ما يزال الهنود من أقل شعوب العالم استهلاكاً للحوم، فبالإضافة لضعف الدخل وانتشار الفقر وقلة الحيلة يملكون ثقافة عريقة تحثهم على الاكتفاء بتناول الأطعمة النباتية فقط.
فعقيدة الهندوس مثلاً تمنعهم من قتل ذوات الأرواح - فضلاً عن تناول لحومها - في حين ينظرون للبقرة كآلهة تمشي على الأرض.. أضف لهذا أن ملايين الهنود يؤمنون بفكرة تناسخ الأرواح واحتمال أن تكون الدجاجة أو الخروف - الذي تهم بتناوله - تسكنه روح جدك أو جدتك في الماضي.. وفي مناطق متشددة مثل ولاية كاجورات (التي تسيطر عليها حكومة من النباتيين) وصل الأمر لفرض ضرائب باهظة على محلات الجزارة وإخراجها تماما من "الأحياء" النباتية الخالصة.. أما في بومبي ونيودلهي (وهما مدينتان أكثر اختلاطا وتفتحا) فلا توجد أحياء نباتية بل عمائر سكنية تشترط على المستأجرين تناول الخضروات ومراكز تجارية تعلق يافطات كبيرة "لا نبيع اللحوم هنا".. واليوم يتجاوز عدد النباتيين المخلصين في الهند 220مليون نسمة، في حين يصنف 600مليون آخرين تحت خانة "مجبرا أخاك لا بطل"..
ومن الهند انتشرت عقيدة "الطعام النباتي" إلى الصين قبل ألفي عام - ومن هناك إلى اليابان وتايلند وكمبوديا وشمال كوريا.. وأثناء الاستعمار البريطاني للهند تعرف الإنجليز على "الطعام النباتي" كأسلوب صحي إنساني أكثر منه عقيدة دينية موروثة، واليوم يعد الشعب البريطاني من أسرع شعوب العالم هجرا للحوم ويصل عدد النباتيين فيه إلى سبعة ملايين نسمة - بالإضافة إلى 20مليوناً من غير المتشددين.. ومن بريطانيا تسربت هذه الظاهرة إلى الاتحاد الأوربي ووصل عدد النباتيين حالياً في ألمانيا إلى 150ألف نسمة وفي فرنسا 176ألف نسمة وفي النرويج إلى 54ألف نسمة - في حين وصل عددهم في الولايات المتحدة إلى 500ألف نسمة!.
أما أسباب الامتناع ذاتها فتتراوح بين دوافع صحية (خوفا من الأمراض التي قد يسببها اللحم الأحمر) أو اعتراضا على المعاملة القاسية تتعرض لها الحيوانات في الأسر والذبح (وهو ما يذكرنا بأبي العلاء المعري الذي كان يشفق على الحيوانات من الذبح وسرقة حليب أطفالها).. أما القسم الثالث فيتبنى الفلسفة الروحانية التي تعارض قتل ذوات الأرواح (مثل ابن المقفع والخوارزمي) أو تعتقد أن الحيوانات تعد تجسيداً لأشخاص عاشوا في الماضي (كما يعتقد الهندوس وطائفة الجايين في الهند)!.
وفي العقدين الأخيرين ازداد موقف النباتيين قوة بعد انتشار أمراض ترتبط باللحم الأحمر (كجنون البقر والحمى القلاعية وتآكل المفاصل - ناهيك عن النقرس وسرطان القولون وتصلب الشرايين).. وخلال هذه الفترة تعرضت صناعة اللحوم في أوربا لتراجعات كبيرة - ليس بسبب جنون البقر ذاته - بل بسبب تحول ملايين المواطنين للأطعمة النباتية لدوافع صحية بحتة (لدرجة انخفض معدل تناول اللحوم للفرد في إنجلترا وويلز إلى أقل من 70كجم مقارنة بالمواطن الأمريكي الذي يستهلك 120كلغم في العام)!!.
وفي الحقيقة حتى إن استثنينا الأسباب الأخلاقية والدينية سنواجه باحتمالات صحية تحذر من تناول "اللحوم الحمراء" أو "الدهون الحيوانية" لفترة طويلة.. فتناولهما بكثرة واستمرار قد ينتهي بمرض النقرس وسرطان القولون وزيادة الكولسترول والتهاب المفصل والسمنة المفرطة.. كما قد تظهر سلبيات محتملة لتسمين الماشية بالهرمونات الصناعية، وتعديلها بالهندسة الوراثية، وسفك دمائها (بغير الطريقة الإسلامية).. وفي المقابل لا يوجد ما يمنع تناول اللحوم البيضاء (كالدجاج والأسماك) لمحتواها البروتيني الممتاز ومحتواها المنخفض من الدهون والأحماض.
وهذا بالطبع ما لم تكن رقيق القلب ك(المعري) وتترك للكتاكيت والدتهم!!.