الاستعداد للحسم :
كان النظام في الأردن يجري على قدم وساق الاستعدادات اللازمة، والتجارب المستمرة من أجل حسم التناقض في ساحة الأردن بين السلطة والمقاومة لصالحه، لقد خدمته مرحلة المقاومة الفلسطينية، كما خدمته قبلها مرحلة الديمقراطية وكان يخرج من الأزمة سالماً صاعداً سلم الأخطاء التي خلقتها قوى المرحلتين، وكلا المرحلتين مصنوعتان لهدف يخدم استمرار النظام، فمرحلة الديمقراطية خُلقت من أجل الارتداد عليها ومن بعد ساقونا معصوبي الأعين، مكتوفي الأيدي، إلى هزيمة عام 1967، وحركة التحرير الفلسطيني والعمل الفدائي على الساحة الأردنية، خلق من أجل:
أولاً: محو مسؤولية النظام التاريخي من ذهن المواطن من جانب رئيسي في كارثة فلسطين منذ وجوده وحتى هزيمة عام 1967 وتأهيله ليلعب الدور الأساسي في هزيمة المقاومة في أيلول عام 1967.
ثانياً: حتى يساق عرب فلسطين وكل العرب الملتفين حول فلسطين حتى يساقوا من خلال التوافق والتناقض المسيطر عليه، إمبريالياً وصهيونياً إلى ساحة المهرجان وأيديهم معصوبة على علم فلسطين ليضعوه على قبة (الصخرة المشرفة) على رأي أبو عمار، هذه هي أساليب الاستعمار القديم والجديد وحليفهما الصهيونية.
وفي هذه المرحلة وفي كل مرحلة سبقتها من تاريخ الصراع على فلسطين، يخلقون واقعاً يمحون به من أذهان الناس، مرحلياً حقائق ترسّخت، من هنا فقد نسي الناس النظام وكل مآثره التاريخية إلى أن ذكرهم هو بنفسه، بعد أن تأكد من واقعين. أولاً: أن القوى الحية في الشعب العربي مقيدة بسلاسل الكذابين وثانيهما أن الشعب في الأردن قد انقسم إلى جمعين، جمع الفلسطينيون وتقوده المقاومة الموجهة بنادقها إلى السماء، وجمع الأردنيون وأكثريتهم في تلك المرحلة مع النظام الذي كان مسؤولوه في منتصف عام 1970 يجولون مدن الأردن وأريافه يوزعون السلاح قائلين، دافعوا عن أحسابكم وأنسابكم فالفلسطينيون يريدون الاستيلاء على أرضكم، هذه حقيقة الواقع قبل أيلول الأسود الذي سودت وجهة المقاومة و(فتح) خاصة.
بداية الطريق إلى حسم التناقض :
أصدرت حكومة السيد بهجت التلهوني أمراً إلى المقاومة يتضمن أربعة عشر قيداً على نشاط المقاومة، طالبة من المقاومة الفلسطينية وضع هذه القيود في معصمها. والسيد بهجت التلهوني، كان أكثر رؤساء الوزارات قرباً من الملك حسين. وهذه الأربعة عشر قيداً، تخرج المقاومة نهائياً من جلدها لتصبح بعد ذلك أداة من أدوات سماسرة السياسة الدولية، وحين أصدرت الحكومة أمرها هذا، كان السيد ياسر عرفات في زيارة للاتحاد السوفيتي، يقوم بجولة على المصانع، وفي كل مصنع من هذه المصانع يعلق العمال على صدره نيشان ذكرى زيارته لهذا المصنع، أن هنا التوقيت لم يأت مصادفة، ومن الطبيعي أن يكون رد فعل المقاومة على القيود رداً يتناسب ومستوى الرفض، وكنت شخصياً حين إصدار هذه القيود خارج عمان، كنت بالتحديد في مقر قياد الصاعقة في قرية عنجرة. وقمت في اليوم التالي بزيارة لقيادة القطاع الأوسط، وأثناء وجودي في قيادة القطاع مع الرفيق (محمد عيد عشاوي) قائد القطاع، أجرت قيادة المقاومة اتصالاً معي تطلب مني التوجه إلى عمان. لأن هناك قتالاً في مناطق عديدة بين المقاومة، وقوات الأمن في مدينة عمان، الأمر الذي يستدعي وجودك لماذا وجودي أنا وهناك مسؤولون في حركة المقاومة وخاصة في (فتح) أكثر قدرة على التعامل مع هذه الأحداث، والتعامل مع السلطة مني، وتبين لي فيما بعد (أي قبل أن أتوجه إلى عمان) أن جهة ما نصبتني نائباً للأخ ياسر عرفات ومن هذا الموقع يفترض أن أكون موجوداً طالما أن الأخ أبو عمار غائب عن المسرح، فصفنت في الأمر فمن خبرتي وتجربتي، حتى لو كنت حقيقة نائباً لياسر عرفات فهناك أطراف في المقاومة وخاصة في (فتح) يزعجها إبراز هذا الأمر أما النظام، فمن المؤكد أنه لا يقبل التفاوض معي من هذا الموقع. إذاً ما هو المقصود الذي لم أتبينه في حينه؟ وبعد ذلك كرروا الطلب بوجوب حضوري إلى عمان.
غادرت قيادة القطاع الأوسط لا يرافقني إلا سائقي وسلاحي الشخصي، وعلى أول مرتفع على طريق السلط ـ عمان ، اعترضني حاجز يحرسه رجال الأمن، ورفض هذا الحاجز السماح لي بالمرور ، فأبلغتهم أن الحواجز على الطرق، تمنعني من المرور فاتصلوا بي ثانية وقالوا إن جميع الحواجز على الطرق لديها أوامر بأن لا يعترضوك، حينها شددت الرحال إلى عمان، وعلى مشارف مدينة عمان بعد خروجك مباشرة من تلال (الجبيهة) واجهت حاجزاً معززاً بالأمن والشرطة العسكرية وبمجموعات من الجيش تأخذ مواقع متخندقة لها على جانبي الحاجز، وقافلة طويلة من السيارات المدنية، كل منها تنتظر دورها بالمرور، في ظل إجراءات بطيئة متعمدة وحين واجهت بسيارتي الحاجز، تقدم مني مساعد شرطة فأخبرته من أنا، وقلت له أنا مطلوب للقاء الحكومة، فأجابني أن مرورك غير مسموح به، فنزلت من السيارة وبندقيتي في يدي، وقلت له، إن وجودي في عمان ضرورة، فتقدم مني والتحدي باد عليه، ومسك بندقيتي من عنقها، وقال إنك لن تمر، ثم حاول سحب البندقية من يدي، فلم يستطع ذلك ، فأمسكها بكلتي يديه، وحاول سحبها من يدي فلم يستطع، فنهرته وقلت له، لا تحاول ذلك إن بندقيتي لا تخرج من يدي وأنا حي، حينها ترك البندقية وقال إنك لن تمر، فعدت من حيث أتيت، ولما رآني الرفيق محمد العشاوي قائد القطاع قال أراك قد عدت فأخبرته بالحال عما حصل معي، وعادوا واتصلوا بي، فقلت عليكم حل مشاكلكم وأنا لن أدخل عمان في ظل هكذا واقع.
هذه الحواجز والمواقع غير المتباعدة والمعززة على كل مداخل عمان، كانت مبرراتها معروفة، فهي اختبارات تجربها السلطة، وتهيئة نفسية لوضع أداة الحكم في موضع الاستعداد الدائم، ووضع المقاومة في وضع الترّقب والدفاع الدائم، ولكن الوضع الذي وجدت نفسي فيه، خلق موقع نائب لياسر عرفات ودعوني للتفاوض من موقعي المخلوق هذا ومن بعد إعادتي ومنعي من المرور لمرات عديدة مع تصرف خشن كل هذا لم أتبين مراميه بعد.
أمضيت فترة الظهيرة مع الرفيق (محمد العشاوي) قائد القطاع الأوسط، وعند العصر وصلت إلى قيادة القطاع، سيارة أمريكية سوداء (مزيونة) نزل منها الأستاذ كامل عريقات رئيس مجلس النواب (الذي انحل بعد هزيمة عام 1967)، خرجنا له أنا والرفيق (أبو وسمة) ودعونا للجلوس، فقال لي: إن الحكومة والأخوان في المقاومة ينتظرونك فسألته: هل أنت قادر أن توصلني إليهم، قال أنا من أجل ذلك قصدتك، فركبت معه في السيارة وقلت في نفسي وأنا راكب معه في السيارة (إن هذا الاهتمام غير العادي بي يثير الريبة). أنزلني من السيارة أمام منزل رئيس مجلس الوزراء، الأستاذ التلهوني، أدخلوني إلى غرفة ضيوف صغيرة، وجدت فيها المرحوم أبو أياد والأستاذ إبراهيم بكر وكذلك الأستاذ عبد المنعم الرفاعي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية. فجلست في المعقد الذي لا يجلس عليه أحد، وبعد دقائق قليلة، دخل علينا الملك حسين، يلبس قميص (سبورت) وجلس في صدر الغرفة على كنبة وحيدة، وكأنها معدّة له، وكنت أجلس إلى يمينه، في مواجهة أبو أياد وإبراهيم بكر، فأخرج سيجارة في حركة هادفة فوقفت وأشعلتها له ,جرى حديث ليس له هدف، لم يأخذ أكثر من دقيقتين، نهض بعدها (جلالته) ليغادر ، ولما لم يتحدث أحد في الموضوع الذي من أجله تحملت عناء ومشاكل الوصول ومنذ الصباح وأنا أغدو وأعود، توجهت إلى الملك قائلاً بالحرف: ماذا نقول للإخوان الذين ينتظرون أجوبة حول الحالة القاتمة ، فابتسم الملك لهذا الأسلوب غير المألوف للتخاطب مع جلالته، وأجابني إجابة لم أفهمها ولكنه كان راضياً، والحقيقة أنني حتى هذه اللحظة لم أكن قد اهتديت إلى الأسباب التي تبرر هذا الإصرار، على أن أكون أنا شخصياً مسؤولاً عن الجانب المقاوم في هذه الاجتماعات ، والتعامل غير العادي الذي عانيته طوال اليوم، هل كان الهدف هو تبيان موقفي الحقيقي من خلال النقاش وطرح الآراء، أم كان الهدف أن بعض الأطراف إن كانت في المقاومة أو في السلطة، كانت تعتقد أنني سأعقد الموقف، بشكل قد يقود إلى الانفجار العام ؟ وهذا الأمر كان مستبعداً في تلك المرحلة ، لأن النظام في حينه لم يصل بعد، إلى التقرير في حسم التناقض بعد خروج الملك حسين، وجدت أن هناك اتفاقاً بين أبو أياد وإبراهيم بكر والحكومة ، أن يجري لقاء بين ممثلين عن المقاومة وعن الحكومة مساء اليوم نفسه في مبنى رئاسة الوزراء.
والأمر الغريب أنني لم أُبـلّغ بذلك قبل وصول الملك حسين ولقائنا به في منزل رئيس مجلس الوزراء.
بعد ذلك خرجنا نحن ممثلي المقاومة إلى مقر منظمة التحرير الفلسطينية، ودعونا جميع قادة الفصائل إلى هذا الاجتماع، وحين وصول جميع قادة فصائل المقاومة، أو من ينوب عنهم، عقدنا أول اجتماع في تاريخ تواجد المقاومة على ساحة الأردن، فشرحنا لهم مضمون اللقاء الذي تم في منزل رئيس مجلس الوزراء والاتفاق الذي جرى على اللقاء الساعة الثامنة والنصف مساء هذا اليوم إلى مبنى رئاسة مجلس الوزراء، مع وفد يمثل الحكومة للتباحث في أمر القيود التي أمرت بها وأصدرتها حكومة المملكة الأردنية الهاشمية، وطلبنا منهم تعيين أعضاء هذا الوفد .
وكما ذكرت، كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ المقاومة الفلسطينية على ساحة الأردن التي يدعي بها كافة قادة فصائل المقاومة لبحث أمرٍ يخصهم جميعاً، مستغلاً موقفي الظرفي كنائب للأخ ياسر عرفات، وللتاريخ أن الأخ أبو أياد يرحمه الله كان مع هذا التوجه.
وعن هذا اللقاء ولدت صيغة ما سمي بعد ذلك (المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية)، وقد سمّى المجتمعون أعضاء الوفد وهم الأستاذ بهجت أبو غربية والمرحوم (أبو أياد) وأبو موسى (ضافي الجمعاني) ، انتقلنا بعد ذلك نحن الثلاثة إلى جبل عمان، حيث مبنى رئاسة الحكومة، وحين وصولنا التقينا بوفد الحكومة في قاعة اجتماعات مجلس الوزراء المكون من، الأستاذ عبد المنعم الرفاعي نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجية في حينه، ومدير المخابرات العامة اللواء محمد رسول زيد الكيلاني ومدير الأمن العام، وكان رئيس مجلس الوزراء متواجداً في مكتبه وفي قاعة الاجتماعات .
وما أن جلسنا إلى طاولة المفاوضات لنبدأ التفاوض، حتى وصل موكب الملك حسين إلى مبنى الرئاسة، فخرج أعضاء وفد الحكومة بمعية رئيس مجلس الوزراء لاستقباله، ودخل علينا في قاعة الاجتماعات وفي معيته رئيس مجلس الوزراء ورئيس الديوان الأستاذ زيد الرفاعي والوفد الحكومي، ومرافقيه العسكريين، وجلس على رأس الطاولة، وفي يده جهاز إرسال واستقبال وضعه أمامه بعد أن جلس، وجلسنا نحن وفد المقاومة إلى يمينه ووفد الحكومة، إلى يساره، وكان يجلس إلى يمينه المرحوم أبو أياد، وأنا إلى يمين أبو أياد ثم الأستاذ بهجت أبو غربية وحين اكتمل جلوسنا جرى إبلاغه على الجهاز، أن المقاومة تهاجم الآن قيادة منطقة البادية ، وقيادة منطقة البادية كانت في حينه مواجهة تماماً لمخيم الوحدات ، وقام بإبلاغنا هذا الأمر، وبعد ذلك أردف قائلاً ما مضمونه ، أننا نريد أن نعرف هل هناك دولة وحكومة لهذا البلد أم أن هناك من يعتبر أن لا وجود لهذه الدولة، فإذا كنا جميعاً نعتبر أن الدولة موجودة وهذه الدولة لها حكومة عليها أن تقوم بواجباتها وتمارس مسؤولياتها ، حينها لن يكون هناك خلاف بيننا ، أما إذا كان هناك من يعتبر أن لا وجود لهذه الدولة ولديه قناعات مختلفة، فلا بد حينها أن نعرف ذلك . فانتظرت أن يجيب على تساؤله المشروع هذا أحد رفيقي، ولما لم يقل أي منهما قولاً يرد به على تساؤلات الملك حسين، عرفت حينها أنني المقصود بهذه التساؤلات وأن عليّ أن أجيب عليها، فقلت : يا جلالة سيدنا أنت لست طرفاً في هذا الذي يجري بين الحكومة والمقاومة، بل أنت حَكم، فسبب هذه الأحداث هي الأربعة عشرة قيداً على حركة المقاومة التي أصدرتها الحكومة دون التشاور مع المقاومة. والمقاومة يا جلالة سيدنا ، لا تستطيع قبول هذه القيود، لأنها بصدق تلغي مبررات وجودها كواقع مستقل له حرية العمل ضد عدو يحتل أرضها، هذه هي المعضلة وحين سماعه لهذا الجواب الذي في تقديري لم يكن يتوقعه ، (جواب موضوعي ولائق) نهض وتبعه أعضاء الوفد إلى مكتب رئيس الوزراء للتشاور غاب مع مستشاريه قرابة النصف ساعة وجاء ببيان جديد يفترض به أن يكون مختلفاً عن شروط الحكومة التي سببت الأزمة، ولما قرأت البيان بتمعن وجدته تماماً كما يقال (بدلاً من أن تمسك إذنك اليمين بيدك اليمنى وتقول هذه أذني ترسل بيدك اليمنى فوق رأسك لتمسك أذنك اليسرى وتقول هذه أذني) ، فصفنت في الأمر ووجدت أن أي نقاش ومحاوره حول مضمون هذا البيان ، الذي لا يختلف عن بيان الحكومة الذي سبب الأزمة إلا في الصياغة، لا يمكن أن يكون مضمون وحصيلة هذا الحوار متفقاً مع اللياقة في أي من حدودها، والمقاومة مبدئياً لا تستطيع أن تساوم النظام على منطلقها الأساسي ، ولا على حرية عملها، وأيضاً قد يقود النقاش والحوار والجدل إلى زلات غير لائقة أمام الملك حسين، إن كان ذلك بالكلام أو السلوك ، فوقفت وقلت يا جلالة سيدنا والله لو أشنق على باب رئاسة الوزراء هذه، ما أخذت بياناً مثل هذا البيان لأعرضه على أخوتي في قيادة المقاومة، لم يظهر أي نوع من الغضب أو حتى الاستياء على ملامح وجه الملك حسين، وإنما الذي تعرض إلي (ربما لأن مسعاه قد خاب) هو محمد رسول قائلاً : ما معناه ولم يقل الكلمة ذاتها (وقاحة أو صلافة) فقلت له مباشرة وعفوياً (أنت ما لك علي شيء) . وفد فهم الملك حسين معنى هذا الرد العفوي، فابتسم ابتسامة عريضة، وبعد هذا القول انفض اللقاء على أن يستأنف بعد ذلك.
ولقد سألت نفسي بعد خروجنا لماذا؟ كان جوابي على ما وجهه إلي أبو رسول، هو ما قلت ولم أكن مهيأ لا لما سمعت، ولا لما قلت، ولم يكن هناك رد أفضل من ذلك، وقد تلقى أبو رسول الإجابة، وحاول ردها على طريقة المخابرات، فقد أرسل رسولاً إلى محمود المعايطة (أبو ساهر) في دمشق، وأبلغه الواقعة مشوهة وقال إن ضافي كان يقصدك ولما ذهبت إلى دمشق التقاني محمود بمنتصف الطريق إلى مكتبه، الذي كنت باتجاهي إليه، وهو (مستعد للهوش) لأول مرة في تاريخ العلاقة الطويلة بيني وبينه. ولما واجهني، قال أنت قلت لمحمد رسول كذا فأجبته، وأنت ما هي علاقتك في الأمر، فاستدار إلى مكتبه وبالتأكيد أن محمود لم يكن المقصود بجوابي ذاك وهنا وصل مخطط تنصيبي نائباً لياسر عرفات إلى نتائج مختلفة عن النتائج المرجوة، وحين صفنت في الأمر قدرت التقدير التالي (الذي يبقى تقديراً ذاتياً) وهو أن أطرافاً في السلطة أهمها زيد الرفاعي رئسي الديوان الملكي آنذاك، ومدير المخابرات العامة اللواء محمد رسول حينها ، وأنا حينما أقول (زيد الرفاعي فلأني أعرف تأثيره في موقعه وعلاقته بحركة فتح) وقرروا على ما يبدو من خلال مخطط مدروس دفعي إلى القبول على الأقل بالمساومة على مبدأ حرية المقاومة، وهذا الأمر يعني الكثير لحركة (فتح) أولاً، وللنظام ثانياً، والأهم بالنسبة للتنظيم الموحد (لحزب البعث العربي الاشتراكي) وقوات الصاعقة المسؤول الأول عن قيادتهما وإلا ما معني تعييني في هذا الموقع رغم مواقف (أطراف هذا اللقاء المعارضة لذلك) وذهابي وإيابي من على الحواجز المنصوبة على الطرق والعيون الحمراء التي واجهوني بها على جميع هذه الحواجز ومن بعد ذلك حضور الملك حسين شخصياً هذه الاجتماعات، الأمر الذي يفرض علي أخذ هذه الأمر بالاعتبار وهو تقدير صحيح ومن ثم حضور شخصيات فلسطينية معروفة مثل كامل عريقات وداود الحسيني وغيرهم، ووجودهم يعني أنهم مع توجه النظام وهم كذلك، وأخيراً أنني من وجهة نظرهم (طالع من الدم) كما يقول المثل العشائري في عقليتهم، أي أنني لست فلسطينياً وكنت قد اقتنعت تماماً في هذه المرحلة، أن حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) تسعى إلى الهزيمة أمام النظام وأن كل هذه العوامل مجتمعة، ترغيب وترهيب ومجاملة، كانت تسعى إلى دفعي للقفز فوق قناعاتي ولكنني لم أفعل لقد قلت أن هذا اجتهاد، ففي المؤامرات التي لم تكشف، لا يعرف الحقيقة فيها إلا المتآمرون.
عودة أبو عمار إلى عمان :
في صبيحة اليوم الثاني للقاء وفد المقاومة بالملك حسين ووفد الحكومة، عاد أبو عمار من رحلته إلى الاتحاد السوفيتي آنذاك وكان قادة فصائل المقاومة مجتمعين في مقر منظمة التحرير الفلسطينية لمناقشة ما دار في مباحثات الليل الفائت مع وفد الحكومة، وحين وصل أبو عمار إلى أحد مقرات (فتح) العديدة، أبلغني أبو أياد بذلك، فذهب أبو أياد والرفيق يوسف البرجي عضو (قيادة التنظيم الفلسطيني) عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لاصطحابه إلى مقر الاجتماع، إلا أنهما عادا بدونه فسألتهما لماذا لم يأت أبو عمار ليترأس الاجتماع، فقل لي أبو أياد (يرحمه الله) الأفضل أن تذهب أنت إليه وتتكلم معه، فاصطحبت أبو أياد وتوجهنا للقائه وقد أدركت أسباب التمنَع , فلما التقيناه هنأته بالسلامة وقلت له، يا أبو عمار لا أحد في المقاومة يستهدف تجاوزك، وهذا الاجتماع والصيغة التي يمثلها فرضتها الأحداث التي جرت في غيابك وأنت حر في كيفية التصرف تجاهها فهذه مسؤوليتك ، فارتاح لما قلت ونهض معنا إلى مقر منظمة التحرير، حيث المجتمعون ترأس الاجتماع، ومن بين حضور هذا الاجتماع الدكتور منيف الرزاز ممثلاً لجبهة التحرير العربية، وبدأ هو حديثاً مطولاً لا تعرف عن ماذا يتحدث؟ يسرح في المجتمعين بكل الاتجاهات، حديث ليس له علاقة بما هو مطروح في هذا اللقاء، ولا بالظروف والأحداث التي سببت عقد هذا الاجتماع صلافة وقدرة على تجاوز حقيقة هذا الاجتماع وأسبابه والرجال المجتمعون في حينه لا يضاهيهما قدرة، فنظر إليّ الدكتور منيف… بمعنى ما هذا؟ فنهضت من مجلسي في الاجتماع وخرجت إلى الصالون أنوي الخروج إلى الحديقة، وحين فتحت الباب الرئيسي أهم بالخروج إلى الحديقة سمعت خلفي (نحيباً) فالتفت، فإذا بالأستاذ (بهجت) ينتحب قائلاً لي: (شو هذا يا أبو موسى). وأنت لا تعرف الكارثة!!، إلا حينما تسمع نحيب رجل مثل هذا الرجل الباسل الذي قتل مدير بوليس القدس وعمره آنذاك ستة عشر عاماً، هذا الرجل المؤمن بقضيته رفيق عبد القادر الحسيني، أفنى عمره يقاتل من أجلها، ينتحب لأنه يرى وطنه يدفع به إلى الهاوية، وهو لأول مرة في تاريخه وتاريخها لا يستطيع الدفاع عنها.
إنني أضع هذه الصورة الحقيقية المعبرة أمام القارئ، لأعينه على معرفة الواقع الذي يجهله وكم كان المطب الذي يحفر لهذه الأمة وإنسانها عميقاً، وإلا ما معنى أن يتجاهل (قائد ثورة الفلسطينيين) الواقع ويقفز فوقه؟ إلى أين؟ إلى المجهول...، لا لسبب، إلا لأنه لا يريد من أحد، إن كان هذا الأحد مقاوماً، أو إنساناً عادياً مهتماً بقضيته، أن يعرف اتجاه المسار لا نسيباً ولا بالمطلق تعتيم كامل على الحقيقة، وعلى الأطراف التي تعمل من أجل طمس هذه الحقيقة وهذا الأسلوب الذي يعالج به رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الأزمة، يدل أنه لا يوجد هناك أزمة وأن الأزمة التي افتعلتها الحكومة مع المقاومة هي أزمة هادفة، الهدف منها اقتناص فرصة غياب ياسر عرفات لتحقيق نجاحات على صعيد تقييد حرية المقاومة، وإلصاق التفريط بالجبهة التي قادت هذه المفاوضات.
تكرار الأزمات وصولاً إلى أيلول 1970 :
من المعروف بداهة، أنه في واقع سياسي وصل التناقض فيه إلى نقطة التحول الكيفي بين قوتين، كل منهما تريد فرض نهجها على الواقع سياسياً. من المفترض حينها أن يعد كل من الطرفين عدته لحسم الصراع لصالحه، هكذا كان الموقف بين النظام في الأردن وبين المقاومة في أوائل النصف الثاني من عام 1970 - وأنا هنا سأبيّن قوى هذا الواقع، المتقابلة ضمن التجربة التي عايشتها لقد قلت أن من ينظر إلى الواقع من خارجه، يظن أن هناك خندقين متقابلين، هما خندق المقاومة الفلسطينية، وخندق النظام الأردني والحقيقة أن الأمر لم يكن كذلك لقد كان خندق النظام موحداً ولو ظاهرياً هدفه إنهاء التناقض وإعادة السيطرة على الواقع وهذه طبيعة كل نظام. أما المقاومة التي كانت تقودها حركة التحرير الفلسطيني (فتح) وبالتالي يقودها (أبو عمار) من خلال رئاسته لمنظمة التحرير الفلسطينية، فلم تكن قواها موحدة وكانت رؤاها متعارضة، بل متناقضة بين بعضها فحركة (فتح) لا تستهدف النظام بل هي حريصة عليه كما هي حريصة على كل نظام يعينها على تحقيق استراتيجيتها، وكذلك فهي تخشى البديل عن النظام، لأن أي بديل للنظام لا بد أن يكون وطنياً يستحيل عليه تبني مضمون استراتيجية (فتح) (التي هي كيان فلسطيني غير معروف المواصفات) يتم الوصول إليه من خلال التفاوض، وليس الصراع أما التنظيم الفلسطيني الموحد لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقوات الصاعقة، ففكرهم واضح ونهجهم واضح وبالتالي فإن استراتيجية البعث متناقضة تماماً واستراتيجية (فتح).
صحيح أننا لم نطرح شعار إسقاط النظام، ولكننا طرحنا البديل الصحيح، وهو الدفاع عن المقاومة وصمودها أمام محاولات النظام لتدميرها وأنت إذا صمدت أمام محاولات التصفية يعني أن عدوك يتراجع. ففي اجتماع لي مع تنظيم الحزب في الجيش كان بينهم قائد كتيبة، وقائد سرية محمولة، ومدرعات في منزل الرائد (فالح زعل الكتعان الفايز) في قرية (منجا) حضره الرفيق عبد الرحمن العرموطي. قلت للمجتمعين إننا لا نستهدف الإطاحة بالنظام، أو الاستيلاء على السلطة، إن هدفنا هو الدفاع عن أنفسنا وعن المقاومة، أمام هجوم النظام الذي يستعد له، وهدفه تصفيتنا، وانا أطلب منكم من خلال مواقعكم في الجيش ومسؤولياتكم العسكرية العمل على إفشال هذا المخطط، طبعاً هذا القول يقوله مسؤول ليس لديه خطة لمواجهة المقبل من الأخطار. وأنا لم تكن لديّ هذه الخطة وهو قول عام، لأنني لا أستطيع أن أقول قولاً هادفاً ضمن خطة لأنه ليس هناك خطة أولاً، وثانياً لأنك في هذا الواقع لا تعرف من معك ومن هو عليك.
لقد قلت أن الأربعة عشر قيداً على حرية المقاومة، التي ضمّنتها الحكومة الأردنية بيانها، كانت خط البداية لسير النظام في مخططه الذي يستهدف تصفية المقاومة، والمفترض أن يكون هنالك خطة مقابلة لإفشال مقاصد النظام خاصة وإن المقاومة لم تعد فصائل متفرقة لا يجمعها جامع، فقد أصبحت فصائل أساسية وجزأ موحداً في وعاء منظمة التحرير الفلسطينية، تقودها قيادة سياسة واحدة، ودائرة عسكرية، كان يرأسها العميد عبد الرزاق اليحي قائد جيش التحرير الفلسطيني سابقاً، قوات اليرموك، وهو عسكري وضابط كفء، فإذا لم توضع خطة موحدة لقوات المقاومة، ولم تكن المقاومة قادرة فقط على إفشال خطط النظام، ولكنها قادرة أيضاً على جعله يعرف قدر نفسه، ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ والهدف ليس سلامة المقاومة فقط ولا إفشال مخطط النظام ضدها والذي من المفترض أن يكون كذلك للحفاظ على وجود ومكتسبات المقاومة، وإنما كان الهدف مع الأسف، هو الاستمرار بالمؤامرة، التي انتهت صفحتها الأولى بهزيمة 1967 والآن بدأت صفحتها الثانية، وهي سحق القوى الحية في الشعب العربي الفلسطيني، وفي الشعب المحيط بفلسطين من خلال مخطط جهنمي لا يمكن أن تتجه إلا مخابر الإمبريالية والصهيونية وحلف الأطلسي، منفذة بأيدي وأدوات أصبحت أوضح من النهار، وهذا المخطط يقتضي صراعا فلسطينياً أردنياً , فلسطينياً سورياً ، وفلسطينياً لبنانياً، تمثل الأنظمة القطرية فيه شعب كل قطر في هذه الأقطار ويمثل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الشعب العربي الفلسطيني، من أجل أن يصبح كل عميل في هذا المخطط، بوقاً من أبواق الإمبريالية والصهيونية الفاغرة فاها في كل أنحاء العالم والممولة بشكل رئيسي من أموال نفط العرب في الجزيرة العربية.
إن هذا الشعب الذي يذبح بيد الأردنيين والسوريين واللبنانيين وغيرهم في أماكن تواجدهم حول فلسطين وحتى أبعد من ذلك لا بد له من أرض تعطيه هوية، يستطيع التنقل بها في بقاع العالم (مقولة أبو مازن محمود عباس) ونظام يهتم بشؤونهم ويحميهم من هذا التشرد والاضطهاد، وهي نفس مقولة الصهيونية التي تكونت في رحم الاستعمار القديم (شعب مضطهد ومشرد لا بد له من وطن يؤويه وكيان يرعى شؤونه) يكرره الاستعمار الجديد، لأداة جديدة ومضمون جديد أكثر خطورة على الهدف الذي من أجله وجد كيان "إسرائيل" ألا وهو منع الأمة العربية من التوحد والنهوض، وإلا ما معنى أن يأخذ مسار تحرير فلسطين الذي قادته (فتح) ويقودها ياسر عرفات لوحده؟ بعد أن لم يبق معه من إخوانه المؤسسين إلا توأمه أبو اللطف. هذا المسار الخارج عن المعقول من سوريه إلى الأردن، ومن ثم إلى سوريه ثم لبنان ساحقاً خلال هذا المسار كل القوى الحية في الشعب العربي في الأردن وسوريه ولبنان، والأهم في صفوف الشعب العربي الفلسطيني، بعد ذلك يخرج إلى المتوسط متجهاً غرباً، محمولاً على سفن الأطلسي (وكامب ديفيد) بعد أن داهمته قوات جيش الدفاع "الإسرائيلي" من فلسطين حتى بيروت وجيش "الحركة التصحيحية" في سوريه من البقاع والشمال حتى طرابلس كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ لو لا أن القوى التي قادت هذا المسار هي قوى قادرة على فعل اللا معقول وغير الممكن.
ومن الطبيعي أن يرد إلى ذهن القارئ هنا تساؤل مشروع، وهو طالما أن التنظيم الفلسطيني الموحد لحزب البعث العربي الاشتراكي يمتلك الرؤيا الصحيحة والنهج السليم لماذا لم يسلك الحزب وقوات الصاعقة هذا الطريق الصحيح لتحقيق رؤيته على الساحة الأردنية؟ أنا هنا سأجيب ليس على هذا التساؤل المشروع فقط، ولكن على فهم الكثيرين من ذوي النوايا الحسنة التي كانت قناعتهم لا تتفق وحقيقة أسباب هزيمة المقاومة، وإن كان المسار الطويل المتعرج، قد أجاب على بعض هذه الأسباب، إنني سأبين حسب معرفتي وقناعتي إمكانات القوى المتواجدة على ساحة الأردن، ودورها الذي مثلته أثناء عملية الصراع وفيما تقدم من هذه الفقرة، أوضحت فهمي وقناعتي لاستراتيجية (فتح) وكذلك أهداف النظام في الأردن والآن سأبين من معرفتي وقناعاتي واقع القوى على ساحة الأردن في حينه، ودورها الذي مثلته أثناء عملية الصراع التي أغلقت الطريق أمام الفعل الصحيح، للقوى ذات الرؤية الصحيحة والنهج السليم وأقصد بذلك التنظيم الفلسطيني الموحد لحزب البعث العربي الاشتراكي وقوات الصاعقة.
والقوى المؤثرة والمتواجدة على ساحة الأردن هي :
أ- قوى النظام .
ب- القوات العراقية .
ج- حركة التحرير الفلسطيني (فتح) .
د- التنظيم الفلسطيني الموحد، قوات الصاعقة.
ه- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
و- الجبهة العربية لتحرير فلسطين.
ز- الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .
وأية قوى أخرى، هي في حقيقة الأمر امتداد لهذه القوى (1) قوى النظام (2) القوات العراقية (3) ووسائل دعاية وإعلام تتناسب وإمكاناته مبنية هذه القوات، وأجهزة على شاكلة كل بناء يبنيه الاستعمار الجديد للدول التابعة له ومعضلة النظام في الأردن تكمن في ذاته فهو يعرف أنه لا يستطيع في يوم من الأيام أن يخلق قوة وقدرة من ذاته تحمي هذه الذات، ولذلك فهو دوماً يعتمد على الصهيونية والعالم الحر كما يسميه، وأيضاً بمن يلوذ بهذا العالم الحر من دول الإقليم عرباً كانوا أم غير عرب صحيح أنه خلال الأزمة، كان يمتلك جيشاً قوامه أربعة ألوية مشاة مع أسلحتها المساندة إضافة إلى بعض الوحدات المستقلة كالحرس الملكي يضاف إلى ذلك قوى الأمن الداخلي لكن أداته هذه، كانت تحمل في تكوينها نقاط ضعف قاتلة بعضها هو التالي (أ) إن أداة النظام هذه تحمل إرثاً ثقيلاً من اللامصداقية لمقولات النظام الوطنية والقومية مهما كانت هذه الأضاليل متقنة (ب) إن هذه الأداة تنقصها القناعة بصحة الهدف ومشروعيته خاصة والهدف هو قتال المقاومة. وهي التي تحمل إرثاً ثقيلاً من الهزائم أمام العدو الذي تقاتله المقاومة في الوقت الذي تنقص الأكثرية الساحقة من عناصر هذه الأداة قناعة التضحية بالنفس لمصلحة النظام ضد المقاومة (د) الانقسام في هذه الأداة (عربي فلسطيني - عربي أردني) هذه الحقائق وغيرها تجعل أداة النظام هذه غير قادرة على هزيمة المقاومة.