الماءُ المستعمَل4
وقد يقال إن هذا منه يدل على أنه من خصوصياته، فنجيب بأن هذه دعوى غير صحيحة، لأنه لا يصح اعتبار ما فعله الرسول ïپ² من خصوصياته إلا أن يقوم الدليل على أن الفعل هو من خصوصياته، ولم يقم الدليل هنا على ذلك . والمعلوم للصحابة ومَن بعدهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يصلي فيأخذ الصحابة عنه كيفية الصلاة ، وكان يتوضأ فيتعلم منه المسلمون الوضوء، وإن معظم أحاديث الوضوء التي عمل بها المسلمون هي أفعال منه عليه الصلاة والسلام ، أو أفعال من الصحابة ذكروا أنها تشبه أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانوا يجاهرون صراحة حين يتوضَّأون بأنهم توضَّأوا كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتوضأ، وكان منهم من يقول: إني أَشْبَهُكم وضوءاً برسول الله ïپ²، فهذا الفرض الشرعي أُخذ من الرسول عليه الصلاة والسلام من فعله أكثر مما أُخذ من قوله ، ثم يأتي من يقول إن هذا المسح للرأس من فضل ماء اليدين هو من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، ما هكذا تفهم النصوص!
من هذه الأرضية السابقة ننطلق إلى القول بأن حديث جارية على فرض صحته يُحمَل على مَحْمل الأحاديث السابقة لأنه في موضوعها، والمقصود منه واضح وهو أن يمسح المسلم رأسه بماء جديد، أي بغير ما فضل في يديه، وهذا يضاف إلى الحديثين السابقين اللذين يذكران ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام، وليس فيه جديد، فقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المسلم المخاطَب بأن يفعل في مسح رأسه كما مسح هو رأسه بماء جديد ، كما جاء في حديثي الباب وهما اللذان خالفهما حديثان آخران، واختلاف الأحاديث يدل على إباحة مسح الرأس بماء جديد وإباحة مسحه بماء يفضل في اليدين، فالأمر فيه سعة.
هكذا يجب أن تفهم النصوص، لا أن تُحَمَّل ما لا تحتمل، حتى استنبطوا منها علَّة الاستعمال، وهي غير موجودة في النص لا منطوقاً ولا مفهوماً اللهم إلا لرجلٍ وضع هذه العلَّة في ذهنه وبدأ يبحث لها عن سند.
ولقد اختلف الفقهاء كثيراً في موضوع مسح الأذنين، واستشهدوا بالأحاديث وأعمال الصحابة واستعانوا بمعاجم اللغة، ومدار النقاش يدور حول: هل الأذنان من الرأس، أم هما مستقلَّتان عنه؟ فمَن قالوا إنهما من الرأس، وإنهما بالتالي جزء من عضوٍ، قالوا: إن الأُذُنين تُمسحان مع الرأس مسحة واحدة مشتركة ولا يُؤخذ لهما ماء جديد، ومَن قالوا إن الأُذُنين ليستا من الرأس قالوا بوجوب أخذ ماء جديد لهما. وهكذا أوجبوا لكل عضو مستقلٍّ في الوضوء أن يُؤخذ له ماءٌ جديد، وذلك من أجل الفصل بين الأعضاء، واعتبروا الفصل علَّة لأخذ الماء الجديد، وتركوا هنا علَّة الاستعمال، وبما أن الرأس عضو مستقل فقد وجب عندهم أن يُؤخذ له ماءٌ جديد مستقل عن ماء اليدين، وهكذا أخذوا علَّة الاستعمال مرة وعلَّة الفصل بين الأعضاء مرة أُخرى.
وكمثال على ذلك أقدِّم لكم مقطعاً من كتاب المغني لابن قُدامة (مسألة : قال: [وأَخْذُ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما] المستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً، قال أحمد: أنا أستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً، كان ابن عمر يأخذ لأذنيه ماء جديداً، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال ابن المنذر: هذا الذي قالوه غير موجود في الأخبار، وقد روى أبو أُمامة وأبو هريرة وعبد الله بن زيد أن النبي ïپ² قال «الأذنان من الرأس» رواه ابن ماجة، وروى ابن عباس والرُّبيِّع بنت مُعوِّذ والمقدام بن معد يكرب أن النبي ïپ² مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة، رواهن أبو داود، ولنا أن إفرادهما بماء جديد قد رُوي عن ابن عمر ، وقد ذهب الزُّهري إلى أنهما من الوجه، وقال الشعبي ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس، وقال الشافعي وأبو ثَوْر: ليس من الوجه ولا من الرأس ففي إفرادهما بماء جديد خروج من الخلاف فكان أولى، وإنْ مسحهما بماء الرأس أجزأه، لأن النبي ïپ² فعله). فهذا القول الذي ذكره صاحب المغني عن الشافعي وأحمد وغيرهما صريح في أن ما كان عضواً مستقلاً في الوضوء يُؤخذ له ماء جديد، وهم أصحاب القول بفقد المستعمَل في الوضوء للطُّهورية، فقد ذهبوا إلى أن العضو المستقل يؤخذ له ماء جديد، وهذا دليل واضح على أنهم فهموا من أخذ الماء الجديد ابتداء العمل بعضوٍ جديد مستقل في الوضوء، فعلَّة أخذ الماء الجديد عندهم هي الفصل بين الأعضاء، ثم هم مع ذلك يقولون إن طلب الرسول عليه الصلاة والسلام أخذَ ماءٍ جديد للرأس يدل على منع المستعمل في الوضوء من رفع الحدث؟!.
نخلص من ذلك كله إلى أن المستعمَل يجوز استعماله في الوضوء لأنه يظل ماء، وحكم الماء أنه لا يُجنِب وأنه طَهور، إلا ما غُلب على صفاته وسُلب اسمُه ، والوضوء لا يغيِّر صفات الماء ولا يسلبه اسمه، ولذا يظل طَهوراً وإن أصابه بعضُ الدنس القليل من أعضاء الوضوء، إلا أن يكون المتوضِّيء ملطَّخاً بالقَذَر، فيخرج ماء وضوئه ملطخاً وقد غُيِّرت صفاتُه وسُلب اسمه، فحينذاك لا يجوز التوضؤ به، أو أن يكون المتوضيء مُلطَّخاً بالنجاسة فيخرج ماء وضوئه نجساً، وهذا أندر من الكبريت الأحمر . وبذلك نفرغ من مناقشة رأي القائلين بأن المستعمَل في رفع الحدث طاهر غير مطهِّر، وقد بان الصواب في هذه المسألة .
7- وننتقل الآن لمناقشة الرأي الأخير. اعتمد أبو يوسف القاضي وشيخه أبو حنيفة في رواية عنه على حديث «لا يبولَنَّ أحدكم ...» فقالا: اقترن النهي عن الاغتسال من الماء الدائم بالنهي عن البول فيه، وبدلالة الاقتران والتسوية بين الأمرين نخرج بحكم تنجيس الماء بالاغتسال فيه مثل تنجيسه بالبول فيه ، وعند هذين الإمامين أن دلالة الاقتران تفيد التسوية في أصل الحكم، وفي تفاصيله.
ونجيب على هذه الشبهة إضافة إلى ما سبق بأن دلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، وحتى من يقولون بها، لا يشترطون التسوية بين طرفي الاقتران ، فقد يقترن نهيان أو أكثر، ويكون حكم الأول التحريم وحكم غيره الكراهة، وقد يقترن أمران أو أكثر، ويكون حكم أحدهما الوجوب وحكم الآخر الندب أو الإباحة، فهذه القاعدة التي استندا إليها ضعيفة بل خاطئة لا يجوز أن يُعوَّل عليها، وقد سبق أن أشرنا إلى هذه النقطة بما يكفي.
ثم إن هذا التنجيس من الاغتسال في الماء ليس منطوقاً، وإذا عارضه منطوق نفاه، لأن المنطوق أقوى في الحجة والعمل، وحديث الجَفْنة المار وهو «إن الماء لا يُجْنِب» منطوق فيُعمل به ويُترك العمل بالمفهوم من حديث «لا يبولَنَّ ...» هذا على فرض التسليم بصحة هذا المفهوم وبذلك يسقط الاستدلال بهذا الحديث على ما ذهبوا إليه.
يتبع /5