يؤكد الباحث الانجليزي جون شيمل، أن الكذب -بصفة عامة- هو سمة المستضعفين، وأن الانسان الضعيف يلجأ الى الكذب بسبب المعاناة والاضطهاد، وبغية الهروب من واقع اليم يعيشه.
لعل شيمل عنى في هذا التعريف، الأشخاص الذين يضطرون إلى الكذب من أجل الهروب من واقعهم المأساوي، الذي يفرض عليهم الكذب جملة وتفصيلا. لكنه بالتأكيد لم يشمل في تعريفه الدول التي يمارس ساستها الكذب على مدى 364 يوما من السنة، غير عابئين باستهجان شعوب بلاد العرب، ولا آبهين بالصورة القاتمة التي يتركها كذبهم في أذهانها.. لا لشيء إلا لأنهم أدركوا مبكراً أن ردود أفعال العرب لا تعدو كونها زوبعة في فنجان، وأن العقل العربي أصبح مبرمجا على قبول الكذب بكافة أنواعه، فالحاكم يكذب على الحكومة، والحكومة تكذب على الشعب، والشعب بمختلف فئاته يكذب على بعضه البعض، تحت مسميات عدة.
قبل أعوام تناقلت وكالات الأنباء كيف أن أحد المواطنين الأميركيين قطع حديث ريتشارد بيرل- كبير مستشاري وزارة الدفاع الأميركية السابق، وأبرز مهندسي الحرب العدوانية على العراق- أثناء مناظرته مع رئيس الحزب الديمقراطي الأميركي في ذلك الوقت، حيث اندفع - أي المواطن- في وجه بيرل المنهمك في تبرير الحرب العدوانية، وهو يؤكد صارخا: كذّاب، كذّاب، كذّاب...ولم يكتف المواطن الأميركي الشريف بنعت منظّر الحرب بالكذّاب، بل خلع فردة حذائه ووجهها إلى رأس بيرل، تلك الرأس التي دبّرت الأكاذيب، وبررت العدوان، وأخذت أبناء وبنات أميركا إلى جحيم العراق.
وبعد تلك الحادثة بأعوام أيضاً، قام الصحافي العراقي منتظر الزيدي بقذف بوش الابن- الذي خلف أباه في أعلان الحرب الأميركية على العراق- بالحذاء أيضاً، أثناء عقد بوش لمؤتمر صحافي، أبدى فيه أسفه "البالغ" لأن بلاده أخطأت في تقدير حجم خطورة السلاح العراقي، وبالغت في تصديق الخونة، والأعوان، والمتنفعين..
لكن..على عكس ماحدث للمواطن الأميركي المحتج، لم يمض احتجاج الزيدي على خير، حيث ضرب وعذب، وحوكم وسجن، لا لشيء، إلا لأنه قال الصدق بين أناس استمرأوا سماع الأكاذيب، وبالغوا في حفظها وترديدها..دون أن يعترض أي منهم على كونه ضحية كذبة أميركية، ودون أن يتذكر أي منهم أنه قد سبق وأن ضرب مواطن أميركي الرأس المدبرة لحرب العراق بفردة حذائه، لأنه يعرف تماما أن الحذاء وحده، يليق برأس مملوءة بسيل الأكاذيب والتلفيقات والفضائح، التي يمارسها الساسة الأميركيون، بلا رادع ولا حياء.
حين اختار الزيدي وذلك المواطن الأميركي أن يستعملا الحذاء للتعبير عن غضبهما، كان الكثيرون من ساسة ومتنفعين عرب يطأطؤون الرؤوس ليدوسها الحذاء الأميركي، ويصنع منها جسرا ينتقل عبره من كذبة إلى أخرى! ففي أحد اللقاءات، ذكر الجنرال فرانكس القائد السابق للقوات الأميركية في الشرق الأوسط، أن نصر قواته "السريع" في الحرب العراقية، يعود أساساً إلى ضابط أميركي ملقب بـ "كذبة ابريل (نيسان)" كانت مهمته تسريب معلومات مضللة لصدام، عن طريق رجل استخبارات عراقي خائن، كان على اتصال بالضابط الأميركي.
ومازالت الولايات المتحدة ومعها الكيان الإسرائيلي، يغزوان العالم بأكاذيب مشتركة، يقدمانها، فيبتلعها الرأي العام العالمي، وينام هنيئا مريئا، دون أن يكلف نفسه عناء البحث عما وراء تلك الأكاذيب من أطماع، ربما لأنه اعتاد التمرغ في وحل ما أسموه (الكذب الأبيض) والتنصل من تأنيب الضمير، على افتراض أن حبل الكذب القصير، لابد وأن ينقطع..
في دول تحترم شعوبها الصدق، تم رشق بوش بالأحذية بعد غزوه العراق، واضطرت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية السابقة إلى البقاء ضمن مقر اقامتها بلندن، خشية تعرضها إلى الاعتقال أو لسخط الغاضبين..
وفي دول اخرى اعتاد ساستها وشعوبها العيش في نيسان طويل، رقص بوش، محاطا بالحبور والزغاريد، وحضرت ليفني مؤتمراً للديمقراطية، وألقت محاضرات حول السلام، وامتدت اياد عربية لمصافحة من أسموها "الحسناء ليفني"، بل إن هذه الدول استقبلت أوباما كفاتح مسلم، رغم انحيازه لاسرائيل، ودعته ليخطب في مجلس نوابها، ليملي علينا مايجب أن تكون عليه ولاءات المسلمين.
ذهب العراق إذن ضحية لكذبة نيسان، ومن قبله ذهبت فلسطين ضحية لكذبة مماثلة، وسقطت دول في فخ الطائفية والحروب الأهلية، وبقيت كيانات عربية قائمة، تنتظر دورها في "النيسانات" المتعاقبة في روزنامة "التغيير" الغربي المفضي إلى احتلال.
لاشك أننا مخدوعون، ومبتلون بنيسان طويل،يبدو أنه بلا نهاية، على عكس حبل الكذب.