قلب لبنان....سمير عطا الله

[سلمى رشيد]

قلــــــــب لبـــــــنان

"فرنسا ليست اليمين ولا اليسار، انها جميع الفرنسيين".
شارل ديغول

أعادت الينا مبادرة الرئيس نبيه بري شيئا من آمال اعتقدناها لن تعود. وقد آلمني فيها شيء واحد، هو الربط بين المسار السياسي واخلاء وسط بيروت من خيام الفصل الاجتماعي والوطني.
هناك مظاهر كثيرة للتعبير عن الاعتراض السياسي، منها الاعتصام. وقد يدوم الاعتصام ويستدام الى امد بعيد. لكن الاعتصام القائم في قلب بيروت لم يؤد الى شل العمل السياسي، وانما هو جائر لانه اعاق المسار الوطني وعمق الانقسام، في ساحة كانت هي رمز التوحّد والالتقاء والانصهار. فقد كان المسيحي يأتي من الاشرفية والمسلم يأتي من البسطة، وعندما يصلان الى ساحة البرج يصبحان لبنانيين فقط: يشتريان الصحيفة نفسها، وكيس الطحين نفسه، والثياب نفسها. وحدة العيش لا التعايش.
في هذا الملتقى، المنبسط حول سرايا واحدة، ومقر بلدية واحدة، ومقر شرطة واحدة، وعدلية واحدة، واذاعة واحدة، وحول المسجد الكبير والكاتدرائية الكبرى، فيه تدرّب اللبنانيون على ارتقاء السلم الانساني طوعا نحو المواطنة. وفيه تعلموا ان المشاغل اليومية لا تلغي الافق الواحد الكبير. ولذلك عندما بدأت الحرب، بدأت بتحويل ساحة البرج من ساحة وحديقة ومقهى الى خندق. وجرت خلال الحرب فظاعات كثيرة في كل مكان، ولكن كان هناك حرص على ان يكون اقبحها في ساحة البرج. هناك، من خلف الاسوار والمتاريس والجدران المزروعة بالرصاص، كان مهابيل الحرب وازلام الموت، يتبادلون الشتائم والسب والاهانات البشرية، بحيث اذا هدأت الحرب العسكرية لا تعود هناك مصالحة في النفوس.
اهمية "البرج" انه كان ملتقى عفويا من صنع الطبيعة وصوغ التلقائية. لا ندري كيف رسم نفسه، عبر السنين والعقود، ساحة متعددة المدخل على صورة بيروت. واذا كان لبنان كله قد قام على 10452 كيلومترا مربعا، فان العاصمة نفسها قامت على 4 آلاف متر. ويجب ان نقرأ "قلب بيروت"(•) لعالم الاجتماع الدكتور سمير خلف، ثم نعيد قراءته، اذا كنا حقا نريد الخروج بدرس انساني موحد عما كنا عليه زمن السلم وما ألنا اليه في حروبنا وحروب الآخرين وحروب كل من خطر له ان يقيم حربا بعيدا عن داره وسياجه وصفاء خاطره.
"في حين اجتذبت الضواحي والمناطق الاخرى المجتمعات الاثنية والطبقية والايديولوجية، وتحولت مع الوقت الى معازل مغلقة، فان البرج استطاع دائما ان يكون فناء مفتوحا ومؤديا الى الانسجام". لكن هذا الفناء المفتوح تحول الى معسكرين مغلقين: 14 و8 آذار. واحد يعتصم الى هذا الجانب من تماثيل الشهداء، وواحد يعتصم الى الجانب الآخر. واحد في هذا الجانب من الوطن، وآخر من ذاك. ولم تحفر خنادق عسكرية، لكن الاسوار والخنادق السياسية اقيمت، ومن خلفها بدأت لغة التقبيح.
هذه المدينة المطرزة بناها "معلمو العمار". معلم عمار اسطنبولي، ومعلم عمار توسكاني. وقبل ان يكون هناك مهندسون وكليات هندسة، كانت ترسل الى توسكانا واسطنبول معلمي العمار لكي يعودوا بما يميّز ويزيّن العاصمة الصغيرة. ومنها تفرع الوطن ولم تتفرع عنه. هو على شاكلتها وليست هي على شاكلته. هي، في جانب جورج شحادة وشارل قرم، وفي المقابل عبدالله العلايلي وتقي الدين الصلح. هي آثار مصر وتركيا وفرنسا وخليط الحضارات العابرة. وعندما تقرر باريس ان تنفي الكولونيل شارل ديغول الى السنغال او مصر يقول لإيفون: "احزمي الحقائب. لن نذهب الا الى بيروت".
لم تولد هذه المدينة كي تصبح ساحة خنادق ورهينة الاعتصامات، تحت اي شعار او وفق اي مبرر. ولا لأن ترهن بأي تقدم او تخلف. في حوارات الطرشان. ولا لأن تتحول من ساحة العيش الى ساحتي الفرقة. وبدل ربط وسط بيروت بانفراج شد الحبال، كان الافضل للجميع ان تعاد الى المدينة انفاسها ويستمر المتصارعون في اللغو على اي حلبة اخرى.
هنا، هذه، ليست ساحة، انها قلب العاصمة وتاليا قلب الوطن، فلماذا التمادي في الضرب عليه؟ كان شاعر الارجنتين خورخي لويس بورخيس يقول: "حيثما انام، احلم انني في بوينس ايرس".
غريبة بيروت. لا حلم سواها ولا كابوس غيرها. وإمضِ نقّل فؤادك ما شئت. أنى ذهبت في مدن الآخرين، بيروت هي المقياس. هي قاعدة المقارنة. وبعد كل مقارنة تفوز بالنقاط:
صوت فيروز. قناطر المعرض. ووديع يصدح عاليا بمغناة يونس الابن: لبنان، يا قطعة سما!
هناك معلمو العمار: توسكاني، اسطنبولي. وهناك معلمو الخراب: "من جميعو". وفي باب العمار يدخل العمّارون: حالمون وشعراء وادباء واساتذة وناس بسطاء يريدون موطنا دائما. وهناك سياسيون ايضا. صحيح انهم قلة وندرة وعدّ الاصابع، لكنهم هناك في اي حال.
ثمة حكاية من حكايات بورخيس عنوانها "يانصيب بابل" خلاصتها ان وزيرا اخترع فكرة لعبة يانصيب دائمة والزامية. ما هي الجوائز؟ واحد يصبح وزيرا. واحد يصبح ثريا. واحد جائزته الكبرى موت خصمه. واحد يحترق منزله. الى آخره...
ما هو اسم البلد؟
العبث! ربما الضياع. ربما اليأس. ربما السقم والسخف والضياع. ربما، للاختصار، بابل، على أساس ان مؤدى العبث واحد في كل مكان: الانهيار والخراب. وفي كل زمن ايضا. يغضب الله على قوم عندما يبلبلهم. عندما تسقط السنتهم وافئدتهم. عندما لا يعود لديهم قول سوى الثأر والغضب.
طاف أمين الريحاني في القرى والمناطق ليكتب "قلب لبنان". وتلك كانت اجنحة لبنان، قلبه هنا. قلب بيروت.

سمير عطا الله

[ماجدة ريا]

أختي العزيزة سلمى
كم يبدو هذا المقال شاعرياً في حديثه عن بيروت! وهي تستحق ذلك، ولكن حبذا لو يوجّه السؤال إلى الحكومة التي فقدت ميثاقيتها ـ اي انها اصبحت مخالفة لميثاق العيش المشترك، وفقدت شرعيتها ودستوريتها ـ لأنها أصبحت مخالفة للدستور وتعيش فقط على دفعات الأوكسجين التي تأتيها من السيدة كوندي والسيد بوش والسؤال لم لا تستقيل هذه الحكومة كما يحدث في كل الدول وفي كل الديمقراطيات؟ لم تصم أذنيها عن وجع قلب بيروت وقلب لبنان ولا تسمع إلاّ لمن أرسل قنابله الذكية لقتل الأطفال والشيوخ والنساء، ولهدم البلد؟
أختي سلمى، انه الواقع المر الذي يتجرّعه الجميع، وكان الله في عوننا.
أطيب تحياتي
ماجدة