هذا الغناء المسائي برائحة البنفسج ، كل مساءٍ من بعد العشاء إلى مقتبل الفجر ، يأتينى من بين أعواد حقل الذرة المترامى إلى نهاية حدود القرية ، فأجدنى أسير بلا إرادة إلى حيث يقبع ، أسلم عليه ، فيهز رأسه دون أن يتوقف عن العزف على نايه المصنوع من البوص ، أجلس إلى جواره فى هدوء ، وأمنى نفسي بهذه الألحان البنفسجية الرائحة، و هو يفترش بضع أوراق الذرة ، و أمامه حفرة من جمر بلون انسحاب الشمس ، هادىء النفس ، مستمتعا بالعزف و الغناء.
لا يشبه نفسه ، لا يشبه هذا الرجل الذى أراه فى وضح النهار ، غارقا فى عمله بين الحقول ، يحرث هذا القيراط من الأرض ، يروي حقل أخر، ينثر البذور فى حقل ثالث ، كل هذه الحقول التى لا يملك منها سوى موطىء قدميه ، حين أنظر إلى وجهه المتجهم ، عرقه الذى يبلل تحت أبطيه فيكسو جلبابه الفقير بقرح ملحية، خطواته المتسارعة حين يناديه مالك الأرض طالبا منه أن يربط الثور فى الساقية ، أو يجلس ليدير الطنبورعلى شاطىء الترعة ، أو يجمع المحصول مع أقرانه، حين أراه كل نهار لا أصدق أبدا أنه هو الجالس بجوارى الآن فى حقل الذرة ، ينفخ فى نايه البسيط ، فيغلف الكون برائحة البنفسج ، و تتراقص أعواد الذرة على وقع الموسيقى ، و حفيف النسائم من حوله.
لم يحاول مرة أن يسألنى ، ما اتى بك إلى هنا؟ ، لم ينهرنى يوما ، لم ينتبه لحظة إلى شغفى و عشقى لألحانه و غنائه و جلسته الهانئة.
توقف برهة ، ثم تناول براد الشاى من فوق نار هادئة ، أقامها بما تبقى من عرانيس الذرة ، صب كوبا و ناولنى أياه ، و كوبا أخر بدأ فى ارتشافه بروية ، دون صوت .
تجرأت و سألته ، من أنت ؟ ، آنا لك بهذه النفس العاشقة و الألحان؟ , لم يجب ، وضع كوب الشاى من يده ، ثم اطرق ينفخ فى نايه، و ينثر رزاز البنفسج فى الأجواء ، استوقفته ، فنهرنى بنظرة حادة ، ثم ابتسم حين رأنى قد وجفت ، وضع نايه فى صدر جلبابه ، ثم بادرنى بالقول ، أنا فى النهار من أنا و فى المساء سيد الألحان.
عجبت له ، لكننى لم أطل الحديث ، و جلست استمع إليه يغنى ، و يعزف على نايه فى سعادة ، و حين ارتجفت جراء النسائم الباردة ، أستأذنته ، فهز رأسه دون أن يتوقف عن العزف ، و سرت إلى بيتى تحيطنى هالة من صفاء ، دخلت سريرى لأنام ، تغمرنى رائحة البنفسح.