.... رواية " الجمجمة والزورق "لفوزي الديماسي
خرج الصباح من عرينه ليغتسل في ماء النهر الممدّد بين كثبان الحياة ، وكنت على ربوة الأسئلة تائه الخطوات أعدّ أشعّة الشمس الغائبة البعيدة وأحصيها . دفعني شوقي بعصاه دفعا رقيقا نحو ساحات الفجر ، فاقتفيت آثار رغبته ، وكان ثالثنا الحلم . سرنا والجبل نبحث عن ذاك الصبح الموعود . توقفنا عند عين عارية إلاّ من غبارها لننهل من رضابها سرابا وحكمة ضائعة ، وإذ بصوت يطلّ علينا بشجنه الطروب اللعوب من وراء قيظ الرحلة . تطلّعت نحو الصخرة العالية المطلّة على العين ، فإذا بها أنثى صقيلة الوجه تقف كما اليقين ، رافلة في شهوتها تراقص ريح الوجود ، وترسم بعينين متنمّرتين على جبين الأفق علامات الفناء . جرفني نحوها سيل من الوله الطفوليّ ، ضحكت ، وضحك شوقي من بعدي ، وانطلقت على جناح الروح والريح والريحان نحو صوتها المتلبّس بفجر ينير لي طريق وجهي المفقود أو هكذا يبدو ، سرت نحوها ، والجبال بعراء أحلامها تبعث فيّ طقوس الخلاص.
تقدمت نحو الصخور المتناثرة ، فيصعد بي درب وينخفض بي آخر ، ووجدتني أبحث في منعطفات الوجدان عن وجهي الذي ضيّعني وفقدته . وقفت على صفحة ماء بحيرة يتيمة في فؤادي المكلوم .لا وجه يفتح شرفاته لسؤالي هذا الصباح ، ولا فجر يرفع رؤيتي في الخلاء بلا عمد . أنخت فكرتي على باب الهجير، وناديت في الرحب ، فلا مجيب إلا صدى الريح يقهقه من أعلى الصخور، ويعبث بشعر الحورية في كلّ اتجاه ، بحثت في رفوف ذاكرتي عن وجهي المنشود ، ولكن الدرب التهمته ألسنة التيه ، والحورية في أعلى الصخر تقهقه .
نزلت من على صهوة حيرتي ، وعقلت سؤالي عند جبلها ، وسرت تحت ضوء القمر في مناكب أرض أجهل تفاصيلها وشعابها ، دفعت بكلماتي نحوها ، والناي بيميني يكفكف ألحانه حياء ، ومدادي في جداول القلب يقلّب الواقفة فوق قمّة الصخرة في صلف.
الدرب إليها ضبابيّ الملامح ، ومزدحم ببحيرات غطّتها جماجم الأوّلين وقليل من الآخرين ، وقمر في علييّن ملطّخ بالمخالب يتطلّع نحو الأفق . تقدمت نحوها بخطوات ملتهبة ، فوقف دوني الليل على شاطئ شفتيها، وعقر آخر نقطة ضوء تلوح كنافذة نحيلة من وراء الغيوم .
وقفت بملامح باهتة بين يدي همس الجبل ، ألقيت بشوقي بين أحضان السفح ، وبينما أنا على الحالة تلك إذ بالحورية تطلق في أرض السكون ضحكة غجرية التدفّق تتدلّى عناقيد الشهوة من أغصان صدرها .
اتخذت لنفسي مكانا قصيّا أتابع حركتها على الصخرة من وراء بلّور الروح المتعبة . والرذاذ يدندن على أغصان الفراغ موسيقى حزينة ، وينقر من حين إلى آخر وجه الجبل ، وبينما أنا أتابع اضطرابها من وراء الضباب ، كان في السماء ضوء خافت يبثّ فيّ طقوس الرحلة ، وموسيقى هادئة منحدرة من مرتفعات الجمال تدفعني نحوها . أشعلت لفافتي ، انطلق الدخان من بين أصابعي كراقصة بالي تقتفي آثار الضوء ، شدّتني إليها الرقصة والموسيقى المتلبّسة بفستان شفيف من الهمس ونسيت الحورية والجبل ، وبعث المشهد في نفسي شهوة اللّقاء ، وسرعان ما عاودني الحنين إلى الصخرة وصقيلة المفاتن ، وقفت تحت قدميّ الصخرة ومطيتي شوقي المتدفّق نحوها . طرقت بلطف المتيّم باب حلمها ، فجاءني صوت رقراق من وراء حجاب ، أسرجت ابتسامتي ، ورتّبت تفاصيل لساني ، وامتدّت يميني نحوها بباقة من طيب الكلم . لبست وجهها القمريّ ، واكتفت بابتسامة، وتاهت في الغياب .ترنّحت حروفي في زحمة الأشواق ، ونفخت فيّ الصخرة من روحها على عتبات الحلم ، دفعت مطيتي في وعر الدروب نحو قمّة الصخرة لعلّني أدركها في منعطف من منعطفات الفؤاد ، سخرت الحجارة من خطاي ، أطلقت العنان لرجليّ ، فدحرجني تعبي نحو سحيق العودة ، وشددت الرحال مرة أخرى إلى مرتفعات الروح , تعثّرت مطيّتي والأمنيات ، بعثت بعينين حذرتين لأتهجّى في ليل الطرق صحف الفجر ، ركبت خوفي وذعري وأملي ، وصعّدت نحو مقصدي ، أمدّ يميني من حين إلى آخر لأضمّد عرقي ، ونحيب الريح على باب الصخرة يداعب سخرية الحورية . استرقت السمع ، صهيل الليل يملأ القلب ، وخرير الرؤى المنهكة يصمّ آذان الجبال الراكدة في الفؤاد ، ركبت الحذر، وأطلقت العنان لبصري من وراء حجاب ، إنها هناك عند باب الغار تلملم جثث أحلامها ، ووقع أقدامها على أديم عبرتي يستحثّني . بعثت الجبال بعراء أحلامها في الفؤاد طقوس الفناء .
تقدمت نحو الصخور المتناثرة ، ووجدتني أبحث في منعطفات الغنج عن وجهي الذي ضيّعني وفقدته . وقفت على صفحة ماء بحيرة يتيمة في الطريق إليها ، لا وجه يفتح شرفاته لسؤالي ، ولا فجر يرفع رؤيتي في الخلاء بلا عمد ، أنخت فكرتي على باب الهجير، وناديت في الوادي فلا مجيب إلا صدى الريح يقهقه من أعلى الصخور ، بحثت في رفوف ذاكرتي عنّي ، ولكن الدرب إليّ التهمته ألسنة التيه ، وقفت مستقيم الرؤى لعلّني أدرك أنّني في حضرة الصباح ، التحفت الرهبة ، والصخرة في خشوع الأفق متسمّرة ، لا تريم ، ولمّا بلغت مجلسها استقبلتني استقبال العشّاق .