|
|
منتدى القصة القصيرة أحداث صاخبة ومفاجآت متعددة في كل مادة تفرد جناحيها في فضاء هذا المنتدى..فهيا لنحلق معا.. |
مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان) |
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
27-02-2024, 09:09 PM | رقم المشاركة : 1 | |||||
|
حمّام قمر
منذ أن نجا الشيخ من الموت بأعجوبة بسبب عملية خطيرة في القلب، تغيرت طباعه كثيراً، ومَنْ عرفه من الأصدقاء والأقرباء، قبْلاً، يجزمون أن الرجل فقد عقله، وليس لأن الطبيب استبدل قلبه المريض بآخر ليست به قروح كما يزعمون. منذ أن عاد من المشفى، باتت تواتيه رغبات شاذة في الأكل، وآخر وجبة تناولها اليومَ هيّأها بنفسه، وهي عبارة عن "بيصارة" مع معجون أسنان.. زوجته المقعدة كانت ترقبه، وهو يتناول وجبته. تصرف كما لم تكن قبالته، ولم يكلف نفسه دعوتها لتشاركه "المـَلْحَ" كما كان يفعل. صمته زاد من مخاوف أهل البيت، والشيء الوحيد الذي يطمئنهم هو أنه كان يتعرف أولاده واحداً واحداً، ولا يخطئ في اسم أحد حين يناديه به .. وهذا كافٍ ليقلب الموازين أكثر؛ لأنه، قبل العملية، كثيراً ما كان يخلط بين أسمائهم.. الأيام، بعد عودته من المشفى سالماً، تنثال بغير طعم، تتنخل من بين أكفّ الزمن، والشيخ حاضر يملأ ببركته أكسار البيت. الأولاد والأحفاد مِنْ حوله حبات رمل، يزورونه في آخر الأسبوع، وفي أيام العطل يزدادون .. يتحلقون حوله، وهو إلى جانبهم يقضي يومه يتمتم، يتفرس في سحناتهم وهو يمسك مسبحته. وحين يرفع يده، ويشير بسبّابته، لا أحــد يدري أَيحسب حبات سبحته أم أحفاده أم سنين عمره..؟! لا يستيقظ مبكراً أبداً مثل الشيوخ في مثل سنه. وتأخره في الصحو مراراً، وليس الاستيقاظ، سبّب هلوسات لزوجته، ستستفحل أكثر حين قالت له يوماً بكل رقة: - "الفَيْاق بَكْري بالذهب مَشْري" أسيدي الحاج .. تشجَّعْ.. فرك عينيك، وحاول أن تصحو.. لم يجبها حينها. حدجها بنظرة حادة، ثم اكتفى بأن تفل على جنبه الأيسر، تماماً كالحالمين بكوابيس مزعجة، ولكنه بحضور الأولاد سيقول لها: - شدي أذني مرة أخرى إذا تأخرتُ في النوم آ الوالدة.. ستصعق الزوجة، أما الأولاد فقد عزوا ذلك إلى الحس الكوميدي لدى الوالد .. لقد عرفوه فكِهاً منافثاً .. في مجلسه كان يطرب بنكاته ما لا تطرب المَثالِث؛ لذلك، ضحكوا للموقف كثيراً، بل عدُّوا ذلك أمارة شفاء بعد سوء ظن .. إنه أبوهم ويعود إلى سيرته الأولى بقلب غيره.. وتمر الأيام... يطمئن الأولاد أكثر على صحة والدهم، وتزداد شكوك الزوجة لا في الشخص الذي يشاركها الفراش، بل في القلب الذي يحمل .. فيما بعد، ستُحمّله كل المسؤولية لما آل إليه زوجها... ولم تكن تعلم أن قلب الشيخ بات ينبض نبْضاً أحسن، بل يبدو أنه استمرأ جوانح جسد إنسان آخر .. وحتماً هو قلب شاب في العشرين من عمره .. فمَنْ كان يتصور أن يتقدم الطب بهذا الشكل، وتصبح الأعضاء مثل قِطَع غيار تصلح لأنْ تأخذ أمكنة غيرها، وتحت الطلب وبأثمنة خيالية؟!.. في غياب الأولاد تظل الزوجة تراقبه، وهي جالسة فوق كرسيها المتحرك. لا تفتأ تقارن بين الذي يقف أمامها، وبين زوجٍ قضت معه سنين عمرها .. الجثة واحدة، لكنّ الرائحة - كما تسميها - التي تنبعث منه ليست ما تعودت عليه أبداً!.. لكن هذا اليوم بالذات، ووجبة "البِيصارة" مع معجون الأسنان لم يكن ليمر دون أن يترك أثره .. كان الهدوء يخيم على البيت بشكل مقرف، وصمت الشيخ يضفي على البيت وقاراً من نوع خاص .. لا حسيس سوى خطْوات الخادمة تملأ البيت ذهاباً وإياباً.. وستغرب الشمس على صمت ثقيل، صحب معه من السماء، أو من مكان مَا، وصفة للشجن! كان الأولاد قد انتشروا، كلّ في أرضه ينكت، وفي سيبل غلته يسعى... بقي الشيخ في البيت رفقة زوجته المقعدة كما العادة، وكغريبيْن لم يتبادلا كلاماً كثيراً.. قالت الزوجة بوُدّ: - هل أطلب من الخادمة أن تهيئ قهوتك قبل أن تغادر..؟ ببرود ردّ عليها : - لا أرغب سوى في شرب الهواء، في كأس من البلاّر.. قال ذلك، وصعد إلى غرفته بهدوء الشباب .. لم يعد يلهث كما سابقاً. دار دورات حول نفسه كعريس يجرّب كيف سيبدو أمام الناس. فتح خزانة ثيابه، وحمل معه، وهو يهبط عبر السلم، كل جلابيبه .. تأبّط بعضها، فيما الأخرى حملها على ظهره. خرج من الباب دون أن يلتفت لنداء الزوجة. كانت الصدمة بالنسبة إليها قوية، لم تتوقعها أبداً. حركت كرسيها بصعوبة. تبعته دون أن تدركه... الدموع تنهمر من عين بصيرة، غير أن أرجلها قاصرة، ولم تعد تسعفها .. خافت أن يغادر، وإلاّ فلماذا يحمل ثيابه؟ ثم ما الذي يحمله على الرحيل؟.. الأولاد، منذ مرضه، يدلِّلونه كطفل صغير، بل إن منهم من كان يحمله ويلاعبه، رغم كبر سنه.. همست بحرقة: "يا ربي، سأصبح أضحوكة بعد هذا العمر .. سيقولون استعاد عافيته، وهرب منها؛ لأنها مُقعدة .. وسيقولون، وسيقولون .. يا ويلي!.. من الباب كانت ترمقه، ونفسها حرّى.. في الخارج، كانت السماء تتهيّأ لأنْ تنشر مساءها القمري. رنا الشيخ إلى السماء، وترك رأسه يدور في صفحتها، كطفل يتتبع طائرة ورقية أطلقها في الهواء .. كم وقت مضى على وقفته تلك؟.. ربما وقت قليل، ولكن الصمت الذي أعقبه كان ثقيلاً بالنسبة إلى الزوجة، وحاراً بكل المقاييس... كان الليل قد بدأ يعلن سلطته، وزاد من وحشة المكان كلب في زاوية حديقة البيت يعوي عواء مختلفاً، وزوجته في الداخل، غير بعيدة عنه كثيراً، ترمق الشيخ والكلب معاً .. خالت نباح الكلب بهذا الصوت نذير شؤم .. كانت تردد المعوّذتين كلما نبح، والشيخ بدا قبالته، وهو مثقل بما يحمل، كمهرِّج راضٍ عن أدائه... تنفس الشيخ الصعداء بعد أن عبَّ نفَساً قوياً، ملأ به خياشيمه، ثم بدأ يتخلص من أثقاله.. نشر على أرض الحديقة جلابيبه. جعلها تشكل بساطاً مزركشاً على شكل مربع، أضفى جمالاً آخر على حديقة البيت. بدأ يحوم حولها كما يفعل الهنود مع نارهم، مركزاً نظره على السماء. كان حريصاً على أن تستقبل جلابيبه مكان بزوغ القمر. وحين مال بنظره إلى الكلب (اللحظة فقط أحس بوجوده)، ابتسم، ثم واتته رغبة قوية في أنْ ينبح ، ثم نبح، استمرأ الأمر، رفع صوته ليكرر نباحه، بيْد أنه لم يتمكن من بحّة أعاقته، لكنه قال لنفسه: "لا جدوى من تقليد الكلاب، على الأقل اللحظة،لقد انتهيت من التفكير الآن.." كان يقصد ربما عمله. نفض يديه بعد نشر جلابيبه، ثم عاد إلى الداخل منشرحاً خفيفاً كنسمة.. كانت الزوجة قد قامت بالواجب .. لم تكن تطال شيئاً سوى أن تتصل بالأولاد عبر الهاتف.. حضر أغلبهم بسرعة .. استغربوا فعلة الأب .. سأله أوسطهم بحزن: - هل أنت بخير أبي .. هل تشكو من شيء؟ زاد الآخر: - استبدّ بنا القلق أبي مِنْ فور اتصال الوالدة! هل نتصل بطبيبك..؟ - قال الثالث مستفسِراً: - أنت نشرت جلابيبك في هذا الليل أبي؟! ضحك، ورَدَّ على السؤال الأخير: - إنني أعرضها لحمّام قمر... وأضاف آمراً: - جميع من في هذا البيت في حاجة لحمّام قمر .. إنه صابون القلوب، سيطهركم من الداخل.. (...) سيموت الأب، وسيعيش الأولاد ما بقي لهم راعِينَ قرصَ القمر في دورته .. يتعرّش دوالي في عيونهم. يكبر في سمائهم. ينير لهم الدرب، وينشر الضياء في قلوبهم..
|
|||||
02-03-2024, 01:00 AM | رقم المشاركة : 2 | |||||
|
رد: حمّام قمر
حرفك أخي المكرم / ميمون حرش
آخر تعديل راحيل الأيسر يوم 08-03-2024 في 07:26 AM.
|
|||||
02-03-2024, 01:05 AM | رقم المشاركة : 3 | |||||
|
رد: حمّام قمر
للتثبيت
|
|||||
|
|