بسم الله الرحمن الرحيم ...
التاريخ المغلق ...
قلنا إن التفسیر المغلق للتاریخ یستدعي بالضرورة القول بأنھ
جبري في منطلقاتھ الأولى كما أنھ یصادر حریة الإنسان في مرحلتھ الوسطى ولا یعطیھ منھا سوى مظھرا شكلیا لحریة صوریة مزعومة ثم یفضي في النھایة إلى مصب محتوم , ونحن حین نھم بالخوض في ( التاریخ المغلق ) لا نقوم بذلك اتھاما أو انتقاصا بل محاولة للنفاذ عبر الأقطار المفتوحة أمامنا لفھم الحقیقة الإنسانیة العاریة في شتى تجلیاتھا ضمن محاولات إنسانیة مشروعة لا علاقة لھا بموقف مذھبي أو ایدیولوجي , وأنا أقدم بھذا المدخل لأني - كما أسلفت – صادفت في التاریخ مدخلین عملاقین دخل منھما الإنسان في سكة التاریخ وانداح في تیاره إلى أن أفضى لنا ھذا التیار بعد قرون بذلك الإنسان
الذي یعیش یوما فوق القمر ویعیش یوما وسط الأدغال وبین مسكنیھ یخوض معارك دمویة ینتھي فیھا إما قاتلا وإما مقتولا , ولفھم ذلك جیدا نتناول المدخلین المذكورین بشيء من التفصیل :
أ – المدخل الدیني ( الإسلامي) : قبل بدایة التفصیل أقول أن المراد عندي بالدین إنما ھو الدیانة الإسلامیة بركنیھا الأساسیین كتاب الله العزیز وسنة رسولھ الشریفة , من جھة أخرى أذكر بما أسلفنا شرحھ حول الغیب والعقل والذاتیة وأود استحضار ھذه المفاھیم كما شرحنا لیتسنى لنا فھم التفسیر المراد لھذا المدخل فھما یجعلنا نتجاوز حساسیة الموقف دون انزلاقات . إن الغیب ضرورة حتمیة یقتضیھا وجود العقل القادر على ھدم كل شيء في العالم متى لم یوجد غیب لایقع تحت طائلة البرھان المنطقي العقلي القادر على النفي والإثبات كما یشاء , أما العقل فدوره ترویض الذات التاریخیة لكي لا یصاب التاریخ بالجنون ( ھذا في التاریخ المغلق أما في التاریخ المفتوح فدور العقل التحالف
مع الغیب لتصمیم التاریخ ) , أما الذات المزودة بوقودھا ( الذاتیة ) فھي ذلك المكوك الطائر الذي یرید أن یبلغ كل نقطة في الفضاء المادي والمعنوي , لكن تعدد المكوكات الطائرة المسكونة كلھا بكل ھذا الكم من الطاقات والتطلعات یجعلھا تتصارع أوتتصادم أو تتسامح أو تتصالح حسب التأثیرات التي یلقیھا
الغیب من خلال مصفاة العقل أو التي یرسلھا العقل من خلال مصفاة الغیب تبعا لنمط المدخل المراد دراستھ والولوج من بوابتھ , وفي ھذا المدخل یرسل الغیب أوامره إلى الذات مباشرة لتتلقاھا وقد ھیأ لھا العقل سبل التنفیذ .
لقد جاء الغیب بالقراءة إلى الذات الأمیة وجاءھا بالعدل والإحسان وھي تمارس الفحشاء والمنكر والبغي وجاءھا بالأخوة والمحبة والرحمة والسلام وھي تنادي بالعداوة والبغضاء والقسوة والصراع وجاءھا بالتعبد والتبتل والخشوع وھي في نزوع دائم إلى الكبر والعلو والریاء وجاءھا بالتوحید
والمساواة والإنسانیة وھي تدین بالأوثان والعنصریة والحمیة القبلیة والعرقیة وھكذا ... ھكذا حدث التماس بین الإسلام والإنسان فكان التاریخ الإسلامي الذي ظل فاعلا تاریخیا منذ نزول الإسلام إلى الیوم ... لقد صدم الإسلام الذاتیة المصابة بانحطاط شدید في القیم , أصابھا الإسلام بسمو شدید في القیم , لقد أجرى الإسلام عملیتین جراحیتین للذاتیة الإنسانیة في بوابتھ الكبرى ... لقد قام بتفریغھا من القیم التي كانت تدفعھا للسلب والعدوان وشحنھا بالقیم التي تدفعھا إلى نشر الفضیلة والبر والتوحید .
إن التفریغ والشحن والظروف المرافقة لھما لقوم لیس لھم میراث دیني أو ثقافي عریق ھي ظروف فریدة لا یمكن تكرارھا ھي التي صنعت للدیانة الإسلامیة ھذا المدخل الفرید إلى حلبة التاریخ لأن الغیب ھنا وھو یقوم بالشحن والتفریغ أبقى الذاتیة ( العربیة ) في اندفاع كما كانت , والذي تغیر ھواتجاه الاندفاع ... فقد صار ھو الأمر بالمعروف والنھي عن المنكر بعد أن كان الأمر بالمنكر والنھي عن المعروف . وقد تجلت تداعیات ھذا المدخل الدیني في اندفاع الذوات في انسجام تام ( مرحلة موضوعیة ) نحو نشر الرسالة وتبلیغ الدعوة , ولكن عندما تناقض ھذا الانسجام أصیب الذوات في التصادم حین بدأ ت الأغراض تختلف والغایات تتباین وتدخل العقل لكي یقوم بتصفیة المفاھیم التي أخذت
الشوائب تغمرھا وفقد الإسلام حیویتھ الأولى فأصیب بانحسار في مناطق وبانكسار في أخرى وبخمول في مناطق ثالثة , وبقي المسلمون حیارى بین أمجاد الماضي الذي لا یعود وأمنیات المستقبل ممثلة في أسلمة المفاھیم الجدیدة والعلوم المستحدثة لأنھم فشلوا في شحن الذات بمؤثرات الغیب مباشرة أو في
توسیط العقل بین الذات والغیب توسیطا فعالاّ ...ھذه المسیرة بین ماض مشرق جمیل ومستقبل مأمول ھي من مقتضیات المداخل التاریخیة المغلقة التي لا تعود والتي شرحنا أنھا توجھ الإرادة الإنسانیة بكیفیة ظاھرھا الحریة المطلقة وباطنھا الاحتواء والتوجیھ ....
ب – المدخل المادي : لقد صار مألوفا لدینا أن ننطلق في فھم التاریخ من ثلاثیة الغیب والعقل والذاتیة ولھذا سأنطلق مباشرة في شرح معنى المدخل المادي للتاریخ ( المغلق ) .
المقصود بالمدخل المادي ھو تلك اللحظة التاریخیة التي تدخل الإنسان إلى التاریخ لیس انطلاقا من وحي إلھي كما في الإسلام وإنما انطلاقا من تلاقح لحظة تاریخیة إنسانیة متمیزة مع لحظة زمنیة خاصة . إن میزة اللحظة التاریخیة الإنسانیة ھنا أنھا قطاف كسب إنساني فرید وخالص یتم في إحدى
لحظات التاریخ الملائمة لذلك الحدوث الموعود , فإما أن یكون كشوفا ( أوكشفا ) علمیة تستدعي تغییرات جذریة في بقیة البني الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة وإما أن یكون في إحدى ھذه البني ذاتھا یقتضي انعكاسات على الجوانب الأخرى للحیاة ... إن الحدیث الذي نحن بصدده ھوعین ما حدث بالقارة الأوربیة في نھضتھا المعاصرة ابتداء من القرن الخامس عشر , لقد تزامنت الكشوفات الجغرافیة مع العلمیة وتواكبث الثورات الاجتماعیة ( الثورة الفرنسیة ) بالثورات الفكریة ( نظریة العقد
الاجتماعي ) مما جلب للقارة الأوروبیة ثروات القارات الأخرى كلھا ومنحھا التقنیة الكافیة للاستفادة منھا مثلما تمكنت من إرساء أشكال تنظیمیة جیدة في الحكم والإدارة والتسییر والتنظیم وبذلك تجمعت الظروف الملائمة للإقلاع الحضاري الغربي الذي عرف كیف یستقطب العصارة الحضاریة التي أنتجتھا القریحة البشریة منذ فجر التاریخ , إن لحظة التلاقح بین المادة والتاریخ جاءت ثمرة لكفاح مریر وطویل خاضھ الإنسان في كل مكان من أجل العدالة والتقدم , وتجمع كل ذلك في لحظة تاریخیة وانداح في مجرى الزمن لیضع التاریخ المعاصر للإنسانیة , ونظرا لطبیعة المدخل المادي (الذي اقتضاه التطور الطبیعي للإنسان ) وما تم تصمیمھ بطریقة مسبقة فقد جاءت تداعیاتھ التاریخیة بعد ذلك جبریة بحتة أوقعت الإنسان المعاصر في حیرة ( كالمدخل الدیني ) وجعلتھ فریسة المخاوف والھواجس , إن الحربین
الكونیتین والأسلحة ذات التدمیر الشامل من مقتضیات التصنیع , وإن المجاعات المجاورة للرفاھیة من تداعیات نظریة الاقتصاد الحر وإن الحروب الإقلیمیة من نتائج السیاسة الدولیة في الحدود الاستعماریة القدیمة ومناطق النفوذ الحدیثة , وإن الفقر والجھل والمرض من لوازم المؤسسات المالیة الدولیة الكبرى والشركات العابرة للقارات وھلم جرا ... ھكذا یسیر(التاریخ المغلق ) خفیض الرأس مذعنا بلا إرادة أوحریة , یتحرك طبقا لتداعات وطبیعة المدخل التاریخي الذي دخلت منھ المرحلة , وترتفع أصوات تنادي بحقوق الإنسان وحریتھ ولكنھا مھما علت لن تستطیع أن تلغي الحقیقة التاریخیة المؤلمة . ویتأكد لنا أن مداخل التاریخ حین تكون اقتضائیة تستدعي بدورھا عصورا من الجبریة والإكراه , ففي مثل ھذه الظروف تكون الذاتیة في أوج حالات جموحھا باعتبار أن كل المناخ المحیط بھا یرخي لھا الزمام على غاربھ فتكون الذوات في أقصى حالات الصراع الذي لا یكبحھ الغیب ھنا بطبیعة الحال باعتبار أن المرحلة التاریخیة مادیة بحتة وإنما تلجأ ھذه المرحلة إلى العقل لیصوغ لھا القوانین والضوابط حسب الطلب التي تكون جبریة ھي الأخرى یتم فیھا إخضاع العقل الأعزل للذات الجامحة , فغالبا ما تأتي ھذه المواثیق والقوانین لمحاباة ذات قویة على حساب ذات ضعیفة , فیحسم الصراع في النھایة بتحقق إحدى الذاتین إلى درجة التوھج وبنفي الذات الأخرى إلى درجة الأفول مثل اتفاقات إعادة
جدولة الدیون التي تتم بین الدول الدائنة والدول المدینة بمباركة مؤسسات عالمیة كصندوق النقد الدولي أوالبنك الدولي . ویتبین لنا أن المدخل الذي تقتضیھ الظروف والملابسات المادیة ( جبري بطبیعة الحال ) یستدعي تبعا لطبیعتھ الجبریة مسیرة تاریخیة جبریة تتخلى عن الغیب من البدایة وتستعمل
العقل لتأجیج الصراع بین الذاتیات العاملة في المرحلة التاریخیة وینتھي الصراع في النھایة إلى ( حتمیة ) تتمثل في سلسلة متلاحقة من الصراعات التي لا ینتظر أن تنتھي سوى فترات تمیل فیھا الكفة إلى ھذه الجھة فتفسر التاریخ تفسیرا متفائلا على حساب جھة أخرى ( ثانیة ) تفسره تفسیرامتشائما والعكس بالعكس حین تتبادل الكفتان الأدوار .