الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديــات الأدبيــة > منتدى القصة القصيرة > قسم الرواية

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 30-10-2016, 05:47 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
فوزي الديماسي
أقلامي
 
إحصائية العضو







فوزي الديماسي غير متصل


افتراضي " الجمجمة والزورق " رواية على حلقات ... فوزي الديماسي

.... رواية " الجمجمة والزورق "لفوزي الديماسي

خرج الصباح من عرينه ليغتسل في ماء النهر الممدّد بين كثبان الحياة ، وكنت على ربوة الأسئلة تائه الخطوات أعدّ أشعّة الشمس الغائبة البعيدة وأحصيها . دفعني شوقي بعصاه دفعا رقيقا نحو ساحات الفجر ، فاقتفيت آثار رغبته ، وكان ثالثنا الحلم . سرنا والجبل نبحث عن ذاك الصبح الموعود . توقفنا عند عين عارية إلاّ من غبارها لننهل من رضابها سرابا وحكمة ضائعة ، وإذ بصوت يطلّ علينا بشجنه الطروب اللعوب من وراء قيظ الرحلة . تطلّعت نحو الصخرة العالية المطلّة على العين ، فإذا بها أنثى صقيلة الوجه تقف كما اليقين ، رافلة في شهوتها تراقص ريح الوجود ، وترسم بعينين متنمّرتين على جبين الأفق علامات الفناء . جرفني نحوها سيل من الوله الطفوليّ ، ضحكت ، وضحك شوقي من بعدي ، وانطلقت على جناح الروح والريح والريحان نحو صوتها المتلبّس بفجر ينير لي طريق وجهي المفقود أو هكذا يبدو ، سرت نحوها ، والجبال بعراء أحلامها تبعث فيّ طقوس الخلاص.
تقدمت نحو الصخور المتناثرة ، فيصعد بي درب وينخفض بي آخر ، ووجدتني أبحث في منعطفات الوجدان عن وجهي الذي ضيّعني وفقدته . وقفت على صفحة ماء بحيرة يتيمة في فؤادي المكلوم .لا وجه يفتح شرفاته لسؤالي هذا الصباح ، ولا فجر يرفع رؤيتي في الخلاء بلا عمد . أنخت فكرتي على باب الهجير، وناديت في الرحب ، فلا مجيب إلا صدى الريح يقهقه من أعلى الصخور، ويعبث بشعر الحورية في كلّ اتجاه ، بحثت في رفوف ذاكرتي عن وجهي المنشود ، ولكن الدرب التهمته ألسنة التيه ، والحورية في أعلى الصخر تقهقه .
نزلت من على صهوة حيرتي ، وعقلت سؤالي عند جبلها ، وسرت تحت ضوء القمر في مناكب أرض أجهل تفاصيلها وشعابها ، دفعت بكلماتي نحوها ، والناي بيميني يكفكف ألحانه حياء ، ومدادي في جداول القلب يقلّب الواقفة فوق قمّة الصخرة في صلف.
الدرب إليها ضبابيّ الملامح ، ومزدحم ببحيرات غطّتها جماجم الأوّلين وقليل من الآخرين ، وقمر في علييّن ملطّخ بالمخالب يتطلّع نحو الأفق . تقدمت نحوها بخطوات ملتهبة ، فوقف دوني الليل على شاطئ شفتيها، وعقر آخر نقطة ضوء تلوح كنافذة نحيلة من وراء الغيوم .
وقفت بملامح باهتة بين يدي همس الجبل ، ألقيت بشوقي بين أحضان السفح ، وبينما أنا على الحالة تلك إذ بالحورية تطلق في أرض السكون ضحكة غجرية التدفّق تتدلّى عناقيد الشهوة من أغصان صدرها .
اتخذت لنفسي مكانا قصيّا أتابع حركتها على الصخرة من وراء بلّور الروح المتعبة . والرذاذ يدندن على أغصان الفراغ موسيقى حزينة ، وينقر من حين إلى آخر وجه الجبل ، وبينما أنا أتابع اضطرابها من وراء الضباب ، كان في السماء ضوء خافت يبثّ فيّ طقوس الرحلة ، وموسيقى هادئة منحدرة من مرتفعات الجمال تدفعني نحوها . أشعلت لفافتي ، انطلق الدخان من بين أصابعي كراقصة بالي تقتفي آثار الضوء ، شدّتني إليها الرقصة والموسيقى المتلبّسة بفستان شفيف من الهمس ونسيت الحورية والجبل ، وبعث المشهد في نفسي شهوة اللّقاء ، وسرعان ما عاودني الحنين إلى الصخرة وصقيلة المفاتن ، وقفت تحت قدميّ الصخرة ومطيتي شوقي المتدفّق نحوها . طرقت بلطف المتيّم باب حلمها ، فجاءني صوت رقراق من وراء حجاب ، أسرجت ابتسامتي ، ورتّبت تفاصيل لساني ، وامتدّت يميني نحوها بباقة من طيب الكلم . لبست وجهها القمريّ ، واكتفت بابتسامة، وتاهت في الغياب .ترنّحت حروفي في زحمة الأشواق ، ونفخت فيّ الصخرة من روحها على عتبات الحلم ، دفعت مطيتي في وعر الدروب نحو قمّة الصخرة لعلّني أدركها في منعطف من منعطفات الفؤاد ، سخرت الحجارة من خطاي ، أطلقت العنان لرجليّ ، فدحرجني تعبي نحو سحيق العودة ، وشددت الرحال مرة أخرى إلى مرتفعات الروح , تعثّرت مطيّتي والأمنيات ، بعثت بعينين حذرتين لأتهجّى في ليل الطرق صحف الفجر ، ركبت خوفي وذعري وأملي ، وصعّدت نحو مقصدي ، أمدّ يميني من حين إلى آخر لأضمّد عرقي ، ونحيب الريح على باب الصخرة يداعب سخرية الحورية . استرقت السمع ، صهيل الليل يملأ القلب ، وخرير الرؤى المنهكة يصمّ آذان الجبال الراكدة في الفؤاد ، ركبت الحذر، وأطلقت العنان لبصري من وراء حجاب ، إنها هناك عند باب الغار تلملم جثث أحلامها ، ووقع أقدامها على أديم عبرتي يستحثّني . بعثت الجبال بعراء أحلامها في الفؤاد طقوس الفناء .
تقدمت نحو الصخور المتناثرة ، ووجدتني أبحث في منعطفات الغنج عن وجهي الذي ضيّعني وفقدته . وقفت على صفحة ماء بحيرة يتيمة في الطريق إليها ، لا وجه يفتح شرفاته لسؤالي ، ولا فجر يرفع رؤيتي في الخلاء بلا عمد ، أنخت فكرتي على باب الهجير، وناديت في الوادي فلا مجيب إلا صدى الريح يقهقه من أعلى الصخور ، بحثت في رفوف ذاكرتي عنّي ، ولكن الدرب إليّ التهمته ألسنة التيه ، وقفت مستقيم الرؤى لعلّني أدرك أنّني في حضرة الصباح ، التحفت الرهبة ، والصخرة في خشوع الأفق متسمّرة ، لا تريم ، ولمّا بلغت مجلسها استقبلتني استقبال العشّاق .






 
رد مع اقتباس
قديم 30-10-2016, 05:51 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
فوزي الديماسي
أقلامي
 
إحصائية العضو







فوزي الديماسي غير متصل


افتراضي رد: " الجمجمة والزورق " رواية على حلقات ... فوزي الديماسي

اللوحة الثانية
فوق الصخرة على حافة الغد جلسنا ، والسؤال ثالثنا ، والكلام قارب في عرض الدهشة يتابع بصمت أهازيج النجوى . لملمنا الصباح وبعض كلمات وحفنة من الرؤى ، ودفعنا بقوافلنا في فسيح الأنين بحثا عن صوتنا لعلّنا ندركه بين أشجار الهمس ، أو في الكهوف الجالسة القرفصاء على باب الحلم، كان نسيم الصباح يداعب خصلات الأفق الورديّ ، وكنّا على الصخرة طفلين نلاحق بعين حالمة خيوط الشمس . عانقت حروفي المنثورة في حقول المعنى ، وتوقّفت عند كثبان الماء الغائب , فخرجت عليّ الرؤى من خدر العشق بعودها الصقيل . تقدّمت قوافلي نحو جمجمة مرسومة على جبين الوجود .
أطلّت علينا برأسها عمامة من بين أصابع الجبل ، وأخرجت من بين أجنحة الليل أنيابها لترسم وجها على صفحة دهشتنا . تململ وجهي في فكري المضطرب ، وبكت سمائي صباحاتي الملطّخة بزور الصحف العمياء .
ومن وراء بلّور الذاكرة كنت أتابع مع رفيقتي عصفورا تحت خيوط المطر ، يسير في الطريق كمن فقد عزيزا ، بلا أجنحة يتهجّى البياض ، يحبّر بخطاه سيرة التيه ، وينقر من حين إلى حين حبّات حلم مبلّل بعبرات الفجيعة ، والأرض من تحتنا تبكي جثث الأطفال المبثوثة على صدر المدائن ، وامرأة تبحث في صحف الدمار عن رضيعها ، والعصفور على ضفّة السكون يكفكف دمعته تارة ، ويستأنف سيره نحو البرك أطوارا ، والريح السموم شرقية الهوى تمدّ مخالبها بين الفينة والأخرى نحوه تتحسّس دروب وجهه . وعلى الرصيف الآخر من دموع السماء وردة تعانق وحدتها ، أصنام كما الأنعام ، كما العمائم القاحلة تملأ الرحب ، تدير كؤوس المطر على ولدان من طين الفناء ، والعصفور تحت ظلّ دمعته يتابع خطوات الليل على أنغام تكسّر عبراتي على الصخرة . تدفّقت ذكرياتي من شاهق الشجن ، والوجود بسمائه الكئيبة يداعب مفاتن ناي قديم من فوق رؤوسنا ، فترسل ألحانه بحمامات فوق سفننا .
أينعت أناملي داخل سجيتي ورسمت بآهات العصفور في الخيال امرأة خرافيّة الرقصات ، فتوجهت نحو الحورية الجالسة بجانبي على الصخرة قائلا : " هكذا تغتالنا آهاتنا ... تلقي بنا دمعة
على قارعة الحريق ... ننهض من مرقدنا ... من زمن السكون ... نحلّق من جديد ... فتلاحقنا أوهامنا كريح عاتية ... وتعبث بنا رؤانا ... تذرف مراكبنا الوقت ... فنصعّد رغم المحن في جبال الشجن لعلّنا ندرك ذات فجر فجرا وليدا ، أو عصفورا يغنّي لجناحين منطلقين " .
تطلّعت نحو وجهها ، وصوتي المجروح يدفع بقطيع من السحب نحو أرضي دفعا جميلا ، وبيميني وجهي القديم ، أوقّع به في محراب الوجوم ، وينساب همّي من أعلى قولي فيدكّ تدفٌّقه اطمئنانها على أرض أضغاث أحلامي







 
رد مع اقتباس
قديم 31-10-2016, 02:49 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عدي بلال
أقلامي
 
الصورة الرمزية عدي بلال
 

 

 
إحصائية العضو







عدي بلال غير متصل


افتراضي رد: " الجمجمة والزورق " رواية على حلقات ... فوزي الديماسي

القدير فوزي الديماسي

قضيت وقتاً لا بأس به هنا، وكنت مشدوهاً بلغتك البليغة، وتشبيهاتك التي صاحبت كل جملة في مولودتك الجميلة.
ودخلت معك عوالمك التي أبحرت فيها، وحوريتك، وتلك الصخرة.
ما قرأته هنا فيه تأثر بالشعر تارةً، وبالنص المقدس تارة أخرى، ولكن بطريقتك الخاصة / بصمتك.

أصدقك القول بأنني انبهرت بكم التشبيهات في كل جملة، وأغبطك عليها أخي القدير فوزي.

عندي سؤال إن أذنت لي، وأنت الروائي وأنا التلميذ هنا ..
برأيك كمية التشبيهات - الرائعة بكل تأكيد - في كل جملةـ أمرٌ محبب في كتابة الرواية بشكل عام ..؟

متابع إن شاء الله، لأن قلمك يستحق المتابعة .أ فوزي

لك من الود وافره







 
رد مع اقتباس
قديم 10-11-2016, 04:54 PM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
فوزي الديماسي
أقلامي
 
إحصائية العضو







فوزي الديماسي غير متصل


افتراضي رد: " الجمجمة والزورق " رواية على حلقات ... فوزي الديماسي

أقولها بصدق بحجم ضعفي في رحلة الحرف :
أنا لا أكتب همّي ، وإنما همّي هو الذي يكتبني ، ونصّي هذا " الجمجمة والزورق " وليد وجع انطولوحي أنتروبولوجي ، فعل مدّ وجزر في دنيا القضايا الكونية الكبرى ، وحرقة الأسئلة هي التي ترسمني نصّا هجينا في خانة الأجناس " الرواية " ،فنصّي كما ذاتي جوّاب مساحات ضبابية يبحث عن نقطة ضوء أطلبها ولا أدركها ... فوزي الديماسي







 
رد مع اقتباس
قديم 10-11-2016, 05:02 PM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
فوزي الديماسي
أقلامي
 
إحصائية العضو







فوزي الديماسي غير متصل


افتراضي رد: " الجمجمة والزورق " رواية على حلقات ... فوزي الديماسي

العزيز عدي لك الحب والتقدير والتبجيل يا حبيب الحرف يا شقيق النفس







 
رد مع اقتباس
قديم 17-11-2016, 12:18 AM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
فوزي الديماسي
أقلامي
 
إحصائية العضو







فوزي الديماسي غير متصل


افتراضي رد: " الجمجمة والزورق " رواية على حلقات ... فوزي الديماسي


اللوحة الثالثة :
انحدرنا من الجبل ، يدحرجها أملها ، ويدفعني نحو الهاوية فضولي ، كانت تجري كما الريح ، ومن ورائها قهقهاتها تذكي فيّ نار السؤال ، وفجأة توقّفت عند جبّانة تخيّرت لها من الأماكن سفح الجبل ، طافت بصمتها بين القبور ، تصفّحت الوجوه وكأنّها تبحث عن شيء مّا ، أو عن اسم بعينه ، وأنا التّائه في ساحاتها أراقبها ، أتهجّى ملامح مشيتها المتقلّبة ، ناديتها فلم تجبني ، لذت بصمتي ، سرّحت في الوجود اضطرابي ، تسمٍّرت في مكانها تتصفّح القبور بعينين نهمتين ، كانت بين الموتى غريقا تنهش وجهه الأمواج الهادرة على حافة سكرات الموت ، أطلقت من بين شعاب ذهولها صيحة تردّد صداها بين الجبال أتت على حقول سكينتي ، حلّق غراب في المساء ، لذت بربوة لأسترجع بعض أمن بعد خوف ، خلعت ملابسها عند باب قبر عثرت عليه في طريق بحثها المحموم ، وأطلقت العنان لحنجرتها ترتّل نحيبا مفزعا ترتيلا ، والصخر من حولها مذعور الملامح ، والأرض من تحتها فتاة على فراش اللذّة ، نفشت شعرها ، استقبلت بيديها أبواب السّماء ، حلّ ببدنها شيطان الرّقص ، تدفّق من بين شفتيها عويل بعث في كامل أقطار جسمي مشاعر متوحّشة شتّى ، حدّثت نفسي في نفسي بالفرار من هول ما رأيت ، ولكن الخوف شدّني لذعري المتنمّر ، تقيّأت الجبّانة سكّانها ، وانتشرت الجماجم والعظام في الرّحب ، تحلّق حولها الموتى ، وراحوا جميعا يراقصون العويل حول القبر وحولها ، ارتفع عواء الأرض تحت أقدامهم ، وامتدّت ألسنة الغبار تخدش وجه الصخر، انتشر الرقص في كلّ اتجاه كما الأفعى يلتهم كل ما يعترض طريقه ، تسلّق ضجيجهم أعمدة السّماء ، وغطّى بجناحيه أديم الأرض ، تململت وراء الرّبوة تعبا ، ولم تتعب الراقصة ومريدوها ، فجأة هدأ الرقص ، وخفت صوت الضجيج ، نضب الصياح ، وخفت صوت الغبار ، لا شيء في القبر ، وقفت الراقصة في التيه كغبار في المدى ، أوكطين تحت شمس الظنون ، مبلّل وجهها بحلم أسود الخطوات ، تطلّعت نحو الرمس ، ومريدوها من ورائها يفتّشون بعيون فارغة الحفرة ، لا شيء في القبر غير الفراغ يعبث بذرّات الجدث ، أعادت البحث في الحفرة كرّة أخرى ، فرسم وجهها البياض اليباب على صفحة الهباء ، أنكرها وجهها وأنكرته ، كتبت بدمعة الخسران على جدار روحها الخراب سيرة غياب ، والمريدون من حولها حمامة مجروحة الأوتاد ، لا شمس تكفكف خوفهم ، ولا منحة تنتصر لضجيج رقصهم المسفوك ، أشبعث القبر ركلا وشتما ولطما ، وتركته وغادرت المكان ، وأنا أتتبّعها بحذر من وراء الربوة . لنتشرت سحب الموت ، ودقّ قحط الرؤى في الأحلام أوتاده ، غادرت الغبار عشّه، وطار، وحلّ غراب المعنى ، تبرّجت أطلال الفجيعة ، غيّبت مسالك التيه القوافل محمّلة بدنان الفجر ، وتدثّر الصخر بليل الغزاة ، زهرة بريّة فقدت طريقها إلى نهار القوافي ، عقر الموتى ضجيجهم ، وعلى باب المقبرة الغرباء ، وخلعت النجوم فساتينها ، ونزلت إلى برك الدمّ المكلوم لتتطهّر من أدران الضوء ، وقفت على ضفّة الحيرة القاتلة ، صفّفت أفكاري المبعثرة على عجل ، خلعت نعلي بباب السؤال ومن ورائي يحثّ فضولي تفّاح المعنى ، بعثت بالروح رسولا ، فارتفع صمتي في قيعان العيّ ، وارتدّ الصدى شوكا ، وأينع الخذلان في دربي ، وغادرت الحورية الجبانة على صوت من وراء العزيمة يغنّي :
تسأل عنك الدروب
تبكيك النوافذ كل صباح
والشرفات في المنحدرات شيّعت أشعتها
لبست الليل
فقدت الشمس لذّة السير في مداراتها نحو واحات البحر
قمر ضيّع بوصلة اللغات وتاه كطين الحكاية بين يدي خزاف
ونامت ذكراك على عتبات الموتى تهدهد وطنا طريح الذئاب
وترسم يد مرتعشة طريق عودتك من وراء الخراب
وخرائطنا وجه فاتنة ينهشه الضباب
والمرايا بوح بين الشعاب
وسيرتك لحن متدفق من ناي مكلوم
فمتى يشرق وجهك؟؟؟
وتعود البسمة للخرفان المسرّحة في صحفنا







 
رد مع اقتباس
قديم 25-11-2016, 11:48 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
فوزي الديماسي
أقلامي
 
إحصائية العضو







فوزي الديماسي غير متصل


افتراضي رد: " الجمجمة والزورق " رواية على حلقات ... فوزي الديماسي

نهضت من غفوتها ، جرّت وراءها بعض بأس ، وتوجّهت متثاقلة نحو شاطئ البحر مطرقة كمن يدفع به أمل جريح نحو المرافئ . بوصلتها التيه ، ودربها أفق شوكيّ الضباب .
الشاطئ مقفر...
الزمن فجر كاذب ...
من فوقها تحاول السّماء تمزيق فستانها الأسود ...
الرمال تغطّ على باب البحر في صمت كما النحيب ...
زورق يتيم متآكل خشبه جالس في وحدته يحادث الموج ، ويحادثه ، ومن حين إلى حين يلثم الماء وجنتيه . لا نوارس تحلّق في سماء القصيدة هذا الصباح ، وكل النوافذ والشرفات غادرت مواقعها ، والضوء مسفوك الأمنيات على الصخر . وقفت بين يدي الأفق مرتّلة بأعلى صمتها آيات السقوط ، ورسمت بعبراتها على جبين البحر شمسا نحيلة وعصفورا .
صفّفت أحلامها المبعثرة بعناية أنثى متبرّجة ، وتعطّرت بأريج اللغات ، خلعت نعليها بباب السؤال ، ومن ورائها يحثّ النسيم تفّاح المعنى في قوافلها ، أخذتها سنة قدسيّة الهوى ، فبعثت بصيحة في الرّحب رسولا ، ارتفع صمتها في قيعان العيّ ، وارتدّ الصدى شوكا .
خرج الموتى من كثبان الحروف ، ونسلت من بين شقوق الرؤيا الجماجم تسعى ، جاءتها من كلّ فجّ عميق صفّا صفّا . امتدّت في الأفق ابتسامة رضيع متيّم بالزوارق تراقب الجمع المبثوث على رمل الشاطئ ، خرج عصفور من بين أصابع الأحلام المحمومة وحلّق في الفضاء . تقدّمت نحو الزورق ومن بعدها مريدوها الموتى ، أضرمت نار الغناء والرقص حولهم ، وكنت أنا الميتيّم باقتفاء آثارها مبعثر الأفكار ، لذت بهضبة من الرّمل المتيبّس لأتتبّع المشهد ، دون أن يتفطّن لوجودي أحد ، فالجميع سابح في ملكوت الغناء المحموم حول الزورق الغارق في حيائه ، والمنشد من عمق الحلقة يغنّي بصوته الشفيف :

أقتلوني يا ثِقاتي
إنّ في قتلي حياتي

أنا عندي مَحْوُ ذاتي
من أجلّ المكرماتِ

سَئمتْ روحي حياتي
في الرسوم البالياتِ

فاقتلوني و احرقوني
بعظامي الفانياتِ

ثَم مرّوا برفاتي
في القبور الدارساتِ
تجدوا سرّ حبيبي
في طوايا الباقياتِ (*)

سكتت الحناجر ، وطلّقت الضوضاء المقدّسة مباهج الغياب . انسحب الموتى كيومهم المنصرم يجرّون وراءهم حطب الهزيمة ، وفتحت القبور أفواها شرهة واحتضنت سكّانها ونامت . لملمت الحورية جراحها ، وجلست على هضبة توتّرها تراقب صمت المكان بعدما غادره الصّخب ، وقد لفّها القلق ، وجالستها الحيرة ، كفكفت ضعفها ، وراحت تبحث بين منعطفات الوجود عن حلمها ، أطلقت العنان ليديها وعينيها وعقيرتها كمن نهض لتوّه من غفوته . فتّشت في أركان البحر ركنا ركنا ، وقّلبت المكان قرب المركب باحثة عن غنيمتها ، سألت الافق وكذا الرّمل وزبد البحر ، سألت دمعتها ، لا جواب يطفئ لهيب البحث ، فتّشت بين الصخور ، بين ثنايا الموج الهادر ، في شعاب الملح ، في حمرة الأفق المتثائب ، في رحم الوجود ، مزّقت وجهها ، وألقت بأشلائه على صفحة الماء ، لبست وجها آخر ، وامتطت صوتا جديدا ، لعلّها تدرك مرادها ، لكن دون جدوى فكلّ وجه ترتديه عقيم ، وقد بلغ من الإعياء عتيّا


....
(*) ( حياة في الموت /الحسين بن منصور الحلاج)







 
رد مع اقتباس
قديم 25-01-2020, 04:56 PM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
فوزي الديماسي
أقلامي
 
إحصائية العضو







فوزي الديماسي غير متصل


افتراضي رد: " الجمجمة والزورق " رواية على حلقات ... فوزي الديماسي




******
فاتحة الوجع :
الصحراء ...
الصخر ...
البحر ...
الجبّانة ...
الجبال ...
هذه الفضاءات مجتمعة ثمثّل خشبة مسرح الحياة ، الحياة الرافلة في رداء عذراء بيضاء ، لا يشوبها كدر الإنسان ، وزيفه ، وغيّه ، وذئبويته ، ومكره ... هذه الأركان التي ذكرت ، هي مساحات تبعث في الخلق شهوة السؤال عن الدروب القاصدة ، الدروب المؤدّية إلى بساتين الحب ، وواحات الإنسان / الحمامة ، وكذا الجبانة رغم نومها ، وسكونها ، وقبح رمزيتها ، ندخلها من باب البحث بين العظام النخرة عمّا تكون به الحياة حياة ، فننفخ في طين القعود نار الكدح ، وأبجديات الفجر ... تلك هي المناخات ، والعيون التي تنهل منها رؤاي ، وتكرع منها حروفي ، هي لحظات إنسانية بدائية متوحّشة ، لم يخطّّ على بياضها ليل الإنسان عواء ساكنيه بعد ... هي الحياة... تلك التي نكتبها ، وتكتبنا ، ونحكيها ، ونحاكيها ، ويعشقها مدادنا ، ويقف اللسان على بابها مشتعل الفؤاد ذكرا ، يضيء دياجير العاشقين على باب الله الذي رسمناه في القلب ربيعا يمنح الفقراء أسباب الحياة على أديم الصباحات الدافئة...تلك هي اللغة التي نحياها ، ونتمناها لنا وجها في الآفاق مشرقا ، ينثر على البياض ( الورقة / الحياة ) صخب الحبّ ، وخرير الكدح ، كدح المؤمنين بالانسان المزروع في تراب الآفاق ابتسامة رضيع ... إنّها قيمة القيم ، ونصّ النصّوص تلك التي ركبت راحلتي على أنغام أوجاعها ، ودفعت قوافلي دفعا جميلا نحوها بحثا عنها / عنّي ، فيها / فيّ ، لعلّني أدركني / أدركها في مناكب وجه الله الذي أفتّش عنه بين جنبي ، وفي دموع اليتامى ، والثكالى ، والمعذّبين ، فتكون ذات سعي لغة انتصار ، وبناء ، وحياة ، تؤسّس لنصّ يبثّ في الحياة بذور الطير وأجنحته ، فأكون من مفردات أهازيج الفلاحين في حقول صنع التاريخ... لذلك أجدني في محراب الاعتراف ، وعلى سرير الانسياب، ولحظة الجلوس على حافة الحبر طفلا تائها يعانق الخوف. أكدح على درب الخيال بالكلمة كدحا محموما ، لعلّني أرسم نصّا يدفع بي نحو الحقول والواحات . أتدثّر بحذري ، وضعف حيلتي ، ويزمّلني السؤال والمجهول ، فأكتب سيرة شجني ، وعبرتي ، وفرحتي ، وأحبّر بكبير الحروف على جدار الصمت ملحمة المحاولة ، وفي الفؤاد لوعة تكتب بصادق المشاعر المجبولة على الترحال في صحراء الكلمات سيرة خيبة تعصف بسكينتي ، وتلقي بي في لجج الاضطراب ، فأقلّب سؤال الكتابة كما تقلّب طفلة دميتها في ليل البحث عن ذاتها المتوغّلة في الضباب ، وأسأل ذاتي الحبريّة المتورّمة أمام مرآة المداد عن قوافل الفجر ، عن الدروب الخضراء ، وأركب موج الكلمات مرّات ومرّات ، وألقي بشباك رؤاي في عرض الرؤيا ، وأدندن بناي الرحيل أغنية الصباحات المنشودة كامرأة فقدت طفلها ، وتنتظر تدفّقه من بين جنبيها ، وتسبقني عبرتي إلى خيمة القرطاس ، وأفقد بوصلتي في الكلم الشاسع ، كلّما زارتني شهوة الرسم ، فأدفع بلبّي دفعا جميلا متحسّسا طريقي إلى الشرفات ، وشرفات اللغات في عليّين لا يدركها قلمي النحيف ... لكنني سأكتب كي لا يموت الإنسان في ّ ... سأكتب لكي ينبت الصوت في حناجر الطيور
***********
تصدير :
أسكب خيوط الفجر في كأس الحياة ... وأزرع في الرؤى نخل أبي
*****
اللوحة الأولى :
الزّمن فجر كاذب ...
والرحب قفرإلاّ من عويل الريح وعربدتها على رصيف الغربة ...
لا نوارس تحلّق في السماء هذا الصّباح ...
حتى النوافذ غادرت مواقعها ...
وضوء مسفوك الأمنيات على الصخر ...
والشمس من مرتفعات اللّيل ترمي بحطبها مشتعلا ، وتنفخ ألسنتها في الهجير من وهجها ، فتزيد الجوّ رهقا .
ورؤاي بين جنبي ، وتحت ألسنة السعير تسيرعلى طريق الأشجان ، وغناء كما النحيب يدفعها صداه نحو كثبان الضباب ، وأنا المدجّج بخوفي ، وحذري ، وبعض بأسي أسير في أرض تشبهني ، ولا عهد لي بها . أرض شوكيّة ، ملطّخة بالأخاديد ، والحفر ، قاحلة ، جرداء ، تطوّق جيدها المترهّل سلاسل من جبال عارية ، وصخور مختلفة الأحجام متناثرة هنا وهناك ، وطريق ملتوية كما الأفعى تتهجّى دربها إلى قمم الجبال ، وبعض نبات هجين يراقص السفوح في خفر ، وحجارة منتشرة كما الوباء ، وقد شحذت سكاكينها لتوّها لنحرالسوق ، والنوق .
توغّلت في الدروب بلا هدف أطلبه ، والعقل كما المرجل فوق نارمن حيرة ، أسير في أرض ممتدّة بلا ملامح . جلت بناظري في الشعاب ، والسفوح ، والقمم ، وبين الصخور، لعلّني أدرك نبع حياة ، أو ما يدّلني عليه ، ولكن دون جدوى ، فلا شيء يبعث في العين شهوة الرحلة ، وفتنتها ، فالرحب ممتدّ ، خلاء ، والعقل منهك ، والمكان لا صخب فيه ، ولا ماء ، مكفهرّ وجهه ، تهدهد ريحه بين أحضانها جبالا هامدة كجثث الموتى ، وأنا كسليمان الحكاية ، بين يديّ حفنة من الأمنيات مسخّرة ، تجري بأمري ، فتأتيني طوعا مرّة ، وكرها أحيانا ، وهدهدي أعشى يسبح في منعطفات الرحب ، يذرع المكان جيئة وذهابا بلا بوصلة ، وأنا المدجّج بشوقي أجلس على حافة خرائطي بلا دليل ، أسير في أرض لعلّني أدرك نارا تضيء ما حولي ، ولكن كلما تقدّمت تاهت منّي الخطوات ، وكذا الطريق .
استأسد فيّ الفضول مرّة أخرى ، وشدّني إليه السكون المخيف ، فأطلقت العنان لعيني تتفحّص الفضاء جبلا جبلا ، وتتصفّح اليابسة صخرة صخرة ، وتقرأ صحف أرض تربطني بها وشائج قربى ، وصلة رحم رغم حداثة عهدي بها ، أو هكذا شعرت . ولّما أدركني التّعب جلست على ربوة يتيمة ، وتوسدت ذكرياتي ، وأفترشت شوك الحنين . وحملني على لوحات الهجرات شوقي إلى أبي وزورقه ، وحثّ في ّ هدوء
المكان شهوة السفر بين أعمدة الذاكرة .فعدت إلى أيّام الصغر وبياضها ، وحياة اللّهو الطفوليّ وعبثها ، والعيش بين يدي الوجود بلا عقد تحت ظلّ أبي الممدود ، وتذكٍّرت صوته المدمدم يبعث في البحّارة طقوس السعي في عمق البحر ، كانت أياما عرفت فيها أنّ الحياة نصب ، وكدح ، وثمار يجنيها الفائزون ، كان أبي مقبلا على الحياة غير مدبر ، يداعب شباكه ، ويغازل الحوت في مصادره ، ويكدح في البحر كدح من نذر عمره للسعي . فعرفت بين يديه جمال الحياة وكنهها ، وجمال الفعل ولذته ، وذات نهاية مؤلمة ، ذبحث القبيلة أبي ، وأشبعته ذبحا ، وألقت به خارج أسوار المدينة في مكان نجهله ، فذهبت ريحه ، وتاه في الغياب زورقه ، وكذا فقدت من بعده لذّة الحياة ، فتسكّع وجهي دونه على رصيف الغربة ، وعانق في برد الطريق التيه وجودي ، وتأبّطت فوضى الطريق خطاي... هكذا أنا بعدك يا أبي ، ملاح بلا سفن في. الناس ترفعه ؛ وبينما أنا على الحالة تلك من انهمار الوجع ، وانسياب الذكريات ، وتدفّق العبرات ، إذ بصوت يطلّ عليّ بهمسه الطروب اللعوب من وراء الجبال .
تطلّعت نحو الصخر ، فلم أر في البرّ إنسيّا ، وفتّشت بعينين نهمتين بين الشعاب ، وفوق القمم ، وفوق الهضاب ، وعلى ضفاف الأخاديد ، وبيين الحفر ، وبعد زمن استغرق منّي سكينتي ووقتا مديدا أدركت بعسر مصدر الصوت ومنبعه. إنّها أنثى صقيلة الوجه ، تقف كما اليقين على صخرة من الصخور الجاثمة على صدر الأرض . فتاة دقيقة العود ، رافلة في شهوتها ، متدفّق تثنّيها من مرتفعات الشهوة ، تراقص الريح ، وبصوت ناعم ترتّل على الماء آيات الماء ، وضحكاتها ترفرف فوق رأس الجبل ، وجداول من نور تجري تحتها وعلى ضفاف وجنتيها أشرقت شمس خرافية الجمال .
جرفني نحوها سيل من الوله الطفوليّ ...
ودفعتني الشهوة ...
فأسرجت حواسي ...
حذري ...
ووجّهت وجهي شطر صوتها ...
ثمّ صعّدت في الأرض تصعيدا ، تعثّرت في طريقي إليها ، وأدمى الشوك قدميّ ، فتحاملت على آلامي ، وانطلقت نحوها على جناح الروح ، والريح ، والريحان . سرت والجبال ، يصعد بي درب ، وينخفض بي آخر ، وهي المتربّعة بغنجها على رأس الصّخرة غائبة في ضحكها المتبرّج ...
سرت نحوها والرذاذ يعزف على وجه الصخر موسيقى حزينة ، وينقر من حين إلى آخر وجه التراب المنهوك ...
لا أمل يدفعني نحوها إلاّ بلوغ مجلسها ، ولا هدف يقدح فيّ شهوة المسير إلاّ ضحكتها ، والأرض من تحت قدمي لا تنبس بحرف ، والسحاب في عليائه عليل الخطوات يراقبني بعين فارغة .
سرت في الأرض متحسّسا دربي إليها ، وعلى جنبي الطريق إليها تلوح من بعيد هضاب من جماجم الأوّلين ، وقليل من الآخرين .
أضرم فيّ مشهد الجماجم ، والعظام النّخرة ألسنة الخوف وأسئلة شتّى . مشيت زمنا لم أقدّره بين برك الدّم ، وهضاب الجماجم ، وجبال العظام ؛ ولمّا بلغت مجلسها بعد عسر ومشقة، تقدمت نحوها بخطوات ملتهبة ، فسخرت الحجارة من خطاي . وضحكت الجبال من لهفتي ، ولمّا حطّت عيناها على أغصان وجهي أطلقت في الفضاء ضحكة غجرية الهوى بعثت فيّ بعض سعادة .
ترنّحت على بابها ...
تقدّمت ...
مدّت نحوي يمينها ...
أجلستني بجانبها ...
والسؤال يحلّق فوق رأسينا ...
والكلام في حنجرتي قارب في عرض الدهشة في يوم مطير ...
لملمت بعض كلمات ، وكان نسيم الصباح من حولنا يداعب خصلات الأفق برفق ، وريح شرقية الهوى تعانق مجلسنا ، وتدير كؤوس المطر على الصخر المحيط بنا . تململت في مجلسي محاولا قراءة صفحة وجهها ، وفكّّ رموز وجودها في هذا الخلاء فردا . فضاعت اللغة ، وتاه على بابها الكلام . فأحست بخجلي ، فطرقت بيمينها باب الحديث بيننا ، ومدّت بيننا حباله ، وتوجّهت إليّ سائلة : " من أيّ الدروب انحدرت ؟ ومن أيّ الصّحف تدفٌّقت ؟ أشعر وكأنّك منّي ؟ أمن جنّ الأرض أنت ؟ أم من إنسها ؟ " ، فبعث فيّ صوتها الشفيف سكينة فقدتها مذ دخلت هذا القفر . اعتدلت في جلستي ، وابتسمت في وجهها ، وانهمر الكلام من بين جنبيّ :
سليل صهيل الريح أنا ...
صيحة في معاجم اللّغات خطاي ...
من رحم السؤال بعثت ..
ركبت منّي إليّ :
همّي ...
رحلتي ...
سؤالي ...
أبحرت في فلك الهجرات أفتّش عن أبي وزورقه ، تهت في صحراء البحث ، عانقت وعر الدروب إليه ، صعّدت في مرتفعات الجراح . بحثت عنه في الحناجر ، في صفحات الوجود ، في صحف الأوّلين ، وقليل من الآخرين ، سرت في
مناكب الأحلام لعلّني أدركه ، لكن خاب السعي ، وغاب الطالب والمطلوب ، لقد أشبعته قبيلتنا قتلا ، ورمت به في أرض نجهلها ، فخرجت بحثا عنه حتّى أدركتك أنت على شاهق الصخر آية من آيات الصباح ، فتبرّجت على حفيف صوتك دروبي . وبين يديك وجدتني متيّم الرؤى ، أمشي نحوك مصعّرا همّي ، فركبت منك إليك في هواك العاديات لعلّني أجد فيك أبي المنذور للصباحات في حكايا العاشقين .
ووقفت بباب لحظك أرتّل تعويذة له ولك ، حتّى لاح لي في يمّ عينيك راكبا زورقه ، فسرت نحوه ، ونحوك ، لعلّني أجد على ضفاف عينيك مأربي ، فأعانق ريح أبي بعد غياب؛ وأحضنه بعد عذاب ، ولكن لا اثر له أقتفيه.
ولمّا أرهقني الحديث ، وأنهكني البكاء ، وجفّت مياه الذاكرة ، توجّهت إليها قائلا : " ها أنّك وقفت على سرّي ، وسيرتي ، فمن أنت أيّتها الساكنة في شغاف الكون ؟ " فاستوت في جلستها ، ورفعت رأسها إلى السّماء كمن يطلب وحيا ، أو معونة من وراء حجاب قائلة :
قتلتنا أمانينا يا الغريب ...
وألقت بنا على قارعة الحريق ...
فنهضنا على إجهادنا من مرقدنا مثنى ، وثلاثا ..
من زمن السكون ...
من مدائن الغبار ...
وحلّقنا من جديد ...
فنهشت أجنحتنا أوهامنا كريح عاتية ...
وعبثت بنا مخالب الغياب ...
وجثمت مراكبنا على رمل الوقت هامدة بلا بوصلة ...
ورغم موت قوافلنا على الطريق ...
نحاول صعود جبال الضوء...
لعلنا نعانق ذات فجر فجرا وليدا ...
ولمّا اتمّت حديثها ، كفكفت دمعتها ، ولملمت أوجاعها ، أطرقت قليلا ، ثمّ توجّهت الي مستدركة :
أنا حيرتك في الآفاق منتصرا ...
أغنّي للنّخل من كوّة الشكّ ...
أطلبني في شرفات السؤال ...
أجوب المكان ...
و أتصفّح الزمان ...
أطلب المستقرّ ، ولا قرار لي ...
كبراق قدّ من جليل العبرات أنا ...
يمخر عباب الفؤاد المتيّم بالصباح ...
و ينثر في جراح السؤال تباشيرالولادة ...
ويزرع تحت أقدام الوجود نخلا ...
أطربني حديثها ، ووجد في نفسي هوى ، ففرحت فرح من عثر على صنوه ، وجد صدى وجدانه ، ودون عميق تفكير أخذت بيمينها وانطلقنا نحو الأفق ....
اللوحة الثانية :
انحدرنا من الجبل ، يدحرجها أملها ، ويدفعني نحوها فضولي . كانت تجري كما الريح ، ومن ورائها قهقهاتها تذكي فيّ نار السؤال . وحركتها مندفعة في كلّ اتّجاه ، بلا بوصلة كمن به مسّ من الجنون ، وكانت مقبلة على الدنيا ، فاتحة ذراعيها للخلاء ... للفراغ ... للاشيء في اللاّشيء ، وأنا من ورائها أراقب جنونها في حيرة من أمري محاولا اللّحاق بها ، لفكّ طلاسمها ، واقتفاء آثارها ، ومعرفة سرّها الدّفين ، وهي التي أطلقت لتوّها رجليها للعدو بين مناكب الصمت والعبث ، غير مهتمّة بي ، وكأنّي لم أكن جليسها منذ حين على الصخرة . كانت كفرس شموس ، منطلقة ، كما الماء تجري ، مطلقة العنان لقدميها والصّياح ، وهدير سعيها يملأ المكان صخبا ، كانت في مناكب الكون كمن لا هدف له تسير ، فكلّ الاتجاهات غايتها ، وكلّ الفضاء مملكتها وملكوتها ، كفراشة بين الصخور والكثبان تسعى ، حتى ضاق بها الفضاء على رحابته وبحركاتها المجنونة ذرعا . إنّها في الخلاء كريح عاتية تذرع المكان جيئة وذهابا ، وكأنّ شيئا مّا فقدته تمنّي نفسها بالعثورعليه ، فنذرت نفسها وجسدها للبحث عنه . وبعد زمن لم أقدّره توقّفت عند جبّانة نائمة تحت قدمي جبل ، فطافت بين القبور :
قبرا ...
قبرا ...
وتصفّحت الجماجم :
جمجمة ...
جمجمة ...
وأنا التّائه في ساحاتها أتابعها ، ولم أدرك بعد من أسرار حركاتها شيئا ، ولفّني في كونها الضّباب . سعيت في اقتفاء مشيتها المتقلّبة لأتهجّى طريقها إليها ، لكن خاب السعي ، واندثرت الأمنيات . واستأسد الخوف بين الجنبين . ناديتها فلم تجبني ، وأطلقت همّتي وراءها ، فلم تنتظرني ، وسرت على خطاها ، ولم أفلح في اللّحاق بها ، ولم أستطع مسك بقوافل غبارها.
وفجأة وقفت بين القبور تتصفّح هذا ، وتقلّب ذاك ، تحادث هذا حديث النفس لنفسها بودّ ورفق ، وتركل الآخر بغضب ، وتطلق في وجه الآخر سيلا من السبّ والشتم ، وتلثم وجنتي آخر ، والموتى بين يديها صامتين ، لا يحرّكون ساكنا تحت قدميها . وبقيت على الحالة تلك بعض يومها ، وفجأة أطلقت في الرحب صيحة تردّد صداها بين الجبال ، ودكّت الصّخور ، .وتحرّكت الأرض تحت القبور ، وتحت الأقدام .
حلّق غراب في السماء على وقع الصيحة وصداها ...
تعالت أصوات نشيج من تحت التراب ، وفوقه ، تسكب شجنها في كؤوس الكون المترعة ، وتزيد الجوّ سوادا ...التفتت الناسلة من بين أصابع جنونها ذات اليمن ، وذات الشّمال ، ثمّ خلعت ملابسها عند باب قبرمّا عثرت عليها بعد بحث محموم ، وأطلقت العنان لحنجرتها ترتّل نحيبا مفزعا بين يديه ، ومن خلفه ترتيلا ، والصخر
والصخر من حولها كأنّ على رؤوسه الطير . نفشت شعرها ، واستقبلت بيديها أبواب السّماء ، وحلّ ببدنها شيطان الرّقص ، وتدفّق من بين شفتيها عويل بعث في كامل أقطار جسمي مشاعر متوحّشة شتّى ، فحدّثت نفسي في نفسي بالفرار من هول ما رأيت :
قبور ...
شياطين ...
رقص ...
صياح ...
عواء ...
نحيب ...
وجدتني بين أعمدة جنونها كطفل في صحراء الوجود ، أضرب في الأرض ، تدفعني أمنياتي نحوها تارة ، ويشدّني خوفي إلى مكاني أطوارا ، تحثّني من حين إلى آخر رؤاي لمواصلة الرحلة ، وفي قيعان النفس تحدّث ذاتي ذاتها حديث الفتاة الجريحة لوحدتها ، وأنا الراكب في فلك من سراب أسعى بحثا عن نبع ضوء في هذا الجوّ المتلّبس بالليل ، ولكن خابت الرحلة ومن بعدها السّعي .
شدّني الخوف إلى جذع ذعري . فجأة تقيّأت الجبّانة سكّانها ، وانتشرت الجماجم في الأرض وما عليها ، ونسلت من الأجداث قوافل من العظام . تحلّق الموتى حولها ، وراحوا جميعا يرقصون حولها . ارتفع نشيج الأرض تحت أقدامهم ، وامتدّت ألسنة الغبار تخدش وجه الفجر. وانتشرالرقص في كلّ الأرجاء كما الأفعى يلتهم كل ما يعترض طريقه . تسلّق ضجيجهم أعمدة المكان ، واستحالت الجبّانة حلقة من حلقات المجانين ، والمريدون من حول الراقصة دوائرمختلفة الأحجام ، والجميع محلّق في سماوات خفيّة لا تدركها الأبصار .
تململت وراء دهشتي تعبا ، ولم تتعب الراقصة ومريدوها ، فحلقة الرقص في اضطراب محموم لا تريم ، فتتقلّص طورا ، وتتمدّد أطورا لتدرك تخوم الجبال ، والغناء كصوت خفيّ من وراء حجاب يتردّد صداه في الشعاب ، وفوق الهضاب . وبعد زمن خفت صوت الضجيج ، وتوقف الرقص ، ورانت على الوجوه الخيبة ،
والوجوم ، ورغم سحابة الفشل التي غطّت أقطار المكان ، عاودت عارية الجسد الرقص بشعر مسافر في الفوضى ، وجسم مضطرب في الحلقة ، ومن حولها أتباعها يرفسون الأرض رفسا ، وعاود الغبار مرّة أخرى تسلّق عمود الوجود ، وطفق النشيد على آثارهم يمزّق بوحشية سكون المكان .
وبعد حركة ، وغبار ، ورقص ، ونشيد جاءهم صوت الفشل من وراء سعيهم ساخرا ، فتركتهم لموتهم وأجداثهم ، وغادرت الجبانة ، وأنا من ورائها أتبعها بحذر حيث لا وجهة لنا نلتمسها...
اللوحة الثالثة :
على شاطئ حديث كما النجوى ، أو هو أشدّ همسا ، كنت أبادلها صمتا بصمت . وكانت جالسة بين الفؤاد والجنبين تداعب بسبّابتها رمل اليقين ، وكانت من حين إلى آخر ترسم على صفحة الكون بأنين يتردّد صداه في نفسها العليلة ضبابا ، وكانت جراحنا الناسلة من عفن السؤال تظلّل مجلسنا ، وترفرف بأجنحة من ليل فوق رأسينا ، والجبّانة من حولنا في حركة ، واضطراب تلملم جراحها ، وتجمع موتاها ، وترتق أجداثها ، ولمّا عاد المكان إلى كهوف الصمت ، توسّدت قبورها ، ونامت .
وانفرط عقد الحديث بيننا بين نهش الفشل ، وعواء الخيبة في مجلسنا ، وحلّ بنا العيّ ، ودقّ الأوتاد .
أطرقت رفيقتي كمن حلّ به همّ ، أو حطّ على كتفيه حزن الدنيا قاطبة ، وراحت تتجوّل بعينين دامعتين في منعطفات التراب ، مرفرفة بآلامها في سماء هدوء مريب ، ومحلّقة في ملكوت خيالها بعيدا . سافرت في الأرض الجاثمة على صدرالوجود تبحث في الفراغ ، وتتصفّح في خلدها لوح الخيبة ، وتقرأ في فؤادها المكلوم صحف الفشل . بقيت على تلك الحال ، لا تحرّك ساكنا ، غير مهتمّة بوجودي بالقرب منها ، كمن نذر لوحدته صمتا ، فلم أسمع منها حرفا تبادلني به حديثا بحديث ، وكأنّها في الخلاء فردا ، ورغم محاولاتي المتعثّرة لأمدّ بيننا حبل الكلام ولو همسا لم أظفر منها ولو بإيماءة .
وفجأة نهضت من مجلسنا ، وطفقت ترسم بجسدها الصقيل دوائر... دوائر ... على وجه الأرض ، وأشكالا شتّى توقّع بقدميها ، وأنا الجالس على قلقي كأنّ الشوك تحتي ، في ساحاتها مقرفص بلا دليل . وبعثت بصيحة في الرّحب رسولا، ونادت في سكّان الجبّانة بصوت كما الرعد ، فخرجت عليها الجماجم تسعى ، وجاءتها العظام من كلّ فجّ عميق صفّا صفّا .
أضرمت لهم الغناء كما لم تضرمه من قبل ليتحلّقوا حولها من جديد ، وكنت أنا المتيّم باقتفاء آثارها مبعثرالأفكار. لذت بهضبة الحذر ثانية لأتتبّع المشهد الغريب العجيب ، لكي لا يتفطّن لوجودي أحد ، فالجميع سابح في ملكوت الغناء المجنون ، والرقص المحموم ، والمنشد من عمق الحلقة يغنّي بصوته الشفيف وهم من بعده يردّدون :
أقتلوني يا ثِقاتي
إنّ في قتلي حياتي
أنا عندي مَحْوُ ذاتي
من أجلّ المكرماتِ
سَئمتْ روحي حياتي
في الرسوم البالياتِ
فاقتلوني و احرقوني
بعظامي الفانياتِ
ثَم مرّوا برفاتي
في القبور الدارساتِ
تجدوا سرّ حبيبي
في طوايا الباقياتِ (*)
استأسد المنشد في إنشاده ، واغرورقت العيون بالدمع والأمنيات ، واشتعلت السوق حركة ، والرؤوس كأمواج البحر في ليل مطير مترنّحة سكرا على باب المنشد المتلبّس بالفناء.
كانت الجماجم حول رفيقتي ، وكذا المنشد كما الدوائر المتناسلة على وجه الماء الراكد بعدما أيقظت سباته حصى البحث وقد القت بها يد غضب ، أو كما الجداول تطعم النهر، والنهر في مجراه يتثنّى كأفعى تبحث عن فريستها يسبقها سؤالها إلى المكان . وفجأة هدأت الحركة ، وسكتت الحناجر ، إذ لم يظفروا حتّى يومهم هذا إلا بالخيبة والفشل كأمسهم المنقضي .
انسحب الموتى كيومهم المنصرم يجرّون وراءهم حطب الهزيمة ، وفتحت القبور أفواهها ، واحتضنت سكّانها ، ونامت .
لملمت رفيقتي جراحها ، وأطلقت العنان لسيل أسئلتها ، فسألت الأفق ، وكذا الرّمل ،
سألت دمعتها ، فلا جواب يطفئ لهيب البحث في فؤادها ، وفتّشت بين الصخور ، وفي حمرة الأفق المتثائب ، في رحم الوجود وفي الشعاب ، وبين الصخور . صاحت في الرحب مرّة أخرى ، لكن هذه المرّة لا مجيب .
****
(*) حياة في الموت /الحسين بن منصور الحلاج ...

****
اللوحة الرابعة :
كنت قابعا داخلي ، ولساني في ملكوت الرهبة مشتعل ، وكان صوت الوساوس يمزّق سكينتي ، وعقلي بين يدي جمجمتي زورق يمخرعباب خوف يعوي في كامل أقطار جسمي . تململت ، وامتدّت يميني حذرة تتهجّى أبجديات الفضاء ، والفضاء في زحمة الضباب المحيط بنا يبدو وكأنه قبر ضيّق مهجور ، فلا نور يطرق بابه ، ولا هواء يبعث فيه سبل الحياة . نهضت متثاقلا كمن به مسّ من سكرات الموت ، أتطلّع نحو الجبال المسيّجة بالغبار ، والصّخور المبعثرة على أديم الرّهبة كما الجثث ، والقبور المفتوحة ، وعشرات الجثث حول بعضها البعض تتلمّظ هزيمتها تحت سماء رماديّة تبعث في النّفس ذعرا على ذعر ، ورفيقتي كإله قديم مهجور في صحراء العطش منكبّة على صمتها الحزين لا تحرّك ساكنا كمتعبّد في المحراب ، وفجاة نهضت من صمتها تجمع حبّات خيبتها ، وترتق جراحها. تحرّكت نحوها ، واقتربت منها ، فحدجتني بنظرة منكسرة ، ورسمت على ثغرها ابتسامة جرداء قائلة : " هذا الخلاء هباء ، وهذه الصخور في ساحات الزور شهداء ، وهذه الجبّانة منذورة للغياب ، وأنا كما أنا على ذات الدرب أسعى ، لعلّني أظفر بي نخلة ، أو ماء ، أو نارا تخرج من بطون القبور فتأتي على اليابسة كلّها ، سأكدح حتّى أبعث فيهم الصباح قولا سويّا ، وسأفتش مرة أخرى عن نبع الفجرفي جماجمهم ، ومن بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعلى يمينهم ، وعلى شمالهم ، ومن فوقهم ، ومن تحتهم ، وأحث فيهم شهوة الضوء ، وأبدّل حياتهم حياة أخرى تبديلا ، ليقطعوا مع الليل ، ويستقبلوا بسعيهم صباحا عتيدا ، سنرقص بأجسادنا الظمأى ، وسنبدّل حياتنا الضّنكا ، فنفقأ عيون الأرض ، وننحر على الصخور العيّ والعجز ، ويشرق الماء من مشارق الأرض ، ولو بعد حين تحت أقدامنا " .
فتوجّهت إليها بالحديث : " وهل يشرق الصباح من مشرق الموتى والنّيام ، وقد تعوّدوا لغة الكهوف ، واستحسنوا العيش في القبور ، وطابا مقاما "
فأجابتني دون عميق تفكير ، وبوثوق لا ضفاف له : " سنبعث من أصلابهم ، وترائبهم ، وعظامهم النّخرة حياة بعد موت ، وصخبا بعد سكون ، وسنرسم برقصنا على جبين الكون شمسا تذهب ليلهم "
فقلت : " ها أنّك رقصت ، ورقص من بعدك جندك ، ولم تجنوا إلاّ الخيبة ، والفراغ ، ولم تشرق لكم شمس ، ولم ينهمر لكم ماء ،وعادت قبوركم إلى ما هي عليه من موت "
فأجابت : " ديننا السّعي ، وإلهنا الفجر ، وطريقنا الشّمس لا محالة ولو بعد دهر ، وسنمزّق بأيدينا رداء الليل ، وسنرسل سواعدنا مصابيح في كلّ درب "
فقلت والشكّ يملأ أحشائي : " ها أنّي بين يديك ، وقد أصاب منّي التعب بعد رحلة بحث استغرقت منّي عمري ، أو أغلبه ، ولم أجن منها إلاّ الخسران المبين ، ولم أجد جمجمة أبي وزورقه ، وكأنّ السماء رفعته ، وكأنّ الأرض ابتلعته "
فابتسمت ابتسامة عريضة قائلة : " ستجد أباك وفلكه ، وستحضنه ، وتنعم بريحه ، وروحه ، وريحانه ، ويوم اللّقاء سنفرّق رماده على الموتى لاستنشاقه ، ونبعث فيهم الرّوح من جديد ، فيخرجوا خلقا آخر من بعد خلق "
فقلت مستغربا : " وهل تعرفين أبي وقصّته ؟ "
فقهقهت قائلة : " إنّك وأباك مذكوران في صحفنا وألواحنا ، وسكّان هذا القفر كتب عليهم الموت ، وقد ظنّوا أنّهم قد أفنوا الموت بقتل أبيك ، ولكنهم يوم أماتوه ماتوا "
وأشرقت على كلماتها الجميلات الدنيا ، فطوّقت بذراعيّ خصرها ، ولثمت على خجلي وجنتها ، فتفتّحت بين يدي كزهرة الصباح ، وحملتها على مغادرة المكان ، وامتثلت .
وعلى طريق سيرنا توقّفت في منتصفه تحت شرفة أمل تغازل وجه حلم تراه قريبا ، وشمعة من الغابرين بين جنبيها تبوح لحفيف الموج بأوجاعها ، وتبعث في الكون المحيط بها أريج اللقاء المنتظر، ونسائم من شوق كابتسامة رضيع متدفقة من مرتفعات روحها ، ترفرف فوق رأسها ، وحول الشرفة ، وأنا من ورائها واقف على ضفة الحنين ، أرمق بعيون حالمات أبي وزورقه المفقودين ، ونجمات فاتنات في كبد سماء يطلقن من حين الى آخر زغاريد في الجوّ ، ومواويل.
سرنا والصخر ننشد أرضا غير الأرض ، ومكانا غير المكان ، سرنا مطرقين ، والجبال من شرفة الزيف تحرسنا ، وتبارك رحيلنا ، والقبور من ورائنا تحثّ خطانا في الخلاء . وهي على إعيائها أطلقت العنان لصوتها البهيّ الشجيّ الشفيف يغنّينا :
آه يا ليلاي... لولا هدهد (*)
كنت حدثتك عما هدّني
فاحملي عنا قليلاً همّنا
أنت من تريدين ثقل المحن
وأقرئينا، إنما إغلاقنا
أننا نشدو بلحن شجن
ترجمينا ربما يفهمنا
ذو هوى أودى به أن تحزني
خبئينا بصناديق الهوى
ربّ ميتٍ سرُّه لم يدفن
واحفظينا قبل أن يغتالنا
عسس الموت بليلٍ عَفِن
وأري البحرَ قناني حُبّنا
سكر البحر وماجت سُفُني
وتوزّعنا على شطآنه
عبقاً يوقظ ميت الأزمن
وهبي لي ضوء عينيك سنا
حيثما وليت ضاءت مدني
وأطيلي سفري كي تصلي
أرض أسبابي
وبثّي شجني
مشينا حتى نال منّا الإعياء ، مررنا بالجبال ، والصخور ، والأودية الجرداء ، كانت الطريق موحشة ، طويلة ، وعواء الذّئاب منتشر في تجاعيد الأرض ، واللّيل على الأبواب وقد أسرج القبورللنوم . كنّا نمشي متّصلين ، منفصلين ، كلّ سابح في ملكوته فردا ، وكأنّنا نذرنا لاجتماعنا صمتا ، وكنّا على أديم الأرض كخشبتين في عرض البحر تتقاذفهما الأمواج ذات اليمين ، وذات الشّمال ، والرّيح عاتية ، زاد عويلها المكان رهقا ، فلا اليابسة بلغنا ، ولا من الغرق في يمّ الهموم نجونا ، نصارع الفراغ ووعورة المسير ، وحلّقت بي الذاكرة حينها نحو تخوم وجه أبي ، وقد لاح لي مشرقا ، كعادته جالسا بين أصدقائه ، ومريديه متصدّرا مجلسهم ، يتلو على مسامعهم شعرا وحكمة . كان أبي زينة القبيلة ، وقبلتها ، نهلوا من معارفه ، وكذا نهلت ، كان كما خزانة ثمينة بثمين المعارف زاخر ، يختلف إليه جميع اهل القبيلة ، كان شاعرا يجيد ، التّطريز ، كان نهر معارف وعلوم ، رتّلت بين يديه في صباي جميل النّظم ، وبديع النّثر ، كان نجمي الهادي ، وكذا نجمهم ، وذات يوم غزانا من قبائل الرّوم رهط ، فحادت قبيلتنا عن مسلك أبي ، ونهجه ، وسارت على آثار الرّوم راضية مرضيّة ، وقدّمت أبي قربانا للغريب ، فنحرته في معبد الولاء والطّاعة وألقت به خارج أسوارها ... وبينما أنا على ظهر ظهر الذكريات أخبط في الشجن خبط عشواء إذ بصاحبتي
تتوقّف عند عين واهمة ، وحططنا الرحال ، ولمّا استقرّ بنا مجلسنا ، واسترجعت رفيقتي بعض أمن بعد خوف ، وبعض سكينة بعد اضطراب تركتها لصمتها، ووحدتها ، ورحت أبحث عن حطب يذهب وحشتنا ، على ان أعود إليها ، فرسمت برأسها المطرق علامة القناعة واستحسان الفكرة ، وخرجت طلبا للحطب .
سرت أخبط في الأرض خبط عشواء بحثا عن حطب يذهب وحشتنا في هذا الخلاء الممتدّ ، مشيت في منعطفات الليل أتحسّس الحفر والصخور ، وكانت أصوات الحفيف ، والفحيح ، والنقيق ، والعواء ، والهديل ، والنّباح تسيّج الفضاء ، وبينما أنا في بحث محموم عن الحطب إذ بواحة نخلها هزيل تلوح من بعيد كأفق كئيب ضنين ، تقدّمت لعلّني أظفر بمأربي ، ولكن شيئا من شبق مكبوت شدّني إلى مكاني . صوت شهيق متوحّش ، وتأوّه أنثوي مبحوح ، تداعب نسماته جفاف المكان ، استنفرت حواسّي جميعها ، وبعثت بأذنيّ هدهدا لأتبيّن الأمر .
صوت أنثى مترنّح ، وقد تعتعته المتعة ، تطلّعت من وراء النخل بحذرفوقع نظري على هيكلين عظميّين متعانقين يتهامسان ، وعظامهما في زورق المضاجعة كأمواج البحر في عرض العاصفة ، شدّني تمايل الجمجمتين ، تراقصان موسيقى الفناء ، وتعزفان لحن عشق سرمديّ على حافة متعة مهرّبة ، تملّكني شيء من الفضول الزئبقيّ ، فتمسّكت بقارب شجاعتي ضعيف الحيلة لأتابع بقيةّ مراسم الفرح .
نسيت صاحبتي المنذورة للوحدة والانتظار هناك ، ونسيت المكان ووحشته ، والعواء وخطره ، وبقيت أتابع المشهد وكأنّ الجمر تحتي ، كانا متعانقين كأغصان شجرة كثيفة متشابكين ، راعني المشهدّ ، وروّعني ، عظام نخرة على فراش اللّذة تمارس شهوة التّكاثر ، وجمجمتان بأنين مكبوت محبّب ترسمان على جبين الكون لحظة حياة في مناكب وجود مزدحم ببذور المنيّة ، وأنا من وراء النخل رغم الخوف والهلاك طرب .
وفجأة تنحّى الهيكل العظمي ، وألقى بعظامه قرب صنوه يسترجع أنفاسه ، ونهض الهيكل الآخر، وتوغّل في الواحة ، وفجأة شقّت صيحة وليد سكون الكون ، فأطقلت قدمي خوفا ممّا رأيت وسمعت ، ولأخبر رفيقتي بما رأيت
....
( *) قصيدة واد النمل للشاعر جمال الصليعي...

****
- يتبع-







 
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 07:50 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط