصبح العنوان طاقة متجددة بتجدد القراءات لتعدد الاحتمالات مما يوفره هذا العنوان من رمزية و إيحاء و إشارة تؤكد ممارسة الدرغوثي للتجريب في فعل الكتابة الروائي ، و ابتداء من العنوان نفسه الذي يشكل مع صورة الغلاف تحديا للقارئ عبر تجاوز المألوف بحسن استغلال البسيط و القريب من الساحة الشعورية و لعل الدارج بين الناس استعمال لفظ السراب للدلالة على ذلك الذي يحسبه الظمآن ماء ، و لكن لم نألف التلفظ ب : " قبل السراب " أو " وراء السراب " لا قليلا و لا كثيرا .
أصبح عنوان العمل صناعة احترافية على المبدع إتقانها بالاختيار الموفق للألفاظ الدالة و التركيب المميز و حسن الصياغة للوصول إلى علاقة تربط بين العنوان و ما يأتي بعده ، و قد تكون علاقة تكثيف أو علاقة جزء بكل ، وقد يكون الترابط ترابطا وديا حبيا أو يكون نديا تعارضيا ، ثم إن هذا العنوان " وراء السراب قليلا" يشعر القارئ بالمتعة و هو يسأل عن خصوصية هذا العنوان و لماذا جاء هكذا ؟ و ما هو حاصل وراء السراب ؟ كل هذه الأسئلة و غيرها كثير استطاع الدرغوثي أن يدمجها في الرواية دمجا عجيبا بعيدا عن الغريب و الموحش و النافر و الناشز ليمتع القارئ .
ثم هل يتقاطع هذا العنوان مع أعماله الأدبية السابقة ؟ لعل من السابق لأوانه الحكم على ذلك . و لكن لا يختلف اثنان في أن هذا العمل يعتصر تجربة الرجل ، و يكشف عن أنه ملامس للطبيعة و البيئة الخاصة بمنطقة " قفصة " في الجنوب التونسي ، و من ثم كانت العناوين : " النخل يموت واقفا " ، " القيامة ... الآن " ، " شبابيك منتصف الليل " تشيد بمدى قدرة المبدع على التجريب في اختيار العنوان المناسب و بقدرته على التميز ، التي أصبحت عنوانا للدرغوثي نفسه .
و الملاحظ أيضا سيطرة الجملة الاسمية على هذه العناوين و كأنها تريد محاصرة الفكرة بتثبيت الحدث في لحضة إبداعية مميزة " وراء السراب قليلا" ، و غابت الجملة الفعلية التي تدل على الحركة و الاضطراب ، ثم على الرغم من غياب الفعل هاهنا ظاهرا فإنه موجود وواقع و حاصل لدلالة العنوان عليه و تترك الحرية للمتلقي للمشاركة بما يراه مناسبا لفعل القراءة لديه مما يولد عنده إحساسا بالمتعة و التغيير و التبدل .
و لهذا العنوان قيمة صوتية بانسيابية و طواعية أكثر بوجود حرف الراء في جزءين من أجزائه الثلاثة . و قد توسط هذا الحرف لفظ وراء و لفظ السراب مع ألف المد مما أوجد إيقاعا داخليا للعنوان يسهم في شعرية هذه العبارة ، التي تتآلف مع الراء في اسمه إبراهيم الدرغوثي

2 – الوصف:

يعد الوصف من المقومات الجمالية لهذا العمل السردي المتميز ، وظفه الدرغوثي بمهارة و استحقاق بارزين و بقدرته على التعامل مع اللغة تعاملا منتجا بالربط بين السرد و الوصف . إنه " حتمية لا مناص منها ، إذ لا يمكن أن نصف دون أن نسرد و لا يمكن أن نسرد دون أن نصف ".
و انطلاقا من هذا المبدإالسردي المهم فقد ربط الدرغوثي بين السرد و الوصف ، يقول : عند منتصف الليل هطلت أمطار بشدة سمع لقطراتها على سطوح البيوت نقر ثقيل ثم انهمر الغيث و دام أكثر من ساعة . و الجدة واقفة وسط الحوش لا تتزحزح ...ثم صفر الريح صرصرا عاتيا مثقلا بالرمال و الحصى و دام صفيره إلى الصباح " إلى أن يقول :
... و عادت الأمطار القوية إلى الهطول
و عادت الرياح إلى العصف.
و امتد غضب السماء سبع ليال و ثمانية أيام ، إلى أن خرج العم الأكبر خلسة من الدار ووضع مظلة أخيه المصنوعة من سعف النخل على رأس تمثال الجدة فرآها تبتسم ، و أشرقت شمس الضحى حمراء ذليلة تبدو و تختفي من وراء الغيوم ".
تتجلى شعرية الوصف هاهنا في تلك القدرة على الإيحاء و إعمال الخيال و تداعي الأفكار و الصور ، فالدرغوثي يخاطب ذلك الحنين القابع في مخيال المتلقي ، و قد أضفى هذا الوصف مسحة عجيبة على المشهد المهيب.
و جاءت الألفاظ محملة بالدلالات المرجعية و المعجمية و السياقية ، وكم كان دقيقا في اختيار الألفاظ الدالة ووضعها في مكانها المناسب مثل هطول المطر و انهمار الغيث ووقوف الجدة وسط الحوش. و استعماله للريح في موقع و للرياح في موقع آخر مع إدراك الفارق بينهما ، فصفر الريح صرصرا ، و عصفت الرياح لينهل من السياق القرآني ما يشاء و يترك للقارئ حرية السباحة في أفق هذه المتواليات و يتحول المشهد معها إلى حدث مفعم بالحيوية و النشاط المؤدي إلى نوع من الخوف و الدهشة و الحيرة لغضب السماء لسبع ليال و ثمانية أيام ، و هكذا يستمر السرد و لا نرغب في انقطاعه أو بتره .
و لتتضح الصورة أكثر تعمدت اقتطاع جزء من المشهد يقع بين بداية العاصفة و استمرارها لأبين أثر الوصف في تدفق الحدث و استمراره يقول : " عندما هدأت العاصفة ، خرج الجميع إلى فناء الدار رأوا رجلي الجدة قد غاصتا حد الركبتين في التربة التي تحولت إلى حجر أحمر ، ورأوا جسمها الذي غطته الرمال قد تحجر و صار أصلب من الحديد . حاول الأعمام اقتلاع الجدة من الأرض فلم يقدروا . حفروا تحتها بالفؤوس و المعاول ثم حركوها يمنا و شمالا فلم تتزحزح من مكانها قيد أنملة . تحولت الجدة إلى تمثال رخامي مغروسا في قلب الأرض، وعادت الأمطار..."
إن هذه القدرة على الوصف ، هي التي تجعل القارئ مشدودا إلى هذا المشهد ، مبهورا مسحورا لا يقوى على الحركة و يرغب في المزيد . و لا يكسر هذه المتعة إلا متعة أخرى هي متعة الحوار، بقول العم الأكبر : " غطوا الجدة بجلباب الصوف يا أولاد ... "
هكذا يصف الدرغوثي عودة الجدة إلى البيت بعد أن أقسمت أن لا يأكل الدود جثة ابنها ، فصنعت له قيامة خاصة أركبته على جواده الأبلق الذي طار بألف جناح .
و يتعدد الوصف و يتنوع في هذا النص السردي كوصف المعركة التي نشبت بين قبائل الطرابلسية و قبائل أولاد نائل .
و من أنماط الوصف أيضا وصف الدرغوثي للمكان كقوله : " تمتد القرية الحديثة أمامك وسيعة ، مترامية الأطراف تملأ منازلها السهل الكبير. تحدها من الجهات الأربع جبال جرداء رمادية قاتمة ترتع بين شقوقها العقارب و الأفاعي و بنات آوى . ووديانها سحيقة تنبت في مستنقعاتها أشجار الطرفاء و الطلح و العرعار . و يجري ماؤها آسنا يطن فوقه البعوض و الناموس " .
وظف الوصف هاهنا ليوحي بدلالات خاصة عن المدينة التي بناها الفرنسيون على طريقة مدن المناجم في شمال فرنسا ، و جاء الحي على شكل رقعة شطرنج بشوارعه المتوازية المتقاطعة فيما بينها بنظام بديع ، فأضاف هذا الوصف قيمة فنية و جمالية للحدث و أسهم في تنميته و تطوره و بلورته وفق استراتيجية الكاتب للإشارة للتحول الذي أصاب المنطقة و أسس لعلاقات اجتماعية جديدة قوامها الاستغلال البشع للإنسان لأخيه الإنسان( 100) و ما بعدها للوصول إلى تراتبية مجتمع هذه البيئة الجديدة من مدير الشركة و مهندسين و عمال مهرة و عملة من كل الجهات المجاورة .
و إذا كان الدرغوثي اعتنى بوصف الأماكن ، فإنه لم يول وصف الشخصيات كل العناية و الاهتمام و اكتفى فقط بما يحتاجه من معالمها ، و لعله انطلق من مفهوم الشخصية في الرواية الجديدة التي تجعل معالم الشخصية غير واضحة و لا تفصل فيها إلا بحسب ما يقتضيه الحدث الروائي كوصف الروائي لبنات الوالي الجديد بقوله : " في صباح اليوم الثامن قدمت لي أمي بنات الوالي اللائي جئن يهنئنها بقدومها . رأيت سبع بنات كحور العين ، لذيذات كالتفاح الرومي ، بشوشات ودودات . ينظرن نحوي بخفر كاذب و يضحكن و يتغامزن . و لم أميز التي طرقت بابي البارحة " .
هكذا يصف الدرغوثي الشخصية من دون اهتمام بكل التفاصيل و الجزئيات ، فهي شخصية غير واضحة المعالم تقوم بدور أو وظيفة في معمار النص عليها أن تشغل فقط الحيز الممنوح لها و لا تتجاوزه. و هو وصف محمل بالدلالات من خلال تركيزه هاهنا على الجانب الحسي وما يحمله من إيحاء و رمز و إشارة ، فقد اختار العدد ( 7 ) الذي يحمل دلالة خاصة كالعدد ( 3 ) و العدد ( 13 ) في المثيولوجيا الإنسانية على وجه العموم و المثيولوجيا العربية الإسلامية على وجه الخصوص . و لم يكتف بهذا فقط بل خاطب المرجعية الفنية و الجمالية باختياره لوصف محدد جاء على صيغة جمع المؤنث السالم بقوله : جميلات كحور العين ، لذيذات كالتفاح الرومي ، بشوشات ودودات ، إلى أن يتقاطع في ذهن المتلقي مع عمر بن أبي ربيعة في رائيته الشهيرة ...و اغمزيه يا أخت في خفر ... قد غمزته فأبى...
يتصيد الروائي من معالم الشخصية ما يخدم الحدث مما يولد لدى القارئ متعة وجمالا ، كوصفه لميلود الطرهوني قائلا : " كان معاوني ميلود الطرهوني طرابلسيا غريب الأطوار ، رجل يخاطر بحياته في كل الأوقات دون أن يطرف له جفن ، ولكنه يفلت دائما من بين براثن الموت في اللحظات الأخيرة . أخرجناه ثلاث مرات من تحت الردم ." هكذا يستخدم هذا الروائي الوصف في رسم معالم الشخصية ، وصف ما يبدو عاديا و لكنه يرتقي إلى وصف فني جمالي مستخدما الحلم و الاستطراد الواعي و التداعي المتحكم فيه للخروج بالنص من المألوف و المعتاد ناشدا الشعرية و العجائبية و الغرائبية لينفتح النص على أفق قرائي رحب يرى من خلاله القارئ و المتلقي أن النص قابل للتجدد مع كل عملية تلق أخرى أو فعل قرائي آخر فيجدد العمل بتجدد كل قراءة ، و كلما عاود الإنسان القراءة اكتشف شيئا جديدا يغري بمعاودة القراءة مرات ومرات لأن النص لا يسلم نفسه للقارئ بقراءة واحدة وحيدة ، إنه دعوة للقراءة نحو أفق معرفي فني جمالي متجدد.
و من هنا جاء الوصف في هذا العمل الإبداعي المتميز " وراء السراب قليلا" ليخدم كل عناصر البنية السردية من مكان وزمان وحدث و شخصية ، بل أكثر من ذلك جاء ليعطي للكاتب فرصة لممارسة التجريب لإنتاج كتابة سردية نوعية تقوم على انتاج اللغة و استثمار تلك الطاقات التعبيرية من خلال علاقات اسنادية بين عناصر التركيب في هذا النص السردي " وراء السراب قليلا" و من ثم خدم الوصف لغة النص إذ مكن المبدع من التجريب في اللغة .
ثم أن الدرغوثي كان حريصا على ضبط الكلمات ، خاصة تلك التي يقع الإشكال من حولها و دل هذا على معرفة الرجل باللغة معرفة العالم بأسرارها ، و معرفة الصانع بجوهر صنعته و إتقانه لحرفته ، ومن ثم كان حريصا على أن تكون لغة النص فصيحة بليغة ، و إذ اضطر لاستعمال العامية فإنه يضع ذلك بين قوسين كالاستشهاد بالمثل الشعبي :" إللي جابه النهار يديه الليل ".

3 – الحوار

إن الحوار عنصر فني يساهم في تجسيد أحداث الرواية بما يضفيه من حيوية و حركة على المشهد السردي : لأنه يعطي للشخصيات حضورا مميزا و فاعلا من خلال علاقة التحاور بين شخصيتين أو أكثر توهم بواقعية الأحداث كما تخيلها المبدع و صورها، و يسمح الحوار للمبدع بتمرير الخطاب الذي يريد لينطق الشخصيات بما يسمح له لكسر رتابة السرد أو لينقل الحدث إلى مستوى آخر يكشف فيه عن تفاعل عناصر البنية السردية .
ثم إن الحوار جزئية مهمة في العمل السردي و لا يقحم اقحاما كأنه شيء ثانوي يمكن الاستغناء عنه ، بل على العكس من ذلك ، فإن الأحداث تنمو بفعل الحوار ، و لا يتحقق وجود الشخصية إلا به ، بل إنه يسمح للنبدع بأن يضمن للنص ما يريد عبر إنطاق الشخصيات بما يريده هذا المبدع .
إن الحوار هو تلك القدرة على التواصل و الاتصال بين الشخصيات داخل العمل الإبداعي عبر طريقتين :
- المونولوج أو الحوار الداخلي.
فمن ذلك قوله :
" ماذا جاء بك إلى هذه المدينة التي تأكل رجالها يا ولدي ؟ "
فقلت : جئت أبحث عمن يأكلني يا امرأة .
و أخرجت من زوادتي جرة ملأى بقطع الذهب و قلت لها :
هذا كنزي . ورثته عن أبي . به مائة قطعة من الذهب الخالص . تزن كل واحدة منها مائة مثقال . أريد أن أبيع هذا الكنز و أشتري به نساء الحي مدة سنة . فهل توافقين ؟
قالت : أعرف هذه القطع
و أخرجت من صندوق صغير مركون وراء السرير واحدة مثلها .
و قالت : : غدا صباحا سأطلب من حارس الحي أن يبدل لك قطعة منها عند الصائغ . و سأشتري لك بثمنها واحدة من بناتي و سأزف لك هذه البنت بالطبلة والمزمار .
نم الآن يا صغيري سأجعلك تحلم بالجنة "
هكذا يوظف الحوار في هذا العمل السردي ليمد النص بطواعية أكبر ليدرك قيمة فنية لا يمكن إدراكها من دونه. هكذا ينقلنا الحوار إلى أحداث جديدة كاشفة عن طبيعة علاقة بين هذا الرجل و هذه السيدة ، وكأن الجنة هي ما لذ وطاب و السقوط في عالم الشهوات .
جاءت الجمل الحوارية هاهنا ، في أغلبها ، فعلية دالة على الحركة و الحدث و الاضطراب ، و تراوحت بين القصيرة و الطويلة بحسب الحاجة الفنية و بحسب ما يقتضيه الموقف الموحي إلى دلالات تفهم من سياق الكلام رغبة في المتعة الفنية ، و في تحميل النص ما يريد المبدع بلوغه من مرام و غايات.
ووظف الدرغوثي المونولوج ليقف عند ذلك الحديث الذي يتحاور فيه أحد الشخوص مع نفسه في حوار داخلي لا يكاد يسمع و هو يقول : " أعرف أن الرجاء و التعنيف لن يفيدا في إسكاتها ، و أعرف أنها لن تعود إلى السكوت إلا إذا وضعت جمرة فوق جبهتها و ترقبت إلى أن تكويها النار فيرتعد جبينها و تأخذها قشعريرة في كامل بدنها ثم تهمد و تنام كما ينام أصحاب الكهف . تدخل في نوبة من السبات قد تطول عدة أيام ثم تفيق وحدها عندما ينادي المؤذن لصلاة الصبح.
هي هكذا دائما فكأن ناقوسا يسكن رأسها ليدق مع انبلاج الفجر" .
و قد كتب الدرغوثي هذا الحديث بخط مغاير ومميز سميك و كأنه نوع من الاقتباس الذي يصور مجموعة من الهواجس التي انتبت هذه الشخصية .

4 - الاقتباس من القرآن :

شكل حضور النص القرآني في هذا النص الابداعي حضورا لافتا للنظر استفاد المبدع من حمولاته الدلالية في إضفاء مسحة فنية مميزة على نصه ، و اعتمد على الانتقاء الواعي لآي القرآن ، فيختار بداية من سورة البقرة " ألم ذلك الكتاب ... هم المفلحون " و هكذا تتوالى الآيات الواحدة تلو الأخرى بحسب حاجة الدرغوثي لهذا الخطاب كما جاء في الصفحات 13، 14 ، 15 ، 21 من الباب الأول من الفصل الأول ليغيب هذا الخطاب فلا يقتبس الدرغوثي من القرآن شيئا فيما بعد ، و لا نجد لذلك مسوغا فنيا إلا التحول الحاصل داخل النص بانتقاله إلى أحداث تقع في حيز ( الماخور : الدار الكبيرة ) حيث لا يحضر النص القرآني مطلقا .
إن حضور النص القرآني هاهنا كان لغاية فنية ، من ذلك ما ورد في الصفحة 15 التي يقول فيها : "... فطالعته سورة " النحل" ، فقرأ : " أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه و تعالى عما يشركون " . و شدته الآية فواصل القراءة : " و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون . "و نعتقد أن هذا الاختيار لم يكن اعتباطا بل كان مقصودا بطريقة واعية من المبدع حيث اعتمد على الاقتباس من القرآن الكريم ، فهيأت الآية الأرضية لما سيقع من أحداث في هذه القرية ، و كأن ما وقع أمر من عند الله فلا تستعجلوه ، و يكاد هذا الباب أن يكون خطابا دينيا حتى أن عنوان الفصل كان مستمدا من هذا الخطاب " باسمك اللهم أدخل هذه القرية آمنا " و كأن هذا العمل الإبداعي يتحاور مع النص القرآني حوار يجعله يستفيد من السياق القرآني و حمولته الدلالية و الرمزية و القدسية .











 
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
لغة الإعلام و آثارها في تحقيق التنمية اللغوية فاطمة الجزائرية منتدى الحوار الفكري العام 3 29-11-2010 02:00 AM
مشروع "اللَّتْينة" للقرآن الكريم! عطية زاهدة المنتدى الإسلامي 3 23-02-2008 12:59 PM
حوار مع نائب رئيس اتحاد الكتاب التونسيين الأديب ابراهيم درغوثي شجاع الصفدي منتدى الأدب العام والنقاشات وروائع المنقول 0 30-11-2007 04:35 PM
اللغة العربية, لغة حية ولن تموت . سليم إسحق منتدى قواعد النحو والصرف والإملاء 1 31-01-2007 05:18 PM
لغة الضاد في معاركها مع العامية ـــ نصر الدين البحرة رغداء زيدان منتدى قواعد النحو والصرف والإملاء 3 12-01-2007 04:08 PM

الساعة الآن 11:15 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط