ينصب المستثنى بعد (إلا) إن كانت الجملة تامة مثبتة؛ هذه القاعدة المشهورة التي يؤيدها الاستعمال والشواهد؛ ولكن ورد في اللغة من النصوص ما يعاند هذه القاعدة،
من ذلك الحديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) وكان خرّج (إلاّ) بأن تكون استدراكية، والاستدراك قريب من الاستثناء فتكون (إلاّ) هنا بمعنى (لكنْ)، وهذا القول مطابق لقول العينيّ (عمدة القاري، 10: 246) الذي يذهب فيه إلى أنّ (المجاهرون) مبتدأ حذف خبره، قال: "ومن أمثلة المحذوفِ الخبرِ قوله (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) أي: لكنْ المجاهرون بالمعاصي لا يعافون"، وجعل منه قراءة (أبيّ والأعمش) لقوله تعالى ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [249-البقرة]، أي لكنْ قليلٌ منهم لم يشربوا، فيكون ما بعد (إلاّ) جملة لا مفردًا، وقد عدّها ابن هشام في الجمل التي لها محل من الإعراب وسماها الجملة المستثناة(مغني اللبيب، 5: 239-240).
وأما ابن مالك (شرح الكافية الشافية 1: 709-710) فحاول أن يلتمس ما يجعل هذه القراءة موافقة للقاعدة، فذهب إلى أن معنى النفي معتبر فيها فتكون بدلاً ، فقال "ولو اعتبر معنى النفي مع التمام لجاز في المستثنى الإبدال" ، قال "لأن في تقديم ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ ما يقتضي تأول ﴿فَشَرِبُوا مِنْه﴾ بـ(فلم يكونوا منه)"، أي لم يكن الشاربون مني إلا قليلٌ.
ومن ذلك قول الشاعر:
وبالصَّرِيْمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ *** عَافٍ تَغَيَّرَ إِلاّ النُّؤْيُ والوَتدُ
قال ابن مالك: "لأن معنى (تغيّر) لم يبق على حاله"، فالجملة في تقدير ابن مالك: غافٍ لم يبق على حاله إلاّ النؤيُ والوتدُ.
وعدّ ابن مالك من ذلك قول الشاعر:
لِدَمٍ ضائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ *** أقْرَبُوه إلا الصَّبا والجَنوبُ
أما الذي أميل إليه فهو أن ما بعد (إلا) في كل تلك المُثُل مستثنى؛ ولكنه جاء مخالفًا في حركة إعرابه للقاعدة، ومثل هذا الاستعمال التراثي يُقبل في اللغة ولكن لا يُقَعَّد عليه، واللغة أوسع من قواعدها، ولسنا بهذا محتاجين إلى التأويل أو التفسير بشيء قد يكون فيه بعدٌ كما ظهر في تقرير ابن مالك. وقد يقال إن الخبر المحذوف في (إلاّ المجاهرون) واضح من السياق؛ إذ المقصود كما ذُكر سابقًا (لا يعافون)، والجواب أن مثل هذا المعنى يظهر مع النصب أيضًا لو قيل (كل أمتي معافًى إلا المجاهرين) فالمعنى إلا المجاهرين لا يعافون.
منقول بتصرف .