" أمي لقد رأيت في الليلة الماضية حلما
رأيت أني أسير مختالا بين الأبطال
فظهرت كواكب السماء
وقد سقط أحدها ألي وكأنه شهاب السماء ((آنو))
أردت أن أرفعه ولكنه ثقل عليً
وأردت أن أزحزحه فلم أستطع أن أحركه
تجمع حوله أهل بلاد أوروك
أزدحم الناس حوله وتدافعوا عليه
وأجتمع عليه الأبطال
وقبل أصحابي قدميه
أحببته وانحنيت عليه كما أنحني علي امرأة
فجعلته نظيرا لي
وقال أنكيدوا لجلجامش:
أنك الرجل الأوحد، أنت الذي ولدتك أمك
(ننسونا) البقرة الوحشية المقدسة
ورفع ((إنليل)) رأسك عاليا علي الناس
وقدر إليك الملوكية علي البشر"
ملحمة جلجامش
العزيز سلام نوري:
تميّز المبدع العراقي بالعطاء لمدة ليست بالقصيرة أبدا، و كما شهدت البشرية مولد "ملحمة جلجامش" التي أسست ركنا شعريا عظيما للإنسانية، بقت الذات العراقيّة مبدعة و محافظة على طابع مميّز رغم الإختلاف الديني أو العرقي لساكني هذا الوادي الأخضر. و التأريخ لن يذكر جلجامش فحسب، بل سيذكر آلاف الملاحم العجيبة التي ولدت كما السنابل بأرض الجنون الممتع. فبتلك الزاوية يهمس السياب بين غابات النخيل "مطر.. مطر.. مطر"، بينما تنزوي الملائكة بخجل بين سطوح بغداد لتكتب ملحمة الأشجار و السماء المثقلة بالطيور المهاجرة. و هناك، في سهول بابل يقف ملك "أوروك" (أي عراق باللهجة البابليّة) العظيمة بملحمته الإنسانية، التي أسست أول قصيدة شعرية حديثة، و التي نبهت العالم أن الإبداع لا يمكن أن يقف بوجهه سوى منغصاته.
و لا عجب، فإذا كانت الشخصية العراقية هي ذاتها عندما خطّ شعراء بابل ملاحمهم قبل ستة آلاف عام، و إذا كانت التقاليد البابلية و الآشورية و السومرية موجودة بيومنا هذا في بيوتنا، و إذا كانت اللغة البابليّة موجودة ليومنا على بعض من لهجتنا و كثير من كلماتنا، و إذا كانت التراجيديا الشعرية لم تتغير قيد أنملة منذ أن وضع أول مسرح بسومر، فلا عجب أن لا يتغير جنون الإبداع أيضا.
و اليوم تواجه الشخصية العراقية أزمة خطيرة هي أزمة الجهل بها، و ذلك إثر طوق محكم من العزلة التي ضربها مجرم العصر الدموي على العراق، و الذي حوّل العراق لمعنى باهت في نفوس دول الجوار و العالم، و بقي القليل القليل ممن يذكر أن أول دستور و أول قصيدة و أول عربة و أول مجلس برلماني و أول قلم كلها صنعت في العراق. و اليوم يتحول جلّ الشعب العراقي - و من يكلمك سنيّ الأب و شيعيّ الأم - لمارقين على الإسلام و لا عرب في نظر الآخر الجاهل بحقيقة العراق و المنخدع بالدعاية التكفيرية ضد شعبه. و هنا خطر على العراق و العرب و المسلمين ككل، فإذا مثل الشيعة من العراقيين 70% (و جلّهم عربا) و كفّروا و عدوا فرسا، فهل من المنطقي أن يعتبر العراق دولة مسلمة أو عربيّة؟ أنني ألمس أزمة وعي لدى العقل العربي المتوسط الإدراك، و الذي يعتبر الآخر (دونما علم بحقيقة الآخر) خطرا عليه، و ينسى مئتان و خمسون رأسا نوويا في تل أبيب لشيّه حيّا. ينسى البعض مثلا أن المتنبي كان شيعيا، أو أبو فراس الحمداني أو جابر بن حيّان أو أبو الأسود الدؤلي، فالمدرسة الشيعية ولدت منهجيتها في حياة الرسول و أستمرت تتعايش مع عشرات المدارس التي أنقرض بعضها و صمد الآخر، و لم نشهد أي صدام حقيقي إلا بعد ولادة الفكر التكفيري في صحاري اللاحضارة.
برأيك، ماهو المطلوب من المثقف العراقي و المبدع لتوضيح حقيقة العراق السياسية و الكارثة الشنيعة التي تعرض لها الشعب العراقي على يد سلطات البعث و الوافدين التكفيريين و قوى الإحتلال الغاشمة؟ و هل تجد مطالب البعض- مثقفين و مفكرين يطمحون لصياغة أمّة عراقيّة - لنسيان تلك الحقبة المريرة (التي لم يشهدها شعب عربيّ قط بما فيه الفلسطيني) و بناء واقع متفائل جديدة هي مطالب وجيهة أو مناسبة لتأريخيّة الحقبة و المسؤولية الجسيمة المترتبة على كاهل المبدع العراقي؟
و أختتم بروعة من رحلة جلجامش لدلمون حيث تنساب روائع الحكمة الرافديّة القديمة:
"إن الموت قاس لا يرحم
هل بنينا بيتاً يدوم إلى الأبد ؟
هل ختمنا عقداً إلى الأبد ؟
وهل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى آخر الدهر ؟
الفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس
حتى يحين أجلها
ولم يكن دوام وخلود أبداً
ما أعظم الشبه بين النائم والميت
ألا تبدو عليهما الهيئة ذاتها ؟"
ملحمة جلجامس
و لكَ جزيل الشكر.