يدٌ خشنة وباردة ما انفكّت تصفع مؤخّرة رأسي بعنف طوال الوقت دون هوادة. ما زلتُ أتخيّلُها مكسُوّة بالحراشف والشّعر وأتخيّلُ الخاتم التي تضعه في بنصرها طوقًا حديديًّا حول رقبة كلب شرس. لم أكن في حاجة لأراها كيْ أميِّزَ شكلها العدائيَّ وانحناء أصابعها الهوجاء التي جعلت من القرع لاذعًا كسوط، ولا في حاجة إلى تخمين ضخامة العظام أحيانَ أخرى عندما يعِنُّ لها خبط جمجمتي بإصبِعَيْن منقَبِضَيْن كحافر تيس.
خلال النّهار وتحت وطأة الضّرب الذي لا يهادنُ أبدًا كنتُ أشعر بأنَّ الألم قد اتّخذ أخيرًا شكلا ولونًا أصفر كريهًا بل وتحصّن بوزن مُزعِج، وأنّه، بالإضافة إلى ذلك، قد بات جسمًا غامضا يركبُ ظهري بتفاصيله وملامحه المُخيفة. ثمَّ رُويْدًا باتت اليدُ تزيدُ من حدّة الصّفع على نحوٍ لم أعد معه قادرا على التفكير سوى في ما ترجوه منّي وكنتُ بالفعل على استعداد للإذعان إلى مطالبها لأنَّ ذلك سيكون أفضل بكثير من الجدار الشّاهق الذي أصبحتُ أرى عليه كلَّ شيء. أمّا خلال نومي الكابوسيَّ المتقطِّعَ فقد سيطرت عليَّ صورة كنتُ أرى فيها نفسي كسيحًا مُبلّلا بالبول أجرُّ كلبًا يعضّني من ساقي أينما ذهبت. وبدا واضحًا أنّ الألم يطردني من نفسي ليسْكُنَها وأنّه يريدُ حملي على فقدان صوابي في العمل وفي السيّارة وأثناء القراءة والأكل، ويبعثُ في داخلي إحساسا بوخز مُغاير عن كلّ ما عرفتُه من أوجاع مدى حياتي. كان حقًّا ألمًا حلزونِيًّا وشرِهًا جدًّا، يُحاول ابتلاعي من رأسي بصورة مُستفِزًّة ومُلِحَّة لا تدعُ مجالا للشكّ في أنّه بصدد استنطاقي للاعتراف بجُرم أجهله أو إرغامي على التنازل عن شيء ما لفائدة الشّيطان الذي أرسله.
تصفعني اليدُ مرارا وتكرارا دون كلل. وأسمعها تؤكّدُ لي صراحة بلغتها الإيقاعيَّة أنّي لستُ محور الكونُ كما توهّمتُ دائما، أنّي أُحتَقَرُ وأُهمَلُ أيضًا وأنّه لا قيمة لي على الإطلاق وسط الآلاف المؤلّفة من الناس المُهمّين في كلّ مكان وأنّي أُزدَرى وأنّه قد يُساوَى بيني وبين وغد مُقَزّز وأنّي أُكَذّبُ وأُعاقَبُ بكلّ الطّرق الملعونة الميؤوس من شفائها.
أُجَنُّ قليلا فينتهز الألمُ الفرصة ليُطبق فكَّيْه على ذراعي ويسحبني نحو حفرة ضيّقة حيثُ زمرة من الضِّباع الجائعة في انتظاري. تختفي اليدُ قليلا بينما تنهشني الضّباع، ثمَّ فجأة تهوي على رأسي كمطرقة فتُطيعُ الأنيابُ فورًا وتُغرسُ أعمق في عظمي وهكذا تظلُّ اليدُ تغيبُ وتعود بقوّة أكبر من المرّة السّابقة حتّى يُغمى عليَّ. ثمَّ مع مرور الوقت أصبحَ غياب اليدِ متواترا وبدأت فتراتُ غيابها عن مؤخّرة رأسي تطول شيئا فشيئا، مُكتفية بالطّرق بلطف على ظهري ودون توقّف كلّما استغرقتُ في حوار مصيريّ مع أحدهم، لتكون النّتيجة، باستمرار، ضربةً عنيفة بحجم تقهقرها.
مضت اليوم خمسة أسابيع وثلاثة أيّام على غياب اليد.
عندما تأتي ستجدني في انتظارها حيث تركتني آخر مرّة، هادئًا وجاهزًا لتحمُّل وقعها المُرَوِّع بعد أن سلكتُ الخيار الوحيد المتبقّي لديَّ: القيام بما يجعلني أستحقّها.
***
محمد فطومي