|
|
منتدى الحوار الفكري العام الثقافة ديوان الأقلاميين..فلنتحاور هنا حول المعرفة..ولنفد المنتدى بكل ما هو جديد ومنوع. |
مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان) |
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
15-02-2024, 01:23 AM | رقم المشاركة : 13 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
اللهم امين وجعل النصر والثبات لهم آية
بارك الله فيك
|
|||||
15-02-2024, 03:00 PM | رقم المشاركة : 14 | |||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
نصرهم اللهم وثبتهم و نصرهم و رزقهم بجند من عنده |
|||
15-02-2024, 09:45 PM | رقم المشاركة : 15 | ||||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
|
||||||
16-02-2024, 10:49 AM | رقم المشاركة : 16 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
اللهم آمين
وبارك الله فيكم أخي العزيز
|
|||||
16-02-2024, 10:51 AM | رقم المشاركة : 17 | ||||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
|
||||||
16-02-2024, 10:56 AM | رقم المشاركة : 18 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
|
|||||
16-02-2024, 11:11 AM | رقم المشاركة : 19 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
|
|||||
16-02-2024, 11:14 AM | رقم المشاركة : 20 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
أما النقطة الثانية القدرية التي وقعت بأوربا وكان دافعا كبيرا للتفكير في المشروع الصهيوني فهي ما أسماه المؤرخون (المسألة اليهودية) في أوربا، وهذه المشكلة هي التي حرثت الأرض لوضع بذرة المشروع في أرض فلسطين تحديدا. وخير من نفهم منه (المسألة اليهودية) هو المفكر الراحل الدكتور (عبد الوهاب المسيري) صاحب أشهر موسوعات دراسة اليهودية والصهيونية والرجل الذي دخل في عمق الفلسفة السياسية للغرب تجاه اليهود. فيقول –رحمه الله – عن بداية تفجر المشكلة أو المسألة اليهودية: (بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية وتداعي نظام التجارة العالمي الذي أنشأته، انقسم العالم إلى قسمين: العالم الإسلامي والعالم المسيحي، وقد تسبَّب هذا في صعوبة التبادل التجاري بين القسمين بسبب اختلاف الشرائع، لذا أصبح اليهود حلقة الوصل الوحيدة بينهما، وساعد هذا في اختفاء الأقليات التجارية الأخرى كالفينيقيين وغيرهم. ويبدو أن عادة المجتمعات الزراعية أن توكل مهنة التاجر إلى أقلية تقف على حواف المجتمع وليس في داخله "ومن هنا المقولة الماركسية الشهيرة: إن اليهود يعيشون في مسام المجتمع الإقطاعي وبذلك كانت الجاليات اليهودية تشكل جسماً غريباً يعيش على حواف المجتمع، يؤمنون بديانة معادية للديانة الرسمية، ويرتدون أزياءهم الخاصة بهم ويتسمَّون بأسماء يهودية ويتحدثون برطانات غريبة غير لغة أهل البلد "كاليديشية مثلاً" ويعملون في وظائف هامشية في المجتمع الإقطاعي كالتجارة والربا، وأخذت عُزلتهم تتزايد حتى تبلورت داخل (الجيتو)، وهو اسم يُطلق على الحي اليهودي في المدينة الأوروبية في العصور الوسطى.) وفي تلك المرحلة لم يكن اليهود يعيشون حالة الاضطهاد أو التربص داخل أوربا نظرا لاندماجهم داخل النظام الإقطاعي وقيامهم بأداء دور وظيفي هام فيه. هذا عن وضع اليهود داخل أوربا المسيحية. وهناك ملحوظة هامة جدا يجب على القارئ أن يضعها بذهنه دوما، وهي أن اليهود عاشوا طيلة ألف ومائتي عام آمنين مطمئنين في رحاب الحكم الإسلامي وحده، سواء يهود الشرق في الأرض العربية أو يهود أوربا نفسها بعد قيام الحكم الأندلسي والعثماني فيها. وإن كان استقرار يهود الشرق في البلاد العربية أمرا عاديا نظرا لأنهم كانوا يتعاملون بمعاملة (أهل الكتاب) منذ زمن طويل ولم يكن هناك مساحة لحدوث أزمة من وجودهم. إلا أن المفارقة تكمن في أن استقرار اليهود داخل أوربا دون اضطهاد لم يكن أمرا طبيعيا أو مرهونا بالدوام. بل له سببان هامان: الأول: هو استفادة النظام الإقطاعي الأوربي من اليهود كَمُرابين ومعاونين في استقرار النظام التجاري والتبادل مع العالم الإسلامي، أي أن اليهود كانوا يقومون بدور البنوك في عالمنا المعاصر. الثاني: أن هناك كتلة كبيرة من اليهود كانت تعيش باستقرار واطمئنان داخل الخلافة العثمانية، وداخل الخلافة الأندلسية، وهي جالية كبيرة وضخمة للدرجة التي انفجرت فيها أزمة الاضطهاد الأوربي لليهود عقب ضعف قبضة الخلافة العثمانية وانهيار الحكم الأندلسي في القرن الخامس عشر ليتم اضطهاد وتهجير المسلمين واليهود معا من الأندلس. أي أن الأزمة اليهودية أو المسألة اليهودية بدأت مع النزوح الجماعي الذي تسبب فيه انهيار الخلافة الإسلامية في الأندلس من جهة. ومن جهة أخرى انعدمت الحاجة الأوربية لليهود عقب انتهاء وتبدل النظام الإقطاعي في أوربا وبداية عصر الرأسمالية. حيث يُعَرّف الدكتور المسيري الأزمة اليهودية بقوله: (المسألة اليهودية باختصار هي أزمة الوضع الاجتماعي لليهود في المجتمعات الغربية بعد تحولها إلى مجتمعات رأسمالية، ففي زمن الإقطاع كانت الجاليات اليهودية في أوروبا عبارة عن جماعات وظيفية مالية تعيش على حواف المجتمع، وليس لها اتصال إلا بالطبقة الحاكمة التي تتبعها مباشرة وتضطلع لها بوظائف تتطلب الموضوعية والحياد، كالتجارة والمراباة.) ثم يتابع المسيري: (الثورة الرأسمالية كما تركت أثراً عميقاً على طبقة النبلاء المسيحيين، فقاوموها أو هادنوها، وعلى الفلاحين المسيحيين الذين هاجروا إلى المدن ليكوِّنوا البروليتاريا "طبقة العمال"، وعلى الدين المسيحي نفسه في ظهور البروتستانتية والإصلاح الديني، وعبَّرت الثورة الرأسمالية عن نفسها بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية على شكل المسألة اليهودية.) أما كيف أثّر التحول الرأسمالي على وضع اليهود فإن وضع اليهود المستقر داخل المجتمع الإقطاعي الثابت قد اهتز بعد تحول المجتمعات الغربية إلى الرأسمالية في القرن الخامس عشر الميلادي، ما أدى إلى ظهور اتحادات من التجار الدوليين المسيحيين كـ «العصبة الهانسية» شمال ألمانيا، و«اتحاد لندن» في إنجلترا، والأساطيل التجارية القوية التابعة لجنوة والبندقية، وهو ما أضعف قبضة اليهود على التجارة الدولية واضطرهم إلى الاشتغال بالتجارة الداخلية والإقراض بالربا، ولكن حركة التاريخ كانت تأخذ مجراها، فظهرت طبقات التجار المحليين والمصارف المحلية التي أخذت دور التاجر والمُرابي اليهودي، وبهذا تحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية بلا وظيفة، فهذه المرة ليسوا على هامش المجتمع وحسب وإنما صاروا عبئاً حقيقياً عليه لا دور لهم فيه. والسبب الثالث الذي أدى إلى زيادة عبء المسألة اليهودية كان يتمثل في أزمة الفائض السكاني للمجتمع الأوربي. (فمن بين أكبر الأزمات التي خلَّفها تحول المجتمعات الغربية إلى الرأسمالية، مشكلة الانفجار السكاني، وقد كان الحل الأوروبي لهذه المشكلة هو: الاستعمار. فتم نقل الفائض البشري الأوروبي ليستوطن آسيا وأفريقيا والأمريكيتين، ويقيم الجيوب الاستعمارية هناك، وكانت الجزائر وجنوب أفريقيا أبرز شاهدتين على الاستعمار الاستيطاني الأوروبي. وعلى نفس المنوال قامت كل من فرنسا وبريطانيا بطرد الجاليات اليهودية مطلع القرن السابع عشر وبقي منهم عدد قليل اندمجوا مع بقية السكان دون أي تميز حضاري أو مهني، وكانت الجاليات اليهودية المطرودة تُهاجر شرقاً نحو المجتمعات التي لا يزال النظام الإقطاعي فيها ثابتاً "بولندا مثلا" كما ظهرت في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر جماعة «الأليانس»، التي تُطالِب بتهجير اليهود إلى الولايات المتحدة من أجل إنقاذهم) وبالتالي انفجرت مشكلة الوجود اليهودي في أوربا وحاولت الدول الأوربية المختلفة الخلاص منهم عن طريق التهجير للمستعمرات أو المناطق غير المأهولة. والنقطة بالغة الخطورة في هذا الأمر أن مسألة تصدير اليهود لوطن قومي في فلسطين، لم تكن مطروحة عندئذ لا من الأوربيين ولا من اليهود أنفسهم. فلم يهاجر أي منهم إلى فلسطين، لأن «حلم العودة» حسب الدين اليهودي ورغم أنه قديم قدم اليهودية ذاتها -كما يقول المسيري-لا يتم عن طريق الأفراد وإنما عن طريق «الماشيح»، أي المسيح المخلص. وتنص الديانة اليهودية على أن أي يهودي يعود إلى فلسطين بغرض الاستيطان وليس التعبُّد فإنه يرتكب جريمة «الدحيكات هاكتس»، أي التعجيل بالنهاية بدلاً من انتظار إرادة الإله، وهذا ما يُفسر وجود 14 ألف يهودي في فلسطين عام 1914 من جُملة 16 مليون يهودي يعيشون حول العالم رغم تقدم الثورة الصناعية التي ربطت أطراف العالم بعضه ببعض وبالتالي: فإن المشكلة اليهودية تفجرت في أوربا منذ القرن الخامس عشر وتلتها مذابح واضطهاد وتهجير لا نهائي لليهود، ورغم استخدام سياسة التهجير بالفعل إلا أنه لم يوجد يهودي واحد اقترح أو وافق أو فكر في مسألة تحقيق حلم العودة لفلسطين باعتباره جريمة لا تغتفر حسب الديانة اليهودية. وهذه الحقيقة تكشف لنا أمرين مذهلين: أولهما: أن كل ما قيل عن حق اليهود في العودة لفلسطين وأنها وعد الرب لهم لم يكن عليه أدنى دليل لا من التاريخ ولا حتى من التوراة المحرفة. الأمر الثاني: أن اليهود لم تنفجر أزمة اضطهادهم إلا بعد ضياع قبضة الحكم الإسلامي في أوربا حيث كانوا يعيشون في استقرار كاف لهم وأوربا التي تتكاتف للدفاع عن اليهود اليوم، وجعلتهم خلال ثمانين عاما حتى اليوم كائنات غير قابلة للمساس كان تاريخها كله بالنسبة لليهود عبارة عن سلسلة متصلة من المذابح والتنكيل والاضطهاد والاحتقار لليهود. وليس صحيحا أن اضطهاد اليهود كان يأتي من حكومات أوربية دون أخرى، بل الثابت تاريخيا أن ألمانيا الهتلرية كانت تتابع سياسة أوربا التقليدية تجاه اليهود بل ربما كانت أفعال أوربا قبل هتلر أشد شراسة من مبالغات (محارق النازية) وقد قامت الباحثة (إحسان الفقيه) بإحصاء حوادث الاضطهاد لليهود في أوربا في آخر ألف عام فقط فكانت الإحصائية كالتالي: 1080 – الطرد من فرنسا. 1098 – الطرد من جمهورية التشيك. 1113 -الطرد من كيفيان روس (فلاديمير مونوماخ). 1113 – مذبحة اليهود في كييف. 1147 – الطرد من فرنسا. 1171 – الطرد من إيطاليا. 1188 – الطرد من إنجلترا. 1198 – الطرد من إنجلترا. 1290 – الطرد من إنجلترا. 1298 -الطرد من سويسرا (إعدام 100 يهودي شنقًا). 1306 – الطرد من فرنسا (3000 أحرقوا أحياء). 1360 – الطرد من المجر. 1391 -الطرد من إسبانيا (إعدام 30 ألفًا، وحرق 5000 أحياء). 1394 – الطرد من فرنسا. 1407 – الطرد من بولندا. 1492 – الطرد من إسبانيا (قانون يمنع اليهود من دخول البلاد إلى الأبد). 1492 – الطرد من صقلية. 1495 -الطرد من ليتوانيا وكييف. 1496 – الطرد من البرتغال. 1510 – الطرد من إنجلترا. 1516 – الطرد من البرتغال. 1516 -قانون في صقلية يسمح لليهود بالعيش في الأحياء اليهودية فقط. 1541 – الطرد من النمسا. 1555 – الطرد من البرتغال. 1555 – صدور قانون في روما يسمح لليهود بالعيش في الأحياء اليهودية فقط. 1567 – الطرد من إيطاليا. 1570 – الطرد من ألمانيا (برندبورغ). 1580 – الطرد من نوفغورود في روسيا (إيفان الرهيب). 1592 – الطرد من فرنسا. 1616 – الطرد من سويسرا. 1629 – الطرد من إسبانيا والبرتغال (فيليب الرابع). 1634 – الطرد من سويسرا. 1655 – الطرد من سويسرا. 1660 – الطرد من كييف. 1701 – الطرد الكامل من سويسرا (مرسوم فيليب الخامس). 1806 -إنذار نابليون. بادارجا. 1828 – الطرد من كييف. 1933 – الطرد من ألمانيا والإبادة الجماعية يتبع إن شاء الله
|
|||||
24-02-2024, 03:03 AM | رقم المشاركة : 21 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
*الوحي اليهودي (شافتسبري وروتشيلد) بعد هزيمة نابليون ومشروعه ظهر الاهتمام بفكرته حول تهجير الفلسطينيين من شخصيتين كبيرتين من الإنجليز، يعود لهما الدور الأبرز والأضخم في هندسة مشروع التوطين وترشيحه للحكومة البريطانية. الشخصية الأولى هي اللورد (أنتوني شيلي كوبر) المعروف باسم (شافتسبري السابع) المسيحي الإنجيلي، والشخصية الثانية هي البارون (روتشيلد) المليونير اليهودي الأشهر في بريطانيا والذي كان أغنى شخصية يهودية في أوربا وربما في العالم، وهو الشخص الذي امتلك نفوذا ماليا وسياسيا ضخما على الحكومة البريطانية. أما كيف امتلك الصديقان الاهتمام بفكرة نابليون فهذا يعود بالأصل إلى أن أوربا عندما كانت تضيق وتضطهد عوام اليهود الفقراء، لم تكن تفعل ذلك على مستوى الأوربيين المسيحيين وحدهم. بل كان يشاركها الضيق من عوام اليهود كبار مليونيرات اليهود الأوربيين، وهؤلاء بالطبع لم يكن منهم من يتعرض للاضطهاد أو العنصرية لأنهم أصبحوا بفعل ثرواتهم العملاقة واتصالاتهم الكبرى بالحكومات الأوربية مراكز قوى في أوربا يتساوى نفوذهم أو يتعدى أبرز الشخصيات الحاكمة على مستوى القارة. وكان من الطبيعي أن يشعر مليونيرات اليهود بالسأم والضجر من مشاكل فقراء اليهود الذين يبتزون عواطفهم الدينية بهدف رفع الظلم والاحتقار عنهم. ولذلك كان مليونيرات اليهود يقفون صفا واحدا مع السياسة الأوربية الراغبة في الخلاص من اليهود بتصديرهم إلى مكان آخر خارج القارة الأوربية بغض النظر عن المكان سواء كان في المستعمرات أو في فلسطين. فالذي حكم رغبة أغنياء اليهود هنا هو تصدير اليهود خارج منطقة نفوذهم لكيلا يعكروا صفو حياتهم أو يتسببوا بمشكلات سياسية لهم مع الحكومات الأوربية. لذلك تحمس البارون (روتشيلد) لتبني فكرة (نابليون) ورأى أن أهم دولة تستطيع تنفيذ الفكرة بالفعل هي بريطانيا التي تخلصت من كابوس نابليون وأبطلت خططه بالسيطرة على خطوط مواصلاتها في الشرق. ونظرا للصداقة الوطيدة بين (روتشيلد) والسياسي البريطاني الكبير (شافتسبري) فقد صارح صديقه بفكرته ودعاه لأن يتواصل مع صهره رئيس الحكومة البريطانية (بالمرستون) ويعرض عليه الفكرة والمشروع ويدعوه لتنفيذه بالتعاون والتمويل من مؤسسات اليهود المالية الكبيرة في بريطانيا وأوربا. ووجود شخصية (شافتسبري) في الأحداث هي التي مزجت الفكرة السياسية بالفكرة الدينية وكانت البذرة الأولية لمنهج (الصهيونية). لأن روتشيلد اختار بالفعل الشخصية المناسبة لفتح الموضوع مع رئيس الحكومة البريطانية (بالمرستون), لأن شافتسبري يمت له بقرابة المصاهرة من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن ميول وانتماءات (شافتسبري) كانت خير بداية للمشروع نظرا لأن هذا الأخير مسيحي إنجيلي, والإنجيليون – كما هو معروف- هو أكثر طوائف المسيحية تعاطيا مع المسألة اليهودية, فإلى جانب شعورهم التقليدي ناحية اليهود بالازدراء, إلا أن الإنجيلية البروتستانتية كانت تنظر لليهود على أنهم فئة ضالة من بنى إسرائيل ومن رعايا المسيح, ومن أهم معتقدات الإنجيلين أن جمع اليهود من العالم وإعادتهم إلى أرض فلسطين الموعودة أمر ضروري لأن إعادتهم إلى أرض الأجداد ستكون هي المقدمة التي يتحولون بها من اليهودية إلى المسيحية. وهذه الفكرة بالتحديد – فكرة إعادة اليهود أولا للأرض الموعودة ثم تحويلهم للمسيحية-هي الفكرة الأساسية لمنهج (الصهيونية المسيحية) وبالمقابل فإن (الصهيونية اليهودية) كانت تعتقد بوجوب بعث المسيح أولا لبني إسرائيل وظهوره فيهم وعندئذ فقط يكون من حق اليهود أن يعودوا للأرض المقدسة تحت قيادته. وهكذا نرى أن الصهيونية المسيحية تعاكس اليهودية رغم وحدة الهدف. ولكن مسألة الاختلاف العقائدي الواضح بين الصهيونية المسيحية واليهودية أصبح من قبيل الشعارات الفارغة والهزل، بعد أن تم عرض المشروع على الحكومة البريطانية وتحمست له وتم اتخاذ الخطوات التنفيذية له. عندئذ أصبحت (الصهيونية) مذهب سياسي علماني لا علاقة له بشريعة اليهود أو المسيحيين بل يدين بالولاء المطلق لسياسة المصالح الاقتصادية للدول الكبرى وإن كانت الشعارات الدينية تكسوه من الخارج. تماما مثلما حدث في أوربا قبيل الحملات الصليبية حيث ظلت الكنيسة الغربية تنادي بضرورة إعادة احتلال الشام والقدس، وطرد المسلمين منها، ولم تستجب السلطات الأوربية وتنفذ الحملة تلو الأخرى إلا بغرض الاحتلال السياسي والتوسع الإمبراطوري الذي جعلوا من فلاحي أوربا جنودا ووقودا للحرب من أجل أهدافهم، ورفعوا شعار الصليب على الحملات حتى تتحمس الشعوب فتقبل التجنيد وتقاتل بحماسة لصالح الإرادة الصليبية. الخلاصة. تحمس (شافتسبري) للوحي اليهودي الذي صَبّه صديقه (روتشيلد) في أذنيه وبدأ يناقش هذه المسألة من منطلق معتقده الإنجيلي، ويؤسس لنظرية الإنجيليين في ضرورة عمل الملكيات المسيحية في أوربا على إعادة اليهود إلى الأرض الموعودة وتنصيرهم هناك. (وقد نشر شافتسبري عام 1838 في مجلة "كوارترلي ريفيو " -وهي من أكثر المجلات نفوذاً في ذلك العصر-عرضاً لكتب أحد الرحالة إلى فلسطين. وقد بدأ المقال بالديباجة الدينية المعتادة عن قضية اليهود ثم تناول بعد ذلك تربة فلسطين ومناخها باعتبارها مناسبة لنمو محاصيل تتطلـبها احتيـاجات إنجـلترا مثل القطن والحرير وزيت الزيتون. ويبين شافتسبري أن كل المطلوب لإنجاز هذه العملية هو رأس المال والمهارة، وكلاهما سيأتي من إنجلترا، وخصوصاً بعد تعيين قنصل لإنجلترا في القدس إذ سيؤدى وجوده إلى زيادة أسعار الممتلكات. ثم يقترح عند هذه النقطة توظيف اليهود على أن يكون القنـصل البريطـاني الوسـيط بينهم وبين الباشــا العثمـاني، حتى يصبـحوا مرة أخــرى، مزارعين في يهوذا والجليل. وهذا الاقتراح يحوي بعض عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية مثل شعب عضوي منبوذ نافع ينقل خارج أوربا لتوظيفه لصالحها) وبهذه الأفكار التي استمر (شافتسبري) في كتابتها وتطويرها ووضع الخطة التنظيمية لتحقيقها من الحكومة البريطانية بل والحكومات الأوربية الكبرى، هذه الكتابات نستطيع القول بأنها النص الأساسي الذي انبثق عنه المشروع الصهيوني بعد ذلك. ومن أخطر ما ابتكرته قريحة شافتسبري هي شرحه للفائدة السياسية والاقتصادية التي ستعم أوربا من تنفيذ المشروع، هذا الشرح الذي قدمه (شافتسبري) في مذكرة خاصة لرئيس الوزراء البريطاني (بالمرستون) في ديسمبر 1840م لاسترجاع اليهود وحل المسألة الشرقية وتطوير المنطقة الممتدة من جهة الرافدين حتى البحر الأبيض المتوسط -وهي البلاد التي وعد الإله بها (إبراهيم) حسب أحد تفسيرات الرؤية التوراتية ويؤكد شافتسبري في مقدمة المذكرة أن المنطقة التي أشار إليها آخذة في التصحر والبوار بسبب التناقص في الأيدي العاملة، ولذا فهي تتطلب رأس مال وعمالة. ولكن رأس المال لن يأتي إلا بعد توفير الأمن. ولهذا، فلابد أولاً من اتخاذ هذه الخطوة، ثم يشير بعد ذلك إلى أن حب اختزان المال والجشع والبخل ستتكفل بالباقي، فهي من أهم دوافع الإنسان "الوظيفي"، ولذا فهي ستدفع به إلى أية بقعة يمكن أن يحقق فيها أرباحاً ومثل هذه الضمانات ستشجع كل محب للمال عنـده الحمـاس التجـاري، أي أعضاء الجماعات الوظيف كل هذه المقدمات العامة تقود شافتسبري إلى الحديث عن «العنصر العبري» أو الشعب العضوي المنبوذ -باعتباره جماعة وظيفية استيطانية -ثم يقترح أن القوة الحاكمة في الأقاليم السورية -دون تحديد هذه القوة -لابد أن تحاول وَضْع أساس الحضارة الغربية في فلسطين وأن تؤكد المساواة بين اليهود وغير اليهود فيها. وتحصل هذه القوة على ضمانات الدول العظمى الأربع عن طريق معاهدة ينص أحد بنودها على ذلك، وسوف يشجع هذا الوضع الشعب اليهودي العضوي المعروف بعاطفته العميقة نحو فلسطين حيث يحمل أعضاؤه ذكريات قديمة في قلوبهم نحوها. وهذا الشعب اليهودي العضوي جنس معروف بمهاراته وثروته المختبئة ومثابرته الفائقة. وأعضاء هذا الجنس يمكنهم أن يعيشوا في غبطة وسعادة على أقل شيء، ذلك أنهم ألفوا العذاب عبر العصور الطويلة. وحيث إنهم لا يكترثون بالأمور السياسية، فإن آمالهم تقتصر على التمتع بالأموال التي يمكنهم مراكمتها... إن عصوراً طويلة من العذاب قد غرست في هذا الشعب عادتيْ التحمل وإنكار الذات ورغم أن هذه المذكرة قد كُتبت قبل عشرين عاماً من ميلاد هرتزل، فإن كل ملامح المشروع الصهيوني موجودة فيها، وخصوصاً فكرة توظيف وضع اليهود الشاذ داخل المجتمعات الغربية لخدمة هذه المجتمعات، وذلك عن طريق نَقْلهم ليصبحوا كتلة عضوية واحدة لا تخدم دولة غربية واحدة وإنما الغرب بأسره) وعقلية (شافتسبري) في صياغة هذا المشروع لا تقل براعة أو عبقرية عن عقلية (نابليون) صاحب الفكرة الأصلية. السبب في هذا أن (شافتسبري) باعتباره واحدا من ألمع الساسة البريطانيين وأكثرهم خبرة، كان يدرك تماما أن حماسة الحكومة البريطانية للمشروع لن تتحقق بمقدار خردلة إذا اقتصرت فكرة التوطين على المزاعم الدينية الإنجيلية وحدها. كما أنها لن تتحقق لمجرد رغبة أباطرة اليهود في طرد الفقراء منهم لخارج أوربا، لذلك بنى شافتسبري مشروعه على أن يكون المشروع نفسه يحمل فوائد لا حصر لها للحكومة البريطانية وللحكومات الأوربية الحليفة. ولذلك جعل أفكاره حول المشروع تحمل نفس إرهاصات فكرة نابليون حول الفوائد السياسية التي سيجنيها البريطانيون من اصطناع وطن كامل لليهود يكون تحت رعايتهم ويعمل لصالحهم في أخطر منطقة تهم البريطانيين وهي منطقة الشرق الأوسط. باختصار. وضع شافتسبري اللبنة الأولى لفكرة (الصهيونية) وهي أن تقوم أوربا بالتعامل مع اليهود كما يتم التعامل مع المخلفات، حيث يتم إعادة تدويرهم واستخدامهم للفائدة الاقتصادية مرة أخرى بدلا من الخلاص منهم بلا ثمن أو استبقائهم في أوربا مع استمرار مشاكلهم فيها. ويشرح (شافتسبري) في مذكراته كيف أغرى صهره (بالمرستون) رئيس الوزراء البريطاني بالمشروع حيث أنه عندما ذهب للقائه وأخذ يبالغ ويشرح مدى معاناة اليهود وحاجتهم إلى التوطين في أرض الميعاد، لم يكترث بالمرستون لكلامه وعواطفه حتى أنه كان يستمع إليه وهو يمسك بكأس من خَمْرِه المفضل. ويكمل شافتسبري بأنه عندما قام بتناول الموضوع من جهة المصالح البريطانية الأكيدة الكامنة وراء هذا المشروع عندها فقط انتبه له بالمرستون وترك كأس الخمر وأخذ يستمع إليه. فهذه المناقشة التي دارت بين شافتسبري وبالمرستون جاءت في وقت حساس عقب نجاح بريطانيا وحلفائها في تحييد محمد علي وإبعاد خطره عن الشام. وعندما جاء شافتسبري بمشروع توطين اليهود كعازل ضامن بين مصر والشام يمنع اتحادهما، هنا وجد بالمرستون أنها الفكرة العبقرية التي يبحث عنها كي يتمكن من كف خطر محمد علي نهائيا عن الشام. وقد تأكدت وجهة نظر بالمرستون عندما تلقى من (روتشيلد) خطابا يشرح له فيه أن محمد علي ترك فراغا في الشام لم يستطع الحلفاء الأوربيون أن يملئوه. وأن الضمان الوحيد للمصالح البريطانية يكمن في خطوتين تكمل إحداهما الأخرى. الأولى: وهي طرد محمد علي من الشام وحجزه خلف صحراء سيناء واعتبار سيناء سدادة فلين أمام تقدم محمد علي، وهذا ما تحقق بالفعل الثاني: ضمان مستقبلي نهائي بعدم تكرار تجربة محمد علي مرة أخرى عن طريق إنشاء شبكة عملاقة من المشروعات الاستيطانية التي تستقبل مهاجري اليهود من كافة أنحاء العالم وتمنحهم فرصة العيش الرغد في المزارع والمستوطنات بالرعاية الأوربية مما يمثل حاجزا طبيعيا أمام أي حاكم مصري أو شامي يفكر في إعادة اتصال الزاوية المصرية الشامية. ولم يضع بالمرستون وقتا كعادة مسئولي بريطانيا في سياستهم الجديدة. فقد وضع الفكرة قيد البحث ودراسة الخطوات التنفيذية والبدء في دراسة العوائق التي تقف أمام المشروع وتذليلها. وبدون تضييع الوقت، وقبل أن تمر عدة أشهر على كبح جماح محمد علي عام 1840م، بادر بالمرستون إلى إرسال توجيهاته إلى سفيره في إسطنبول، كي يبدأ الاتصالات مع السلطان العثماني الذي عاد للشام وَضَمِن عرشه على رماح التحالف البريطاني. فكان من الطبيعي أن ينتظر السلطان وحاشيته الثمن المرتقب الذي ستطالب به دول التحالف وعلى رأسهم بريطانيا. وظهر الطلب في البرقية التي أرسلها بالمرستون لسفيره اللورد (بونسونبي)، وكان محتوى البرقية أن يتكلم السفير مع السلطان عن مأساة الشعب اليهودي وأن هذا الشعب المشرد يجب أن يعود إلى أرضه التاريخية تحت رعاية السلطان. ثم يُلْفت بالمرستون نظر سفيره إلى أن السلطان إذا لم يتقبل هذه الحجة أو المزاعم العاطفية فعليه أن يخاطبه بمقتضيات المصلحة العثمانية في فتح باب الهجرة لليهود حيث أن كثيرا من اليهود لديهم ثروات ضخمة مما سيعني هذا انعكاسا اقتصاديا كبيرا إذا استثمروا هذه الأموال على أرض فلسطين التابعة للخلافة. ثم تابع بالمرستون خطاباته لسفيره عند السلطان بضرورة مخاطبة حاشية السلطات بالرغبة البريطانية وأنها مطلب أوربي عام ستتلقاه أوربا بكثير من الامتنان! ثم كانت أخطر البرقيات التي أرسلها بالمرستون لسفيره كي يواصل الضغط على السلطان كي يعلن عن سماحه بالهجرة اليهودية لفلسطين. حيث طلب بالمرستون من سفيره أن يبلغ السلطان أن بريطانيا لا تريد أن تتكفل الخلافة أية تكاليف في سبيل فتح الفرص أمام العودة اليهودية، ولا حتى في سبيل الدفاع عن اليهود المهاجرين، وأن بريطانيا توافق على أن تكون دعوة السلطان لليهود بالعودة لفلسطين ستكون تحت حماية السلطات الإنجليزية وأن اليهود المهاجرين ستتم مخاطبتهم رسميا في نقل شكاواهم المتوقعة عن طريق الإنجليز. ولم يكتف البريطانيون بالتمهيد السياسي. حيث ظهرت فائدة التفوق البريطاني في الاستراتيجية التي وقفت خلفها التغييرات الإيجابية في الحكم والتي سبق شرحها. حيث قادت بريطانيا ما يشبه حملة علاقات عامة ضخمة للترويج لعودة اليهود لأرض الأجداد كما تزعم أساطيرهم، واستخدمت بريطانيا شعراء أوربا وأدبائها وفلاسفتها لخدمة المشروع ومنهم الشاعر الأوربي (بايرون) الذي أصدر ديوانا كاملا بعنوان (الأغاني العبرية) يحكي فيه بالشعر الحماسي والتراجيديا مأساة اليهود وهم مشردون من آلاف السنين بينما أرضهم يرثها غيرهم! وبالتالي جرت خطوات المشروع على كافة المستويات وفقا للخطة البريطانية، وبدأ الإعداد الفعلي لرسم خطة إنشاء المستعمرات الاستيطانية داخل فلسطين بالتمويل اليهودي من أغنياء أوربا مع ضرورة ملاحظة هامة. أن اللورد شافتسبري وكذلك روتشيلد وبالمرستون، كانوا يتابعون المشروع بخطوات تنفيذية لكن دون الإفصاح مطلقا عن النوايا البريطانية في تأسيس كيان ودولة يهودية مستقلة في فلسطين، تنتمي وظيفيا إلى الغرب وتنافي تماما محيطها العربي والإسلامي. بمعنى أنهم طالبوا السلطان العثماني فقط بمنح اليهود حق الهجرة إلى فلسطين كرعايا في خدمة السلطان وضمن ولاية الشام كلها، دون الحديث عن النزعة الانفصالية للمشروع وهي السر الكبير الذي رأى بالمرستون وروتشيلد ضرورة الحفاظ عليه لكيلا تنقلب الدنيا فوق رءوسهم قبل أن يتم تغيير البيئة الديمغرافية والتوزيع السكاني في القدس. لأن السلطان وباقي بلاد المسلمين في الشرق لو خطر ببالهم أن النية تكمن في جلب أكبر عدد من اليهود لفلسطين بحيث يكون للعدد قوة كافية تمنحه الاستقلال عن الخلافة وعن الأرض العربية المتوحدة فإن المشروع لن يُكْتب له النجاح وهذا ما نتأكد منه بمطالعة رد فعل (شافتسبري) على ما نشرته جريدة (التايمز) البريطانية عن خطوات إعادة اليهود لأرض لفلسطين. حيث خشي شافتسبري أن ينتبه السلطان وغيره لمعنى كلمات رئيس الوزراء بالمرستون الواردة في الخبر الصحفي والتي تتحدث عن هجرة اليهود باعتبارها (عودة) و(استدعاء) لأرضهم التاريخية وهو ما يُعْتبر كشفا للنوايا في وقت مبكر للمشروع قبل أن تقوم قائمته. لذلك كان شافتسبري يرى أنه من الأسلم استخدام كلمة (السماح بهجرة اليهود) كي يظل الأمر في إطار كونه طلبا واستعطافا من السلطان لا مطالبة بحق واستعادة إرث مغصوب. باختصار. أخفى البريطانيون تماما الهدف الأصلي للمشروع وهو إنشاء دولة متكاملة العناصر ومعترف بها لليهود في فلسطين وخارجة عن إرادة الخلافة العثمانية وغير تابعة للسلطنة. وهو الغرض النهائي للمشروع الذي لم يكن يخطر ببال أحد حينها لكونه غير متوقع في ذلك الزمن حيث كانت الشام كلها ولاية واحدة تابعة للسلطان ومحاطة من كافة جهاتها بالبلاد العربية الخاضعة للولاية العثمانية. كذلك لم يكن هذا العهد يعرف تأسيس الدول بمنطق (الشظايا الجغرافية) أو الدول الوظيفية كما يُسَميها المفكر الكويتي (عبد الله النفيسي)، بمعنى الكيانات الصغرى التي كونتها بريطانيا وورثتها الولايات المتحدة وكل ما تقوم به تلك الكيانات هي تأمين احتياجات الدول المركزية وفي المقابل تملك الأسر الحاكمة فيها حماية القوى العظمى للدولة وللنظام. وبالتالي كان الهدف الرئيسي لبريطانيا لا زال مخفيا، لأن سياسة تقطيع الأوصال وتأسيس الدول التابعة نفذتها بريطانيا بعد هذا العهد بزمن طويل عندما مَزّقت أوصال مستعمراتها لنظم لها شكل ووصف الدولة لكنها في الحقيقة مجرد تقسيم إداري يفتقد المقومات الرئيسية للقيام كوطن مستقل، سواء من العمق التاريخي أو البعد الجغرافي أو عدد السكان والقوة العسكرية التي تسمح له بحماية نفسه. وهو ما نفذوه في تقسيم الجزيرة العربية لعدة دويلات عقب انتهاء الخلافة العثمانية، ثم اقتطاع ضفة نهر الأردن وتأسيس إمارة وظيفية فيها باسم (إمارة شرق الأردن) والتي وضعوا عليها (عبد الله بن الحسين) أميرا بعد طرد (الشريف حسين) والده من حكم مكة والحجاز عقب قيام الدولة السعودية الثالثة، وإمارة شرق الأردن هي التي طوروها فيما بعد لتصبح مملكة باسم الأردن، ثم اقتطاع منطقة (الكوت) على الخليج العربي وتأسيسها كدولة باسم (الكويت)، وأيضا اقتطاع (ساحل عمان) من التبعية لعمان، وتأسيسه كدولة باسم (الإمارات) وبالمثل قطعوا أوصال الشام لأربع تقسيمات بالتعاون مع فرنسا، ثم فصلوا مصر عن السودان، وأشعلوا أزمة حدودية بين المغرب والجزائر في قضية الصحراء وهذا التقطيع الذي تم بشراكة بريطانية فرنسية كان بمثابة خطة لا تقل خطورة عن خطة توطين اليهود في فلسطين من حيث تدمير قدرة الدول العربية على التوحد ككيان واحد تحت أي مسمى! لذلك كان التصور العثماني فيما يبدو قاصرا على أن هدف بريطانيا من توطين اليهود هو تجميعهم من كل مكان في العالم ووضعهم في فلسطين التاريخية بحيث يصبحون ضمن النسيج الشعبي التابع للخلافة. وإن كان هذا التصور نفسه لا يمحو الجريمة العثمانية في الخضوع والضعف تجاه موافقتها على بدء المشروع إلا أن الحقيقة التي يجب تقريرها أنه لم يكن هناك من يتوقع أن تكون الخطة البريطانية طموحة لهذه الدرجة، وممتدة إلى هذا المدى، حيث وضع البريطانيون الخطة للسعي الحثيث البطيء حتى تم لهم الأمر بعد قرن كامل من الزمان. ومن عجائب القدر حقيقة أن أعداء العرب التاريخيون مثل اليهود والفُرس وأوربا جميعهم تميزوا عنهم بهذه الصفة وهي الصبر المطلق الذي لا يملون منه في سبيل الوصول إلى أهدافهم، بينما نجحوا في أن يستغلوا الطبيعة العربية سريعة الملل في أن يدفعوهم دوما لليأس السريع والتنازل. وقد اكتشف الغرب فينا هذه الصفة كما اكتشفها الإسرائيليون مبكرا، حين كتب رئيس أحد أجهزة الأمن الإسرائيلية (يوحشفات هركابي) كتابه (العقل العربي) وحَفّز القيادات الإسرائيلية على استغلال صفة سرعة الملل عند العرب لأنها كفيلة بتحطيم أعصابهم واستسلامهم للمفاوض الإسرائيلي في النهاية وهذا بعينه هو ما حذرنا منه النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان يتعوذ من (جَلَد الفاجر) و(عجز الثقة)، لأن جَلَد الفاجر معناه قدرة أهل الباطل والكفر على الصبر والدأب في سبيل تحقيق أهدافهم الشيطانية، بينما عجز الثقة هو عجز أهل الحق عن تقليدهم في الصبر رغم أن أهل الإيمان هم أولى الناس بالصبر والجلد وهذه السياسة التمهيدية الصبورة والمخادعة، هي التي حكمت أوربا منذ ذلك الحين وحتى اليوم في تعاملها مع القضايا العربية. وبنفس الأسلوب وصلوا لسائر أهدافهم عن طريق الصبر والتأني الشديد في تسيير خططهم مع استخدامهم لألفاظ مخففة لوصف الأمور الجسام, مثل استخدام لفظ (الصداقة) للتورية على لفظ (العمالة), ولفظ (التحالف) لوصف الحماية العسكرية للدول الوظيفية في المنطقة, واستخدام لفظ (حقوق المضطهدين) للتورية عن الغرض الأصلي بتثبيت أركان الكيان اليهودي, واستخدامهم لفظ (عملية السلام) للدلالة على تفريغ القضية الفلسطينية من داخلها عن طريق تحفيز المقاومة الفلسطينية على ترك السلاح والاكتفاء بالمفاوضات المستمرة التي لا تنتهي وإغراق الشعب الفلسطيني في الوعود تلو الوعود حتى يصبح اليأس حاكما لكل مقاومة. ومن الغرائب حقيقة أن الحكومات العربية بعد استقلالها الظاهري من فترة الاحتلال الأوربي خلال القرن العشرين مارست تلك السياسة بدأب مع شعوبها. فظلت الحكومات تلو الحكومات تبشر الشعوب بالنصر في وسط الهزائم المتوالية وتبشر المواطنين بالرخاء والتقدم في ظل الانهيار الاقتصادي المتسارع، وليس أدل من ذلك أن الشعوب العربية تنتظر وعود الرخاء منذ الخمسينيات ورغم هذا لم يأت بعد.
|
|||||
24-02-2024, 03:11 AM | رقم المشاركة : 22 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
الخلاصة. بعد التمهيد البريطاني الكبير وَصُنع البيئة المناسبة لتفعيل المشروع بدأ التنفيذ الفعلي بتجنيد حاخامات القدس لكي يقوموا بدورهم أيضا، وعلى الفور بدأ الحاخامات بشرح الموضوع لليهود في الشام، وقام حاخام القدس الأكبر بإرسال رسالة إلى الملكة (فيكتوريا) ملكة إنجلترا ومعها حجاب واقي من الشرور كهدية تقدير ودعاء من يهود العالم عام 1849م، وقام روتشيلد بتسليم الحجاب والرسالة للملكة وإعلان مطالبهم التي تمثلت في الآتي: • إعلان قبول يهود العالم للحماية البريطانية • التوجه برجاء للحكومة الإنجليزية أن تسهل لليهود استعمار فلسطين. وفجأة وقعت واقعة قدرية أخرى دفعت الحوادث دفعا لزيادة حماسة بريطانيا وأوربا للمشروع الصهيوني عندما قامت الحرب في شبه جزيرة (القرم) -وكما يقول هيكل – إن الحرب كانت تعبيرا عن دفع الحوادث دفعا بعد أن أدت معارك القرم إلى تدفق هجرات يهود البلقان إلى أوربا الغربية طالبين يد العون من أبناء ديانتهم هناك. ثم يضيف هيكل: "كانت الحوادث أيضا هي التي دفعت إلى القمة في بريطانيا بجيل جديد من الساسة الإنجليز لم يكونوا أقل حماسة من أسلافهم، حيث تناوب على رياسة الوزارة البريطانية في إنجلترا اثنان من الساسة هما (جلادستون) البروتستانتي و(دزرائيلي) أول وآخر يهودي يتولى رياسة الحكومة البريطانية باختصار يشرح لنا مفكرنا الكبير هيكل أن الحوادث القدرية التي وقفت خلف إحياء المشروع الصهيوني في بدايته من حيث تفجر المشكلة اليهودية في أوربا، تكررت أيضا بشكل أكثر تأثيرا عندما تفجرت حرب القرم التي زادت من فداحة الهجرة اليهودية داخل أوربا الغربية. ثم كانت الحادثة القدرية الأشد في أن الساسة البريطانيين الذين خططوا للمشروع الصهيوني وهم (شافتسبري) بمعتقداته الإنجيلية التي تؤمن بضرورة دفع اليهود للتوطن بفلسطين، و(بالمرستون) رئيس الوزراء الطموح الهادف لتحقيق أحلام بريطانيا في الشرق. هؤلاء الساسة تركوا مقاعدهم في مراكز اتخاذ القرار البريطاني ليأتي في أماكنهم من هم أشد حماسة للمشروع الصهيوني من سابقيهم. وهما (جلادستون) الذي كان إنجيليا مثل (شافتسبري)، و(دزرائيلي) الذي كان يهوديا أصلا." أما الواقعة التي أراها من وجهة نظري أشد من كل الحوادث السابقة لها، وكان لها الدور الأعظم في بدء توطين وإنشاء المستعمرات اليهودية فعلا في فلسطين. فهي واقعة موت الخديو (سعيد) والي مصر، ليتولى بعده الخديو (إسماعيل) عرش مصر كأول أحفاد (محمد علي باشا)، حيث أن إسماعيل هو ابن (إبراهيم) باشا ابن محمد علي. فلم يحدث في تاريخ مصر المعاصر أن قامت في مصر دولة عظمى مثل (دولة محمد علي) امتلكت في سنوات قليلة نهضة علمية وعسكرية هائلة، وتمكنت من الوصول بحدودها إلى منابع النيل. ورغم ذلك تنهار الدولة على يد والٍ مثل إسماعيل فيما لا يزيد عن عشر سنوات. والواقع أن القدر فعلا هو الذي حكم بمثل هذه النهاية العجيبة، لأن محمد علي رغم أنه تلقى الهزيمة من التحالف الأوربي الكاسح ضده إلا أنها لم تكن هزيمة بالمعنى الكامل وإنما هي أقرب للتعادل حيث استقل محمد علي بمصر فعليا، واستكمل فتوحاته في العمق الإفريقي وبقي جيشه قوة عسكرية لها حساب يدعمها أسطول قوي. كما امتلكت مصر خليفة له يماثله قوة هو ابنه وولي عهده وقائد جيشه (إبراهيم باشا) الذي لم يكن يقل أبدا عن أبيه في خبرته العسكرية والسياسية وإدراكه لتغيرات السياسة الدولية، لكن مع الأسف انهارت صحة (محمد علي) في أخريات عمره وأصيب بأعراض داء (السعار) رغم أنه لم يصب منه أصلا بعدوى ولهذا اعتزل وتولى مكانه إبراهيم باشا للحكم نيابة عنه، لكن القدر أيضا تدخل بموت إبراهيم باشا في حياة أبيه، ليتولى بعده (عباس) باشا و(سعيد) باشا على الترتيب وكلاهما كانا أبعد ما يكون عن رجال الدولة، ومع الأسف لم يكن هناك في أبناء محمد علي من يمكن أن يماثله قوة وخبرة إلا (طوسون) الابن الأكبر و(إبراهيم) وكلاهما مات في حياة أبيه، وكانت المعضلة الكبرى أن سياسة عباس وسعيد فتحت الباب أمام النفوذ الأجنبي في مصر ليصبح بلاط الحكم مُخْتَرقا من الأوربيين وهو الذي أدى فيما بعد لكارثة موافقة الخديو (سعيد) على مشروع إنشاء قناة السويس بعد إلحاح صديقه (فرديناند ديلسيبس) والذي لم تقتصر كوارثه على أن المشرع كان باتفاقية مجحفة للغاية أضاعت حق مصر في المشروع حيث امتلكت الشركة الفرنسية نصف القناة دون أن تتكلف شيئا أصلا، فضلا على أن اتفاقية المشروع التي مَثّلَت انتهاكا صارخا لسيادة الدولة على جزء من أراضيها بالإضافة إلى تجنيد واستعباد الآلاف من المصريين للعمل بالسخرة في حفر القناة لم تقتصر كوارث المشروع على هذا، بل كانت كارثته الكبرى أن القناة فتحت الباب لمطامع الدول الأوربية في مصر بأضعاف مضاعفة نظرا لأن قناة السويس قدمت حلا عبقريا لاختصار المسافة البحرية بين أوربا وشرق آسيا مما يعني أن مصر أصبحت أكثر أهمية بمراحل مما كانت عليه، بعد أن أصبحت قناة السويس أهم مجرى ملاحي في العالم للتجارة الدولية. وهذا السبب تحديدا هو الذي دفع (محمد علي) لرفض مشروع قناة السويس رفضا باتا لنفس السبب، وقد كان رفضه عبقرية حقيقية تدرك جيدا أنه مهما كانت منافع المشروع فإن خطره أعظم لأن المشروع سيدفع أوربا للتحالف مرة أخرى على مصر بغرض السيطرة التامة عليها هذه المرة. وهو ما تحقق بالفعل. ليأتي الوقت الذي تحققت فيه الواقعة التي قلنا عنها أنها الأخطر من سابقيها في التأثير على نمو المشروع الصهيوني، ألا وهو تولى الخديو (إسماعيل) حكم مصر. وكانت شخصية إسماعيل شخصية شديدة الاختلال النفسي، يشعر بالانحدار والضآلة بشدة تجاه أوربا وقصور الحكم فيها مع شعوره بالاحتقار لمصر والمصريين، وعندما جاءته فرصة الحكم -الذي لم يكن يتوقعه في الأصل-ازدادت حالته ضراوة، فأصبح يرى نفسه أعلى من مصر والمصريين وأقل من الأوربيين. ولا يوجد أخطر من تلك النوعية من الشخصيات التي تدفعها الأقدار للرياسة بينما لا تتناسب مؤهلاتهم ولا توازنهم النفسي ولا طبيعتهم على الصعود السريع لقمة الحكم، لأنها في الأصل شخصيات تعودت على التبعية لا على الاستقلال، والنظر للأكثر قوة على أنه الأفضل والأعلى حتى لو كان عدوا. لذلك تكون عقليتهم القاصرة ونفوسهم المتدنية سببا في تدمير أوطانهم طبقا للحكمة العربية الشهيرة التي تقول: (وما في الظلم مثل تحكم الضعفاء) فالانهزامية تسيطر على تلك النوعية –مهما امتلكت من القوة – لذلك فهم يوجهون أنفسهم لمن يشعرون أنهم أقوى منهم فيتخذونهم مثلا وقدوة طبقا لمقولة ابن خلدون. (المغلوب مولع بتقليد الغالب) وكان إسماعيل من تلك النوعية لا يحمل انتماء دينيا أو قوميا للحضارة الإسلامية، ويشعر بالانتماء والانبهار لأوربا بكل تقاليدها الإباحية وعنصريتها المقيتة، لذلك أعلن عن أهدافه التي كان أهمها هو تحويل مصر إلى قطعة من أوربا في الشكل الخارجي والقشرة الحضارية لا في القوة والنفوذ فقد كان على عكس أبيه وجده لا يشعر مطلقا بالعداء تجاه أوربا. وليت أن شعوره بالضعف والضالة أمام الأوربيين كان في مسألة تفوقهم العسكري أو نفوذهم العالمي، بل كان انبهاره مُنْصَبا فقط على القصور والأبنية الضخمة وحياة الترف والبذخ الهائل التي كانت سببا في وقوع الثورة الفرنسية لكون رفاهية القصور والأبنية العملاقة كانت تتم على حساب طبقات الشعب المطحونة في أوربا بذلك العهد. واتجه إسماعيل من فوره إلى سياسة تجميع الأموال من أي مصدر وكل مصدر فزادت الضرائب في عهده لأرقام خزعبلية واستمرت تنمو عاما بعد عام طيلة حكمه. واستوزر لأجل ذلك وزيره (إسماعيل المفتش) الذي ولاه الوزارة المالية، ولم تكن مهمة (المفتش) هي إدارة المالية المصرية بل كانت مهمته الرئيسية هي إدارة أموال مصر للخزانة الخديوية وحدها والحرص على تنفيذ رغبات إسماعيل الترفيهية. ولم تكف الميزانية المصرية هذا الإنفاق المهول الذي صرفه إسماعيل على إنشاء القصور الضخمة في كل مكان في مصر، وإنشاء الحدائق والنوادي والمتنزهات في كل شبر من المدن الكبرى حتى بلغت عدد قصوره واستراحاته أكثر من مائة قصر واستراحة في كافة أرجاء مصر! وكان أول قصوره هو بناء قصر (عابدين الشهير) كمقر حكم هائل له، وهذا القصر تتصاغر أمامه قصور القياصرة والأكاسرة من حيث المساحة الرهيبة له ولحديقته وللتحف الرهيبة التي ملأ بها أرجاء القصر وكانت كل تحفة منها يعادل ثمنها ثمن إصلاح أحوال قرية كاملة من الفقر. وقد بلغت التكلفة النهائية لقصر عابدين 700ألف جنيه إسترليني للبناء فقط، بينما بلغ ثمن التحف من اللوحات الفنية لكبار فناني أوربا، والتماثيل المرمرية، والديكورات الذهبية، حوالي 2مليون جنيه مصري" ". وقد زادت تكلفة بناء القصر عن الميزانية الموضوعة له بمقدار 28000 جنيه إسترليني بسبب هذه التحف، بخلاف مبلغ هائل آخر لإصلاح ما أفسده الحريق الذي شب في القصر عام 1879م. وهنا لجأ إلى الاقتراض الأوربي لتغوص مصر في عهده حتى أذنيها في الديون خاصة بعد أن حرصت أوربا على تمويله بكل ما يطلبه لأن سياسة الإقراض كانت سياستهم المفضلة التي أوقعت البلاط العثماني في حبائل أوربا بعد أن بلغت الديون الأوربية للعثمانيين قرابة 18 مليون جنيه إسترليني. واستدانت مصر ضعف هذا الرقم من أوربا، لتقع الواقعة عندما عجز الخديو إسماعيل عن السداد وانهارت مالية البلاد، ورغم هذا أصر إسماعيل على أنه لم يخطئ بل رأى أنه أحال مصر لقطعة من أوربا فعلا، ووصل به العته إلى أنه أنفق على حفل افتتاح قناة السويس 2 مليون و400 ألف جنيه، كانت منها تكلفة بناء قصر ضخم للغاية كي تقيم فيه الإمبراطورة (أوجيني) ملكة فرنسا وزوجة (نابليون الثالث) لأن إسماعيل كان مغرما بها، فبنى لها قصرا يماثل قصر الحكم الفرنسي نفسه، لتقيم فيه فقط مدة استضافتها خلال حفل الافتتاح! وبالطبع كانت النتيجة متوقعة، حيث لجأ للحل الوحيد الذي رأى أنه سينقذه من بعض التزامات الديون التي تورط فيها. ألا وهو رهن حق مصر في قناة السويس لتصبح القناة بأكملها رهنا للأوربيين! وقد كان إسماعيل يرغب في بيع حقوق القناة بثمن كاش مباشر وبشكل سري حتى لا ينقض الدائنون على ثمن القناة فيسلبونه منه. ووصل الخبر إلى إنجلترا، ليجدها رئيس الوزراء (دزرائيلي) فرصة هائلة كي تضع إنجلترا قَدَمَها في مصر بشكل نافذ إلى جوار القدم الفرنسية الموضوعة بالفعل منذ تأسيس مشروع القناة. ورغم أن الخزانة البريطانية لم تكن تحتمل تسديد الثمن الذي يطلبه إسماعيل وهو أربعة ملايين جنيه ذهبا. فكان الحل أن قام دزرائيلي بمخاطبة (روتشيلد) راعي المشروع الصهيوني ورئيس أكبر عائلة من حيث الثراء في أوربا لتدبير مبلغ الصفقة، وكان دزرائيلي يدرك أن المبلغ كبير حتى على قدرات العائلة كونه سيكون ثمنا لمشروع واحد. إلا أن دزرائيلي لم يكن يُقَدّر عبقرية روتشيلد الثعلبية حق قدرها، لأن روتشيلد بمجرد أن سمع بعرض القناة أدرك على الفور أن امتلاك إنجلترا لقناة السويس معناه أن بريطانيا ستقطع خطوة هائلة في طريق المشروع الصهيوني. فالسيطرة المالية على مصر كفيلة وحدها بتحييد مصر عن التدخل في الشأن الفلسطيني وهو أقصى ما يتمناه كل كبار المشروع الصهيوني. لهذا بادر روتشيلد بتدبير المبلغ لرئيس الحكومة في يوم واحد فقط. وتم لهم ما أرادوا. ورغم كارثية الصفقة على مصر إلا أن إسماعيل لم يكن قد تراجع أو ندم على سياسته المترفة التي أضاعت مالية البلاد على مشروعات لا فائدة منها. فقام بتبديد المبلغ الهائل الذي استلمه، ليقوم دائنو مصر بتشكيل ما يُعرف بصندوق الدين المصري والذي كان من نتيجته أن أجبرت أوربا الخديو على تعيين وزيرين أجنبيين في الحكومة يمثلان بريطانيا وفرنسا، أحدهما وزير للمالية والآخر وزيرا للأشغال لتصبح مالية البلاد وأراضيها الزراعية وأبرز مشاريعها الاقتصادية محكومة من الخارج" "! وانتظرت بريطانيا تتابع الحوادث كي تتدخل في الوقت المناسب، وبالفعل تدخلوا لإقالة إسماعيل ونفيه خارج البلاد وتولية ابنه الخائن الخديو (توفيق) مكانه ويكفي أن نعرف أن توفيق خان أباه أولا ورفض حتى إعادته من المنفى في مرض موته! وبالتالي. كان طبيعيا عندما تحركت الثورة وَعَبّر عنها الجيش بحركة (أحمد عرابي) كان من الطبيعي أن يستنجد توفيق بالبريطانيين الذين انتهزوا الفرصة وتدخلوا بأسطولهم في مصر بعد أن قاموا بمخاطبة السلطان العثماني لإصدار فرمان بخيانة عرابي! فاستجاب لهم بالطبع. في نفس الوقت الذي كان فيه توفيق والمنتفعين منه من طبقة الحكم ومعهم الجاليات الأجنبية تُرَوج لاعتبار (عرابي) خائنا للوطنية عندما طلب استقلال مصر من النفوذ الأجنبي، وتحرك عرابي بالجيش في تحالف مع قوى الشعب لإيقاف البريطانيين لولا أن تلقى الهزيمة في معركة (التل الكبير) عام 1982م، لتصبح مصر تحت الاحتلال الإنجليزي وقد كانت الثورة العرابية حَدَثا مفصليا في التاريخ المصري المعاصر، وموجة من موجات تطور الحركة القومية التي بدأت مع الحملة الفرنسية واستمرت فاعلة في المجتمع المصري وقد احتوى ملف الثورة العرابية على بطولات خارقة ومشهودة من أبطال عدة، كان أبرزهم من الجيش البكباشي (محمد عبيد) صاحب الضربة الأولى في أحداث الثورة، وكذلك المناضل المصري الكبير (عبد الله النديم) أول وأشهر صحفي للكتابة الساخرة في مصر وأكثرهم تألقا في زمنه وأعلاهم مساهمة في القضايا الوطنية من هنا نستطيع أن نقول بأن الدخول العسكري الإنجليزي لمصر والذي تسبب فيه إسماعيل حرم مصر والعرب من أكبر قوة كانت من الممكن أن تهدد استقرار المشروع الصهيوني في مرحلته الأولى. لأن بلدا يقع تحت الاحتلال والقهر والسحق الإقتصادي لا يمكن أن نتخيل قدرته على التفكير أو التدخل لمناصرة قضية خارجية مهما كان تفاعله معها. وظلت السياسة البريطانية والإسرائيلية منذ ذلك الحين قائمة على تلك المعادلة، وهي أن تكون مصر مثلما كانت الخلافة العثمانية، عبارة عن بلد مريض لا يسمحوا له باليقظة ولا يسمحوا له بالانهيار أيضا، بل المطلوب هو وجودها في حالة موت إكلينيكي مشغولة دائما بمشاكلها الداخلية. رغم أن مصر لم تقع فريسة لتلك النظرية طيلة الوقت، خاصة بعد أن تفجرت المقاومة المصرية ضد الاحتلال الذي لم يستقر بمصر استقرارا كاملا، فقد واجه الاحتلال عند دخوله المقاومة العسكرية والشعبية المتمثلة في الثورة العرابية، ثم واجه تشكيلات مختلفة من فرق المقاومة السرية فضلا على النضال السياسي والشعبي على يد (مصطفى كامل) و(محمد فريد) الذي استمر حتى تبلور في ثورة 1919م بقيادة (سعد زغلول)، ثم تصاعدت الأحداث مرة أخرى مع إرهاصات الحرب العالمية الثانية وما تلاها حتى اضطر الجيش البريطاني لتجميع الفرق العسكرية في قواعد القناة بعيدا عن مصر من الداخل حتى رحيل الاحتلال عقب قيام ثورة يوليو. فمصر لم تستسلم لمحاولة التقزيم ومحاولات إبعادها عن القضايا القومية العربية، إلا أن محاولات الغرب لتكتيف مصر داخليا أصبحت استراتيجية ثابتة منذ ذلك العصر، بذل فيها الغرب قصارى جهده حتى اليوم" " ولكي ندرك خطورة التقدم الذي أحرزه المشروع الصهيوني باحتلال مصر فيكفي أن نعلم بأنه في سنة الاحتلال نفسها عام 1982م، قام البارون (روتشيلد) بتنظيم أول هجرة جماعية كبيرة لفلسطين وبهذه العملية ارتفع عدد اليهود في فلسطين من ثمانية آلاف إلى أربعة وعشرين ألفا دفعة واحدة. فهل يتخيل القارئ مدى التأثير الذي أحدثه إبعاد مصر عن الساحة الشامية" " وليت الأمر اقتصر على هذا. فعقب الفوج الجماعي الهائل الذي دخل فلسطين بدأت عائلة روتشيلد في جمع التبرعات والمساهمات لشراء أراضي شاسعة في فلسطين تحت ستار شركة كبرى للأعمال الزراعية! وتحت رعاية الاحتلال البريطاني قامت شركة روتشيلد خلال عشر سنوات فقط بإنشاء مستعمرات استيطانية كبيرة بلغ عددها 20 مستوطنة تراوحت مساحة الواحدة منها من (2750فدان) إلى (460) فدانا بإجمالي مساحة بلغ أكثر من عشرين ألف فدان. بخلاف إنشائها في نفس الفترة مستوطنات أصغر حجما على الأراضي الفلسطينية بل والأردنية أيضا. ونستطيع أن نقول بأن الاحتلال الإنجليزي لمصر فتح المجال على مصراعيه لتطور الصهيونية فكريا وعمليا على الأرض. فأصبحت الخطوات التنفيذية أكثر جرأة، وأصبحت الأفكار أكثر صراحة. فإلى جوار إنشاء (روتشيلد) المستوطنات السابق ذكرها في فلسطين، امتدت عيونهم داخل مصر أيضا باعتبار خضوعها للاحتلال البريطاني وسيطرتها على مقدرات البلاد في وجود حكومة عميلة بالكامل مثل حكومة الخديو توفيق. فقام (روتشيلد) عام 1891م، بمشاركة عملاق مالي آخر من اليهود هو (دي هيرش) ومعهما يهودي ثالث هو السير (أرسنت كاسل) لإنشاء مؤسسة زراعية أخرى برأس مال خرافي 2 مليون جنيه إسترليني –بمقاييس ذلك الزمان-وكان من نتاج المشاركة إنشاء شركة (وادي كوم أمبو) في صعيد مصر والتي امتلكت أراض شاسعة المساحة في مدينة (كوم أمبو) بأسوان. ولم تكن تلك الخطوات الحثيثة تجاه مصر والعراق الذي خضع للسيطرة الإنجليزية بعد ذلك إلا تمهيد لمد أنف المشروع إلى أراضي البلدين، إلى جوار الأراضي اللبنانية والأردنية. ولكن المد هنا لم يكن أبدا بغرض توطين اليهود ضمن المشروع الصهيوني، وإنما كان هذه المرة بغرض فتح المجال لتهجير وطرد الأعداد الفلسطينية الهائلة نحو مستعمرات خاصة يتم إنشاؤها في سيناء المصرية بغرض منح الدولة اليهودية مساحة امتداد آمنة الحدود! وهنا نتوقف قليلا أمام تلك المشاهد. حيث نلاحظ من خلال التخطيط أن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي اليوم إنما تقوم على استراتيجية عتيقة جدا بدأت مع الاحتلال الإنجليزي لمصر، ولا زالت تلك الاستراتيجية ممتدة الخطوات حتى اليوم!
|
|||||
24-02-2024, 04:38 AM | رقم المشاركة : 23 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
*ظهور نبي الصهيونية (تيودور هيرتزل) لئن كان المشروع الصهيوني وصل لبريطانيا عن طريق الوحي اليهودي والبروتستانتي المتمثل في (روتشيلد) و(بالمرستون)، فنستطيع أن نقول بأن رسول الشيطان الذي تم تكليفه بالرسالة الصهيونية حان وقت بعثته حيث ظهرت-في تلك الفترة -واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرا في المشروع الصهيوني وهو (تيودور هيرتزل) الصحفي النمساوي الذي يوصف بأنه الأب الروحي للصهيونية، ثم تأسست (الوكالة اليهودية) بزعامته. وأصبح (هرتزل) ومجموعته هم الوكلاء الرسميون للمشروع وامتلكوا النفوذ الساحق ليس في بريطانيا في سائر أوربا الغربية الراعية للمشروع. وقد كانت خطوة بالغة الخطورة في الواقع. فالمشروع قبل ظهور (هرتزل) كان مشروعا سياسيا غربيا تُمْسك بريطانيا بخيوطه كلها بالتعاون مع الماليين الكبار لليهود أما ما بعد ظهور (هرتزل) فقد أصبحت قيادة المشروع سياسيا لبريطانيا والغرب والقيادة العملية لهرتزل والوكالة اليهودية. وهو ما تسبب في تطور الأفكار في الصهيونية وصياغتها بحيث تصبح أوربا التي تختلف فيما بينها عسكريا وسياسيا لا تتفق إلا على ضرورة وأهمية دعم المشروع الصهيوني. لذلك تطور التمهيد الذي بدأ إعداده للفكر الصهيوني في عهد أصحاب الفكرة الأولى ليهدف إلى بلورة الفكر الصهيوني المسيحي للسيطرة على الفكرة الصهيونية اليهودية التي تخالف هدف الصهيونية المسيحية في دفعهم إلى فلسطين قبل ظهور (المسيح) وفق معتقد التوراة. ومن الغريب أن الصهيونية اليهودية كانت هي الأصل عند المسيحيين واليهود في أوربا لدرجة أن (تيودور هرتزل) مؤسس الوكالة اليهودية عندما ذهب ليقابل ملك ألمانيا «فلهلم الثاني» ويعرض عليه مشروعه، اعتقدوا أنه مُبشِّر مسيحي بين اليهود، يحاول تنصيرهم لأنه يحاول توطينهم في فلسطين. وكان هذا أمرا طبيعيا لأنه ما من أحد في أوربا من المسيحيين أو اليهود كان يؤمن أو يتفاعل مع فكرة العودة لفلسطين قبل ظهور المسيح. والفئة الوحيدة التي تؤمن بهذا الأمر هم (المسيحيون الإنجيليون) أصحاب المذهب البروتستانتي الذي انتشر في بريطانيا معاكسا للفكر المسيحي الكاثوليكي. لكن الدعم البريطاني للفكر الصهيوني هو الذي وقف خلف اصطناع الرجال لترويجه مثل (تيودور هرتزل) و(ناحوم سوكولوف) بالإضافة إلى الدعم المالي الهائل الذي وفرته أسرة روتشيلد بنفوذها الساحق في أوربا. وبدأ بعض المفكرين اليهود في الاستجابة لفكرة «دولة صهيون»، من منطلق أن هذا الشعب (الشعب اليهودي) مرتبط بأرض فلسطين ارتباطاً عضوياً، وسيظل منبوذاً وطُفيلياً ما بقي في الشتات، ومن هذه الفكرة ظهرت انتشرت مقولة شافتسبري التي روجها في مقالاته لوصف فلسطين بأنها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، في تجاهل تام لحقيقة وجود شعب عربي يعيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين. ثم طوَّر هرتزل الفكرة الاسترجاعية المسيحية التي كانت تدعو لتوظيف اليهود في فلسطين لصالح الغرب، وذلك إلى خطاب صهيوني مراوغ يخاطب القوى العظمى بأن اقتطاع فلسطين سوف يوفر لهم 10 ملايين عميل في المشرق العربي، ويخاطب يهود العالم بأن ذلك هو حلم العودة المذكور في الكتاب المقدس، وأن الشعب اليهودي مرتبط بهذه الأرض ارتباطاً عضوياً، وسيظل مكروهاً من كل الشعوب في المنفى بسبب قداسته لذا، لا بد له من العودة إلى الأرض الوحيدة التي تصلح للخلاص. وطريقة الخطاب التي استعملها هرتزل للمشروع الصهيوني كانت تخاطب أوربا من منطلق المصلحة السياسية والاقتصادية، كما أنها كانت تخاطب اليهود المتدينين بالفكرة الدينية القائمة على نبذ فكرة الانتظار السلبي للمسيح، وأن الواقع يقتضي ضرورة التعجيل بالعودة لانتظار المسيح في الأرض المقدسة. وفوق ذلك لم ينس هرتزل فئة اليهود العلمانيين أصحاب الحركة العمالية الذين كانوا يخالفون أو يتجاهلون الخطاب التوراتي، فخاطبهم هرتزل بالخطاب المناسب لعقليتهم كي ينجح في استمالتهم للمشروع أن الهجرة إلى أرض فلسطين هي الحل الوحيد لحل الأزمة الطبقية التي تواجههم في أوروبا، ولتكوين مجتمع متساوٍ في فلسطين ومتجانس فيما بينه. وعلى نفس المنوال يشرح مفكرنا الكبير (عبد الوهاب المسيري) كيف صاغت الحركات الصهيونية -على اختلاف توجهاتها من اليسار إلى اليمين-مثل هذه الاعتذارات، من أجل استيطان فلسطين، فهذا الاستيطان لم يكن عن طريق الاستعمار والعنف وإنما عن طريق القانون الدولي العام متمثلاً في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية السياسية)، أو تنفيذا للوعد الإلهي (في الصياغة الصهيونية الدينية)، أو بسبب قوة اليهود الذاتية (في الصياغة الصهيونية القومية). وبهذا تنوعت التبريرات والديباجات داخل الحركة الصهيونية بين الديني والعلماني واليساري، ولكنها اتفقت جميعاً حسب قول المسيري على «ارتباط الشعب اليهودي عضوياً بالأرض»، أما القوى الإمبريالية الغربية فقد اتفقت على عودة اليهود للعب دور الجماعة الوظيفية كما كانوا في زمن الإقطاع، ولكن هذا الدور الوظيفي سوف يكون على شكل دولة إسرائيل. ومأساة العالم أجمع كلها تركزت في تلك اللحظة. فالصهيونية تطورت بعد ذلك لتصبح أشبه بتنظيم سياسي خارق انضم إليه كبار السياسيين في الغرب فضلا على إمبراطوريات المال والأعمال وأصبحوا بالفعل هم القوة الأكثر تأثير على القرار الغربي. لتتعملق الصهيونية من فكرة إنشاء كيان وظيفي يتمثل في دولة اليهود، ليصبح فيما بعد هو المنهج الذي أشرف على تحويل دول العالم النامية كلها إلى كيانات وظيفية، تهدف إلى تحويل البشر إلى مادة استعمالية محضة – حسب تعبير الدكتور المسيري-وبالتالي خرجت الصهيونية تماما من عباءة الأديان كلها حتى اليهودية وأصبحت هي المرجعية الدنيوية التي لا تهتم إلا بالمادية البحتة في عصرنا الحالي بغض النظر عن قانون الأخلاق وفلسفة الدين وأدبيات الحضارة. وكما أسلفنا. كان ظهور شخصية (تيودور هيرتزل) ورفاقه، وإنشاء الوكالة اليهودية وإقامة المؤتمر الأول للصهيونية في (بازل) بسويسرا، إيذانا بالخروج من شرنقة السرية إلى إظهار القوة والعين الحمراء بشكل علني. حيث رأي هيرتزل أن زمن التخفي قد انتهى وأنه الأوان للفكرة الصهيونية – بعد بدء الاستيطان-أن تعلن عن أفكارها وتتعامل – كما يقول – بالدخول مباشرة إلى عالم الحقائق السياسية. ومن اللافت للنظر أن تلك النظرية التي عمل عليها هيرتزل لم تكن تحظى بالإجماع بين نشطاء المشروع الذين تكاثروا غربا وشرقا. فبينما كان هرتزل ورفاقه يرون أن العثمانيين والعرب –حتى من سكان فلسطين-مجرد هواء غير محسوس لدرجة أنهم تعاملوا مع أراضيهم على أنها (أرض بلا شعب)، ظهر من بين اليهود أنفسهم من لفت النظر إلى حقائق الواقع في فلسطين بعد أن انتشر اليهود فيها وانتشرت مستعمراتهم. حيث بدأت بالفعل بوادر الاشتباك والاحتكاك بين المهاجرين والعرب الأصليين بالشكل الذي لفت نظر مفكري اليهود ومنهم (آشر زفي جينزبرج) الذي كتب عن انطباعه الشخصي عما يجري شارحا أن مُنَظّري ورعاة المشروع الصهيوني يتعاملون مع العرب على أنهم مجرد قوم بدائيون من الهمج يعيشون في الصحراء ويخضعون دوما لسيطرة القوة. فضلا على أنهم يجهلون تماما ما يجري حولهم وأن عقولهم لن ترتقي لإدراك التخطيط الجاري على أراضيهم. بينما يرى (جينزبرج) أن هذه وجهة نظر بعيدة تماما عن الصحة وأن العرب يعرفون تماما بمجرى الحوادث ويتجاهلونها مؤقتا باعتبارها لا تمثل خطورة على مستقبلهم، أما إن تم إبرار العلانية على المشروع ووضحت أهدافه فإنهم لن يتخلوا عن مواقعهم بسهولة لا سيما مع تعامل المستوطنين باستبداد وعنجهية وغرور استنادا إلى القوى العظمى التي تحميهم. ونستطيع أن نقول بأن (جينزبرج) كان على حق تماما، وأنه قام بنفس الدور الذي لعبه المفكر الفرنسي (روسبي) عندما عارض خطة نابليون التي كان يتوقع منها قُدْرته على خداع المصريين بالورقة الإسلامية وبإعلانه أنه جاء لإنقاذ المصريين من المماليك. وقال روسبي وقتها تعليقا على الخطة: (إن أكثر الأفكار شذوذا هي التي يظن السياسي فيها أنه قادر على خداع الجماهير لمجرد حمله للسلاح وَتَمَلّكه للقوة) والنقطة الخطيرة التي ينبغي الالتفات لها هنا. أن التخطيط الاستراتيجي البريطاني والأوربي والتنفيذ الإسرائيلي منذ بدايته يتميز ببراعة منقطعة النظير بلا شك. لكن ليس معنى هذا أنه كان تخطيطا كاملا ومعصوما. بل على العكس. فقد وقع الإسرائيليون والغرب عدة مرات عبر تاريخ الصراع بينا وبينهم في خطأ استراتيجي جسيم، هذا الخطأ هو الاعتماد في التخطيط على ما يُسَمى بالانطباع الشخصي وبناء المستقبل على ما تقوله الوقائع المجردة دون حساب القوة المعنوية أو العقيدة التي تحرك الشعوب بشكل مفاجئ تجاه قضاياهم. كما أنهم فسروا سكوت ورضوخ العرب لأنظمة الحكم الاستبدادية سيجعلهم يمتلكون مصير الشعوب بمجرد سيطرتهم الواقعة فعلا على الحكومات العربية! وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه نابليون عندما تصور إمكانية وقوف المصريين معه ضد المماليك. لهذا. فإن بريطانيا وحلفاؤها والمنظمة اليهودية فَسّروا مشهد النجاح البريطاني في احتلال مصر وفي تركيع الخليفة العثماني وإجباره على القبول بالمستوطنات، فسروا هذا على أنه دليل قاطع على الموت الإكلينيكي الذي يحكم شعوب المنطقة بسبب تقلبها بين حكم ديكتاتوري صارخ أيام المماليك أو حكم احتلال أجنبي وحشي في العصر الحديث. فلم يتوقع البريطانيون ورعاة المشروع الصهيوني أن الشعوب نفسها –وبانعزال تام عن الحكومات العميلة-سيكون لها دور كاسح في مقاومة الوجود اليهودي في فلسطين. كما فشل البريطانيون والغرب في توقع الثورات الشعبية الكاسحة التي قادتها الجماهير ضد الاحتلال وحكومة القصر. كما توقع الإسرائيليون بعد حرب 1948م أن الحرب انتهت للأبد وأنهم سيغدون آمنين مطمئنين بعد تحطيم معنويات العرب، وفوجئوا بعد بأن الحرب زادت الشعوب ضراوة وأن الحركة القومية ستنفجر من جديد. وتوقع الأمريكيون والإسرائيليون أن العرب بعد حرب النكسة عام 1967م، قد انكسرت قوائمهم وأنه لا بديل لهم عن الخضوع والاستسلام، فجاءت حرب أكتوبر بالاشتراك بين مصر والشام –مرة أخرى-لتنسف توقعاتهم نسفا. وتوقع الغرب أيضا أن القضية الفلسطينية قد انتهت للأبد بعد معاهدة (كامب ديفيد)، ورغم ذلك تفجرت الانتفاضة عدة مرات في عقد السبعينيات والألفينات بشكل مفاجئ ومدمر. وكانت آخر الأخطاء أن الإسرائيليون غفلوا عن (غزة) وفرق المقاومة فيها تماما باعتبار أن العرب في العصر الحالي قد تم تسجيل وفاتهم سياسيا بهرولة الحكومات العربية للتطبيع، وبانسحاق السلطة الفلسطينية حتى رأسها في مستنقع العمالة. فإذا بطوفان الأقصى يُحْدث زلزالا نفسيا – أكثر منه عسكريا – لتتلقى فيه إسرائيل أقوى مفاجأة استراتيجية لها منذ أربعين عاما! فقوة الشعوب لا يمكن حساب موعد انطلاقها أو مسبباته. لكن هيرتزل لم يكن مقتنعا بهذه النظرية ولذلك سعى لتنفيذ خطته بأن يمضي قُدَما في الإعلان عن المشروع وتنفيذه بشكل صريح باستخدام القوة المتوفرة لهم على المنطقة. وبدأ التنفيذ من خلال خطوتين متلازمتين. الأولى: خطة تطوير لأفكار الصهيونية وهي محاولة إيجاد تاريخ للمطالبة اليهودية بالقدس عن طريق استخدام علم الآثار، حتى لو تم هذا بالتعسف في الأدلة. الثاني: خطة سياسية تقتضي بمخاطبة السلطان العثماني علنا بشراء فلسطين منه بشكل مباشر وصريح. أما بالنسبة للعنصر الثاني الذي قرره هرتزل لتطوير خطة العمل في المشروع، فقد بدأه هيرتزل بإصدار كتابه (الدولة اليهودية) والكتاب كان صريحا في شرح أفكاره للدرجة التي أثارت استغراب بعض اليهود ووصفوه بأنه نوع من الخيال السياسي الطموح على حد تعبير هيكل! لكنه مضى في تنفيذ خطة كتابه على ثلاث محاور. • محور يتجه للسلطان العثماني مباشرة باعتباره صاحب الولاية نظريا على فلسطين ويطلب منه مباشرة شراء فلسطين بسعر 20 مليون جنيه إسترليني لكي يتمكن السلطان من سداد الديون الأوربية البالغة نحو 18 مليون جنيه، ويتبقى 2 مليون جنيه كثمن لفلسطين ويعلق هيرتزل في مذكراته بأن السلطان اعترض على الصيغة الصريحة للبيع، لكن من الممكن إتمام الصفقة بصيغة أخرى مناسبة! • محور يتجه لبريطانيا باعتبارها الراعي الرسمي للمشروع والوريث الأكبر للعثمانيين في الشرق وهو محور لا يحتاج جهدا كبيرا لأن بريطانيا هي أصل المشروع، لكن هيرتزل كان يرجو منها الإسراع في التوطين واستغلال أزمات اليهود في أوربا لدعم هجرتهم لفلسطين • محور يتجه لمصر لاعتبارات استراتيجية غنية عن الذكر والتعريف وعلى المحور المصري بدأه هيرتزل أولا بعقد مؤتمر (بازل) بسويسرا عام 1897م، وخلص إلى نتائج هامة هي وضع خطة تنفيذية لاستعمار فلسطين من اليهود زراعيا وصناعيا، وفي نفس الوقت العمل على ربط المهاجرين اليهود ثقافيا بالمشروع الصهيوني عن طريق تعليمهم اللغة العبرية والتاريخ اليهودي وعناصر النظرية الصهيونية. ويشرح لنا هيكل بعد ذلك رحلته إلى مصر واطلاعه على الأوضاع فيها، مما حداه للتفكير في خطة أخرى وهي استغلال سيناء" " في المشروع الصهيوني عن طريق فتح الهجرة إليها أيضا عن طريق استئجارها من الخديو (عباس حلمي) لمدة 99 سنة على غرار قناة السويس والنكتة الحقيقية أن الفكرة ماتت في مهدها –ليس بسبب رفض الخديو-بل بسبب رفض اللورد (كرومر) المندوب البريطاني للاحتلال، والذي رفض تماما فكرة التوطين الزراعي في سيناء لكونها ستؤثر بشدة على كمية المياه المتوفرة للزراعة في الوادي، حيث لا تملك مصر من حصتها في النيل ما يغطي زراعة سيناء إلى جوار الأراضي الزراعية في العمق. وكان البريطانيون يحرصون على الزراعة المصرية نظرا لأن محصول القطن المصري طويل التيلة كان هو المصدر الخام الرئيسي لمصانع (لانكشاير) البريطانية كذلك كان حرصهم التقليدي على تنمية موارد البلاد، والتعمير، وإنشاء السكك الحديدية والجسور ووسائل المواصلات، وغير ذلك كلها كانت لأجل خدمة الإمبراطورية البريطانية التي استنزفت سائر مستعمراتها وعلى رأسها مصر والهند، دون أن ينل الشعوب من خيرات بلادهم شيئا. ورغم أن هذا أمر بديهي ومعلوم من العقل بالضرورة، إلا أننا في زمن عجيب حقا، جعلنا نرى أذناب التغريبيين والمنسحقين للغرب يرددون فرية أن الحملات الأوربية الوحشية والاستعمار كانت هي التي نقلت الحضارة والتكنولوجيا لنا! على أية حال. ورغم أن بعض خطط هيرتزل لم يتم الاستجابة لها، مثل أفكاره حول توطين سيناء، إلا أن الخطة الرئيسية كانت تجري على قدم وساق. وكما جهزت المسرح في مصر والشام تجهيزا سياسيا واقتصاديا، قامت بريطانيا أيضا بدورها التقليدي الذي تبرع فيه وهو تأسيس ودعم وخلق حركة تغريب واسعة النطاق لكسر أي توحد بين أطياف الشعب ضدها، فضلا على خلق الفتن الداخلية التي تجعل التيارات المتصارعة تخوض حربا ضد بعضها البعض وتنشغل عن قضية الاستقلال. وليس هذا فقط. بل مهدت أيضا لخلق دعم واسع للصهيونية من خلال حركة التغريب نفسها. وهي حقيقة تاريخية بازغة يتم تجاهلها كثيرا، لأن حركة التغريب ومذاهب العلمانية ومهازل من يطلقون على أنفسهم أهل التجديد الديني، هؤلاء جميعا لم يكن نشاطهم مركزا فقط على هدم قواعد الدين ومهاجمة التراث والحضارة الإسلامية وفقط. بل كان من أهم أدوارهم دعم المحتل في سائر قضاياه السياسية بما يمثل خيانة عظمى مكتملة الأركان. وهذه قصة تستحق أن تُرْوى يتبع ان شاء الله
|
|||||
17-03-2024, 02:58 AM | رقم المشاركة : 24 | |||||
|
رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
*حركة التغريب تبدأ نشاطها. هناك ملحوظة هامة دوما ما نلفت نظر القارئ الكريم لها خلال صفحات هذا الكتاب. حيث أن هدف الكتاب في المجمل، التركيز على نقطة الضعف الكبرى التي كسب بها الغرب سائر معاركه معنا حتى اليوم. فسيلاحظ القارئ خلال صفحات الكتاب أننا نتحدث عن بداية التخطيط الغربي لاختراق الشرق بأكمله من خلال الحركة الصهيونية. وأن هذا التخطيط بدأ باستراتيجية عميقة الجذور وبالغة القدم، بدأت منذ بدايات القرن التاسع عشر. ورغم هذا... سيلاحظ القارئ أن معظم عناصر الخطة الغربية الموضوعة في ذلك الزمن البعيد، لا زالت تتكرر بنفس السيناريو تقريبا بمعنى أن الغرب وضع استراتيجية للتعامل مع العرب منذ أكثر من مائتي عام، ورغم هذا لا زالت الخطة صالحة للاستخدام وبنفس الثوابت وبنفس الطريقة دون أدنى تغيير. وهذا هو العار الحقيقي الذي لحق بنا جميعا. فنجاح أي خطة خداع مرتين لعدو واحد تدل على الغباء، فما بالك بأن الخصم يستخدم نفس أدبيات المراوغة لأكثر من مائتي عام ولا زالت تؤدي نفس النتائج! وأسباب هذا الأمر المخجل يعود إلى أن البريطانيين استخدموا عنصرين فقط، لا ثالث لهما للنجاح، وهو نشر التجهيل المتعمد بأدبيات وتاريخ الشعب والسبب الثاني أنه انتقى العناصر الصالحة للتجنيد والذين عملوا كوكلاء فكريين للغرب – على حد تعبير د. عبد الله النفيسي – وهؤلاء هم الذين قادوا حركة التغريب والعلمنة في مصر والشرق منذ بدايات القرن العشرين ولا زالت أعشاشهم تفرخ جيلا بعد جيل حتى اليوم. المصيبة أنهم يعملون بنفس الأسلوب، ونفس القضايا ونفس الطريقة ورغم هذا يصادفهم بعض النجاح. أي نعم أن نجاحهم ليس جماهيريا، بل محدود بطبقة معينة، إلا أن وجودهم في حد ذاته والسماح بظهورهم هو نجاح لهم في الأساس. فهل تتخيل عزيزي القارئ أن نفس الكلام الذي يُقَال عن المقاومة الفلسطينية واتهامها بالإرهاب اليوم، هو نفس الكلام الذي قيل من قبل عن (عرابي) وأنصاره عندما تصدوا للاحتلال الإنجليزي، ونفس الكلام الذي قيل على من قاوم الحملة الفرنسية! وهو نفس الكلام الذي قيل عن المقاومة الفلسطينية الشعبية التي قادها رموز المقاومة الأوائل في الثلاثينيات من القرن الماضي. وهل تتخيل عزيزي القارئ أن الكلام عن تخلف العرب وحضارتهم وعن ضرورة هجر القرآن والسنة والتحول العلماني إلى مبادئ الانفلات الغربي باعتباره مشعل التنوير للأمة. هذا الكلام الذي نسمعه في الإعلام بتكرار ممجوج، هو نفس الكلام الذي قالته حركته التغريب منذ عشرينيات القرن الماضي. وإذا سألت نفسك عزيزي القارئ عن سبب توالد هذه الفئة عبر هذا الزمن ووجود فئة ضائعة العقل تستمع لهم، وعن سبب نجاح الغرب المتكرر في سياسته ضدنا. فالسبب الحقيقي أنهم راهنوا على تشتيت الوعي القومي بين الناس، وتقزيم كل معاني العلم والثقافة والاطلاع والبحث عن الدليل فصارت الثقافة الضرورية نخبوية، ينادي بها علماء ومفكرون أخلصوا لقضيتهم ولأوطانهم لكنهم عاشوا تحت قيد الإهمال المتعمد، والحرب الصامتة على إنتاجهم الفكري، بالذات بعد أن انتهى عصر القراءة والاطلاع، وأصبحت أجيال اليوم تعيش ثقافة الزمن الأمريكي الذي أصبح كل شيء فيه يخضع لثقافة (التيك أواي) فصارت المراجع البحثية مهجورة بعد أن ماتت القدرة على قراءتها، لا سيما وأن الأحوال الاقتصادية المتردية جعلت العقول تلهث بشكل دائم بحثا عن لقمة العيش حتى صارت القراءة والبحث عن الحقيقة من الرفاهية التي تجلب السخرية إذا نادى بها عالم أو مفكر، وكل هذا كان متعمدا وليس من قبيل الصدفة أما كيف نفذها البريطانيون في مصر أولا. فالمفاجأة أن خطة التغريب التي نجح فيها البريطانيون، كانت أيضا إنتاجا فرنسيا لم يكتمل وينتظر الحاضنة المناسبة لينمو ويعلو. فأعاد البريطانيون رعايته بشكل تنظيمي وسياسة مستمرة عند دخولهم إلى مصر. أي أن بريطانيا لم تنجح فقط في تنفيذ مشروع الصهيونية الفرنسي الأصل وحده، بل نفذت مشروع التغريب الذي بدأ من فرنسا في الأصل. لكن الفارق الوحيد بين النموذجين أن خطة نابليون الفرنسية لتوطين اليهود كانت مُخَططا مسبقا له أهدافه التي فشل فيها فطبقته بريطانيا. أما التغريب فقد بدأ من فرنسا لكنه بغير تخطيط مسبق منها بل بسبب المبادرة المصرية نفسها التي بدأت عصر التحديث والتطوير التكنولوجي والتعليمي في زمن (محمد علي). فقد بدأ محمد علي مشروعه بإرسال البعثات المصرية لأوربا – لا سيما فرنسا وإيطاليا-بغرض جَلْب وتوطين الصناعة والتكنولوجيا في مصر بعد أن اهتم محمد علي بالتعليم وأسس في مصر المدارس الحديثة في سائر المجالات. والغريب أن (محمد علي) كان قد احتاط من كارثة التغريب الاجتماعي والديني التي قد تلحق بالبعثات، لأن أي سياسي عاقل وصاحب مشروع قومي مثل (محمد علي) كان يدرك تماما أن البعثات العلمية إذا انحرفت عن أهدافها في نقل التكنولوجيا وتوجهت لدراسة الاجتماع والأديان وطبائع الأوربيين فهذا معناه انسلاخ هؤلاء الشباب عن ثوابتهم الحضارية وطباعهم الموروثة وأعرافهم الاجتماعية، بالذات في ظل الفلسفة الجديدة في أوربا التي أفرزت خلافات هائلة بين مختلف الشعوب، وانفجرت الفوضى العارمة في استخدام شعار الحرية بشكل متطرف. وقد كانت هذه الفوضى ظاهرة طبيعية لأن الثورة الفرنسية جاءت بالحرية للشعب بعد كَبْتٍ طويل واستبداد أطول، فكان لزاما أن تأتي الحرية المفاجئة بالتطرف التقليدي الذي يُصَاحب الانفجار بعد كبت طويل فضلا على الاختلاف الحضاري الفادح بيننا وبين أوربا. فالجمود الديني والتسلط الكنسي في أوربا كان سبب تخلفها، لأن الكنيسة طَوّعت الدين لأهداف فئة الحكم وقصور النبلاء. ولذلك بدأت أوربا عصر النهضة الصناعية في سائر العلوم عقب أن تخلصت من ميراث التخلف الذي ورثته لقرون طويلة وكان يُحَرّم حتى العلوم الدنيوية التي لا غنى عنها كالكيمياء والفيزياء والفلك وغيرها. ولا أحد ينسى أن الكنيسة حاربت كل اكتشاف علمي يخالف معتقداتها المحرفة، مثل اعتبار أن الأرض هي مركز الكون وأن الكون نفسه عمره لا يزيد عن خمسة آلاف عام، وأن الشمس تدور حول الأرض وأن الأرض ثابتة لا تدور .... الخ تلك المعارك التي نشبت بين العلماء والكنيسة الغربية. بل إن المجتمعات الأوربية في عصور الظلام عانت من تسلط الكنيسة على أمور الفطرة، مثل النظافة والاغتسال، واعترف مؤرخو الغرب بأن أوربا لم تعرف الاغتسال والحرص على النظافة الشخصية، وأنظمة الحجر الصحي ومكافحة العدوى للأمراض المعدية إلا من المسلمين. فيحكي (مارك جراهام) في كتابه (كيف صنع الإسلام العصر الحديث) عن عبقري الطب العلامة (الرازي) الذي عالج أمراضا مستعصية كالإدمان وبعض الأمراض المعدية التي كانت وقتها تفتك بالأوربيين، وكيف أن المسلمين نجوا من هذه الأمراض بفضل حرصهم على النظافة والاغتسال واتخاذ التدابير الوقائية الصحيحة لمكافحة الأمراض ومنع انتشارها، تبعا لما تأمر به شريعتهم من الحض على النظافة. ويضيف (مارك جراهام) قائلا بالحرف: (بينما كان الاغتسال في أوربا محرما كنسيا، ولم يصبح معروفا حتى عصر النهضة الأوربية عندما اخترقت القيم الإسلامية المجتمعات بقوة) وبالتالي فإن الثورة العلمانية في أوربا كانت لها أسبابها المنطقية والطبيعية. بينما الحضارة الإسلامية هي الوجه المعاكس لكل ذلك. فقد جاء الدين الإسلامي للعرب، وهم مجرد قبائل متناحرة يتسلط فيها القوي على الضعيف، وليس لهم عطاء حضاري في عالمهم، ويغمرهم تخلف الشرك والفُرْقة. فجاء الدين والوحي الشريف وخلال أقل من ثلاثين عاما أصبحت الجزيرة العربية دولة كبرى ولم يمض عقد من الزمن عليها حتى صارت القوة الأعظم في عالمها واستمر تفوقها كما هو معلوم لعدة قرون. ومع التفوق العسكري والسياسي انطلق التفوق العلمي كاسحا حتى بلغ في عهد العباسيين والأندلسيين شأوا عظيما وصارت جامعة بغداد وجامعة قرطبة أكبر منارات العلم التجريبي في العالم لعدة قرون" ". وكانت المعادلة العظمى لهذا التفوق هي الحفاظ على التماسك المجتمعي للشعب، والحفاظ على ثوابت القرآن والسنة، ولم يبدأ الانهيار إلا بعد دخول دعاوى التطوير والتحديث في الخطاب الديني والتاريخي وإدخال الفلسفيات العقائدية واستبدال قوانين الشريعة بالقوانين الوضعية، وقضايا الجدل الفارغ التي كانت سببا في انهيار العثمانيين ومن قَبْلِهم الأندلسيين لأسباب م الخلاصة. أن التحكم الديني والموروث الفكري لأوربا كان سببا رئيسيا في تخلفها بعصور الظلام، بينما الموروث الديني والحضاري للعرب كان السبب في خلق حضارتهم أصلا وتطورها. فجاءت دعاوى التحديث من حركة التغريب لتقيس هذا على ذاك وتزعم أن سبب تخلفنا هو ميراث القرآن والسنة والعلوم والآداب الإسلامية! وهي محتويات حقيبة التجديد التي أتى بها حامل القبعة لحامل العمامة، بدليل أن تجديدهم هذا مستمر من قرن ونصف ولم يفرز لنا إلا مزيدا من التبعية للغرب ومزيدا من الانسحاق الحضاري والعلمي، ولم نر علمانيا واحدا أو تغريبيا واحدا أفاد أمته بمثقال ذرة ولا حتى بمجرد الاصطفاف الواحد مع باقي الشعب في القضايا الوطنية. بل خرجوا جميعا للدفاع عن السياسة والثقافة الغربية في المجمل وبمنتهى التبجح خرج منهم من ينادي بضرورة إعادة احتلال الغرب لمصر، وخرج منهم من دعا للاحتفال بدخول الحملة الفرنسية لأنها حملة تنوير، وخرج منهم من دعا لتكريم الخونة الذين اصطفوا مع نابليون ورفعوا السلاح في وجه المصريين، وخرج منهم مؤخرا من اتهم المقاومة الفلسطينية في عملية (طوفان الأقصى) بأنها مارست الإرهاب ضد إسرائيل، وأن إسرائيل دولة صديقة تحارب المقاومة نيابة عن الدول العربية لذلك يتوجب مساعدتها! وهذا ما أدركه (محمد علي) وهو يرسل بعثات التطوير العلمي، واتخذ احتياطه منه لأن الأخطر من الانتماء الاجتماعي لأوربا هو الانتماء السياسي الذي سيجعل من أهل التغريب عملاء وظيفيون للغرب ووكلاء عنه. ونظرا لأن محمد علي كان يُعِد مشروعا قوميا بالأساس، فكان من الطبيعي أن يتخوف من ذلك لهذا أرسل مع كل بعثة طلابية شيخا أزهريا يقوم على متابعة الطلاب ويحرص على بقاء عاداتهم وثوابتهم بعيدة عن التأثر بالانحلال والطبيعة الغربية ولم يكن ما فعله محمد علي غريبا، بل هو شأن أي أمة تحترم نفسها، إذ أن العلوم نوعان. النوع المادي أو التكنولوجيا العلمية وهذه ميراث إنساني متبادل ومشترك بين مختلف الحضارات، نظرا لأن العلوم العملية عبارة عن بناء رأسي يتكامل بعضه فوق بعض، ومن الطبيعي أن تساهم كل حضارة بنوع من الاكتشافات والتطور. والنوع الثاني من العلوم هي العلوم الاجتماعية، وأخطرها الثوابت الحضارية لكل أمة مستقلة ذات تاريخ وشأن. وهذه عبارة عن بناء أفقي غير قابل للتطوير المادي أو العولمة، لأنه خصيصة من خصائص كل مجتمع، فمن الهزل أن نتصور قيام العالم أجمع على طبيعة اجتماعية واحدة، مع اختلاف الأديان والعقائد والتقاليد. ولذلك عندما كانت (اليابان) -العريقة حضاريا-تعاني في نهايات القرن التاسع عشر من التخلف التكنولوجي والصناعة الفقيرة قامت أيضا بإرسال البعثات التعليمية إلى أوربا، وأيضا حرصت على حفظ انتماءات طلابها من الأفكار الاجتماعية الغربية، فكانت النتيجة أن عاد هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم إلى اليابان وأشرفوا على نهضتها الصناعية الكاسحة التي بدأت بصناعة محركات السيارات والتي تطورت لصناعة السيارات نفسها، فضلا على الصناعات البحرية. ولم تدخل اليابان في معترك التقلبات الفلسفية التي كانت تغمر أوربا في هذه الفترة، وكان من نتيجة حفاظ اليابان على ثوابتها وتاريخها وأخلاقها وانتماء شعبها لأرضه وأعرافه، أن تمكنت في سنوات قليلة من منافسة أوربا في الصناعة. بل إن هذا الانتماء الجذري العميق هو الذي وقف خلف تلك الروح القتالية العالية التي امتصت صدمة الضربة النووية في الحرب العالمية الثانية، فأعاد الشعب الياباني بناء بلاده ومصانعه وامتلك ناصية التكنولوجيا والتفوق الاقتصادي حتى ناطح التقدم الأمريكي نفسه. وكانت البعثات في عهد محمد علي تقوم بنفس الأمر، إذ لم يرسل محمد علي البعثات إلا في التخصصات العلمية المعملية، وكان يتابع أحوال البعثات متابعة دقيقة وينهاهم بشدة عن الانشغال بأي شيء إلا تحصيل العلوم المطلوبة منهم مع التدريب العملي لكن البعثات بعد عصر (محمد علي) انحرفت عن أهدافها وتوجهت للعلمانية والتغريب لا سيما عندما بدأ عهد إسماعيل الذي كان حريصا على التغريب في كافة مناحي الحياة. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه اليابان تنقل التكنولوجيا وتقوم بتوطين الصناعة، كانت مصر على موعد مع أول موجات التغريب التي بدأت من الشيخ الأزهري (رفاعة رافع الطهطاوي) والذي كان –للمفارقة العجيبة-ضمن مشايخ البعثات المكلفين بحفظ عقيدة الطلاب! فإذا به ينبهر انبهارا رهيبا بالتفلت الأخلاقي الأوربي ويصدر كتابه (الإبريز في تلخيص باريز) مُبْديا إعجابه بالحفلات الأوربية، والاختلاط، وسمات العيش المنفتح بين الرجال والنساء! ولا أحد ينكر تفوق وعقلية (رفاعة الطهطاوي) ودوره الكبير في تأسيس حركة الترجمة والمؤلفات التي قدمها، وإشرافه على العديد من المدارس التي تم فتحها للتعليم في عصر محمد علي وأولاده. لكن الكارثة الكبرى أن عقليته المتفوقة هذي حرثت الأرض لموجة تغريب طافحة بعد ذلك، إذ أن مؤلفاته وقناعاته في المجال التربوي والاجتماعي انسلخت تماما حتى عن العرف والأخلاق العامة السائدة في ذلك العصر. وقد تم انتقاد ومعالجة فكر الطهطاوي من العديد من المفكرين من معاصري زمنه وممن جاء بعدهم، ومنهم الدكتور (محمد حسين) والعلامة (أنور الجندي)، وغيرهم فيقول الدكتور محمد حسين تعليقا على أقوال الطهطاوي وإعجابه بشعارات الحرية والمساواة التي رفعتها الثورة الفرنسية: (إن الطهطاوي لم يستطع أن يدرك الأغوار البعيدة والجوانب المتعددة لكلمة الحرية، ولم يستطع أن يدرك أنَّ نَقْل هذه الآراء إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى النتيجة نفسها: نَبْذِ الدِّين، وتَسْفِيه رجاله، والخروج على حدوده. لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البرَّاق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية، حين تُمَارس في مختلف صورها وألوانها، وفي أوسع حدودها، فكان كالجائع المحروم الذي بَهَرَتْه مائدةٌ حافِلةٌ بألوان الأطعمة، فيها ما يلائمه وما لا يلائمه، ولكنه لم ينظر إليها بعين حِرْمانِه، ولم يرَها إلا صورةً من النعيم الذي يتُوقُ إليه ويَشْتهِيه ومما يُصَوِّر لنا التَّغَيُّر الفكري لَدَيْه، ما حدث له تحت تأثير إقامته في باريس، ومشاهدته لحال المرأة فيها، حيث أظهر إعجابه بما هي عليه، ونَفَى أنْ يكون الاختلاط والتبُّرج هناك داعياً إلى الفساد، أو دليلاً على التساهُل في العِرْض، وامْتَدح مُراقَصَة الرجال للنساء، ووَصَفَه بأنه فنٌّ مِن الفُنون ولا يُشَمُّ منه رائحةُ العُهْر أَبَداً، وكل إنسانٍ يعْزِم امرأةً يَرْقُصُ معها، فإذا فَرَغ الرَّقْص عَزَمَها آخَرُ للرَّقصةِ الثانية وهكذا كما يُظْهِر إعجابه بالقوانين العقلية، والشرائع الوضعية في المجتمع الفرنسي) وهكذا نرى أن الطهطاوي القادم من قلب صعيد مصر في تلك الفترة من القرن التاسع عشر، أصابته صدمة نفسية عنيفة وهو يشاهد طبيعة علاقة النساء بالرجال في المجتمع الفرنسي ومدى التحلل والانحلال في تلك المجتمعات، فرآها شيئا ممدوحا عندما تذكر طبيعة المجتمع المحافظ الذي تربى فيه! والشيء اللافت النظر أن الطهطاوي –وهو الشيخ الأزهري-لم ير في الملابس المكشوفة للنساء، ولا في مراقصة الرجال والنساء لبعضهم بعضا شيئا معيبا أو عهرا! وإن كان لا يعتبر هذا من العهر. فكيف لم ير العهر الصريح والمكشوف في المجتمع الفرنسي وهو أمر من أعرافهم هناك لدرجة أن (جوزفين) زوجة (نابليون) نفسه كانت تواعد عشاقها في فترات غياب نابليون في الحروب! وليست هذه نقطة الحيرة والدهشة وحدها. بل الحيرة الحقيقية تكمن في أننا لا ندري ما هو الرابط الوثيق بين العلمانيين وبين دعواتهم المستمرة منذ بداية التغريب للانحلال الأخلاقي! ما هو الدافع الغريب الذي يجمعهم جميعا لكي يدعوهم إلى الدفاع عن الزنا والشذوذ والمجاهرة بكل أنواع الفواحش ويعتقدون أنها من ثوابت التحضر! ما الذي يدفعهم إلى الدعوة المستمرة بإلحاح للملابس الفاضحة وهجر الثياب المحتشمة ومهاجمتها والدفاع عن كل رذيلة مهما كان تصادمها مع الأعراف قبل الشرائع! وهكذا نرى أن كتابات الطهطاوي المثيرة، كانت الضربة الأولى التي كان السكوت عنها سببا في نشر هذا الكلام من موظف كبير في الدولة، وبشكل علني، لتجد من يتلقفها ويروجها دون أن يخشى إنكار المجتمع تحت حماية السلطة كالعادة وهذه لا زالت هي اللعبة المفضلة للعلمانيين وهي حرصهم الدائم على الاستعانة بكل قوة تبيح لهم إعلان أفكارهم ونشرها باستمرار حتى يمكن أن يقبلها المجتمع بالتدريج ويقبل وجودها بحكم الاعتياد! الشيء المؤسف أن الغرب نفسه رغم ندائه بالحرية الكاملة وحقوق الإنسان، لا يُطَبّق هذه الحرية بمقدار خردلة إذا تعلق الأمر بثوابتهم الاجتماعية والدينية والسياسية. فهنا يتناسون تماما حديث الحرية ويبرز سيف القانون مرفوعا على كل من يتفوه بحرف ضد ثابت من هذه الثوابت. وقد تعرض المفكر الفرنسي الكبير (روجيه جارودي) للسجن والاعتقال والمنع لمجرد أنه أنكر أسطورة (الهولوكوست) وهاجم اليهود واتهمهم بابتزاز أوربا. ووصل المنع والقهر أيضا حتى إلى مجال البحث العلمي المجرد، فمن المعلوم أن جامعات الغرب ترفض أي رسالة علمية تُبْطل نظرية (التطور) أو تثبت وجود صانع لهذا الكون بل إن الغرب -أثناء أحداث طوفان الأقصى -الذي تفاعلت معه جماهير الغرب نفسه بالملايين، لم تستسلم حكومات أوربا وأمريكا لمظاهراتهم، وخرج المسئولون هناك يهددون بالسجن والمحاكمة لكل من يكتب مجرد تعليق عن وحشية المذابح الإسرائيلية في حرب غزة! وتم تهديد رموز الغرب في الفن والاقتصاد والفكر عندما برز بعضهم ليهاجم الوحشية الإسرائيلية والدعم الأمريكي للدرجة التي منعت فيه الشركات الكبرى إعلاناتها على منصة (تويتر) المملوكة لأغنى رجل في العالم (إيلون ماسك) لمجرد أن سمح بالحرية الكاملة على موقعه لمن أراد دعم فلسطين. ورغم مكانة (إيلون ماسك) الاقتصادية الهائلة عالميا إلا أنه خضع لابتزاز أقوى منه عالميا لزيارة إسرائيل في الأحداث ولقاء السفاح (بنيامين نتنياهو). والنجم الأمريكي المعروف (أرنولد شوارزنيجر) أيقونة رياضة كمال الأجسام والفنان ذو التاريخ العريق في السينما الأمريكية، والسياسي الذي كان حاكما لولاية (فلوريدا)، تعرض لنفس الضغوط عندما سجل كلمة له لدعم فلسطين ومهاجمة إسرائيل على وحشيتها، ورغم أن الكلمة لم تتجاوز الدقائق إلا أنه بعدها بأيام تم إجباره على زيارة عائلة يهودية في أمريكا والاحتفال معهم بأحد أعيادهم التوراتية ثم تسجيل كلمة مطولة يعلن فيها دعمه الكامل لإسرائيل وحقها في الوجود! وبعد كل هذه الديكتاتورية الإجرامية نجد من يخرج علينا من العلمانيين فيواصل الدفاع الهزلي عن الغرب ويواصل مهاجمة الشعب الفلسطيني الذي تم دك أرضه بحجم قنابل تجاوز مجموع قوتها الانفجارية قنبلة (هيروشيما) وهذه النباتات السامة التي تنتشر في الإعلام والسياسة العربية، نتيجة طبيعية لأول بذرة وضعها الطهطاوي بدعوته إلى التقليد الأوربي في الشكل لا المضمون. لا سيما وأن حركة الترجمة التي أشرف عليها ركزت على كتب الفلسفة الغربية بكل ما فيها من تناقضات هائلة، وعقائد منحرفة دينيا واجتماعيا، وقد تم تمجيد أسماء الفلاسفة الجدد في العالم العربي حتى صار بعض المثقفين يخشى انتقادهم لكيلا يتم اتهامه بالتخلف!" " بينما معظم المدافعين عن تلك الفلسفة لم يطالعوا شيئا منها أصلا أما من طالعوا فلم يشرحوا أفكارها للناس بشكل واضح خشية استهجان الناس لتلك الأفكار العقيمة. وبالطبع لم تكن بذرة الطهطاوي وحدها تكفي لو لم تجد الحاضنة المناسبة والدعم السخي والتخطيط طويل المدى. وكالعادة كان الفضل في ذلك كله للاحتلال البريطاني فعندما دخل الاحتلال الإنجليزي، وجد الأرض الخصبة التي يمكن أن يستثمرها لإنتاج أجيال تنتمي للثقافة البريطانية والأوربية في العموم وتقوم بأكثر مهمات الاحتلال خطورة وهي تغريب البلاد ودفعها دفعا للانتماء البريطاني مما يُحَوّل مصر إلى مستعمرة تدين بالولاء لمحتليها. ولم يتحقق هذا الهدف لهم بالطبع، لكن تأثير حركة التغريب كان كاسحا في دعم وجود الاحتلال واستمراره لثمانين عاما، لأن التغريب تسبب في معارك هائلة بين الشعب وبين أفكار التغريبيين مما أدى لانشغال المجتمع بهذه المعارك الصاخبة وإهمال القضية الوطنية، وهو ما أدى لنوع من الاستقرار لقوة الاحتلال. بينما لم يستطع الاحتلال الفرنسي الصمود أمام فوران الشعب المصري أكثر من ثلاث سنوات. وهذه الملحوظة وحدها كفيلة ببيان مدى خطورة السياسة البريطانية في لجوئها للتغريب الديني والثقافي واصطناع الأتباع كرأس حربة بديل عن القوة العسكرية الغاشمة! وهذه المقارنة وحدها تكشف لنا الأثر الفادح لسياسة بريطانيا التغريبية التي استخدمتها في كل مستعمراتها. فقد نجحت بريطانيا –بفضل سياسة التغريب-في السيطرة على الحكم في مصر بثلاثة آلاف جندي، ولم تبادر لوضع أي رجل من رجالها في مناصب الحكم الظاهرة، بل تركت الحكم الرمزي للملك والحكومة التي كان رجالها من المصريين المتعاونين أو الأتراك المتمصرين، ووضعت خلف كل منصب قيادي منصب آخر تنفيذي يتولاه رجالها بشكل مباشر. لهذا طال بقاء الاحتلال الإنجليزي بثلاثة آلاف جندي، وعجز الاحتلال الفرنسي رغم كون حملة نابليون كانت بأربعين ألف جندي في مواجهة مقاومة شعبية دون جيش نظامي مصري كما كان الحال في مواجهة الثورة العرابية للاحتلال الإنجليزي. فالتخطيط البريطاني لمستعمراته يعتمد على استراتيجية دراسة أحوال البلاد المستهدفة دراسة وافية فإذا كانت البلد المستهدفة عبارة عن خليط غير متجانس من عرقيات أو عصبيات أو مذاهب أو أديان مختلفة، فهذا غاية المطلوب، حيث تكتفي بريطانيا بإشعال الصراع المشتعل أصلا بين طوائف الشعب والاكتفاء بدعم كل التيارات المتصارعة دون استثناء ليبقى الصراع سرمديا بين أبناء البلد الواحد الغافلين عن قضية الاحتلال أصلا. وهو ما فعلته في مستعمراتها بشرق آسيا وعلى رأسها الهند ذات الأديان والأعراق شديدة التعدد، مما منحها الفرصة لتكون الهند أكبر مستعمراتها وأكثرها أهمية
|
|||||
|
|