كانت تقترب منه خلسة، فكلما اتجه بنظره إلى غير ناحيتها خطت خطوة أخرى باتجاهه.
كان هو شابا في عمر الدراسة، يربط رداء الأطباء على ناحيته بالطريقة العصرية التي اعتاد طلاب الطب أيامنا هذه أن يحاكوها، له فم مرسوم يمايز لونه لون جلد وجهه، واضح في حوافه، بين خدين طليا بأرجوان، ثم كسيا بأديم من زجاج، فكان وجهه يزدهر أو يشتعل، حول عينين لا ضغن فيهما، وفيهما معنى الانشراح، عاليه شعر لم يطُله الشيب ولا انتقص منه الزمان، يعتني به عناية لا تذم فيظهر بين مفارقه المسرحة إلى غاياتها لمعان بعض الدهان، قوامه أعدل من برج، لا تملك إلا الإعجاب به، ولا تجد النساء إلى الانصراف عنه سبيلا، ولا نستطيع أن نقول إنه لا يعرف حب النساء له، ولا أنه لا يلقي بالا له كذلك.
فلما صارت إزاءه تماما تحدثت إليه بلا مشقة كأن بينهما سابق معرفة، ومن الواضح لي بعد أن رأيت ما كانت تفعله قبلها أنها إنما تريد أن تعرفه، لغاية تعرفها هي وأجهلها أنا إلى ما بعد.
تبادلا حديثا مثل:
"تأخرت المواصلات"
"لا بأس ستأتي" "إلى أين تركبين؟"
"..."
"وجهتنا واحدة إذن"
ولا نستطيع إلا أن نتنبأ أن حديثهما الذي طال أكثر من ذلك لم يكن له من غرض إلا تحريك الألسنة والأشداق، ولم يرغمهما عليه غير حياء الشباب الذين لا يجدون لهم سلطانا على ألسنتهم لدى التعامل مع الناس من غير ذويهم، فالحق أن السياق وأنماط الحديث المعتادة هي من تكلم لا هما، والحق أن المكان الذي يقفان فيه معا يجيب عن كل سؤال طرحه أحدهما على الآخر، ويغني عن كل حديث دار بينهما، والمكان هو موقف أحد الحافلات المغادرة من جامعة المدينة إلى بلدة مشهورة منها يكون هذان الشابان.
ركبنا الحافلة، وركبت الشابة إلى جانب فتاها الشاب، من يراهما الآن يظن أنهما زوجان، كانت رائحة التستوستيرون تعبق في المكان، لقد أمّرت الشابة هذا الفتى على نفسها بل ألقت إليه مقاليد الحكم، وهو ما انفك يتصرف بعدئذ كالفرسان الذين يحافظون على بيضة المدينة، والحق أن في مظهره هذا مع السذاجة كثيرا من الحسن، فكأن هذه الخلقة جعلت لهذا الخُلق.
حاولت أن تقسو عليه بنظرتها حين دفع الأجرة عنها وعنه، ولكنها لم تستطع أن تثنيه عن فعل ذلك ولا أرادت ذلك حقا، إذ يبدو أن هذه هي ساعة تلك الدنيا التي طفقت تختلقها منذ ساعة، وأن تلك هي رسالة غريزة حب الخير قد أدتها تماما فاختصرت بعض مصاريفها اليومية باستعمال هذا الشاب، وهو أدى واجب غريزة الحماية وحب المكانة باحتوائها، فكانت الغرائز هي بطلة قصتنا هذه، ولم يكن فيها من أجهد عقله إلا الراوي.
ترجلت الصبية ولم ترمق صاحبها بنظرة، كنت أحب جدا أن أسأله عما دعاه إلى هذا الكرم الساذج لولا أنني خشيت أن يجهل ما أقصد، فقد يكون الأمر مختلطا عليه إلى الحد الأقصى كما أزعم، فلا يستطيع أن يقول فيه كلمة عاقلة، فأضطره بإلحاحي إلى قبيح الرد وبجاحة الكلام فينقم على نفسه، ووقف ذلك في سبيلي إلى محادثته، وكذلك وجدت سبيلي إلى البيت.