ألحكومات في في بلداننا العامرة ( فيما يُعرف بالعالم الثالث) تجسيد لكل معاني القوة و السيطرة و التحكم (و لعل مسمى حكومة جاء من الصفة الأخيرة) , و لذلك فعندما تصدر هذه الحكومات فرمانا ً أو تحذيرا ً فالويل كل الويل لمن لا يمتثل للأمر و ينصاع لإرادة الحكومة الموقرة !
فإذا أصدرت الحكومة فرمانا ً ينظم آلية عمل فئة معينة (كالتجار أو رجال الأعمال أو حتى الجزارين و الراقصات) فلا يملك هؤلاء جميعا ً إلا الإنصياع التام للأمر الحكومي و إلا وقعوا في (سين) و (جيم) و ربما أيضا ً (نون) و ذاقوا وبال أمرهم .
و لكن هذا الأمر لا ينطبق علينا نحن معشر المدخنين , فنحن نكسر كلام الحكومة و نضرب بتحذيراتها و فرماناتها عرض الحائط يوميا ً و بلا أدنى خوف , و الحكومة لا تجرؤ على محاسبتنا أو حتى على مسائلتنا !
تسارعت هذه الأفكار في رأسي ذات صباح و انا في طريقي إلى كشك السجائر القريب من شقتي . وصلت إلى الكشك و ألقيت تحية الصباح على (العم زكي) صاحب الكشك و هو كهلٌ جاوز الستين .
رد العم زكي التحية بمثلها و هو يناولني علبة السجائر و التي بدا و كأنه كان يحملها في يده حتى قبل وصولي , رغم أنني لم أطلبها منه بعد , ربما لأني لم أبتع منه شيئا ً سواها منذ أن أتيت إلى هذا الحي .
- تفضل يا ولدي , تاب الله عليك منها !
- و عليك أنت أيضا ً يا عم زكي , أم أنك نسيت نفسك ؟
تبسم الرجل من ردي و قال و هو يأخذ مني ثمن العلبة :
- أنا يا ولدي زمني خلفي , أما أنت فالمستقبل أمامك , فلماذا تحرقه قبل أن يأتي ؟
- إطمئن أيها الرجل العجوز , سأطلق السيجارة يوما ً ما !
- و لماذا لا تطلقها اليوم ؟
- لأن العصمة بيدها هي !
ضحك العم زكي حتى ظهرت أسنانه ( أو ما تبقى منها ) كحجارة سوداء عليها بياضٌ قديم , و لم يقطع ضحكه سوى نوبة السعال التي تلازمه على الدوام .
نظرت إليه و أنا أفكر :
- هل هذا أنا بعد ثلاثين أو أربعين عاما ً من الآن ؟
تركت العم زكي و سعاله المؤلم و قفلت راجعا ً إلى بيتي و انا أقلب علبة السجائر بيدي بحثا ً عن "التحذير الحكومي" الذي لم أقرأه منذ سنوات !
آه , ها هو ذا , كان التحذير عبارة عن عبارة كتبت على استحياء في أحد جوانب العلبة :
(تحذير حكومي : التدخين يسبب السرطان و أمراض القلب و الشرايين ......الخ .. و ننصحك بالامتناع عنه !) ......
قطع شريط أفكاري صوت أغنية (شبابية على ما يبدو) لمطرب لم أسمعه من قبل , إلتفت و رائي ناحية الشارع و صدق حدسي , فقد كان الصوت قادما ً من عربة لبيع شرائط الكاسيت يقوم بدفعها شاب يافع يسير متلفتا ً حوله و كأنه ذئب يبحث عن ضحية .
فجأة و قعت عيناه علي و أنا أنظر إليه , و يبدو أنه فسر نظري إليه على أنه نداء مني و دعوة صامتة لكي يأتي و يبيعني شريطا ً. و حدث ما كنت أخشاه , و كسمك القرش حين يَشْتَم رائحة الدماء , إذا بالبائع يدير دفة عربته المضحكة و يقودها باتجاهي , و في لحظات تمنيت فيها لو كنت أصما ً كان يقف بعربته على بعد خطوات مني,
- صباح الخير , يبدو أن الأغنية أعجبتك ؟
- ألأغنية ؟ آه , تقصد الصوت القادم من العربة ؟
تبسم البائع و قال ( بعد أن خفض صوت الجهاز اللعين .........أخيرا ً ) :
- لماذا , ألا تحب الأغاني الشبابية و أنت شاب؟
- أنا شاب نعم , هذه أغاني , لا !
- و لكن هذه أغنية للمطرب الجديد .... ( و أشار بإصبعه إلى صورة تتوسط واجهة العربة) و هي أغنية مشهورة جدا ً بين الشباب هذه الأيام !
أجبته - و أنا أتمعن في صورة المطرب الشاب ذي الإبتسامة الساحرة و الذي يبدو كطفل جميل في السادسة عشر من عمره -:
- فعلا ً ؟ و كم دفع لك هذا المطرب لتفسد عليّ صباحي بهذه الطريقة الوحشية ؟
ضحك البائع رغم الضيق الذي بدا على وجهه , ثم قال :
- و أي نوع من الأغاني تفضل إذا ً ؟
- أنا ؟ لا أظن أن لديك نوعيتي من الأغاني !
- جربني و سترى , أستطيع أن أحضر لك أي أغنية تشاء حتى لو كانت هندية !
- حسنا ً , هل عندك أي أغنية للمطرب زرياب ؟
أطرق البائع لثوان و كأنه يحاول أن يتذكر أين وضع شرائط زرياب , ثم نظر إلى نظرة استسلام و هو يقول :
- أنا آسف , لم أحضر شرائط (زرياب) معي اليوم , و لكن أمهلني إلى الغد و سأحضرها لك بكل تأكيد !
- قل إنشاء الله يا رجل !
- إنشاء الله طبعا ً ! مع السلامة !
- مع ألف سلامة , لا تنس أغاني زرياب !
- لن أنسى ! أقصد إنشاء الله لن أنسى !
وقفت أنظر إلى البائع و هو يغادر بعربته بأسرع مما أتى . ثم صعدت إلى شقتي و أنا أتخيله و هو يبحث لدى باعة الأشرطة عن ألبوم للمطرب زرياب .
جلست داخل شقتي على أقرب كرسي قابلني , عدت بأفكاري إلى التحذير الحكومي على علبة السجائر , قرأته من جديد ثم أخذت أتسائل , لماذا لا تقوم الحكومة بكتابة تحذير مماثل على شرائط الأغاني المعروفة ب(الأغاني الشبابية)؟
أليست أضرارها النفسية و الأخلاقية أخطر من أضرار التدخين الصحية ؟ على الأقل , أضرار التدخين و مضاعفاته (إن كانت صحيحة) فلها علاج و عمليات جراحية متطورة و هي أضرار تقتصر على المدخن لا على المجتمع .
و بدأت أضع تصورا ً للتحذير الحكومي الذي يجب أن يكون على شرائط تلك الأغاني الضوضائية .
(تحذير حكومي : هذا الشريط يحتوي على كلمات و ألحان قد تسبب لمن يسمعها العاهات الآتية : فساد مزمن في الذوق العام, تصلب في شرايين الفكر و الإبداع, سطحية و تفاهة , ضيق في الأفق , و موت تدريجي للإحساس بأي قضية جادة , لهذا ننصحك بالإمتناع عن سماعه فورا ً . وزارة الثقافة و المصنفات الفنية و نقابة الموسيقيين و الاتحاد العام لجراحي المخ و الأعصاب و جمعية محبي أغاني الطرب الأصيل ). |
و ماذا عن أغاني ما يسمى ب "الفيديو كليب" ؟ أليس من واجب الحكومة أن تحذر المواطنين من مشاهدتها ؟ و لو من باب حماية المستهلك من التدليس المتعمد الذي تمارسه مطربات الفيديو كليب اللواتي يخضعن لعشرات عمليات التجميل فيخدعن المشاهد المسكين الذي يعتقد أن جمال المطربة "رباني مئة في المئة" ؟
أقترح على حكوماتنا " الرشيدة " وضع هذا التحذير على أغاني الفيديو كليب (بالإضافة إلى التحذير أعلاه طبعا ً) :
(تحذير حكومي : ألمطربة و أغلب الراقصات في هذه الأغنية خضعن لعمليات زرع سيليكون و مركبات كيميائية أخرى في الأماكن الآتية (....) , كما أجريت لهن عمليات "تجميل" في الوجه و شفط للدهون من الأجزاء الآتية (.....) , و تم استهلاك (...) كيلوجرام من مواد التجميل , و عليه ننصحك بعدم التركيزعلى أجساد المطربة و الراقصات و لو للحظة . مركز حماية المستهلك ) .
|
أشعلت سيجارة بعد أن ضغطت على زر التشغيل في جهاز الكاسيت , ثم تمددت على أريكتي أتنهد دخانا ً و أنا أستمع لصوت فيروز و هي تصدح :
(لأجلك يا مدينة الصلاة ..نصلي ...............) .