لا أعرف كيف استعدت الفكرة بعد ان غاصت في ذاكرتي كل هذا القدر من الزمن..
تذكرت نشيدا كان المدرس يلقنه لنا - نحن التلاميذ- في مناسبة وطنية. ذلك النشيد كان يورد مقطعا " كلنا نهفو لإدراك المنى".
المدرس لم يتطوع ليفهمنا أن "المنى" هوجمع امنية. ولذلك فهمت معنى الكلمة بطريقتي. و لم يكن ممكنا ان أبدع في ذلك الفهم، لأن تلك المفردة كانت متداولة في الأوساط الشعبية. فقد كان الأجراء الذين يعملون في اصلاح البيوت او في الحقول يخيرون أثناء العقد الشفوي قبل الشروع في العمل ما إن كانوا سيمونون أنفسهم، أم ان صاحب العمل هو من سيتولى تموينهم. ومن ثم فهمت أن "المنى" هو ذلك الغذاء الذي يقدم للأجير أثناء العمل. ومن هنا شعرت بالامتعاض الشديد من المدرس و نشيده.
كنا قد تعلمنا احتقار العامل اليدوي. و كان النموذج الذي يطمح إليه كل تلميذ في المدرسة هوان يصبح موظفا يلبس هنداما انيقا و لا يعمل إلا بالقلم. ويحظى بالاحترام و التقدير. فكيف يكون هذا المستقبل أن كنا سنشتغل "بالمنى"؟
عاشت معي الفكرة لمدة طويلة. ولا اذكر أن شيئا ما نغص حياتي مثلها فعل ذلك التساؤل. لكني لا اعرف كيف نسيت الفكرة او كيف صححت فهمي للعبارة.
حين تذكرت الحكاية قبل أيام، وجدت أن الفهم الطفولي للمسالة كان فعلا هو الحقيقة. و اننا فعلا نشتغل "بالمونة" . و أن لا الاجراء و لا العمال ولا الموظفين في هذه البلاد يمنحون مقابل أتعابهم أكثر من القدر الذي يبقيهم أحياء كي يشغلوا الدواليب التي تصنع سعادة الأخرين. فكم النسبة التي غادرت البلاد في رحلة سياحية ؟ ألا يعد ذلك ترفا لا تستمتع به سوى اوساط قليلة من الشريحة الاجتماعية الفوقية؟ ألا ننظر إلى ذلك الامر على انه ترفا ؟ و بالمقابل هل الامر كذلك بالنسبة للأفواج التي تفد إلى البلاد من كل اقطار الدنيا؟
إلى متى سنظل نشتغل ونعيش من أجل ملء بطوننا وتدارك حاجياتنا الصغيرة؟