الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديات الحوارية العامة > منتدى الأدب العام والنقاشات وروائع المنقول

منتدى الأدب العام والنقاشات وروائع المنقول هنا نتحاور في مجالات الأدب ونستضيف مقالاتكم الأدبية، كما نعاود معكم غرس أزاهير الأدباء على اختلاف نتاجهم و عصورهم و أعراقهم .

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14-12-2007, 09:32 AM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي أوراق خضراء: مقالات مُختارة

أوراق خضراء: مقالات مُختارة
.............................

وأنت تطالع مجلة أو كتاباً تستوقفك بعض المقالات والقصائد والقصص، فتتمنى لو قرأها غيرك من الكتاب والمبدعين، في هذا المكان سنقدم لك بعضاً مما يُصادفنا:

أ.د. حسين علي محمد
ـــــــــ



(1) أوربا والإسلام

بقلم: أحمد حسن الزيات (1)
...........................

«شيّع الناس بالأمس عاماً قالوا إنه نهاية الحرب، واستقبلوا اليوم عاماً يقولون إنه بداية السلم، وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت، إلا ظلمة أعقبها عمى، وإلا ظلماً سيعقبه دمار!
حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتيهما الدكتاتورية، وزعما للناس أن أولاهما تمثل الحرية والعدالة، وأخراهما تُمثل الإخاء والمُساواة، فالحرب بينهما وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض، والتعصب للجنس، والتطلع إلى السيادة، إنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل. ثم أكدوا هذا الزعم بميثاق خطّوه على مياه «الأطلسي» واتخذوا من الحريات الأربع التي ضمنها هذا الميثاق مادة شغلت الإذاعة والصحافة والتمثيل والتأليف أربع سنين كوامل، حتى وهم ضحايا القوة وفرائس الاستعمار أن الملائكة والروح ينزلون كل ليلة بالهدى والحق على روزفلت وتشرشل وستالين، وأن الله الذي أكمل الدين وأتم النعمة وختم الرسالة قد عاد وأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطن ولندن وموسكو، ليدرأوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو!
وعلى هذا الوهم الأثيمِ بذلت الأممُ الصُّغرى للدول الكبرى قسطها الأوفى من الدموعِ والدماءِ والعرق؛ فأقامت مصرُ من حريتها وسلامتها في «العلمين» سدا دون القناة، وحجزت تركيا بحيادها الودي سيل النازية عن الهند، وفتحت إيران طرقها البحرية والبرية ليمر منها العتادُ إلى روسيا، ولولا هذه النعم الإسلامية الثلاث لدقّت أجراسُ النصر في كنائس أخرى!
ثم تمّت المعجزة، وصُرع الجبارون، ووقف الأنبياء الثلاثة على رؤوس الشياطين الثلاثة يهصرون الأستار عن العالم الموعود، وتطلّعت شعوب الأرض إلى مشارق الوحي في هذه الوجوه القدسية، فإذا اللحى تتساقط، والقرون تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تُنتهك؛ وإذا التسابيح والتراتيل عُواء وزئير، والوعودُ والمواثيقُ خداعٌ وتغريرٌ، وإذا الديمقراطية والشيوعيةُ والنازيةُ والفاشيةُ كلها ألفاظٌ تترادفُ على معنى واحد: هو استعمارُ الشرقِ واستعبادُ أهله!.
إذن برِحَ الخفاء وانفضح الرياء، وعادت أوربا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام!
هذه إيرانُ المسلمة، ضمِن استقلالَها الأقطابُ الثلاثة، حتى إذا جَدَّ الجد تركوها تضطرب في حلق الدب، ثم خلصوا نجيا إلى فريسة أخرى!
وهذه تركية المسلمة، واعدوها وعاهدوها يوم كانت النازية الغازية تحوم حول ضفاف الدردنيل، وهم اليوم يخلونها وجهاً لوجه أمام هذا الدب نفسه يطرق عليها الباب طرقاً عنيفا مخيفاً ليُعيد على سمعها قصة الذئب والحمل!
وهذه أندونيسيا المسلمة، آمنت بالإنجيل الأطلسي، وقررت أن تعيش في ديارها سيدة حرة؛ ولكن أصحاب الإنجيل أنفسهم هم الذين يقولون لها اليوم بلسان النار: هولندا أوربية، وأندونيسيا أسيوية، ونظرية الأجناس هي القانون النافذ على جميع الناس.
وهذه سورية ولبنان العربيتان، أقرّ باستقلالهما ديجول، وضمن هذا الإقرار تشرشل، ثم خرجت فرنسا من الهزيمة إلى الغنيمة، واختلف الطامعان فخاس المضمون بعهده، وبرّ الضامن بعهده. ثم قيل إنهما اتفقا! واتفاقهما لن يكون على أي حال قائماً على ميثاق الحريات الأربع!
وهذه فلسطين العربية يفرضون عليها أن تؤوي في رقعتها الضيقة، الشريدَ والفوضويَّ واللصَّ، وفي أملاكهم سَعة، وفي أقواتِهم فضل! ولكنهم يضحون بوطن العرب لعجل السامريِّ الذهب، ويتخلصون من الجراثيم بتصديرها إلى أورشليم!
وهذه أفريقية العربية، يسمعون أن ديجول (أخا جان دارك) قد حالف على أهلها الخوف والجوع، ثم انفرد هو بمطاردة الأحرار حتى ضاقت بهم السجون والمقابر، ولا يقولون له: حسبك! لأن السفاكين أوربيون يؤمنون بعيسى، والضحايا أفريقيون يؤمنون بعيسى ومحمد!
بل هذه هي الأرض كلها أمامك، تستطيع أن تنفضها قطعة قطعة، فهل تجد العيون تتشوّف، والأفواه تتحلّب، والأطماع تتصارع إلا على ديار الإسلام وأقطار العروبة؟ فبأي ذنب وقع خُمس البشرية في هذه العبودية المُهلكة، وهو الخمس الذي انبثق منه النور، وعُرِف به الله، وكُرِّم فيه الإنسان؟ ليس للثلاثمائة مليون من العرب والمسلمين من ذنب يستوجبون به هذا الاستعمار المتسلط إلا الضعف، وما الضعف إلا جريرة الاستعمار نفسه. فلو كان المستعمر الأوربي صادق الحجة حين قال: إننا نتولّى شؤون الشرق لنقوى الضعيف ونعلِّم الجاهل وندفع المتخلف، لوجد من العرب سنداً قويا لحضارته، ومن الإسلام نوراً هادياً لعقله؛ ولكنه ورث الخوف من الإسلام عن القرون الوسطى، فهو يُسايره من بعد، ويُعامله على حذر. وإذا عذرنا قسوس العصور المظلمة فيما افتروا عن جهالة، فما عذر الذين كشفوا الطاقة الذرية إذا جمدوا على الضلال القديم، وكتاب الله مقروء، ودستور الإسلام قائم!!
لقد فشلت مذاهبهم الاجتماعية كلها، فلم تستطع أن تُخلِّص جوهر الإنسان من نزعات الجاهلية الأولى؛ فلم يبق إلا أن يجربوا المذهب الإسلامي ولو على سبيل الاقتباس أو القياس.
لا نريد أن نقول لهم: أسلموا لتحكموا، وتعلَّموا لتعلموا، فإن هذه الدعوة بعتاقها عن الغاية القريبة عوائق من العصبية والوراثة والتقاليد والعادة؛ ولكنا نقول لهم: تصوروا نظاماً واحداً يصلح لكل زمان ومكان، ويقطع أسباب النزاع بين الإنسان والإنسان: يوحِّد الله، ولا يُشرك به أحداً من خلقه؛ ويقدِّس جميع الشرائع التي أنزلها الله ولا يُفرِّق بين أحد من رسله، ويُؤاخي بين الناس كافة في الروح والعقيدة لا في الجنس والوطن: ويُسوِّي بين الأخوة أجمعين في الحقوق والواجبات، فلا يميز طبقة على طبقة ولا جنساً على جنس ولا لوناً على لون، ويجعل للفقير حقا معلوماً في مال الغني يؤويه إليه طوعاً أو كرهاً ليستقيم ميزان العدالة في المجتمع، ويجعل الحكم شورى بين ذوي الرأي فلا يحكم بأمره طاغ، ولا يُصر على غيه مستبد، ويحرر العقل والنفس والروح فلا يقيد النظر، ولا يحصر الفكر، ولا يقبل التقليد، ولا يرضى العبودية، ويأمر معتقديه بالإقساط والبر لمن خالفوهم في الدين وعارضوهم في الرأي، ويوحد الدين والدنيا ليجعل للضمير السلطان القاهر في المعاملة، وللإيمان الأثر الفعّال في السلوك.
وجملة القول فيه أنه النظام الذي يحقق الوحدة الإنسانية، فلا يعترف بالعصبية ولا بالجنسية ولا بالوطنية، وإنما يجعل الأخوة في الإيمان، والتفاضل بالإحسان، والتعاون على البر والتقوى. فإذا تصوّرتم هذا النظام، فقد تصورتم الإسلام. وإذا أخذتم به فقد اطمأن العالم المضطرب، واستقر السلام المزعزع. ولا يعنينا بعد ذلك أن تُطلقوا عليه لفظاً يونانياً أو لاتينيا ما دمتم تسلمون وجوهكم إلى الله، ولا تُسلمون قيادكم لمحمد!
ـــــــــــــ
(1) *المصدر: أحمد حسن الزيات: أوربا والإسلام، مجلة «الرسالة»، (العدد 653) في 7/1/1946م.






 
رد مع اقتباس
قديم 14-12-2007, 04:14 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
د.عبدالرحمن أقرع
أقلامي
 
الصورة الرمزية د.عبدالرحمن أقرع
 

 

 
إحصائية العضو







د.عبدالرحمن أقرع غير متصل


افتراضي مشاركة: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

الأخ أ.د حسين علي محمد..حفظه الله:
تحيتي لعطائك ، وفكرتك هذه الخلاقة..
فهي فرصة طيبة لفتح نوافذ نيرة على أفكار الآخرين وإبداعهم
سأكون من المتابعين بإذن الله
وأهيب بالإخوة والأخوات إثراء هذه الزاوية ، وبشكل منظم
كما وأثبتها لعموم الفائدة
مودتي لك







 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 12:17 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

(2) سهام ماضية

بقلم: الدكتور محمد مندور*

هناك ثلاث رذائل كبيرة تنخر في أخلاق الكثيرين من المصريين على نحوٍ لم أر له شبيهاً في بلدٍ من بلاد العالم، على كثرة ما رأيتُ من بلاد وقابلت من بشر، ولا بد من أن نكشف عنها لعلها تُخفي عن أنظارنا شبحها المرذول، فقد سئمتُ لقياها في كل سبيل، وبمنحنى كل نفس.
*أمّا أولاها، فهي محاولة كل إنسان أن يوهمك أنه أكبر وأفضل وأعلم مما هو، ولقد كان من عادتي الصبر، فكنت أتلقّى هذه الدّعاوى بصدر رحب، ولكنني لم أكن ألبث أن أحس بنوع من اختلاس الثقة يُحاوله من يتخطّى حدود نفسه، وليس أمرّ على النفس ولا أهيج للحفيظة من خيبة الأمل، وإنه من اليسير على من أوتي شيئاً من الفراسة وسداد الرأي أن يحكم على الناس ويُنزلهم منازلهم الحقة، وإنه لمن الخير لنا جميعاً أن نُحاول دائماً احتلال المكان الذي نستحقه في النفوس دون تطاول أو انحطاط، أما الإقحام فما نظنُّه يُعقِّب أثراً باقياً، حتى ولا في نفوس البُله!
ولستُ في الحق بواثق من أن أمثال هؤلاء الناس الذين نشكو منهم مرَّ الشكوى يعون ما يفعلون أم هم في غفلة الغرور، ولكنني لاحظتُ في الغالب الأعم أنهم مشربون بحقارتهم، وأنهم يبذلون مجهوداً إراديا لتغطية تلك الحقارة بالإيهام، وذلك لما نُلاحظه من هياج في الحركات، وضغط على مخارج الحروف، وتصنع للانفعال واراتفاع في الصوت، وهلهلة في ملامح الوجه وتطلع في السكون والحركة.
*وثاتيتها غيرة مسرفة وحقد عجيب، ولكم ساءلتُ نفسي لماذا يشغلُ الناسُ بغيرهم إلى هذا الحدِّ المُدمِّر، وتلك مشاعر خليقة بأن تُنزِل بالنفس الخراب.
والذي عهدته في النفوس القوية هو نزوعها المستمر إلى التسامي بذواتها، فهي تسعى لأن تكون في يومها خيراً من أمسها، وأن تعمل في غدها ما يُميِّزُ عملها في حاضرها، فإذا عزَّ التسامي كان الاستجمام في ثقة وتوثُّب.
وأما أن يُفني المرءُ بياضَ يومه وسوادَ لياليه في التفكير فيما وصل إليه هذا الشخصُ أو ذلك، أو الخوف من أن يسبقك زيد وبكر فهذا شعورٌ صغير لا تعرفه إلا نفس صغيرة، وهو دليلٌ على عدم الثقة بالنفس، كما هو دليل على انهيار الشخصية، وإن كان هناك شعور قبيح من مشاعر البشر فأجدر به أن يكون ذلك الشعور!
*وثالثها: فساد عميق في تربية الناس الاجتماعية، فقد تُلاقي صنوفاً من الأفراد، بعضهم صغير، وبعضهم كبير. ولقد تتلطّف مع الصغير بدافع إنساني بريء، ظانا أنك بعملك هذا تُدخل السرور على نفس بشرية، فإذا بك وقد سقطت هيبتك من قلبه، وإذا به يتطاول على المساس بك في غير ذوق ولا حياء، ولقد تُفسِح في صدرك، ثم يأتي يوم يتحرّك دمك فإذا بك تردُّ في عنف، وإذا بالمسكين يصحو بعد غفلة، وإذا به يشكو دون أن يفهم شيئاً أو يُدرك له محنةً. فإذا جاء يومٌ، وصفعْتَهُ صفعَ الأقوياء لأنكَ رجلٌ عزيزُ النفسِ حامي الدماء أُسقِط في يده، وأخذه إمّا عنادُ الحمقى وإمّا انهيارُ الأذلاّء! ولستُ أدري لذلك من سببٍ غيرُ فسادِ التربيةِ الاجتماعيةِ، فسادها في المنزلِ وفي المدرسةِ وفي الوظيفةِ، وفي الشارعِ، وفي الدكانِ، وفي المصرفِ، وفي كلِّ مكان، حتى لكأنَّكَ تسيرُ في بلدٍ كله أرقاء!
أيُّ عذابٍ نفسيٍّ في أن تراك مضطراً إلى تقديرِ كل لفظ تقول، وكل حركةٍ أو ابتسامةٍ أو تقطيبِ جبينِ أناس لا فهمَ لهم ولا تقدير، ولا يعرفون حدا يبدؤون منه ولا حدًّا ينتهون إليه؟!
ترى هل باستطاعتك أن تخلق لنفسك عقليةً جديدةً وذوقاً جديداً وتربية جديدةً تُماشي بها الناس، لا أن تأخذك العزة فتثبت كما أنت مُحولاً أن تنقل العقول وتُحوِّل الأذواق، وتسدد التربية لتستطيع أن تتفاهم مع الناس، أو أن تقبلهم، أو تطبق عليهم خيراً.
هذه أسئلة لا يستطيع الإجابة عليها غير الله، فإليه نفوِّضُ الأمر.
ــــــــــــــــــــــ
*المصدر: د. محمد مندور: كتابات لم تنشر، ص ص122-124.







 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 12:21 PM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: مشاركة: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د.عبدالرحمن أقرع مشاهدة المشاركة
الأخ أ.د حسين علي محمد..حفظه الله:
تحيتي لعطائك ، وفكرتك هذه الخلاقة..
فهي فرصة طيبة لفتح نوافذ نيرة على أفكار الآخرين وإبداعهم
سأكون من المتابعين بإذن الله
وأهيب بالإخوة والأخوات إثراء هذه الزاوية ، وبشكل منظم
كما وأثبتها لعموم الفائدة
مودتي لك
شكراً للأديب والناقد المبدع الدكتور عبد الرحمن أقرع،
وكل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك.






 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 02:44 PM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
إبراهيم العبّادي
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم العبّادي
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم العبّادي غير متصل


إرسال رسالة عبر MSN إلى إبراهيم العبّادي

افتراضي مشاركة: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

أستاذنا الفاضل ..
ما أجملك وأنت تفيض علينا كل هذا العلم والفن ..
الذي يروي العقول والقلوب والقرائح .
وإذا كان قد قيل أن أباتمام أشعر في اختياراته في الحماسة منه في قصائده ..
فهذا ينطبق عليك هنا ..
وأنت تنقل لنا لسيد البلاغة الزيات ..
وسيد النقد مندور .
أتمنى منك المواصلة ..
فأكفنا مرفوعة .







 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 03:19 PM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: مشاركة: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة إبراهيم العبّادي مشاهدة المشاركة
أستاذنا الفاضل ..
ما أجملك وأنت تفيض علينا كل هذا العلم والفن ..
الذي يروي العقول والقلوب والقرائح .
وإذا كان قد قيل أن أباتمام شاعر في اختياراته في الحماسة منه في قصائده ..
فهذا ينطبق عليك هنا ..
وأنت تنقل لنا لسيد البلاغة الزيات ..
وسيد النقد مندور .
أتمنى منك المواصلة ..
فأكفنا مرفوعة .
شكراً للأديب المقتدر الأستاذ إبراهيم العبادي،
على تعليقه الجميل،
وكل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك.






 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 03:21 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

(3) ثقافة

بقلم: د. طه حسين (1)
............................

كلمة نردِّدها كل يوم فيما نقول ونكتب، وقليل منا يُحققها في ذهنه، ويستطيع أن يعرب إعراباً دقيقاً عن معناها، شأنها في ذلك شأن ألفاظ كثيرة تنطلق بها الألسنة وتجري بها الأقلام، وليس لها في نفوس الذين ينطقون بها معنى واضح، أو صورة لا أقول دقيقة، بل مُقاربة. وأي لفظ أكثر تردداً في الأفواه وجرياناً على الأقلام من لفظ الأدب والفن؟. فسلْ إن شئت بعض الذين ينطقون بهاتين الكلمتين عمّا يريد بأيتهما أو بكلتيهما فستسمع ما يسوؤك غالباً، وما يُرضيك أحيانا؛ ذلك لأن هذه الكلمات ـ الثقافة والأدب والفن ـ قد ابتُذلت في الاستعمال العام، وكثُر ترديدها في الخطب والكتب وفي مقالات الصحف وأنبائها؛ ففقدت أو كادت تفقد معانيها، وأصبح كل من يحسن كتابة هذا الكلام الذي تنشره الصحف أديباً، وكل من أسمعك صوتاً فيه شيء من توقيع، أو أراك صورة أو شيئا يُشبه الصورة، أو لعب أمامك على المسرح، أو أراك صورة تلعب في دار من دور السينما ـ أصبح كل من فعل شيئاً من هذا ـ صاحبَ فن أو صاحب أدب، وهو بالطبع مثقف لأن الأدب والفن بطبعهما ثقافة!
وكذلك يُصبح الكاتبون في الصحف ـ مهما تكن الموضوعات التي يكتبونها، ومهما تكن اللغة التي يكتبون بها، ومهما تكن المعاني التي يؤدونها إليك ـ أدباء، ويصبح كلامهم أدباً، والذين يضحكونك بتهريجهم في ملعب من ملاعب التمثيل أو دار من دور السينما فنانين لا يتردّدون في أن يصفوا أنفسهم بذلك، وفي أن يملؤوا به أفواههم، وفي أن يُرتبوا لأنفسهم من أجل ذلك حقوقاً عليك وعليَّ وعلى الناس جميعاً وعلى الدولة. ومع ذلك فقد رأينا مصر في بعض عصورها القريبة تُفرِّق بين الصحفي والأديب، وبين المُهرِّج والممثل، وبين المطرب والمغني أو الموسيقيِّ، وما نزال نراها تُفرِّق بين من برع في الأدب أو في الفن، ومن برع في صناعة من الصناعات اليدوية ولم يُحسن قراءةً ولا كتابةً ولا علماً نظريا بأصول ما يصنع بيديه: ترى أحدهما قد أوتي حظا من ثقافة، وترى الآخر صانعاً ماهراً قد حُرِم الثقافة، ولم يؤت منها حظا قليلاً أوْ كثيراً. وليس بُدٌّ مع ذلك من كلمة الحق أن تُقال، ولأمور الثقافة وشؤون الأدب والفن من أن تؤخذ مأخذ الجد إن أردنا لهذا الوطن أن يرقى وأن يُسهِم في الحضارة الإنسانية إسهاماً صحيحاً.
وكلمة الثقافة في أصلها اللغوي القديم كانت يسيرة تستعمل فيما ليس بينه وبين معناه الذي نفهمه منها الآن صلة قريبة أو بعيدة، تُستعمل في المهارة التي تكون في بعض الصناعات، وفي تقويم المعوجِّ من الأدوات المادية بنوع خاص.
فكان يقال: ثقَّف الرمح، ويُراد: قوَّمه ونفى عنه الاعوجاج وجعله أداة صالحة من أدوات الحرب؛ ثم اتسع معناها شيئاً، فأصبح المهارة في صناعة بعينها من الصناعات، ولا سيما حين تكون هذه الصناعة دقيقة تحتاج إلى الذكاء والفطنة: فالتفريق بين الدينار البهرجي المزيف والدينار النقي الصحيح ثقافة، والصيرفي الذي يحسن ذلك رجل مثقف أو ثقف. ثم تجاوزت هذا المعنى، وانتقلت إلى معنى يتصل بحياة العقل والذوق.
فكان يُقال للرجل الذي يُحسن العلم بالشعر فيفرِّق بين جيده ورديئه، وبين الصحيح الثبت منه والمنحول المزيف ـ مثقف أو ثقف، وكانت صناعته ثقافة. وعسى أن يكون محمد بن سلاَّم الجُمحي الذي توفي في أوائل القرن الثالث الهجرة أول من استعمل هذه الكلمة بهذا المعنى في كتابه "طبقات الشعراء". ثم اتسع معنى هذه الكلمة فأصبح المهارة في كل علم من علوم العقل أو كل فن من فنون الذوق، ثم أهملت الكلمة ونسيت أو كادت تنسى حتى كان هذا العصر الحديث فاستعملت أثناء النهضة المصرية الأخيرة بين الحربين العالميتين ليؤدَّى بها معنى الكلمة الفرنسية (culture). وقد جرى على الكلمة الفرنسية نفسها شيء يُشبه ما جرى على الكلمة العربية؛ فكان استعمالها الأول في شيء مادي هو الزراعة، ثم جعل المعنى يتطوّر حتى أصبح يدل على معناه الحديث الذي نستعمل فيه نحن كلمة الثقافة الآن، وهو الذي نريد أن نقف عنده وقفة فيها شيء من تعمق وتفصيل.
فالرجل المثقف الآن بهذا المعنى ليس هو من أتقن علماً بعينه أو فنا بعينه، وإنما هو أوسع من ذلك وأشمل، هو الرجل الذي ذاق ألوان المعرفة على اختلافها حتى ذكا قلبع وصفا ذوقه وهذب طبعه، ونفذت بصيرته، وأصبح عقله قادراً على أن يفهم عنك حين تتحدّث إليه في أي لون من ألوان المعرفة، وأصبح عقله قادراً أيضاً على أن ينفي عن نفسه الشعور بالغربة حين يسمع حديث العلماء في علومهم، أو حديث أصحاب الفن في فنونهم، أو حديث الساسة والاقتصاديين في سياستهم واقتصادهم. والرجل المثقف هو الذي ذاق المعرفة وأحبها وتأثَّر بها، وتهيّأ لها فأصبح إنساناً بأوسع معاني هذه الكلمة، إنساناً لا يحس الغربة في أي وطن من أوطان الناس أو بيئة من بيئاتهم، ولا يجد القلق حين يسمع الناس يتحدثون في أي ضرب من ضروب الحديث؛ يفهم عنهم أحياناً فيخوض معهم فيما يخوضون فيه، ولا يفهم عنهم أحياناً أخرى فلا يوئسه ذلك منهم ولا من نفسه، وإنما يحاول أن يعرفهم وأن يفهم عنهم وأن يحقق الصلة بينه وبينهم، بعقله وقلبه وذوقه، عارفاً مرة ومنكراً مرة أخرى، راضياً حيناً وكارهاً حيناً آخر.
الرجل المثقف هو الذي لا ينبو عنه وطن ولا مكان ولا بيئة من أوطان الناس وأماكنهم وبيئاتهم، ومن أوطان الطبيعة وأماكنها وبيئتها وأوطانها المختلفة، هو الرجل الذي يحس من نفسه القدرة على أن يعيش في كل وطن، وفي كل ظرف من الظروف عيشة الفاهم لما يرى القادر على محاولة فهم ما لم يفهم.
والرجل المثقف آخر الأمر هو الذي أخذ من العلوم والفنون بأطراف تتيح له أن يحكم على الأشياء حكماً صحيحاً أو مقارباً. والتعليم هو سبيل هذه الثقافة، التعليم بمعناه الواسع الذي يفهمه الناس في هذه الأيام ويتيحونه للصبية أولاً، وللشباب ثانيا فيما ينشؤون لهم من المدارس ومعاهد العلم والتعليم الذي يكسبه الناس لأنفسهم بعد أن يأخذوا بحظهم من هذه المعرفة التي تُقَدَّم لهم في المدارس والمعاهد.
وأخص صفات الثقافة أنها ناقصة دائماً محتاجة إلى أن تزيد في كل لحظة، وأن صاحبها قلق دائماً، طامح إلى التزيد من المعرفة دائماً، لا يقنع بما يُتاح له من العلم مهما يكثر ومهما يعمق ومهما يتسع، لأنه مستيقن هذا الأصل من أصول الثقافة الصحيحة، والذي جاء في القرآن الكريم، وهو أن فوق كل ذي علم عليم.
وصاحب الثقافة محقق، لحاجته هذه إلى التزيُّد من المعرفة، ومحقق، لأن في الناس من هو أكثر منه معرفة؛ وهو من أجل ذلك متواضع دائماً لا يرضى عن نفسه، وإنما يطمح أبداً إلى أن يكون في غده خيراً منه في يومه.
ويظهر الفرق جليا بين الرجل المثقف والرجل العالم بالمعنى الدقيق الذي يفهمه الناس لهذه الكلمة في هذا العصر: فالرجل الذي أتقن علماً من العلوم وتخصص فيه ووقف حياته عليه مثقف دائماً، ولولا ذلك ما فهم علمه ولا أتقنه ولا حاول التفرغ له، ولكن من الناس من يكون رجلاً مثقفاً بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها، وهو مع ذلك لم يتخصص في علم من العلـوم، ولم يقف وقته وجهده على لون من ألوان المعرفة.
والرجل المثقف حقا يعرف أنه ليس قادراً على أن يبتكر المعجزات فيحسن العلم بما لم يصل الناس إلى العلم به بعد؛ ومن هنا اختلفت حظوظ الناس من الثقافة باختلاف العصور والبيئات: فقد كان "هيرودوت" مثلاً رجلاً مثقفاً في عصره، ولذلك استطاع أن يعرف كثيراً من شؤون الأمم التي ألمّ بأوْطانها، ولم يجد نفسه غريباً في أمة منها، وكان في الوقت نفسه مؤرخاً، لأنه روى لنا ما كان يمكن أن يُعرَف في عصره من تاريخ اليونان وتاريخ الأمم التي اتصلت بهم اتصالاً قريباً أو بعيداً. ومع ذلك فاخْتَرْ أيَّ مؤرِّخ معاصر فستراه أعظم ثقافة وأشد تخصصا من "هيرودوت"، ذلك لأن علم الناس يزيد دائماً ولا ينقص أبداً. وإذا قضى الجهل والضعف على أمة من الأمم بعد أن كانت قوية مثقفة عالمة فإن علمها وثقافتها لا يذهبان مع الريح، وإنما ينتقلان منها إلى أمة أو أمم أخرى.
ومن هنا ورث العرب ثقافة اليونان، وورث الأوروبيون ثقافة العرب، ثم عرفوا حقائق الثقافة اليونانية أكثر مما عرفها العرب، فانتفعوا بها وأضافوا إليها، كما انتفع العرب بثقافة غيرهم من الأمم، وأضافوا إليها من عند أنفسهم.
وأكبر الظن أن أمماً أخرى ليست عظيمة الحظ من الثقافة والعلم ستأخذ عن الأوروبيين ثقافتهم وعلمهم، أو هي قد جعلت تأخذ عنهم ثقافتهم وعلمهم، فإن أتقنت ذلك، وعرفت كيف تسيغ ما تأخذ، وكيف تلائم بينه وبين ما ورثت عن أجيالها القديمة، وكيف تجعل من هذا وذاك مزاجاً ملائماً لطبعها، فليس من شك في أنها ستكون مثقفة عالمة بأدق معاني الثقافة والعلم. ومعنى ذلك أنها لن تكتفي بالأخذ والنقل، ولكنها ستتمثّل ما أخذت وما نقلتْ، وستُشارك فيه مشاركة أصيلة، وستضيف إليه من عندها مثل ما أضاف الأوروبيون إلى ما أخذوا عن غيرهم أو أكثر منه.
ومعنى ذلك أن الثقافة والعلم ليسا مقصوريْن على أمة من الأمم أوْ جيل بعينه من أجيال الناس، وإنما هي أشبه شيء بالنسم الذي يتنسّمه الناس جميعاً، والذي يحمل من ألوان الغذاء ما يُصادف القادرين على ذوقه وتمثُّله والملاءمة بينه وبين طبائعهم وأمزجتهم، فكل إنسان بطبعه قادر على أن يتلقّى الثقافة والعلم ويزيد فيهما بشرط أن يبتغي إلى ذلك وسائله، ويسلك إليه سبله، وينتفع بتجارب الأمم التي سبقته أو عاصرته والتي أخذت من الثقافة والعلم بأعظم الحظوظ.
وقد شُغِل الأوروبيون بحقائق ثقافتهم وعلمهم منذ انفضّت الحرب العالمية الأولى وجعلوا يُحاولون أن يُحللوا العقل الأوروبي ويردُّوه إلى الأصول التي كوّنته وأتاحت له ما يستمتع به الآن من الرقي والتفوّق، وعرّضتْه لما يتعرّض له الآن من الخطر. وكان الشاعر الفرنسي العظيم "بول فاليري" بارعاً حقا حين ردّ العقل الأوروبي الحديث إلى أصول ثلاثة، هي: تراث اليونان في الفلسفة والأدب والعلم والفن، وتراث الرومان في النظام والتشريع وفي السياسة والحرب، والمسيحية بما أودعت فيه من قيم الأخلاق ومُثلها العليا ومن الطموح إلى الإحسان والعدل والإنصاف، وإلى العلم آخر الأمر بأن الناس جميعاً سواء في الحقوق والواجبات، وأن مساواتهم هذه إنما تأتيهم من حيث أنهم ناس يشتركون في طبيعة الإنسان الذي أنشأ الحضارة وعرف كيف يُسيطر على الطبيعة، أو على ما سيطر عليه منها، وكيف يستثمر الأرض ويوجه استثمارها إلى ما ينفع الناس عامة لا ما ينفع فرداً دون فرد أو شعباً دون شعب أو جيلاً من الناس دون جيل.
وواضح أن الانحراف عن أصل من هذه الأصول له نتائجه في ضعف الأمم وانحلالها وتأخّرها عما ينبغي لها من المكانة الممتازة بين الأمم الرّاقية.
فالانحراف عن إيثار المعرفة لنفسها والانتفاع بنتائجها ينتهي إلى الجهل وما يعقبه الجهل من ضعف وانحطاط، والانحراف عن النظام وحسن التشريع والسياسة والاستعداد لطوارئ الحرب منتهٍ إلى الاضطراب والفوضى، والانحراف عن أصول الأخلاق ومثلها العليا منته إلى الظلم والاستعلاء واستغلال الإنسان للإنسان، وهو الذي تتورّط فيه أوروبا الآن، فيجرُّ عليها ما يجرُّ من ألوان الفساد والكوارث والخطوب.
وقد نستطيع أن ننظر إلى ثقافتنا العربية بنفس هذه النظرة على ما أصابها من ضعف وأدركها من تفرُّق وانتشار، فسنرى أن العقل العربي يمكن أيضاً أن يُردَّ إلى مثل ما رُدَّ إليه العقل الأوربي من الأصول مع اختلاف قليل، فنحن قد ورثنا عن اليونان ثقافتهم وفلسفتهم وعلمهم وأدبهم وفنهم أيضاً، وفد تأثَّرنا بكل ذلك في حياتنا العقلية وتكوين ما توارثنا من المعرفة، ونحن قد تأثّرنا بالنُّظم التي ورثناها عن الأمم التي سبقتنا إلى الحضارة:
تأثرنا بنظم البيزنطيين أيام بني أمية، ونظم البيزنطيين ترتدُّ في جملتها إلى النظم الرومانية.
وتأثرنا بنظم الفُرس أيام العبّاسيين، ولكن هذه النظم لم تخل قط من تأثر قليل أو كثير بالنظم الرومانية.
ونحن حين أنشأنا فقهنا وألوان التشريع في بلادنا قد تأثّرنا كثيراً بالفقه الروماني في العصور القديمة وبالفقه الأوربي في العصور الحديثة.
وضَعِ الإسلام مكان المسيحية؛ فهو الذي صاغ عقولنا وسيَّرنا على قواعد الأخلاق ومثلها العليا، وهو الذي حبَّب إلينا العدل وكرَّه إلينا الجور، وهو الذي حبَّب إلينا الإحسان وكرَّه إلينا القسوة والاستئثار.
ومهما تبحث عن أسباب الضعف الذي أصاب الأمة العربية وثقافتها في بعض العصور فسترى أنها تنحصر في الانحراف عن أصل من هذه الأصول التي ذكرناها.
وإذن فالطريق أمامنا واضحة وأعلامها بيّنة، يراها المنصفون ولا ينحرفون عنها إلاّ إذا تعمَّدوا هذا الانحراف أو غرَّهم الشيطان عن أنفسهم.
لا بُدَّ من أن نأخذ بأسباب العلم والثقافة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، لا نتردّد ولا نتلكّأ ولا نستكثر في سبيل ذلك تضحية مهما تكن.
ولا بُدَّ من أن نُؤثر النظام ونتجنَّب الفوضى، ومن أن نتلقّن التشريع ونقيمه على الإحسان والبذل.
ولا بُدَّ من أن نتخذ الأخلاق لحياتنا قانوناً، ونجعل المثل العليا أمامنا دائماً في كل ما نأتي وما ندع، إن كنا نريد مخلصين ما نطمح إليه من الرقي ومن تحقيق المساواة بيننا وبين الأمم الأخرى، وتحقيق المساواة الدّاخلية بين أفراد الأمة من حيث هي أمة.
وما أُحب أن أبعد عن الثقافة التي هي موضوع الحديث والتي أبعدني عنها هذا الاستطراد شيئاً؛ فليس يكفي أن نحب الثقافة لنكون مثقفين، وإنما يجب أن نحبها ونبتغي إليها وسائلها، ونسلك إليها سبلها، وننظم التعليم على أنه وسيلة إلى أن يصبح الشاب المتعلم مهيأ ليكون رجلاً مثقفاً بالقدر الذي أشرتُ إليه آنفاً؛ فالظفر بالشهادات والإجازات والدرجات لا يغني عنه شيئاً ولا يجعله رجلاً مثقفاً إذا لم يستطع أن ينفي عن نفسه الشعور بالغربة حين يتصل بالناس مهما تكن أجيالهم وأجناسهم.
ومعنى ذلك أنه يستطيع أن يتحدّث إلى الأوربي، فيفهم عنه ويُفهمه عن نفسه، وأن يكون ذلك شأنه حين يتحدّث إلى الهندي والصيني أو الأمريكي أو الروسي: ومعنى هذا كله أن التعليم يجب أن يُوجَّه إلى تكوين الملكات الإنسانية التي تُتيح للفرد أن يكون مستعدا دائماً لأن يتعلّم وأن يزيد حظه من المعرفة، وأن يشعر شعوراً قويا في كل لحظة من لحظات حياته بأنه في حاجة ملحة إلى ذلك مهما يكن مركزه الاجتماعي، ومهما يكن قد حصّل في نفسه من العلم؛ ففوق كل ذي علم عليم، كما يقول الله عزَّ وجلَّ.
وأخصُّ مزايا العقل الحر هو أنه شاعر بنقصه دائماً، طامح إلى الكمال دائماً، مستيقن بأنه لا يبلغه مهما يبذل من جهد، ومهما يُحصِّل من علم، ومهما يبل من التجارب والخطوب.
فأين نحن الآن من هذا؟ مازال الأمد بيننا وبينه بعيداً أشدَّ البعد، فما أكثر ما يلقى العربي ـ مصريا كان أو غير مصري ـ الأوربي والأمريكي والهندي والصيني، فلا يكاد يفهم عنه ولا يكاد صاحبه يفهم عنه شيئاً، مع هذا الفرق بينه وبين الأوربي والأمريكي، وهو أن الأوربي والأمريكي لا ييأس من فهمه، وإنما يحاول ويلتمس ألوان الحيل ليعرف ماذا يُريد المصري أن يُلقي عليه من حديث! أما المصري فيُسرع اليأس إليه، فلا يُحاول ولا يلتمس حيلة، وربَّما عزَّى نفسه بالسخرية من هذا الأوربي أو الأمريكي الذي لا يسير سيرته، ولا يتكلّم لغته، ولا يحسن الإعراب عمّا يُريد!
ومصدر ذلك أن المصري لا يتعلّم في مدارسه ومعاهده، وإنما يحفظ ليؤدِّي الامتحان، ثم ينسى ما حفظ، وينسى ما امتحن فيه، ويمقت الحفظ والامتحان أشدَّ المقت، ويمضي إلى حياته المادية اليومية يسلك إليها ما يستطيع من السبل لا يطمح إلى شيء، ولا يطمع في شيء، وإنما يكفيه أن يعيش يوماً بيوم، ولا عليه أن يخرج من حياته كما دخل فيها لم يُغن عن نفسه ولا عن الناس شيئاً، كأنه لم ير الدنيا، وكأن الدنيا لم تره في يوم من الأيام.
وهذا النوع من التعليم لا يمكن أن يلائم وطناً طموحاً ولا شعباً عريقاً في المجد خليقاً بأن يكون مستقبله ملائماً لماضيه على رغم ما اختلف على هذا الماضي من المحن والخطوب.
وما أريد بهذا كله أن أزعم أن مصر لم تصنع في سبيل الثقافة شيئاً، وإنما أُريد أن أقول إن ما صنعته مصر في سبيل الثقافة والعلم على كثرته وخطره بالقياس إلى ما كانت عليه أيّام سلطان الترك العثمانيين، بل في أواسط القرن الماضي، ليس إلا شيئاً قليلاً، بل شيئاً أقل من القليل بالقياس إلى آمالها وآمال الإنسانية فيها؛ فليست مصر وطناً كغيرها من الأوطان، وإنما هي وطن في مركز جغرافي بين الشرق والغرب لم تستغن عنه الإنسانية في يوم من الأيام ولن تستغني عنه في يوم من الأيام، بل ستزداد حاجتها إليها ازدياداً مطرداً بمقدار ما يُصيب حياتها من التعقيد، كلما تقدّمت في سبيل الرقي الثقافي والعلمي والسياسي والاقتصادي أيضاً.
وقد زعم شاعرنا القديم أن حاجة من عاش لا تنقضي، وهذا صحيح، ولكنه أقل مما يؤدي الواقع والحق من أمر الإنسانية، لأن حاجتها لا تنقضي، بل تزداد ويشتد ازديادها، وتتعقّد ويعظم تعقيدها.
وكلما ازدادت حاجات الإنسانية وتعقدت ازدادت حاجات الشعوب إلى أن تتضامن وتتعاون، ويشد بعضها أزر بعض، وازداد الاتصال بين الشرق والغرب، وتعقّدت ألوانه وضروبه. وبمقدار هذا كله تزداد حاجة الإنسانية إلى مصر، لأنها طريق الاتصال بين الشرق والغرب، ولأنها المدخل الطبيعي لهذه القارة الإفريقية التي لن تظل كما هي هامدة راكدة، بل ستأخذ في النموّ واليقظة والأخذ بأسباب الحضارة؛ فتشتد حاجتها إلى مصر أولاً، وإلى الشرق والغرب بعد ذلك.
وكل هذا يفرض لمصر حقوقاً على الإنسانية، ويفرض عليها واجبات لهذه الإنسانية. ولست الآن بإزاء الحديث عن حقوق مصر، وإنما أنا بإزاء الحديث عن واجباتها، وقد حرصتُ دائماً وأحببتُ لغيري دائماً أن يحرص على أن يذكر الواجبات، وينهض بها قبل أن يذكر الحقوق ويُطالب بتحصيلها.
ومعنى هذا كله أن الحياة المستقبلة تفرض على مصر أن يزداد حظ أبنائها من العلم والثقافة، لا أقول من يوم إلى يوم، بل أقول من ساعة إلى ساعة. ولا بد من أن يكون التعليم فيها جديراً أن يُهيِّئ أبناءها لتلقِّي هذه الثقافة والتزيُّد منها في كل لحظة من لحظات الحياة.
والتعليم أساس للثقافة، ولكنه ليس كل شيء، بل هناك أشياء كثيرة لا تستقيم الثقافة إلا بها، ولا سبيل إليها إلا إذاهيِّئ الشباب لتحقيقها والانتفاع بها.
وقد قلت إن الرجل المثقف هو الذي لا يشعر بالغربة في أيِّ وطن أو مكان أو بيئة؛ وإذن فليس بُدٌّ للتعليم من أن يهيِّئ الشباب ليكونوا قادرين على أن يعرفوا شؤون الأوطان والأمكنة والهيئات والظروف الإنسانية على اختلافها.
والرجل المثقف لا تستقيم له ثقافة إلا إذا عرف وطنه وأمته والظروف التي تُحيط به؛ فليس بد من أن يهيئه للتعليم لذلك ومن أن يلقنه أوليّات هذه المعرفة بالأمة والبيئة والظروف.
ولا تستقيم الثقافة إلا إذا عرف الأوطان الأجنبية وما يُحيط بها من الظروف الدّاخلية والخارجية، وإذن فيجب أن يهيئه التعليم لهذه المعرفة أيضاً. ولأمر ما حرصت الأمم المتحضرة على أن تُعلِّم أبناءها في المدارس ألواناً من العلم تهيئه لهذا كله: فهي تعلمهم تاريخهم الخاص والتاريخ العام، وهي تعلمهم الجغرافية الخاصة والجغرافية العامة، وهي تُظهرهم في المدرسة الثانوية على أوّليّات الآداب الكبرى: قديمها وحديثها بلغتهم الوطنية، ليستطيعوا بعد ذلك أن يتعمّقوها ويفقهوا دقائقها لمجرّد المعرفة، وحين يشعرون بالحاجة إلى ذلك.
فإذا قلنا إن من أصول الثقافة إحياء التراث القديم للأمة فمعنى ذلك بالقياس إلى المصري أن يكون أمامه تُراث مصر الفرعونية، وتُراث مصر اليونانية الرومانية، وتراث مصر الإسلامية، وأن يكون مهيأ لفهم هذا التراث كلما أراد أن يُلِمَّ به، أو يعود إليه.
وليس ذلك بممكن إلا إذا عرف الأمم التي اتصلت بمصر أو اتصلت بها مصر في ظروف السلم والحرب أثناء هذه العصور، وليس هذا بالشيء القليل؛ فهو سيكفل للمصري أن يكون مهيأ لفهم التاريخ القديم كله، ولفهم تاريخ القرون الوسطى، ولفهم الآداب التي امتازت في هذا التاريخ أو ذاك.
وأمته متصلة بالأمم الحديثة خصاماً ووئاماً وتبادلاً للمنافع، فليس له بُدٌّ من أن يكون مهيأً ليعرف من أمر هذه الأمم أكثر ممّا يمكن أن يعرفه، وسبيل ذلك العلم باللغات الأجنبية وقراءة ما يُكتب فيها، وترجمة ما يحتاج منه إلى الترجمة، ليقرأه الذين لم يتعلّموا لغة أجنبية أصلاً أو تعلّموا لغةً أو لغتين دون أن يتعلّموا كل اللغات الأجنبية، فليس هذا بالشيء الذي يُتاح لكلِّ إنسان، بل قلَّما يتاح لإنسان.
وكل هذا يفرض على القائمين بأمور التعليم الذين يهيئون الشباب للثقاقة والعلم أن يمنحوا تعليم اللغات الأجنبية في المدارس أقصى ما يستطيعون أن يمنحوه من العناية.
والرجل المثقف حقا في هذا العصر لا يستطيع أن يعيش عيشة راضية إذا لم يعرف لغة أجنبية، فإن أراد التخصص في العلم فقلّما تكفيه لغتان أو ثلاث من لغات الأمم الكبرى التي تُعنَى بالأدب وتُنتِج في الأدب والفن والفلسفة.
ومادام الفرد الواحد لا يستطيع أن يتعلم اللغات الكثيرة في المدرسة الثانوية، فلابد من أن تُدرس اللغات الكبرى كلها في المدارس، وأن يُفرض على التلميذ أن يختار منها لغتين على الأقل.
والرجل المثقف حقا لا يستطيع أن يجعل عقله حكراً لثقافة بعينها، وإنما يجب أن تتفتح نفسه للثقافات مهما تكن ومن أين تأتي، وهنا تقوم الترجمة مقام العلم باللغات الكثيرة.
وإذا أُتيح هذا للشباب في أمة من الأمم فمن الخطأ أن نعتقد أن الثقافة الحقة قد أُتيحت لهؤلاء الشباب، ذلك أن الثقافة ليست علماً فحسب، وليست فهماً وحفظاً فحسب، وإنما هي إلى جانب ذلك شعور وذوق وملاءمة بين المعرفة وبين الطبع.
ومن هنا كانت آفة التعليم أنه يتعرّض لأن يكون ملئاً للرؤوس بالمعرفة الكثيرة، دون أن يبلغ القلوب والأذواق ويُؤثر فيها، ويجعلها أهلاً للحرية الصحيحة والشعور الصحيح بأن الإنسان إنسان حيث يكون: إنسان في وطنه يشعر بالتضامن والتعاون بينه وبين الإنسان مهما يكن جنسه، ومهما يكن وطنه، ومهما تكن بيئته وظروفه.
والإنسان المثقف هو الذي يستيقن بقلبه وعقله أن الأرض كلها وطن عام له إلى جانب وطنه الخاص، ويُهيئ نفسه أو تُهيئه الدولة ليحيا هذه الحياة كريماً في وطنه وكريماً خارج وطنه، كريماً على نفسه وعلى الناس أيضاً.
وإذا كان لكل هذا الحديث نتيجة نستطيع أن نستخلصها منه، وغاية نستطيع أن ننتهي بها إليها، فالنتيجة والغاية شيء واحد، وهو أن مصر على كثرة ما بذلت من جهد وما أنفقت من مال وما احتملت من أعباء في سبيل الثقافة لا تزال في أول الطريق، وما زالت الشقة أمامها بعيدة لا حدَّ لبعدها؛ فالثقافة كما قلت لا نهاية لها، والشعب المثقف هو الذي يُحقِّق في نفسه أنه مهما يُحصِّل من المعرفة فسيظل دائماً محتاجاً إلى التزيُّد منها، وسيرى أنّ ما عرفه مهما يكثر أقل مما يجب أن يعرفه.
وإذا فهم القائمون على شؤون العلم والثقافة هذه الحقائق، وفهمها الذين يقودون الرأي ويُدبِّرون أمور الشباب أمكن مصر أن تؤمن عن ثقة ويقين وفي أمل أيّ أمل بأنها سائرة إلى الرقيِّ حقا، وبالغة منه ما تُريد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من كتاب: د. حسين علي محمد (بالاشتراك): فن المقالة: دراسة نظرية ونماذج تطبيقية، سلسلة "أصوات مُعاصرة"، العدد 114، دار هبة النيل العربية، القاهرة، 2003م، ص99 فما بعدها.







 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 03:27 PM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

(4) حول النقد

بقلم: عباس محمود العقاد*
.................................

من المعروف عن الناس جميعاً أنهم يميلون إلى الثناء، والتقريظ، وينفرون من الذم والانتقاد.
وحب الثناء في جملته خصلة حسنة محمودة العاقبة، لأنه يدعو إلى طلب الكمال، وما لم يكن نزوة من نزوات "الأنانية" العمياء فهو سبيل إلى العمل الذي يستحق الثناء.
ولكن كراهة النقد ليست بصفة محمودة في جميع الأحوال، لأنها تنطوي على أخطاء كثيرة تدل على ضيق العقل، كما تدل على ضيق الخلق وضيق المجال.
أول هذه الأخطاء اعتقاد المرء أن الناقد أفضل دائماً من المنقود، فهو إذا سمع النقد ظن أن الذي يوجهه إليه يستعلي عليه ويدعي أنه مبرأ من العيب الذي يسنده إليه، ولولا ذلك لهان وقع النقد في نفسه لأنه يشعر أنه ومن ينقده سواء.
وقد يكون المنقود أفضل من الناقد فيما يتعلّق بذلك العيب وفيما يتعلق بسواه. والحقيقة المُشاهدة أن الناقد لا يكون أفضل من المنقود في عيوبه، ولا أقدر منه على عمله المنتقد ولا على سائر أعماله. كل منا يستطيع أن ينظر إلى بيت من البيوت فيرى أنه سخيف البناء غير صالح للسكن، ولكننا لا ندعي لهذا أننا أقدر على البناء والهندسة من بانيه ومهندسه، وقد يُعيي الكثيرين منا أن يقيموا حجراً على حجر في جدار صغير. وكل منا يذوق الطعام فيستعذبه أو يعافه، وليس كل آكل بقادر على إعداد صفحة من الطعام خير من التي يعافها، ولو كان عليماً بكل عيب من عيوبها في صناعتها وفي مذاقها. وكل منا يستطيع أن يقرأ كتاباً فيشعر بنقصه في جانب من جوانبه لأنه كان ينتظر المزيد من البيان في ذلك الجانب، ولكن لا يُفهم من ذلك أن القارئ المنتقد أعرف بصناعة التأليف من صاحب الكتاب.
وقصة المصور الصيني معروفة، تصلح للذكر في هذا المقام: كانت له صورة يعرضها ويتوارى خلف ستار المصنع ليستمع إلى أقوال الناظرين إليها. وكان منهم إسكاف عاب شكل الحذاء لأنه لا يُطابق القالب المخصص لصنعه فأخذ المصور بملاحظته وأصلح عيبه كما اقترح الإسكاف. وعاد هذا في اليوم التالي فأطمعه التفات المصور إلى رأيه وأكثر من الملاحظة على أجزاء الصورة من الرأس إلى القدم، فبرز له المصور من وراء الستار وأملى عليه درسه في هذه المرة: إنك أحسنت فيما عرفت، فلا تسئ فيما تجهل، وقف بقدميك على حذائك ولا تزد عليه.
ومهما يكن من إحسان هذا الناقد في ملاحظته فهو إحسان كلام لا إحسان عمل، لأنه لو سئل أن يُصلح الخطأ في حذاء الصورة لما استطاع أن يزيل عيب الصناعة فيها. ولا يزال المصور أقدر منه على إصلاح عيوب الصورة حتى في شكل الحذاء.
فالناقد يُبدي ما يشاء من العيوب، ولا يجعله ذلك أفضل ولا أقدر على إصلاح العيوب من صاحب العمل. إذا كره الاستماع إليه أنفة من التسليم له بالتفوق عليه. حتى لو اعتقد صاحب العمل أن التفوق عليه ممتنع أو مستحيل، ولا امتناع ولا استحالة فيه.
ويحسن بالناقدين والمنقودين جميعاً أن يذكروا أن القدرة على إظهار العيوب أسهل جدا من القدرة على إظهار الحسنات. فإن الطفل الصغير قد ينظر إلى أعظم العظماء، فيضحك منه ويلمح عيوبه الظاهرة من لمحة خاطفة، وقد يستطيع أن يحكيه في عيوبه سخرية وعبثاً فيجيد محاكاته كل الإجادة، ولكنه يقضي عشرات السنين قبل أن يعرف حسناته أو فضيلة من فضائله. كما استطاع في طفولته أن يُحاكي ذلك العظيم في مشيته أو لهجة كلامه أو جملة حركاته.
وما برحت معرفة العيوب قريبة إلى أصحاب العيوب، ومعرفة الحسنات عسيرة على غير أصحاب الحسنات.
ومن أخطاء الكارهين للنقد أن كراهيتهم لم تنم على ضعف الثقة بالنفس كما تنم على ضعف الثقة بالناس، وضعف الثقة بالقيم الأدبية، وكل قيمة من قيم التقدير والكرامة.
فالرجل الذي يعرف عمله لا يضيره أن يجهله غيره، والرجل الذي يملك ثروته ويأمن عليها لا يضيره أن يحسبه هذا أو ذاك في عداد الفقراء، ومن كان واثقاً من قوته فهي بين يديه يجدها حاضرة عنده كلما احتاج إليها. وإنما يضطرب الضعيف الذي تُشاع عنه القوة كذباً إذا شاع عنه الضعف بدلاً من القوة لأن ما تخلفه الإشاعة تقضي عليه إشاعة مثلها. وما يثبت على الحق لا تمحوه الأباطيل.
فليس أدل على ضعف الثقة بالنفس من خوف النقد واتقاء المزاعم، كذلك يدل على ضعف الثقة بالنفس أن يحسبهم الكارهون للنقد ألعوبة يلعب بها كل ناقد، وأرجوحة تميل بها الأهواء مع كل جاحد وحاقد. وما كان في وسع أحد قط أن يلعب بآراء الناس كافة وإن وسعه أن يلعب بآراء القليلين منهم إلى حين، وقديماً قيل ما قيل عن نوابغ الدنيا وعباقرة الأزمان فذهب القيل والقال، وبقيت مآثر النبوغ والعبقرية ساطعة سطوع الشمس، راسخة رسوخ الجبال.
وأشد من ضعف الثقة بالنفس ضعف الثقة بالناس، بل هذا هو سبب ضعف الثقة بكل شيء وبكل إنسان. فإن الذي يشك في وجود القيم الصحيحة في العالم يخشى الخطر على كل قيمة، ويحسب المجد كالهوان، وأن الجواهر كالحجارة، وأن العملة المشروعة كالزيوف الممنوعة. ليس بين شرعها ومنعها إلا صيحة تعلو هنا أو ضجة تخفت هناك.
ولسائل أن يسأل: لماذا يحرص الإنسان على سمعة لا قيمة لها؟ .. وما قيمة السمعة التي لا تحفظ نفسها بنفسها؟ وما معنى الخوف على قيمة محفوظة يراها العارفون فلا يخلطون بينها وبين الأعراض والقشور؟
إن كان للعمل الأدبي أو العمل الاجتماعي قيمة مقدورة يعرفها الناس، فلا خوف عليها من النقد والناقدين، ولا حذر عليها من كيد الكائدين وحقد الحاقدين. وإن لم تكن للأعمال المأثورة قيمة دائمة فلماذا نحرص عليها ونُشفق من زوالها، ونطلب لها الدوام وليس لها حظ من الدوام.
إن خوف النقد عادة غير محمودة العاقبة في جملتها، عادة لا يؤمن صاحبها بحقه على نفسه، ولا يؤمن بحق مرعي لغيره، ولا يطمئن إلى قيمة تحميه من عوارض القلق وبوادر الشكوك. فالكاره للنقد لا يخطئ في خوفه من النقد الصواب، لأن النقد الصواب ينفعه وينفع الناس، ولا يُصغره في نظر نفسه، ولا يُفهم منه حتماً أنه أقل أو أضعف قدرة من ناقديه.
وهو يخطئ في خوفه من النقد الخطأ لأنه يحجر على آراء غيره، ولا يرى لهم حق المخالفة، ولو خالفوه مخطئين. ولعله يخطئ سبيل العزاء في الحالتين. فحسبه من عزاء لو شاء أن يتعزّى أن ينظر إلى ناقديه: هل سلموا من النقد؟ وهل وافقهم الناس على كل ما قالوه؟ وهل يرى بين الناس أحداً يرضى عنه جميع الناس كائناً ما كان شأنه وبالغاً ما بلغ من العلم والرفعة ومحاسن الأخلاق؟
قال الحكيم الأندلسي ابن حزم الملقب بإمام النقاد: "من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. ومن حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه".
ثم مضى يفسر ذلك برأيه فقال: إن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب فأفسد فضائله. وإن كان بباطل فبلغه فسُرَّ به فقد صار مسروراً بالكذب، وهذا نقص شديد.
وأما ذم الناس إياه فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يُعاب عليه وهذا حظ عظيم، وإن كان بباطل فصبر اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر.
وأحسن الحكيم فيما قال وفيما علل. ولو شاء لزاد عليه: إن الاغتباط بالذم كثيراً ما يكون من قبيل الثناء المعكوس، وإنه لثناء معكوس لا رياء فيه إذا صدر عن حسد ورغبة في إنكار الفضل الذي يشعر به الحساد فيُحاولون إخفاءه بالذم والإنكار.
وربما كان إنكار اللئيم أبلغ في الشهادة لصاحب الفضل من ثناء الكريم. ولقد كان ابن حزم مُبتَلى في زمانه بحسد الحساد، فأثاروا عليه الخاصة والعامة، وأحرقوا كتبه وحرموا قراءته، فقال:
لئن تحرقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي
ملأتُ به القرطاس بلْ هو في صدري
ثم بقي ابن حزم في كتبه المأثورة وزال حاسدوه، فلا يذكرهم الناس إلا إذا ذكروه ليصغروهم ويكبروه!
ومنذ خمسين سنة كانت كلمة ابن حزم هذه شعار "الجريدة" التي تولى تحريرها أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، وكان يجعلها شعاراً وجواباً على نقد الناقدين وخلاف المخالفين، وهم كثيرون، فانتهى النقد والخلاف إلى تقدير واعتراف، ولم يبق من جيل الحكيم المصري ـ خليفة ابن حزم في نظرته إلى الثناء والذم ـ إلا من يدين له بالأستاذية والسبق إلى سواء السبيل في فهم الوطن والوطنية.
وقد نُسِيت أعمال لم ينقدها أحد، وبقيت أعمال لم تسلم من النقد في زمانها ولا بعد زمانها، وعمل العاملون وكتب الكاتبون فلم يستحقوا البقاء بما سمعوه من ثناء، ولم ينقطع غيرهم عن عمل أو كتابة خوفاً من نقد مضى أو نقد يجيء.
وأشفق بعضهم من التأليف لأنه يجر إلى القدح والتعنيف، لا بل جاء في الأمثال أن من أراد بعدو سوءاً فليزين له تأليف كتاب أو تحبير مقال.
فإن صح هذا المثل فهو صحيح على شريعة السيد المسيح "أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم" فمن تمنى لعدوه أن يؤلف فتلك أمنية صديق لصديق، أو أمنية عدو لعدو محبوب.
نعم، وكالتأليف في أمر النقد كلُّ عملٍ باق .. تبنيه الهمم والعقول، وتقول فيه الألسنة ما تقول.
ــــــــــــــــــــــ
*المصدر: عباس محمود العقاد: عيد القلم ومقالات أخرى، تحرير: الحساني حسن عبد الله، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت، د.ت، ص296-300.







 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 05:57 PM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
نغــــــــــم أحمد
أقلامي
 
الصورة الرمزية نغــــــــــم أحمد
 

 

 
إحصائية العضو







نغــــــــــم أحمد غير متصل


افتراضي مشاركة: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

د.حسين علي محمد
الشكر الوفير على ماقدمت من مقالات رائعة لكتاب كبار
أكمل مسيرتك سنكون من المتابعين لما تُقدم
تقبل ودي وتقديري







التوقيع

كلما كبرنا يكبر العالم بداخلنا ويصغر بخارجنا
يضج داخلنا ويهدأ خارجنا !

 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 10:08 PM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

(5) أدب المهجر الشرقي

بقلم: د. محمد بن عبد الرحمن الربيع (1)
.................................................. ..

إذا قيل الأدب المهجري انصرف الذهن إلى أدب المهاجر الأمريكية .
إلى الأدب العربي الذي قاله المهاجرون العرب من المشرق بعامة ومن سوريا ولبنان بصفة خاصة إلى الأمريكتين ، فالذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية أطلق على أدبهم " أدب المهجر الشمالي " والذين هاجروا إلى أمريكا الجنوبية أطلق على أدبهم " أدب المهجر الجنوبي " ويمتاز هذا الأدب بخصائص تميزه عن غيره من حيث الأسلوب والعاطفة والأفكار .
وأغلب الأدباء الذين هاجروا إلى الأمريكيتين هم من العرب النصارى ، ولذلك نجد التأثير المسيحي واضحاً في هذا الأدب مهما قيل عن طوابعه الإنسانية وانتماءاته العربية .
وكنت دائماً أتساءل ؟!
هل اتجه كل المهاجرين العرب إلى الأمريكيتين ؟!
ألم تتجه طائفة أخرى إلى مهاجر أخرى .
لماذا يقصر اصطلاح " الأدب المهجري " على تلك الفئة وذلك المكان ؟
وظل السؤال في ذهني .
حتى قدر لي أن أذهب في مهمة رسمية إلى أندونيسيا تلك الجمهورية الإسلامية الشرقية الكبرى التي تضم أضخم تجمع للمسلمين الذين يتعرضون لحملات التنصير .
وهناك التقيت بطوائف من العلماء والمثقفين .
واسترعى انتباهي وجود مجموعة من العرب في تلك المناطق .
ولهؤلاء قصة يطول شرحها ، وتاريخ مجيد يحتاج إلى من يزيل عنه غبار السنين .
أجداد هؤلاء هم الذين نشروا الإسلام في أندونيسيا .
وفتحوها بأخلاقهم وعلمهم وحسن تعاملهم .
حتى انتشر الإسلام هناك بالقدوة وحسن المعاملة .
وأغلب هؤلاء قد هاجروا من جنوب الجزيرة العربية ومن إقليم " حضر موت " بصفة خاصة .
وقد شاهدت ثلاثة أجيال من هؤلاء الجد الرجل الكبير يجيد العربية قراءة وكتابة ، بل وشعراً ...
ووجدت الأب وقد اضطرب لسانه وضعفت عربيته لكنه يحاول ولا يكاد يبين .
ووجدت الابن وقد فقد العربية فلا يكاد يعرف منها شيئاً .
تلك مأساة هؤلاء العرب .
وليس عن هذا أريد الحديث .
لكني أردت أن أصل منه إلى عنوان الموضوع وهو " أدب المهجر الشرقي " .
فقد عرفت أن كثيراً من هؤلاء المهاجرين والنازحين إلى " أندونيسيا وغيرها من بلاد الشرق " قد خلفوا تراثاً أدبياً عربياً إسلامياً يتمثل في مجموعة من المؤلفات العربية ، ومن الصحف والدوريات العربية ومن الشعر العربي المنشور في المجلات أو المجموع في دواوين مخطوطة في الأغلب أو منشورة في الأقل وقرأت نزراً يسيراً من هذا الشعر وهذا التراث الأدبي فوجدته يمتاز بعاطفة الحنين إلى الجزيرة العربية وبالعاطفة الدينية المتوقدة ، فقلت عندها ك لقد عثرت على جواب السؤال وهو : هل هناك أدب مهجري عدا ما نعرفه من أجدب المهجر الشمالي أو الجنوبي ؟!! .
فقلت : نعم وألف نعم .
هناك أدب " المهجر الشرقي " ، أي : الأدب العربي المهاجر إلى الشرق والشرق الأقصى .
أدب هؤلاء العرب الذين نزحوا إلى أندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورا والهند ، ... فأطلقت عليه " أدب المهجر الشرقي " وتمنيت أن يقوم أحد طلابنا في أقسام الدراسات العليا بإعداد أطروحة علمية عن هذا الأدب المجهول .
وما أحلى ارتياد المجهول .
وما أكثر فوائــــد السفر .
وأخيراً فإن الأدب العربي قد شرق وغرب فعرفنا عن الأدب المهاجر إلى الغرب البعيد الشيء الكثير ، وقصرنا عن معرفة الأدباء العرب الذين شرقوا واستوطنوا المشرق والشرق الأقصى وظلوا يحنون إلى مواطن العرب وإلى الجزيرة العربية فما أحرى أبناء هذه الجزيرة بأن يقوموا بالواجب ويقدموا لنا دراسات علمية وأدبية جادة عن " أدب المهجر الشرقي " وإنا لمنتظرون.
..........................
(1) د. محمد بن عبد الرحمن الربيع: خمائل وأزهار: بحوث ومقالات أدبية متنوعة، ط1، مكتبة المعارف، الرياض 1416هـ، ص184-186.







 
رد مع اقتباس
قديم 15-12-2007, 10:10 PM   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: مشاركة: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نغــــــــــم أحمد مشاهدة المشاركة
د.حسين علي محمد
الشكر الوفير على ماقدمت من مقالات رائعة لكتاب كبار
أكمل مسيرتك سنكون من المتابعين لما تُقدم
تقبل ودي وتقديري
شكراً للأديبة المبدعة نغم أحمد
على تعليقها الجميل،
مع موداتي.






 
رد مع اقتباس
قديم 26-12-2007, 07:16 AM   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
د. حسين علي محمد
أقلامي
 
إحصائية العضو







د. حسين علي محمد غير متصل


افتراضي رد: أوراق خضراء: مقالات مُختارة

(6)
وداع القرن

بقلم: إبراهيم اليازجي
...........................

من تأمَّل كرور الأدهار، وتعاقب الليل والنهار، ورأى الثواني تجر الأيام، والأيام تجر الأعوام، والناس يذهبون بين ذلك أفواجا، ويمرُّون فرادى وأزواجاً، ورأى أن هذه الحركة التي نرى بها الشمس تطلع من المشرق، ثم نراها تغيب في المغرب، يتخلّلها من حركات دقائق الكون ما يُمثِّل دبيب عوامل الفناء، حتى يًرد كل منظور إلى عالم الهباء؛ وقف حائراً دهِشا، يتأمّل في الكائنات وفي نفسه، وقد اختلط عليه الوجود بالعدم، حتى كاد يتهم شواهد حسه. ثم نظر فتمثّل وراءه ماضياً تغيب أوائله في ظلمات الأزل، وأمامه آتياً تتصل أواخره بحواشي الأبد، وهو بينهما كنفّاخة قذفها التيّار فوق أديم البحر، فما كاد يقع عليها ضوء الشمس، حتى عادت إليه فغاصت فيه آخر الدهر، فملكه من الرهب ما ارتعشت له أعضاؤه، ومن الإشفاق ما جمدت له دماؤه؛ ثم تمنّى لو تخلّص من هذا الوجود المشوه، وأيقن أن الكون ضرب من الزور المموّه، إنما هي صور تتبدّل، وأشكال تتحوّل، وهي المادة إلى أن تنحلّ الأرض، وينتثر نظام السيارات والأقمار، وتتبدّد ذرّات الشمس في الفضاء، فيمّحي رسمها من صحيفة الأدهار.
ودّعنا القرن التاسع عشر، كما يودِّع المرءُ يومه عند انقضائه، وقد تذكّر ما لقي بين صباحه ومسائه، وما تقلّب عليْه بين حاليْ كَدَرِهِ وصفائه. ثمّ استشفّ ـ من خلال يومه المقبل ـ وميضَ صباح الغد، باسماً عن ثغور الآمال، مبشِّراً بما فاته في يومه من الغبطة ونعمة البال، فبات يَعِد نفسه المواعيد، ويرى كلَّ بعيد من الأوطار أقربَ إليه من حبلِ الوريد. وقد ذُهِل أكثرُنا عن أنه يُودِّع شطراً من دهره، وقد يكون من بعضنا أطيب شطريْعمره، فإذا التفت إلى خلفه، رأى خيال نشأته وشبابه، وتمثَّلت له أوقات لذته ومجالس أترابه، والصفحة التي ارتسم عليها تأريخ ميلاده، ودُوِّن فيها تذكار أبهج أعياده، فحنَّ إلى أيامه السوابق حنين المحب المفارق، وقد حيل بينه وبينها، وطُويت عليها صفحة الفناء، وخُتِم عليها بطابع الأبد، فهي هناك إلى يوم اللقاء.
نحن اليوم بين فصلين من مُصحف تأريخ الدهور، وقد قرأنا الأول حرفاً حرفاً، واستقريْنا ما فيه من السطور، والثاني مطويٌّ عنّا، نشتغل بهجاء الحرف الأول من عنوانه، ولا ندري ما خطّ فيه قلم الغيب، من غرائب حدثانه، فندع التكهُّن عليه لخرّاصي السياسة، وأصحاب الجفر والكواكب، ونعود إلى تصفُّح ما مر بنا من صحف القرن الذّاهب، وما سُطِّر فيها من البدائع والغرائب؛ فلا جرْم أنه كان من أعظم القرون آثاراً، وأجلَّها شأناً وأسرفها تذكاراً. بل القرن الذي لم يمر بالأرض مثله، من يوم تحرَّكت على محورها فنشأ الليل والنهار، ومنذ دارت حول الشمس فتتابعت السنون والأعصار، فهو على الحقيقة بكرُ الزمن، وإن كان آخر ما مرَّ بنا من أعقابه، ومُجدِّد شباب الدهر بعد الهرم. لا بل هو عين شبابه، ففيه أخذت الدنيا كمال زخارفها، وبرزت الحضارة في أبهى مطارفها، وانتشر العلم في الأرض انتشار نور النهار، فانبسطت أشعته على كلِّ قصيٍّ من الأقطار، وتجلّى به كل مكنون من الحقائق والآثارـ وأصبح الإنسانُ خِدْنَ الطبيعة، وقد حسرت له من نِقابها، وألقت إليهِ مقاليدَ جوِّها وتُرابِها، بل استسْلمت إليه بجملتها حتى كان من أربابها، فبرز في حدٍّ جديد غير ما عرّفه به حكماء الدهر السابق. وأدرك بسطةً من العرفان، يضيقُ بها نطاق تعريفه بالحيوان الناطق، فهو اليوم الحيوان المكتشف المخترع، المتفنن المبتدع، الطيّار على مناكب الهواء، الماشي على صفحات الماء، الذي زوى أطراف الأرض فهي بين يديْه قيْد ميلٍ أو شبْر، وطوى مسافاتها حتى كأنما يُسافر فيها على أجنحة الفكر، وقبض على عنان البرق فجعله رسول خواطره، يُسيِّره في البلاد، وساح بين الكواكب فأدرك حركاتها وطبائعها وقاسَ ما بيْنَها من الأبْعاد، وخلق لنفسه حواسَّ لم تكنْ مما عهده أسلافه من قبل، فأبصر من الخفايا ما لا تُذكر في جنبه مدارج النمل، وسمع من الأصوات ما لا يُقاس بخفائه صوتُ الكُحل، بل خرق الحجب ببصره فتخلّل ما بين دقائق الأجسام، واستبطن الضلوع والأحشاء، وسافر بين الجلود والعظام، بل تسلّل إلى باطن الدماغ، فاسترق السمع على ما يتناجى هناك من الخواطر والأوهام.
هذا هو إنسان القرن التاسع عشر، وما ذكرنا من صفته إلا مبلغ ما يتناوله الرمز ويسعه الإيماء، ولو شئنا الإفاضة في أيسر تلك المعاني، لكان غاية ما ننتهي إليه العجز والإعياء، فما عسى أن نعدد من تلك العجائب الباهرات، مما لو وُجِد أقله في الزمن الغابر لاعتقد ضرباً من السحر، أو انتُحلت به الكرامات والمعجزات. وحسبك من يُلقِّن الجماد فينطق لا كما نطق الببغاء، ومن يُسمعك كلام الغابرين فتعرفُه بنغمته وقائلُهُ في قبضة الفناء، ومن يُريك الهواء ماءً سائلاً، ثم يُريكه جمداً معقوداً، ومن يُسخِّر السحاب فيمطر في معمعان القيظ ماءاً بروداً، ويصرفه متى شاء فيبدِّد ما فيه من الصواعق تبديداً، إلى غير ذلك مما يطول الكلامُ في استقصائه، ويضيق هذا المقامُ عن إحصائه.
وهنا قد يعرض للمتأمل أن ينظر، أين كان موضع كل أمة من القرن التاسع عشر، وما الذي اكتسب الشرقيُّ فيه من المآثر، وما خلّف فيه من الأثر. فلا جرْمَ أن أهل القرن الواحد، وإن شاع بينهم فتنازعوا أيّامَه على السواء، وكانت عناصر الحياة مقتسَمة بينهم على غير أثرة ولا استثناء، فهيهات أن تستوي نسبةُ كل منهم إليه، فيقفوا فيه مواقف الأكفاء. وإنما الذي يتساوون فيه شمسُه وهواؤه، وتربته وماؤه، وبقي وراء ذلك فضل المدارك والهمم، والأعمال التي تتفاوت بها طبقات الأمم، وتتفاضل باعتبارها الأقدار والقيم. فإذا كان القرن التاسع عشر هو الذي نشأت فيه تلك العظائم، وأقام للحضارة هذا البناء الرفيع الدعائم؛ فهو من القرون التي ليس فيها للشرق ذكر يؤثر، ولا أثر يُذكر، ولا خرج الشرقي منه إلا بما احتُقب من ظلمات العصور الغوابر، وازداد عليه ما لحقه هذا العصر من الذل والمفاقر. فلا اختطّ لنفسه سبيلاً يبلغ به إلى مواطن الفلاح، ولا أقام له عزا يعصمه من تطاول الطامع والمجتاح، فضلاً عن أن يُنشئ لنفسه فخراً يُدوَّن في صحيفة الأحقاب، أو أثراً يرفع من بصر الذراري والأعقاب. ولكنَّ عصر الشرقي، إن نشط للجري في سبيل الأمم الراقية، والحصول على المجد الصّاعد والمفاخر الباقية.
هذا هو القرنُ الذي ابتدأناه عن أمم، إذا جعل رائده إلى ذلك صادق الهمم، ولم يتّكل في بلوغه على الأقدار والقسم. والله المسؤول أن يهدي خطواتنا إلى أقوم سبيل، بفضله تعالى وتسديده، إنه بالنجاح كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
...............................
* من كتاب "المنتخب من أدب المقالة" للدكتورين كمال اليازجي، وإميل المعلوف، دار العلم للملايين، د.ت. ، ص ص55-58.







 
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
غيمة خضراء @ الزهراء عبد ربه محمد اسليم منتـدى الشعـر المنثور 0 29-09-2007 06:48 PM
أوراق مبعثرة..... ريمه الخاني منتدى القصة القصيرة 3 10-05-2007 03:42 PM
الجزء الثاني / ورقات على هامش مؤلف" أوراق " عبدالله العروي محمد المهدي السقال منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي 0 21-04-2007 12:54 AM
ورقات على هامش مؤلف" أوراق " عبدالله العروي محمد المهدي السقال منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي 0 18-04-2007 04:27 PM
أوراق تشكيلية وحكايتي مع اللوحة ؟؟ ومحمد بدر حمدان ؟؟واللوحة القصيدة ؟ عبود سلمان منتدى الفنون والتصميم والتصوير الفوتوجرافي 1 30-09-2006 05:47 AM

الساعة الآن 09:24 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط