في جعبة الحكايات ( من حكايا شهر زاد )

[راحيل الأيسر]

حين يهبط الليل
يرتب في الملكوت الهدوء
تصمت الأشياء وتغيب أنفاس النهار ..
تسري البرودة في صهد الرمال
تنام ذرات الصحراء بعد أن تهدأ لهيبها ..
تنام على تهويدة الريح
وحكايا الليل الودود ..

وهناك في ضفة أخرى
يرسل القمر خيوطا فضية ليلمس بها خد النهر
فتترنح موجاته الهادئة كارتعاشة خجلى ..
أذرع الريح تحتضن الأشجار ومن ثم تهز ثباتها / وقارها ..
لسعف النخيل
صوت رخيم
مزيج شهقات الفرح
وبكاء المسافات في حضن الغياب الطويل ..
كما للنهر صوت عتيق
وذاكرة مرايا
له على الرمل
فضل الحناء على كف الحسناء
إذ يزين بروائه زهورا ، يخضب بالأحمر ضفتيه ..
لماذا البحر مأوى الأسرار ؟؟
فهذا النهر أيضا له أغرودة
له حروف تشكلت قصيدة من قلب الأرض ..
له حنين صاعد حتى سعف ذاك النخيل إذ يبكي الغياب في حضن ريح رؤوم ..
له هدوء نأمات الأمهات
له مرايا يستذكر فيها كل ليلة قمرا
فيظهر ضوؤه الباكي على صفحة ذاكرته ..

[راحيل الأيسر]

الشمس لم تكن أنثى الغواية
فهذا الليل قد قميصه من قُبل
لم تلبث في سجنها
سوى ساعات من عتمة
ثم تجلت للأفق
كلمها الصبح بدفقات من حنين
وشلال دافئ من اشتياق
ضاق به صدره إذ مكثت في عزلتها الدهماء برهة من زمن ..

الصباح المتلهف مشط جدائل الشمس ببالغ الحنو
ينسيها غيهب البعد
من جدائلها بتناثر الضياء
فيتلألأ الوجود ..

ياشمس
يا لدفء الحكاية في ربيع وجودك ..
تذيبين صقيعا تراكم في أيسر الضلع ..

تزيحين الستائر المعتمة عن نوافذ قلب تسمر القلق في وجهه ..
تزيلين شوك المشاعر من مخابئ الذاكرة ..
إذ في نورك الفأل
وفي دفئك زغرودة فرح
وفيك صبوة غانية تراقص الكون
على جديلة ضوئها ،
تأكل قلب المتيم بضربة
خلخالها ..
طويتُ طريق السهد ، وعلى وهن خطوتي بلغتُ بابك
تركت نصفي المشطور
هناك على خد ليل كئيب
جئتك كي أبتهج لبراءتك
من دعوى الغواية ..
وتركتُ خلفي ليلا كئيبا ..!

[راحيل الأيسر]

وقبيل أن يختلط غلس الليل بِشوْبٍ من ضياء وردي
وقبيل أن أمسح نوافذي البلورية من ندى الأصباح ..
أغرق داخل صمت عميق
كي أتشبع بمفردات الليل قبل أن يرحل ..
وقد شهدتُّ انفلاق بذرته مع الغروب
كسوسن داكن حزين
سقيت بدمعة حسناء
تكحلت ؛ فأقام الليل متيما
عند شرفات عينيها ،
ذاع سره رغم كتمانه ،
حياءً ينطفئ
يُعَصفَر بالخجل الأفق
يرحل وحده ..
وقد لملمتُ في عيني
وبين جوانحي منه الكثير في لحظات سكينتي بين يديه ..

هأنا أمشي في دروب الصباح ، وينكرني
متلفعة ظلال الليل الذي تجذر داخلي
فأصبحت ظلاله تقيم داخل قلبي المسجور ..
أصبح قسمتي
أمشي في مناكبه
، أكتفي به رزقا
ويأكل من مزقي ..
ترانيم الصباح التي تخرج من أفواه الكائنات صاخبة
لا تتمدد في روحي بموسيقاها العاليه ..
بل تنساب هادئا ، وتفرش لي بساطا من السحر
يأخذني حيث الليلة الأولى
حين بكت الحسناء فوق زهر حزين وانفلق في الأفق سوسن داكن .. وصار متيما بكحل عينيها .. !

[راحيل الأيسر]

لا تزيحي رأسي عن حجرك
حان وقت شروق حكاياتك
في عتمة روحي ..
احكي لي وأنت تفلين حيرتي
ثم تلقين في روعي الدهشات
تجدلين الأقصوصة بخيوط المتعة وبريق الإدهاش ..
ترمين في بئر الأمس دلو سردك العذب ..
احكي لي أماه عن الطين إذ تشيد به البيوت ،
عن الفخار معنى الرواء .

احكي لي عن ملامحي الأخرى
حين كانت بريئة تحاكي زهرة بيضاء
احكي لي عن بريق عيني
قبل أن يتغرغر الحزن في أوردتي ..
احكي لي عن أصوات العصافير
حين كنت أسمعها بنشوة أعلى
حين كان الصبح أشهى ..
حين كنت تنزعين من السماء نجمة
لأطل من فراغها على عالم الأحلام ..
احكي لي يا عود ريحان سقطت من الجنة ..
احكي لي يوم لم يكن الحنين يثبط خطوي ليستفز الذكرى في مواجعي ..
ولا يغذي النسيان سيري كي أنأى بروحي ، وأفر بها عن أمس مرهق بائس ..

احكي لي عن مخارج حروفي المتلعثمة رغم الأمان ..
وسأحكي لك عن فصاحتي رغم الفزع
رغم القلق
رغم الحذر ..
احكي لي عن طرحة سوداء
كنت أوصلها بشعري ليطول
فتنفرج أساريري فرحا
وسأحكي لك عن السواد ذاته كم عشعش في رأسي وأسكنني في تنهيدة طويلة ..


احكي لي يا أماه .. !
ولا تزيحي رأسي المثقل عن حجرك .. !

[راحيل الأيسر]

فأنا أتوهج حتى أستحيل نارا
وهذا القمر ضوؤه بارد
فلا عجب أن يغار

فالنار وإن كانت خافتة لها قوة تطغى ،
تثير الروائح
تماما مثل جمرة في
مباخر العود ..
تخلق ضبابة فوقها
كغيمة تشكلها الخيالات كيفما اشتهت..! ..

[راحيل الأيسر]

ولأني أستحيل نورا في عتمة الدجى .. أجدني أختبئ في سراديب الليل
هناك يستيقظ فيّ كل أحاسيسي الأوارة ، فأشع كماسة صقلتها الضغوط ، شكلتها حرارة العواطف المتقدة ..


هذا النور الذي أختبئ منه
أجدني أقبل يديه كل صباح ..
أبره وأنا العاقة له
ولا أملك أن أعقه وأنا البارة به ..




_------------------------_




مفردة الأوراة : هذا استخدام حديث لكلمة ( أوار ) وجدتها في كتابات الكثير. من أدباء اليوم .. واستحسنتها
ووقعت في نفسي ..
لمن لا يرى صحتها أن يستيدل ( وهاجة ) بها ..

[راحيل الأيسر]

لا تسرد الأحلام قصتها للجفون الساهرة ..
؛ فيحمل الليل الرؤوم مكتله من قطوف الحكايات ..
جنياته تحوم حول المسهدين
تلقي التعاويذ ، تتمتم بالأسرار ..
في تفاصيل حكاياته جمرات الشوق
أنين البعد
ما يجعلنا نشتعل حتى نمسي شبيها للنجمات
أو نتوهج قمرا
يفضض صفحة السماء
إذ ترتقي هناك الروح ممسوسة
بنداءات ظل ارتحل
ترتقي إذ ترى في مرآة القمر المصقولة صورة
ذاك المرتحل .. !

[راحيل الأيسر]

ذات جنون ومجون
امتطى سيد الحرف صهوة الشعر
ومضى نحو جزيرة النساء
في حكايا سندباد
يدهن الطريق بلون القصيد
بصوت القريض
بسكون تفعيلته
وعصفة بحره
الشاعر المعجون بنبيذ
الحرف المعتق ..
بلحون قوافٍ تغزل في القلب الأمنيات ..
تلوح في سمائه قبائل من النساء
يسقن الدلال
يفصحن عن معان
شاردة للغنج
وكيف يتجسد التيه نشوة
في لحظات الشرود
وانصهار الروح
يبدون في سمائه وحده
كمواكب الأقمار
عاديات من النجوم
وهو يغرز في جدائلهن
أقحواناته وسوسنته
فهن الغناء
ومواسم الربيع
يخبئ في أعينهن أحلامه
وينسى بين أذرعهن أعوامه الرتيبة ..
طفل في أول اللقاء
وفي آخره منتهى الرجولة ..
أيا عاشق جزيرة النساء
تذوق من الرحيق ما تشاء
ستنتهي بك الدرورب
هنا في أيسر الضلع
أسقيك حلما
وتكتبني تحت أهداب الليل
عشقا .. !

[راحيل الأيسر]

ويحدث أن يهبط القمر من عليائه
يخطو حتى أعتاب ليلي
من قلبي المسجور بالجوى
يتوسل قبسا من نور ..
يوهمني أن ضوءه على وشك النضوب ..

يا غائبا عن دروبي
في البعد تجبرا
خذ اشتعالاتي كلها
لأجل عينيك
حتى أستحيل
رمادا ..
خذ جذوة قلبي المتقدة بك
ضعها تذكار نور
إذا ما نسفت رمادي في مديد المسافات نسفا ..

ألأجلي جئت
تطرق ليلي ..؟؟!
مازلتَ في قلبي يقينا
وإن نأيت
وادعاءً
- إلى دربي - ما اهتديت ..
ثم غفوتَ في بعدك ملء الأجفان
وسهرتُ ليلي أرقبك
ضممتُ كفي بالدعاء أدثرك
تغيب بلا سؤال
وأنا أتكور على نفسي حنينا
ثم أدحرحني من كوة الأشواق
كي ألامس خفقتك ..
كي أدسني فيها
فتذكر سهوا
أن في الأرجاء
شخصا يرقبك
يحمل وزر الليالي
على كتفيه كقنديل
وما كان له في ذمة العتمة
إلٌّ ولا دين..
سوى ناشئة من الليل هي عليه أشد وطئا
وبقية
كانت إليك وليجة ..

[راحيل الأيسر]

الصبح كريم
لا يبخل أن يلقي إليَّ طوقاً من ضياء
ينتشلني من موج الليل ..
يلقي إليَّ قبساً من نور
إلا أني من أقيم عند شط الغروب
أغمر قبسه هناك فينطفئ
ويُطفأ معه الكون ..
أنا يا صبح ما وأدت الضياء
بيد أن لي قلب عشق المساء
بذر في سكونه تباريح وجده
غلف بصمته نشيج نبضه
وإذا ما جف في عينيه أنهار الحلم
تفجر بالدمع الهتون ..
هذي العيون
إذ من السهر ذاقت قنى
واغترفت من هدأة الليل الرضا..

تواسي فيه حزانى كالسكارى
يترنحون تحت أهدابه
والوجود في غطيط النوم يقنى ويهنى ..
كل مافي ربوع الليل يستجيش الوجد ..
إلا أني بالحب المعتق أمسح الحزن نفضا من رؤوس المعاني
أربت على أكتاف روح تفتأ تغتسل في بحور عيون مبتهلة ، فتسقيها السكينة ..
للضوء في الليل أراجيح
تجئ وتروح
مذبذب السكون
متحير الوجود
و رعاع الحزانى يردون ماء مدين
ليسقون من ذهولها ..
وذا الحرف حرفي لا يسقي حتى يصدر الرعاع ..
فأبيت حتى أطوي الليل وأبلغ باحة الضياء ..

[راحيل الأيسر]

قال : مساء لست فيه
فوّات الشغف ..
شحيح الصبوة
مساء لا يسكر من خمر عينيك
دجّال الهوى ..
مساء لم يحملك موجه
كحورية إلى شط قلبي
يجسدك على مرأى تلهفي
مساء لم تمنحك رياحه الغربية
قيثارة تجاري أوتار حنجرتك ؛
مساء مطفف أجحف كيل الصب ،
ما أوفاه حقه ..

قالت : مساء لا يستل مقلتي من غمد النعاس
لم يعتقني نبيذا في جرار القوافي
لم يرتلني قصيدا
ويعبر بي صحراء الأسى والفتور
كأسطورة من خيال ..
مساء لم يجعل مني فتنة الربيع
دثار الشتاء
لم يُصْلِ بجذوتي الحارقة فؤاد الحبيب
لم يجعل من عيوني الناعسة
شرفات تهيم بها قلوب العاشقين


سديمٌ سديم
ومحض زمان
سيول النسيان تجرفه
ولا تشرق عليه
شمس الذاكرة ..

[راحيل الأيسر]

اللحن الغافي في قلب الشجن
لا تتحرك أوتاره إلا على وقع الشوق التليد
إذ يطل برأسه من بين اللواعج كالشرار
؛ فيشتعل الخيال ..
يحيل صحراء القلب
إلى راوبٍ للقصيد
تدور في ساقية الربى
فيوض الحنين
يفتأ يغسل وجه شوق لا يعتريه
الكرى ،
لا تسيج محجريه سنة ولا نوم ..
يغسله من وعثاء سفر بعيد أورثه الوحشة والحرقة ..
قلبه المغموس في اللهفة
نبضاته ثقوب ناي يعزف لصمت الليالي تباريح الوجد ..

عن سؤال هجس غصة في الخاطر
نكأ جرحا عتيقا
فرفرفت بأجنحتها النون
ألقت في روع القلم إلهام القصيد ..