منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - قراءات في الكتاب: ســـورة الفاتحــة
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2022, 12:41 PM   رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
عوني القرمة
طاقم الإشراف
 
إحصائية العضو






عوني القرمة غير متصل


افتراضي رد: قراءات في الكتاب: ســـورة الفاتحــة

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2



حول مضمون الآية:


إن افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد؛ فسورة الفاتحة بما تقرر مُنَزَّلَةٌ من القرآن مَنْزلَة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي. وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة:
- القاعدة الأولى: إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسَبوا إلى العِي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة.
- القاعدة الثانية: أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهييء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن.
- القاعدة الثالثة: أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها.

إن القرآن هدى للناس وتبياناً للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم. ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يُهَيَّأَ المخاطبون بها إلى تلقيها، ويعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهذه التعاليم النافعة، وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة، وعن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من الاتسام بميسم الفضيلة والتخلية عن السفاسف الرذيلة.

فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وعن الإشراك بما تضمنه: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وعن المكابرة والعناد بما تضمنه: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم، ووصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشُبه وغلط، ومَن اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما، وعن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دَركةٍ أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط، وذلك بما تضمنه قوله: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ كما أجملناه قريباً، ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم. ولما لُقِّن المؤمنون هذه المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه، قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جرياً على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جُدْعان:

أأذْكُرُ حاجَتِي أمْ قَدْ كَفانِـي ..... حَياؤُكَ إنَّ شِيمَتَكَ الحَياءُ
إذا أثْنى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمًا ..... كَفـاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنـاءُ
فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مُجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذٍ يُلقِّبُون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر. وقد لُقبت خطبة زياد ابن أبيه التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد، وكانت سورة الفاتحة لذلك منزَّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعون للأَفهام وأدعى لوعيها.

والحمد على التعريف المشهور بين العلماء هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فِعْلاً كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة، وسواء أسدى هذا الجميل إلى الحامد أم لا. إلا أنّه قد يُحمد غير الفاعل المختار تنزيلاً له منزلة الفاعل في نفعه، ومنه: إنّما يحمد السوق مَنْ ربح. وهذا هو المتبادر من استعمال اللغة.
وقد جعلوا الثناء جنساً للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. إن الثناء: الذكر بخير مطلقاً، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة "حمد" هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة. والظاهر أنّ الحمد على الفضائل وصفات الكمال إنّما يكون باعتبار ما يترتّب عليها من الأفعال الاختياريّة وما عدا هذا من الثناء تسمّيه العرب مدحاً؛ فيقال: مدح الرياض ومدح المال ومدح الجمال ولا يطلق الحمد على مثل هذه الأشياء. وهما ليسا مترادفين كقول البعض.
وقد يقال: إنّ ما ذُكر هو الحمد الذي يكون من بعض الناس لبعض، وأمّا الله عزّ وجلّ فإنه يحمد لذاته باعتبار أنّها مصدر جميع الوجود الممكن وما فيه من الخيرات والنعم، أو مطلقاً خصوصيّة له، إذ ليست ذات أحد من الخلق كذاته. ويحمد لصفاته باعتبار تعلّقها وآثارها كما سترى بيانه في تفسير الربّ والرحمن والرحيم.

وقد اختلف العلماء في أن جملة: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هل هي إخبار عن ثبوت ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أو هي إنشاء ثناء عليه. والحق أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء؛ فالقصد هو الإنشائية لا محالة، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام، وشيءٌ من ذلك لا يمكن حصوله بصيغةِ إنشاءٍ نحو حمداً لله أو أحمد الله حمداً ومما يدل على اعتبار العرب إياها إنشاء لا خبراً قول ذي الرمة:
ولَمّا جَرَتْ في الجَزْلِ جَرْيًا كَأنَّهُ ..... سَنا الفَجْرِ أحْدَثْنا لِخالِقِها شُكْرا
فعبر عن ذكر لفظ الحمد أو الشكر بالإحداث، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما عبر عنه بالإحداث وهو حَمْده الواقع حين التهابها في الحطب

والله هو اسم الذاتِ الواجبِ الوجود المستحق لجميع المحامد. ولا شك أن اسمه تعالى تقرر في لغة العرب قبل دخول الإشراك فيهم فكان أصل وضعه دالاً على انفراده بالألوهية إذ لا إلٰه غيره، فلذلك صار علماً عليه، وليس ذلك من قبيل العَلَم بالغلبة بل من قبيل العَلَم بالانحصار، فاجتمع فيه كونه اسمَ جنس وكونه علماً. ولا نعلم أن العرب أطلقوا الإلٰه معرَّفاً باللام مفرداً على أحد أصنامهم، بل كانوا يضيفون، فيقولون إلاه بني فلان. والأغلب أنهم جاءوا بلفظ "إله" فحذفوا الهمزة من الإلٰه لكثرة استعمال هذا اللفظ عند الدلالة عليه تعالى كما حذفوا همزة الأناس فقالوا النَّاس ولذلك أظهروها في بعض الكلام. قال البَعِيث بن حُرَيث:
مَعاذَ الإلَهِ أنْ تَكُونَ كَظَبْيَةٍ ..... ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيلَةِ رَبْرَبٍ
كما أظهروا همزة الأناس في قول عَبيد بن الأبرص الأسدي:
إنَّ المَنايا لَيَطَّلِعْـ ..... نَ عَلى الأُناسِ الآمِنِينَ
ونُزِّل هذا اللفظ في طوره الثالث بإضافة ال التعريف.

وقوله تعالى: ﴿رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ يُشعِر هذا الوصف ببيان وجه الثناء المطلق. إن: ﴿رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيهاً على الاستحقاق الذاتي، عَقَّبَ بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقاً به أيضاً لأن وصف المتعلَّق متعلَّق أيضاً، فلذلك لم يقل: "الحمد لرب العالمين" كما قال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ المطففين 6 ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضاً للحمد كما استحقه بذاته. وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي رب العالمين، الرحمٰن، الرحيم، مالك يوم الدين، للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد ملاحظة معانيها الأصلية، وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع.

والرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فَعْل مِنْ رَبَّه يَرُبُّه بمعنى رباه وهو رَب بمعنى مُرَبٍّ وسائس وهذا هو الأظهر لا من ربه بمعنى ملكه. والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجاً، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملَكَه، فإن كان مصدراً على الوجهين فالوصف به للمبالغة، وهو ظاهر، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فَعْل من فعَل يفعُل إلا قليلاً، من ذلك قولهم: نمّ الحديث ينُمُّه فهو نَمٌّ للحديث. وهو ـ تعالى ـ مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها. أما لو حمل على معنى المالك لكان قوله بعد ذلك: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ كالتأكيد، والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي إِليه هنا، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا، وليست دلالة العالمين ـ عندنا ـ منحصرة في عوالم الدنيا. إلا أن الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد. لكن ما يجدر الانتباه إليه أن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي. والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقاً ولا مقيداً. قال الحرث بن حلزة:
وهُوَ الرَّبُّ والشَّهِيدُ عَلى يَوْ ..... مِ الحِيارَيْنِ والبَلاءُ بَلاءُ
يعني عَمْرو بن هند. وقال النابغة في النعمان بن الحارث:
تَخُبُّ إلى النُّعْمانِ حَتّى تَنالَهُ ..... فِدًى لَكَ مِن رَبٍّ طَرِيفِي وتالِدِي
وقال في النعمان بن المنذر حين مرض:
ورَبٌّ عَلَيْهِ اللَّهُ أحْسَنَ صُنْعَهُ ..... وكانَ لَهُ عَلى البَرِيَّةِ ناصِرا
وقد جانب الصواب من ظن أن الرب لم يطلق على غير الله إلا مقيداً، وقد مثلنا بخلافه. أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس:
أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبانُ بِرَأْسِهِ ..... لَقَدْ هانَ مَن بالَتْ عَلَيْهِ الثَّعالِبُ
وسموا العزى الرَّبة، وجمْعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد. وأما إطلاقه مضافاً أو متعلقاً بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو: رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان. وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضاً حين حكى عن يوسف ـ عليه السلام ـ قوله: ﴿إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ﴾ يوسف 23 إذا كان الضمير راجعاً إلى العزيز، وكذا قوله: ﴿أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ﴾ يوسف 39 فهذا إطلاق للرب مضافاً وغير مضاف على غير الله ـ تعالى ـ في القرآن، ولو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف ـ عليه السلام ـ لكان في غيره من ألفاظ العربية مَعْدَل.

و ﴿ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ جمع عالم. قالوا: ولم يجمع فاعَلٌ هذا الجمع إلا في لفظين عالَم وياسم، اسم للزهر المعروف بالياسمين، قيل جمعوه على يَاسَمُون وياسَمِين قال الأعشى:
وقابَلَنا الجُلُّ والياسَمُـ ..... ونَ والمُسْمِعاتُ وقَصّابُها
والعالم الجنس من أجناس الموجودات، وقد بنته العرب على وزن فاعَل (بفتح العين) مشتقاً من العِلْم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة، أو هو سببُ العلم به فلا يختلط بغيره. وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالباً كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع، أو العلم بالحقائق.
وقد قيل: لفظة ﴿ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ جمع عالم (بفتح اللام) جُمع جمع المذكّر العاقل تغليباً وأُريد به جميع الكائنات الممكنة، أي أنّه ربّ كلّ ما يدخل في مفهوم لفظ العالم. وما جمعت العرب لفظ العالم هذا الجمع إلاَّ لأنّ هذا اللفظ لا يطلق عندهم على كلّ كائن وموجود، كالحجر والتراب، وإنّما يطلقونه على كلّ جملة متمايزة لأفرادها صفات تقرّبها من العاقل الذي جمعت جمعه إنْ لم تكن منه فيقال: عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات. ونحن نرى أنّ هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يعطيه لفظ "ربّ" في المعنى الذي نأخذ به، لأنّ فيها مبدأها وهو: الحياة والتغذّي والتولّد، وهذا ظاهر في الحيوان.
والعالم لا يطلق بالإفراد إلا مضافاً لنوع يخصصه، كما مثلنا بعالم الإنس أو الحيوان أو النبات، وليس اسماً لمجموع ما سواه تعالى بحيث لا يكون له إجراء فيمتنع جمعه. ولا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث فهو من المصطلحات. والتعريف فيه للاستغراق لجميع الأفراد، فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة. وإنما جمع العالم ولم يُؤت به مفرداً لأن الجمع قرينة على الاستغراق، لأنه لو أُفرد لتوهم أن المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصاً على الاستغراق، وهذه سنة الجموع مع ال الاستغراقية على التحقيق.

إنّ بعض العلماء قال: إنّ المراد بالعالمين هنا:
- أهل العلم والإدراك من الملائكة والإنس والجن،
- وقال آخرون: إنّ المراد به الناس فقط، بدليل استعمال القرآن في مثل: ﴿أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ﴾ الشعراء 165 أي الناس ومثل: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ الفرقان 1.
- العالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالَمٌ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم، وكل أهل زمان منهم عالمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمع فقيل: عالمون، وواحده جمعٌ، لكون عالم كلّ زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج:
فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العَالَمِ
فجعلهم عالمَ زمانه.
- وهناك من قال أن المراد من ذلك الملائكة.
- ومن قال: يعمّ جميع أجناس المخلوقات سوى الله تعالى يرى أنّه مشتقّ من العلامة، وربوبيّة الله للناس تظهر بتربيته إياهم، وهذه التربية قسمان: تربية خَلقيّة؛ بما يكون به نموّهم وكمال أبدانهم وقواهم النفسيّة والعقليّة، وتربية شرعيّة تعليميّة: وهي ما يوحيه إلى أفراد منهم ليكمّل به فطرتهم بالعلم والعمل إذا اهتدوا به. فليس لغير ربّ الناس أن يشرّع للناس عبادة ولا أن يحرّم عليهم ويحلّ لهم من عند نفسه بغير إذن منه تعالى. هذا التوسع في التعريف أدخل في العالمين الأفلاك والكواكب وأصناف المعادن والأحجار والنبات والثمار والحيوانات والطيور والحشرات، وقيل: ينتهي عمر الإنسان قبل أن يعد نزراً من عوالم الله، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في آية لقمان: ﴿وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كلمات الله﴾ 27.

إن لفظة ﴿ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ ذُكرت أكثر من ستين مرة في التنزيل الحكيم، وردت في بعضها عامة، وفي بعضها الآخر مقيدة أو مخصصة. من ذلك قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ 47البقرة، وبديهي أن المقصود تفضيلهم على أهل زمانهم.

وقوله: ﴿وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ﴾ المائدة 20، فيه من على بني إسرائيل بجعلهم ملوكاً وجعل فيهم أنبياء وآتاهم من الخير ما لم يؤت غيرهم من معاصريهم، وقوله: ﴿أَحَداً﴾ للعاقل، ليتبين أن العالمين هنا هم العاقلون من البشر.
وكذلك قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران 42، يفهم منه تفضيلها على نساء زمانها.
وقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران 96، جعل البيت هدى للبشر في كل المجتمعات والأمم.
وإذا كان العطف يقتضي المغايرة، فقوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الجاثية 36، يعني أن العالمين شيء آخر غير السماوات والأرض.
كما يتضح من قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ المائدة 115، على قصر اللفظة على البشر، فغيرهم من الكائنات والمخلوقات ليست مكلفة لتحاسب.






 
رد مع اقتباس