1 _ قصّة الإنسان الأول :
التي تجري في "جنة عدن" , والجنة هذه هي واحة الجنينة بأسفل وادي بيشه , إلى الشرق من سراة عسير , وهي آخر النخيل والعمران في ذلك الصوب .
وعدن هي اليوم قرية عدنة , بوادي تبالة من روافد بيشه .
الشخصيات التي تتحدث عنهم القصة , هي بالتوالي :
1_ الرّب "يهوه" (يهوه) .
2_ الإنسان (هـ _ ءدم , بالتعريف) .
3_ شجرة "الحياة" (هـ _ حييم) .
4_ شجرة "المعرفة" (هـ _ دعه) .
5_ "المرأة" (هـ _ ءشه) .
6_ "الحنش" (هـ _ نحش) , وفي الترجمات العربية المعهودة "الحيّة" .
7_ "الكروبيم" (هـ _ كربيم) , أي الآلهة .
8_ "لهيب السيف" (لهط هـ _ حرب) .
يدقق الدكتور الصليبي في تسلسل أحداث القصّة .
الرب يهوه يبدأ بخلق الإنسان , ثم يهمّ بغرس "جنة في عدن شرقا" , فينبت فيها "كل شجرة شهية للنظر وجيّدة للأكل" .
النص العبري الأصلي , يشير بغموض مقصود , إلى أن شجرتي الحياة ومعرفة الخير والشر , كانتا قائمتين في وسط الجنّة قبل قيام الرب يهوه بغرس سائر الأشجار فيها .
بعد أن أتم الرب يهوه غرس الجنة , أخذ الإنسان الذي خلقه ووضعه فيها "ليعملها ويحفظها" , وأوصاه أن يأكل من جميع شجر الجنّة إلا من شجرة معرفة الخير والشر , محذرا إيّاه أنه "يوم يأكل منها موتا تموت" .
وهذا التحذير لم يكن صحيحا لان الإنسان أكل آخر الأمر من الشجرة ولم يمت .
ويلاحظ أن الرب يهوه لم يذكر للإنسان في تلك المناسبة أي شيء عن شجرة الحياة .
بعد ذلك أوقع يهوه سباتا على الإنسان , فنام , فأخذ ضلعا من أضلاعه وصنع منه امرأة وأحضرها له .
ثم جاء الحنش , وهو "أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الله يهوه" , فأغرى المرأة بأن تأكل من شجرة المعرفة , "فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل" .
ما لبث الرب يهوه أن علم بالأمر , فاستدعى الإنسان وسأله إن كان أكل من الشجرة التي أوصاه أن لا يأكل منها , فألقى اللوم على الحنش .
عندئذ قال الرب يهوه لكل من الثلاثة ماذا سيكون قصاصه على ما فعل .
عند هذا المنعطف في القصّة يضيف النصّ من باب المداخلة أن الإنسان دعا اسم امرأته حواء (حوه) "لأنها أم كل حيّ" .
وهنا تختفي المرأة ويختفي الحنش من مسرح الأحداث , ويبقى الإنسان مع الرب يهوه وحده .
وكان الإنسان , بعدما أكل من شجرة المعرفة , قد أصبح كواحد من الآلهة , بكلام الرب يهوه , "كواحد منّا" (ك _ ءحد _ م _ م _ نو ) , يعرف الخير من الشر بنفسه .
فقرر الرب يهوه أن يخرجه من الجنة طردا , حتى لا يبقى أمامه مجال للأكل من شجرة الحياة والحصول بالتالي على الحياة الأبدية .
وزيادة في الاحتياط , أقام الرب يهوه "الكروبيم" أي الكهنة , و "لهيب سيف متقد" لحراسة الطريق إلى شجرة الحياة .
هذه هي القصة كما يرويها سفر التكوين .
وأول ما يلاحظ , برأي الدكتور الصليبي , بشأنها , هو أن الرب يهوه ابتدأ بخلق الإنسان , ثم غرس الجنة في أرض عدن شرقا , ثم أخذ الإنسان فأسكنه هناك .
والقصة في الواقع , تذكر هذا المكان بالاسم حيث تقول إن الرب يهوه خلق الإنسان (عفر من هـ ءدمه) , وهذا ما يترجم عادة بأنه "تراب من الأرض" .
ويعتقد الدكتور الصليبي أن المقصود هو "تراب من أدمة" .
وما "أدمة" هذه اليوم إلاّ وادي أدمة , من روافد وادي بيشه .
وموقعه بالتالي هو غرب وادي بيشه , وبالتالي غرب عدنة والجنينة , تماما كما في القصة التوراتية .
وما زالت هناك في مرتفعات عسير قرب النماص قرية تحمل اسم الرب يهوه (اسم الفعل من الجذر هيه) , وهي قرية آل هيه , مما يزيد في مطابقة جغرافية هذه المنطقة مع جغرافية القصّة التي نحن بصددها .
يفترض الدكتور الصليبي أن شجرة المعرفة وشجرة الحياة كانتا تمثلان إلهين قديمين في تلك المنطقة , أحدهما إله المعرفة (بالعبرية دعه) والثاني إله الحياة (بالعبرية حييم) .
والواقع أن هناك قرية إلى الشمال من النماص , قرب رأس وادي أدمة , ما زالت تحمل الشكل الآرامي لاسم "إله المعرفة" , وهو آل دعيا (ءل دعي) .
وهناك أيضا قرية أخرى عند رأس وادي بيشه ما زالت تحمل اسم آل الحياة (ءل حيوت) , وهو اسم اله الحياة في صيغته الآرامية والعبرية .
ويذكرنا الدكتور الصليبي بمقطع آخر من سفر التكوين يتحدّث عن الرب يهوه بكل وضوح على أنه لم يكن إلا واحدا بين آلهة عدّة (6: 1 _ 4) .
والمقطع هذا يتحدث عن "بني الآلهة" (بني هـ _ ءلهيم) , وفي ذلك ما يشير إلى أن هؤلاء الآلهة , ومنهم الرب يهوه , كانوا يعتبرون مجموعة قبلية , مثلهم مثل قبائل البشر , كـ "بني إسرائيل" وغيرهم .
ومما جاء في هذا المقطع أن الرب يهوه لم يختلف عن سائر "بني الآلهة" إلا بميزة واحدة , هي الترفع عن مخالطة البشر , على عكس سائر الآلهة الذين كانوا يتزوجون بنات البشر وينجبون منهم قبائل خاصة من النوافل (هـ نفيليم) والجبابرة (هـ جبوريم) .
في قصة آدم , تظهر ميزة الرب يهوه هذه , عن سائر الآلهة , ولكن بشكل خفي .
فالرب يهوه والإنسان هما الشخصيتين الأساسيتين في القصة , أما المرأة والحنش فكلاهما يختفي من القصة بعد أن يقوم بدوره في إغراء الإنسان بالأكل من شجرة المعرفة .
والقصة لا تذكر إطلاقا أن الرب يهوه قام بطرد المرأة والحنش من جنة عدن مع الإنسان , وفي ذلك ما يشير إلى أن الإنسان كان وحده الذي طرد .
السؤال الرئيسي هنا , لماذا لم يقم الرب يهوه بطرد المرأة مع الإنسان الذي كان زوجها في الجنّة , وقد كان إثمها أعظم من إثمه ؟
وتتفرع عنه أسئلة قد تكون بمثابة الأجوبة , أيضا .
هل كانت حواء في الأصل إلهة ؟
وهل كان الحنش في الأصل إلها مثلها ؟
وبالتالي لم يكن للرب يهوه صلاحية في طرد أي منهما من الجنة , كما فعل بالإنسان !
تقول القصة إن الإنسان أطلق اسم حواء على المرأة قبيل خروجه من الجنة لأنها "أم كل حي" (ءم كل حي) .
ولم تكن المرأة بعد قد ولدت أي مولود للإنسان عندما أطلق عليها هذا الاسم .
وكان الأحرى بالإنسان الأول أن يطلق على زوجته اسما يعني "الإنسانة الأولى" , أو "أم كل البشر" , وليس "أم كل حي" , أي , "أم جميع المخلوقات الحية" .
إذن القصة تعطي لاسم "حواء" تفسيرا يقول أنها آلهة للأمومة المطلقة التي تشمل جميع المخلوقات الحية .
يقدم الدكتور الصليبي استنتاجا جوهريا فيقول :
حواء في القصة , إلهة أم لجميع المخلوقات الحية , وكان مقامها أصلا في الجنة , ولم يكن الإنسان الأول يعي هذا الواقع إلا بعد أن عصى أمر يهوه وأكل من ثمر شجرة المعرفة .
وعندئذ فقط علم اسمها وفهم معناه , فأطلقه عليها لأول مرة .
ويبدو أن الحنش أيضا كان من الآلهة الموجودين أصلا في الجنة , وهو إله "الحكمة" و "الدربة" و "الحيلة" (بالعبرية عرمه) .
وما الحكمة والدبة والحيلة إلا من المعرفة (دعه) .
ويبدو أن الحنش كان إلها مساعدا لآل دعيا , وهو إله المعرفة المتمثل في الجنة بشجرة المعرفة .
وربما كانت حوّاء إلهة للأمومة المطلقة مساعدة لآل حياة , وهو إله الحياة المتمثل في الجنة ذاتها بشجرة الحياة .
إذا , نحن بصدد قصة لا تتحدث عن الرب يهوه والإنسان الذي خلقه فحسب , بل عن وضع الإنسان عند خلقه بين ما لا يقل عن ستة آلهة .
تقول القصة ..
خلق الرّب يهوه الإنسان الأول في وادي أدَمَة من روافد وادي بيشه , ثم قام بغرس أشجار خاصة به في جنة عدن , التي كانت أصلا للإلهين آل دعيا وآل حياة , بمعنى أن الرب يهوه أراد أن يعتدي عليهما , ثم أخذ الإنسان ووضعه في تلك الجنة ليعتني بها ويقوم بحراستها من قِبَلِه .
ومنعه من الاقتراب من شجرتي الحياة والخلود والمعرفة , عارفا بان آل دعيا وآل حياة لا بد من أن يحاولا سلب الإنسان منه عن طريق المعرفة بوجودهما , لذلك حذره من الأكل من شجرة المعرفة حتى لا تصير له قدرة على ذلك .
في حين لم يعلمه بوجود الشجرة الأخرى , وهي شجرة الحياة .
لكن كلام الرب يهوه للإنسان لم يكن صحيحا , لان الأكل من شجرة المعرفة من شأنه أن يعطي الآكل المعرفة بوجود شجرة الحياة .
أما الأكل من شجرة الحياة , فكان من شأنه أن يعطي الآكل ليس الموت الفوري , بل الحياة الأبدية .
إذا , هذا التحذير , كان محاولة من الرب يهوه للاحتفاظ بالإنسان الذي خلقه تابعا له .
وبالفعل استاء آل دعيا وآل حياة من اعتداء الرب يهوه على أرض عدن وجنتها , وحاولا سلب الإنسان منه وجعله واحدا من خواصهما .
وكان الحنش "آل حنيشة" , كما قلنا , معاونا أمينا لآل دعيا , فتقرب إله الحيلة هذا من المرأة وحبب إليها الأكل , هي ورفيقها الإنسان , من شجرة المعرفة , مؤكدا لها أن الأكل من تلك الشجرة لن يجلب الموت , ومضيفا بالحرف : "بل الله عالم انه يوم تأكلان من الشجرة تتفتح أعينكما وتكونان كالآلهة عارفين الخير من الشر" .
وكان كلام آل حنيشة بهذا الشأن صحيحا , على عكس الرب يهوه الذي كان من باب الخديعة .
أكلت المرأة من الشجرة , فلم تمت , بل وجدت "أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وان الشجرة شهية للنظر" .
وأعطت المرأة من ثمرها للإنسان فأكل منه هو أيضا .
وصارت لهما صفة من صفات الآلهة , وهي صفة المعرفة .
ويبدو أن المرأة ذهبت إلى ابعد من ذلك , وأكلت من شجرة الحياة (وهذا ما لا يقوله نص القصة في سفر التكوين) , فتمت فيها صفة الإلوهية وتحوّلت إلى إلهة أم تابعة لآل الحياة , ومختصة بالمخلوقات الحية , وصار اسمها "حواء" , وهو اليوم اسم المكان آل حية .
سارع الرب يهوه إلى طرد الإنسان العارف من جنة عدن قبل أن يتسنى له الأكل من شجرة الحياة , فيصبح إلها كاملا كرفيقته .
لكنه لم يتمكن من طرد المرأة من الجنة بعد أن اكتملت فيها صفة الإلوهية .
ولم يتمكن من طرد الحنش من الجنة , لأنه كان هو أيضا من الآلهة .
لكنه اقتص من المرأة , وان كانت قد صارت آلهة , بإخضاعها للرجل , وبفرض أوجاع المخاض عليها .
أما الحنش , فاقتص منه بتحويله إلى أفعى تسعى على بطنها وتأكل التراب .
شدد الرب يهوه الحراسة على جنة عدن حتى لا يتمكن الإنسان من دخولها ثانية للأكل من شجرة الحياة , وأوكل هذه الحراسة للكروبيم , وما هؤلاء إلا الكهنة .
والواضح أن مهمة الكهنة في الأصل , لم تكن لمساعدة الإنسان على اكتناه أسرار الآلهة والوصول إلى الحياة الأبدية , بل لمنعه من ذلك وإبقائه على وضاعة حاله .
وزاد الرب يهوه في تشديد الحراسة على الطريق إلى شجرة الحياة في وسط الجنة , فأوكل هذه المهمة إلى "لهيب سيف متقلب" .
ويبدو أن "لهيب" السيف هذا كان إلها ثانويا تابعا ليهوه ومعاونا له .
..