منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - المناضل / ضافي موسى الجمعاني
عرض مشاركة واحدة
قديم 21-03-2010, 03:01 PM   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
افتهان الزبيري
أقلامي
 
الصورة الرمزية افتهان الزبيري
 

 

 
إحصائية العضو







افتهان الزبيري غير متصل


افتراضي رد: المناضل / ضافي موسى الجمعاني

وكان أبرز الشهود المدنيين رئيس الوزراء الأسبق السيد سعيد المفتي، والذي ذكرت مبرر شهادته، والسيد عاكف الفايز الذي لا أتذكر سبب شهادته ولا مضمونها. ولكني أعرف أن أبرز ضابطين حرصا على التمرد في لواء الأميرة عالية، كانوا من بني صخر، أما الشاهد المدني الثالث فكان الأستاذ مدحت جمعة، مدير الإذاعة الأردنية، وشهادته كانت كلها ضد الأستاذ عبد الله الريماوي، وحزب البعث العربي الاشتراكي. أما أبرز الشهود العسكريين، فكانا العميد صادق الشرع مديرهيئة الاركان سابقا في حينه والنقيب بطرس حمارنة، و أهم ما ورد في شهادة العميد. هو أن اللواء علي أبو نوار رئيس الاركان السابق، حاول القيام بانقلاب عسكري، والاثبات الأهم هو العلم الموجود أمامكم على الطاولة،كدليل مادي على ذلك .
حينما سأله العقيد عبد الكريم البرغوثي عضو المحكمة،أليس هذا العلم،هو علم المملكة الأردنية الهاشمية ؟ أجاب العميد صادق بصلافة بـِ "لا"، ولما أصر عضو المحكمة على سؤاله، قائلاً أليس هذا التاج الذي في رأس العلم هو التاج الملكي. فرد العميد صادق بصيغة يكفيك أسئلة، قائلاً: لا، إن علم المملكة الأردنية الهاشمية لا يحيط به هدب مذهب. أما شهادة النقيب بطرس حمارنه، فقد انصبت ضد حزب البعث العربي الاشتراكي والنشاط البعثي في الجيش. وبعد أن انتهى الشهود من الادلاء بشهاداتهم طلب رئيس المحكمة من المتهمين إن كان هناك ما يريدون قوله،ومع أننا كنا قد قررنا الامتناع عن الدفاع عن أنفسنا. إلا أن محمود قال كلمته. ومن بعده قال الكثير من المتهمين كلماتهم ومنهم أنا. وكان دفاع محمود هو الأهم.
وملخص ما قاله، أن إفادات الشهود ملفقة وانصب هذا النقد، على شهادة جندي من مدينة المزار في محافظة الكرك. هذا الجندي كان من ملاك الكتيبة التي كنت أقودها،حكمته أربعين يوماً سجن قبل اعتقالي بيومين، لأنه كان يتجول في الكتيبة محتزماً (شبرية)، يحرض الجنود على التظاهر تأييداً للملك. وكانت شهادة هذا الجندي، هي الوحيدة التي تضمنت إشارة إلى الحقيقة. ومضمون الشهادة أنه من على شجرة عالية، تطل على منزلي الذي جرى فيه الاجتماع، رأى المتهمين وهم مجتمعين. لكنه نسج حول هذه الدلالة نسيجاً خيالياً حول المؤامرة والمتآمرين. وروايتين يستحيل إثباتها. من أين جاء بها لا أعرف، ولكن الأمر الأكيد أن جهة معينة في السلطة تعرف الحقيقة. ولا تريد أن تكشف مصدرها. فالاجتماع بحد ذاته لا يشكل إثباتاً على المؤامرة، أما الأمر الأهم فهو استحالة رؤية المجتمعين وهم مجتمعون أو سماع ما يقولون من الجهات الأربع، حتى لو تواجد هذا الجندي في ساحة منزلي وارتقى أعلى الأشجار. فالاجتماع في صالون منزلي ومكان الاجتماع هذا يفصله عن باقي المنزل ممر عرضه متران - يحيط بالصالون من الجهات الثلاثة (الشرق والشمال والغرب). أما من الجنوب فلابد لك أن تدخل إلى باب الحديقة الذي يبعد أكثر من عشرة أمتار إلى درج يوصل إلى (برندا) عرضها ثلاثة أمتار، تغطي ثلاثة أرباع واجهة البيت. مغطاة كاملاً بنبات المديدة، وهو حتى لو وجد في أي موقع إن كان على أسوار أو أشجار جيراني كما قال، أو حتى في ساحة منزلي فهو لا يستطيع أن يرى المجتمعين أو يسمعهم. من هنا جاء قول محمود لو أن هذا الشاهد كان لديه منظار (جاليلو) لما استطاع أن يكشف ما قاله. والعجيب في الأمر، أنه حينما جاء دوري في الكلام لم يرد في ذهني أنني يجب أن أرد على شهادة هذا الجندي،فأنا لم أعر شهادته ومضمونها أي اهتمام. بل نسيتها كلياً. لماذا؟ لا أعرف. ولو مرت ببالي واستنتجت بأنني يحب أن أرد عليها، لالتزمت بقرار (عدم الدفاع). فأنا ذو طبيعة ضعيفة أمام الحقيقة. وبهذا بعد أن جلست بعد كلمتي التي لم يكن فيها ما يفيد، بل على العكس، نظر محمود إلى الخلف إلي مباشرة، نظرة استهجان ولوم. وفي ذهنه أن عدم تكذيبي لشهادة الشاهد، تعني أنني أعترف أن شهادته صحيحة. ولكن تبين له فيما بعد أن هذا الشاهد ولا غيره من الشهود هم سبب هذا الحكم الجائر. إنها السياسة المستقبلية للأردن .
الحكم:
إن الحكم الذي صدر علينا لم يكن حكم محكمة تعتمد القانون أساساً للأحكام. بل هو حكم سياسي مبني على معرفة ذاتية للسلطان وأسياده ومن يلوذ بهم. خلال مرحلة طويلة من التعامل والتعارف. استمرت منذ تعيين المقدم علي أبو نوار كبيراً لمرافقي الملك، حتى ليلة 12-13/4/1957 وما بينهما. وكان على محمود وغيره أن يعوا هذه الحقيقة. حقيقة الواقع ومسار الأحداث. لا يكفي أن تقطع أحد الخيوط لطمس الحقيقة. فالملك وعلي أبو نوار وغيرهم يعرفون أن نذير هو جزء من قيادة معروفة بالجيش. وما قام به بغض النظر لمصلحة من، لابد وأن يكون له صلة بهذه القيادة، وخط هذه القيادة السياسي واضح، وهو مضاد لتوجه الملك حسين في الحكم. ولهذا جاء حكم المحكمة ذو شقين. الحكم بالمؤبد على المتآمرين الذين هم خارج البلاد، اللواء علي أبو نوار والأستاذ عبد الله الريماوي والنقيب نذير رشيد. أما الشق الثاني وهو الحكم المصمم الذي استهدف قياديي تنظيم الضباط الأحرار، ولا أحد غيرهم. وأقول لا أحد غيرهم، لأن المقدم نايف الحديد قائد السلاح المدرع الذي كان له موقف متميز أثناء الأزمة بوقوفه إلى جانب حكومة الديمقراطية. برأته المحكمة لكونه لم يكن عضواً في قيادة تنظيم الضباط. وللسبب نفسه برأت المحكمة النقيب توفيق الحياري قائد إحدى كتائب الدبابات. وكان من المقربين للواء علي أبو نوار. والضابط الوحيد الذي حكمته المحكمة مع قياديي تنظيم الضباط هو الملازم الأول (كريم عقله) مساعد قائد كتيبة المدرعات الأولى، وهو من عرب السردية، شجاع وشهم. رفض الشهادة ضد قائد وحدته. لقد قررت المحكمة استناداً إلى مادة في قانون العقوبات، اعتبرتها تنطبق علينا. إن وجودنا على رأس وحداتنا قد شجع المتآمرين على التآمر، عقوبة هذه المادة هي من (3-10) سنوات اعتقال. فوضعتنا محكمة (ولد بدرا) في كيس واحد وأعطتنا أقصى العقوبة،عشر سنوات اعتقال. وقد برأت المحكمة اللواء محمد المعايطة والذي ليس له ذنب سوى أن أطراف اللعبة السياسية قرروا استغلاله. وهكذا أسدل ستار الزمن على مرحلة طلاؤها وطني ديمقراطي، كان يمكن أن تكون ذات مضمون وطني ديمقراطي، لنبدأ مرحلة قمع وإرهاب، فساد وإفساد وعبادة أصنام قادت إلى هزيمة عام 1967.
في منفردات سجن المزة بدمشق، كانت مرحلة ما بعد عزل الفريق (كلوب) وحتى انقلاب الملك حسين على الديمقراطية، من أكثر المراحل السياسية وروداً على ذهني. وأنت حينما تكون منفرداً وتستعيد الأحداث،يرد على ذهنك أدق التفاصيل، وأكثرها وضوحاً. وقد ورد إلى ذهني سؤال طرحته على نفسي وهو طبعاً (سؤال افتراضي)، لا يجوز أن تؤخذ نتائجه التحليلية موضوعياً، لكن معطيات الواقع العربي منذ عام (1957-1993)، تغري إنساناً مثلي كان أحد ضحايا معايشتها أن يقول لو افترضنا أن النظام في الأردن قد أطيح به عام 1957. ما هي النتائج التي ستترتب على هذا الحدث،ومردوده على الواقع العربي سلباً وإيجاباً؟ وأعود وأكرر أنني لست عدواً للملك حسين كإنسان بغض النظر عن اسلوب حكمه، والخط السياسي الذي انتهجه عربياً – ودولياً. لأنه ماذا يستطيع من يحكم الأردن، إن كان الملك حسين أو غيره. يؤمن بالأردن ككيان مستقل ويؤمن لذلك (بأنه جزء من العالم الحر). كما يعلن الملك دوماً ويعمل من أجله، سوى أن يكون أسيراً هذه الاستراتيجية المعادية لطموح العرب؟ أنا عدو للكيان الأردني ككيان مستقل، فالأردن جزء من نسيج واقع جغرافي وديمغرافي أريد له أن يتشظى، وتطمس حقيقته، ويستحيل عليه أن يكون وطناً مستقلاً خارج هذا النسيج، وخير من عبر عن هذه الحقيقة شاعر الأردن الكبير السيد مصطفى وهبي التل (عرار) الذي قال:
يا هبر استقلالنا الكرتون وربك أخرجني من ديني
فرحت بين الناس كالمجنون أسألهم عنهم فما دلوني
إلا على قعوار والخمارة

أي على اليأس في خمارة السيد
أ - أن الأردن عقدة جغرافية في المشرق العربي بدون حلها أو قطعها، لا يمكن أن يأخذ هذا الواقع امتداده الطبيعي. فهذا الكيان اقتطع من سورية الطبيعية (كما أقتطع غيره، ولكنه أكبرها خطراً). فهو يمنع سوريا من الوصول إلى البحر الأحمر. ويفصل الجزيرة العربية والعراق عن فلسطين. ويفصل سوريه عن الجزيرة العربية. وهذا الكيان الذي هو وفلسطين جزء من حقيقة جغرافية أكبر بفصل الأردن عن فلسطين.
ب - إن الأردن ككيان صغير وفقير ليس لديه مقومات الدولة وليس كالكيانات الصغيرة الموجودة في الوطن العربي، كلبنان والبحرين وقطر وغيرها، فهذه جميعها على الأطراف. أما هو، فهو في الصدر المواجه لأكبر الأخطار على الإنسان العربي ووطنه وكونه لا يملك مادياً مقومات الدولة، فهو دوماً في حضن أخطر أعداء الأمة العربية مقاومة لنهوضها من عرب وغير عرب. ولا يلغي هذه الحقيقة آنذاك نداءات (جلالة سيدنا) المتكررة طلباً للعون المادي، لأنه يقف على أطول وأخطر الخطوط في مواجهة أعداء العرب. هذه المناداة اللحوحة والمتكررة لا تلغي حقيقة الأردن الجغرافية (الجيوبوليتكية) والمهمة الاستراتيجية للكيان الأردني. فمهما قدم من عون مادي وسياسي، فهو لن يستخدم إطلاقا من أجل تقوية واقع الأردن، وجعله يمتلك القوة من ذاته. خاصة وهي تأتي من الجهات الأجنبية والعربية التي تعرف الأسباب الاستراتيجية لخلق واستمرار وجود هذا الكيان. كما أن هذه الندآآت المستندة إلى نشاط سياسي واسع كان يقوم به الملك حسين ومن يعينه على ذلك يستهدف طمس حقيقة أهم، وهي أن الأردن، إنساناً وأرضاً جزء من حقيقة أكبر. إن إزالة النظام في الأردن، تعني ببساطة إزالة الهدف الاستراتيجي الذي من أجله وجد الكيان في شرقي الأردن، وتعني إزالة حاجز سياسي وأمني مدعوم بقوة من كل أعداء العرب ونهوضهم. ومن أهم هؤلاء الأعداء أو أهمهم الصهيونية العالمية، والبديل الوحيد لازالة هذا الكيان هو أن يمتلك الاردنيون ارادتهم الحرة ليقرروا مصيرهم و مصير الأجيال القادمة من أبنائهم .
ومن هنا من هذه النقطة المركزية جرى الصراع بين قوى الحرية و بين أعدائها في تلك المرحلة. ونكون بذلك قد هدمنا سداً مهماً من السدود الموجودة التي تمنع حركة انسياب التواصل العربي. إن إزالة النظام سيسقط أكثر من عامل مهم ومؤثر في لعبه الأردن ككيان، من خلال موقعه وواقعه ضد طموح شعب فلسطين في استعادة حقه في أرضه وعليها، وسيفرض هذا الأمر سياسات دولية وعربية أكثر قبولاً ودعماً لحقوق شعب فلسطين. إن تغيير النظام في الأردن سيعطي دعماً أعمق وليس سطحياً لتوجيهات ثورة يوليو العروبية في مصر. ولن تكون الوحدة التي قامت بين مصر وسورية على نفس الأسس التي قادت إلى الانفصال، لأن الديمقراطية التي ستكون بديلاً عن الملكية المطلقة في الأردن ستتعزز، وستجد الديمقراطية التي كانت قائمة آنذاك في سورية، سنداً قوياً لمعارضة فهم الرئيس عبد الناصر لبناء الوحدة، والأهم أن حركة (فتح) التي لم توجد بعد في حينه،لا يمكن أن تتواجد في الأردن،لأنها لن تجد ساحة خالية من الفعل الوطني باتجاه فلسطين. ولا آذاناً صاغية لمقولات تقسيمية،ولا نظاماً كان من العوامل الاساسية للهزائم المتكررة أمام الصهيونية، وسيكون الطريق قد سد نهائياً في وجه الأنظمة والمنظمات التي قامت وقادت بتخطيط إلى هزيمة عام 1967. وهذا الواقع لو كان قائما، لقاد إلى تضامن عربي أكثر جدية، ولكان الواقع المحيط "بإسرائيل" متصل الحلقات، متوافق الدوافع. أما السلبيات التي يخافها الإنسان خارج الصورة (أي خارج الواقع). فهي أن تجري تدخلات أجنبية دولية وإقليمية، تحاول إثارة الفوضى والاضطراب لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه. هذا الأمر تقف ضد وقوعه عوامل عديدة هي:
1) أن التغيير لم يأتِ نتيجة انقلاب عسكري قام به عسكريون لهم أهداف سياسية لا يعلم امتداداتها إلا الله، والجهة الدولية صاحبة العلاقة. ولكنه نتج عن الصراع بين ملك يريد أن يكون سلطانه مطلقاً، وبين حكومة ديمقراطية تستند إلى أغلبية شرعية في مجلس نواب يمثل إرادة الناخبين وحقوق الملك الدستورية، في دستور المملكة الأردنية الهاشمية، (المفصل على المقاس). لن يكون لها قيمة في الصراع بين السلطة المطلقة والديمقراطية، حتى لو(وقفت) مع الملك كل إذاعات المستعمرين والصهاينة في حينه.
2) إن أغلبية الشعب مع الديمقراطية، إن كان في فلسطين (الضفة الغربية ) أو شرقي الأردن، والأغلبية الساحقة من الفلسطينيين، إن كانوا في فلسطين أو شرقي الأردن هم مع التغيير. وإذا ما استمرت الحكومة بإدارة شؤون البلاد مستندة إلى الأغلبية في مجلس النواب، فلن يكون هناك مشكلة داخلية يمكن أن تستغلها القوى المعادية. وإذا ما أراد أحد ما الدخول في مغامرة (لعل وعسى)، فسيجد شعباً موحداً عركته المحن مستعداً لملاقاته.
3) أن العامل الأخطر الذي كانت تخافه قيادة (تنظيم الضباط)، هو أن تستولي "إسرائيل" على ما تبقى من فلسطين، هذا الاستيلاء لو تم في ذلك الحين، ستخلق واقعاً في الساحة العربية يلغي كل المسار الذي قاد إلى هزيمة عام 1967،وفي عام 1957 لم تكن "إسرائيل" بقوة عام 1967 - ولا مصر بضعف عام 1967، وكانت قد خرجت من حرب السويس شاعرة بشعور المنتصر. ولم تكن أمريكا في حينه تقف بالقوة نفسها خلف "إسرائيل". وموقف الاتحاد السوفيتي من العرب سيكون أقرب إلى موقعه القوي عام 1957 في حرب السويس، من موقفه الضعيف عام 1967، عام هزيمة حزيران. أما الخوف من تدخل العراق في ظل حكم نوري السعيد، فقد تبين بعد عام أن لا أحد يستطيع استخدام جيش العراق ضد الطموحات الوطنية لأي شعب عربي.
إلى سجن عمان المركزي:
بعد صدور الحكم مباشرة، أعادونا إلى مكان اعتقالنا. وفوجئنا أن جميع شبابيك الغرف التي كنا نسكنها قد وضع عليها شبك حديد مطرز بأسلاك شائكة، مع أننا لم نمكث بها بعد صدور الحكم إلا الوقت الذي تمكنا خلاله من لملمة متاعنا، لننقل من هناك إلى سجن عمان المركزي، ( وهنا تفارق محمود مع مسدسه) وسلمه إلى رقيب أول من الحجابا كان رئيس فريق الحراسة عليه. وكون المحكمة كانت على عجلة من أمرها، وغير قادرة على التصرف، خارج الأوامر المعطاة لها. فإنها لم تخبرنا كيف نتصرف تجاه الرتب العسكرية التي كنا نحملها. ولهذا أنزلناها نحن من على أكتافنا أمام باب سجن عمان المركزي دون أن يشير علينا أحد بذلك. إنني واقعاً لا أستطيع وصف الحالة النفسية والشعور العام الذي كان عليه المحكومون، حينما أعلن رئيس المحكمة، الحكم ونحن وقوف،ولكنه بالتأكيد لم يكن شعور جزع أو إهتزاز - وسأكتفي بالتعليق الذي قاله الملك حسين، وهو ينظر إلى الصور المنتقاة خصيصاً من بين عشرات الصور التي التقطت لنا ونحن وقوف نستمع إلى قرار المحكمة. هذه الصور المنتقاة لم تدخل السرور إلى نفس جلالته حينما لم ير في صور هؤلاء الرجال جزعاً ولا ما شابه، بل رجالاً شديدي التماسك. قال قولته (على من يعتمد هؤلاء الناس ). طبعاً لم يدخل في ذهن الملك حسين وهو بعد صغير السن،قليل الخبرة ،أن هؤلاء الرجال الذين وفَروه،ليغدر بهم،كانوا معدين نفسياً ومعنوياً لما هو أسوأ من ذلك، ومن هذا فإن دخولهم السجن كان أهون الشرور.
العيش في غرفة انتظار الإعدام:
بعد الإجراءات العادية التي يجرونها مع كل سجين يدخل السجن، قادونا إلى غرفة هي الخامسة في هذا الصف الطويل، الواقع إلى يمينك وأنت تدخل من بوابة السجن الرئيسية. فكانت هذه الغرفة التي سكناها أسبوعا، هي غرفة انتظار للذين سينفذ بهم حكم الإعدام شنقا،فلها باب يفتح على غرفة المشنقة، وكانت ألواح هذا الباب الخشبية التي لم يبق منها الكثير ترينا المشنقة،وخندقها تحتها بوضوح .
طبعا هذا الوضع السخيف كان مقصود به إرهابنا، وبهذا يكون قد انتهى واقع أمني ونفسي، عانيناه منذ أحداث 12-13-1957 .
هذا الواقع الجديد هو نهاية مرحلة عاصفة،استقرت في نهايته الأمور بالنسبة لنا. في اليوم التالي زارتني (أم موسى) أم أبنائي،و كانت في شهر حملها الأخير بإبنتنا (كفاح)،وقد هالني الأسى البيّن على وجهها، فقد كان وجهها الأبيض شديد القتامة، مغطى بكثافة بالكلف الأسود الناتج عن الحزن الشديد والخوف من المستقبل .
وقفت و إياها متقابلين في المكان المخصص للزيارات العامة،يفصل بيني و بينها حائط يرتفع حتى أدنى الصدر،يعلوه فاصل من الحديد المبرومأفقيا وعاموديا،يمتد على امتداد المكان يفصل أفقيا بين القضيبوالآخرمسافة(عشر سم)، ولهذا فالرؤيا بين السجين و زائره واضحة، والمسافة قريبة والحديث مسموع و منغصات الزيارة معدومة، (هذا قبل أن تزحف علينا حقوق الانسان الأمريكية ). لم نتبادل الكثير من الحديث فليس لدى أي منا ما يقوله للآخر، والزيارة فقط للاطمئنان. إننا وصلنا إلى مقرنا الجديد .
الانتقال إلى مكان سكن جديد:
بعد أسبوع من دخولنا السجن نقلنا إلى مكان أفضل، إلى غرفة من أصل ثلاث غرف، مستقلات يقعن إلى يسار بوابة السجن الرئيسية مباشرة، مسورات بصور خاص. أنزلونا في الغرفة الأبعد و هي بمساحة الغرفة التي كنا نسكنها، بجانبها غرفة صغيره كان بها ثلاثة أشخاص، منهم الأستاذ حسن النابلسي، وهم متهمون بالشيوعية، و ظهر أنه كان هناك نية في إخلاء سبيلهم مستقبلاً حينما تتهيأ الظروف .
و بهذا لم يرسلوا إلى الجفر. و الغرفة الأقرب إلى بوابة السجن، كان سكانها خمسة معتقلين بينهم الدكتور ( منيف الرزاز)، والصيدلي (نزار جردانه). لقد حاولت القيادة العامة للجيش أن تفرض علينا أن نلبس لباس السجناء، إلا أن مدير السجن في حينه النقيب محمد العمري، رفض ذلك الأمر فتحجج بحجة قانونية، قائلاً: إنني لا أستطيع أن أفرض عليهم ذلك، فالحكم الصادر بحقهم هو (الاعتقال) وهذا الحكم يمنحهم إمتياز اللباس والمعاملة، وقيل حينها أن الذي طلب ذلك، هو مدير هيئة الأركان،اللواء صادق الشرع،فأستغرب الكثير منا ذلك، لأنه لم يكن بين أي منا و بين اللواء صادق، لا عداء و لا إحتكاك إساءة.
منذ اجتماعنا في سجن المحطة لم نتحدث حول ما جرى من احداث قادت إلى ما نحن فيه الآن، لأن هذا الموضوع حساس جداً وسيقود إلى خلافات حادة وحتى إلى عداوات، ولذلك اكتفينا بمناقشة مستقبل الضباط، لقد كنا قياده هذا التنظيم. وهناك ضباط في الجيش لا زالوا ملتزمين بهذا التنظيم،فهل لا نزال نعتبر أنفسنا قياده له. قال شاهر أنا أعتبر تنظيم الضباط منتهياً ومستقيلاً. نشاطي السياسـي سيكون في صفوف حزب البعث، فقلت أنا: إن تنظيم الضباط، يجب أن يبقى قائماّ، وهو لا يمنع الحزبين في البقاء في صفوف أحزابهم، خاصة وأن هذا الأمر كان معمولاً به منذ ولادة (تنظيم الضباط ). وتبين فيما بعد، أن رأي شاهر هو الأصح، لأنه لم يبق في صفوف جيش الملك حسين أي هامش، مهما كان ضيقاّ للعمل الوطني، وأن التصفيات المتلاحقة التي جرت ووصلت في نهايتها إلى رأس اللواء صادق الشرع، أفرغت الجيش ليس فقط من أي عمل وطني، بل من أي فهم وطني .
لقد كان مكان سكنانا الجديد أكثر راحه، فهذا المكان منعزل عن بقية السجن. وسكانه قليلي العدد وبيننا وبينهم معرفة. والأهم أن الممر الذي كان يمتد أمام الغرف وبعرض ثلاثة أمتار، كان مكانا صالحا للتنفس والمسير، وخلف هذا الممر كان هناك ممر آخر يقف فيه السجناء للقاء زوارهم وكنا نحن نلتقي زوارنا في هذا المكان لفترة قصيرة قبل أن يسمحوا لنا بلقاء أهلنا في أحد مكاتب إدارة السجن.
وهنا لابد أن أشير إلى واقعة يمكن تجاوزها لولا أنها ذات دلالة. زارتني والدتي مع (أم موسى) وكانت والدتي تلبس اللباس التقليدي للنساء عندنا في ذلك الحين، وتضع فوقه عباءة سوداء. ولما وقفت أمامي لم تصمد وانهارت إلى الأرض خلف الحاجز وحينها سمعت ضحكة من داخل الغرفة فالتفت فرأيت الدكتور منيف وكان صاحب هذه الضحكة فحزنت.
في سجن عمان المركزي كان يسمح في ذلك الحين بزيارة السجين من قبل أهله ومعارفه وأصدقائه، ولهذا زارني الشيخ (مسلم أبو قعود) بعد أقل من شهر من دخولنا هذا السجن. كانت هذه الزيارة التي استغربتها قصيرة جدا. صافحني وبعد أن جلسنا سألني عن أحوالي فقلت له: لا بأس ثم قال قولآ مادحا (جلالة سيدنا). فأجبته إجابة، نهض بعدها واقفا ثم ولى خارجا. لأنه سمع ما جاء من أجله.
سارت بنا الحياة. في و قعها الجديد. بعد أن رتبنا كيفية سيرها، وصرنا نطبخ طعامنا بأنفسنا فالذين لا يعرفون الطبخ تعلموا والذين لم يكن لديهم قابلية التعلم (مثلي) استمروا (يجلون الصحون)، وكانت إدارة السجن تعطينا مخصصاتنا التموينيه ونشتري ما نحتاج إليه إضافة إلى هذه المخصصات، وكان برنامجنا اليومي الذي لم يتغير منذ دخولنا السجن حتى خروجنا إلى معتقل الجفر هو التالي: تفتح علينا الأبواب الساعة السابعة صباحا، لنخرج إلى المكان العام الذي يقضي به الإنسان إحدى حاجاته الطبيعية, ويسمونها (فوره ) ونزور هذا المكان مرتين في اليوم صباحا ومساء. وبعد أن نعود إلى غرفنا نحلق لحانا ونغسل وجوهنا. ومن ثم نفطر وبعد الإفطار نخرج إلى (التنفس) في الممر الذي هو أمام غرفنا لمدة ساعة صباحاً ومساءً. وبعد هذا التنفس نعود إلى غرفنا وكان البعض منا يطالع والبعض يلعب الورق والبعض يتحادث مع رفيقة همساً. والمسؤولون عن إعداد الطعام في ذلك اليوم يقومون بذلك. وكنا محمود وأنا نقضي وقتنا حينما لا تكون علينا مسؤوليات الإطعام، في غرفة الدكتور منيف -رحمه الله- نلعب (لعبة البريدج) وكنت ألعب شريكاً (لأبي مؤنس ) ويلعب الأستاذ نزار مع شريك آخر - وكنت مبتدئاً في هذه اللعبة التي علمني إياها الدكتور منيف. وأن تكون شريكاً للدكتور منيف في لعبة (بريدج) لهي مهمة صعبة. فهو لا يغفر لك حتى وهو يعرف أنك مبتدىء في لعبة ورق صعبة، تحتاج إلى ممارسة طويلة وتفاهم مشترك مع شريكك في اللعبة وطبعاً لم تتوفر هذه الشروط بعد لدي. ولذلك كان صوته دائم الارتفاع (يا أخي). في هذه الفترة استطاع أبو نبيل (جعفر الشامي) أن يدخل راديو صغير في إحدى زياراته،كان صلتنا الوحيدة في عالم السياسة. في ذلك الحين تعرضنا إلى حملة تفتيش مفاجئه. قادها العقيد في حينه (محمد هاشم أبو هاشم) قائد منطقة البادية وفي معيتة العقيد محمد السحيمات مدير المخابرات العسكرية، وكان من حسن حظنا أن أبو هاشم (لواء فيما بعد ومديراً للأمن العام) وهو رجل بسيط وعاطفي ويعرف الكثير منا معرفة جيده وحين دخل غرفتنا (بكى) وأدار وجهة إلى أن سيطر على مشاعره ولهذا كان التفتيش عاجلاً، فلم يصل التفتيش للراديو.
الآمال والأوهام بعد دخولنا السجن:
لم يكن لدينا أوهام حول قدرة الحركة الشعبية والوطنية في الجيش لتغيير الواقع في الأردن، فلم يعد الجيش في الأردن يشكل تهديداً من أي نوع لأمن النظام، ليس لأنه لم يكن في الجيش ضباط وطنيون . فقد بقي الكثير من الضباط الوطنيين في الجيش، ولكن الظرف لا يسمح بالعمل التنظيمي، لأن هجوم السلطة الأمني ظل مستمراً وبقوة على أي نفس وطني في الجيش. والمعروف أن الجيش الأردني كما ذكرت في سياق هذه الذكريات، مكون تكويناَ متوافقاً تماماً والهدف الذي من أجله أنشىء، وهي خدمة أهداف بريطانيا في شرق الأردن وما يحيط بها وكان أسمه الحقيقي حتى عزل الفريق (غلوب) هو (Arab Liegon )، وهذه التسمية تساوي في معناها ومضمونها التسمية الفرنسية للفرقة الأجنبية في الجيش الفرنسي. ولكن فرقة الأنجليز هذه خصصت للعرب وخاصة عرب المشرق والأخص البدو منهم عشائر العراق - وسوريه. ونجد والحجاز والأردن طبعاً وكانت هذه الفرقة تستخدم في مهمات أمنية إن كانت في فلسطين أو كما حدث حين التدخل ضد ثورة (مايس) في العراق 1941، أو حين نفذ هذا الجيش الرؤية البريطانية حول ما يجب أن يكون عليه الواقع في فلسطين عام 1948 .
وجيش هذه مهماته، لابد أن تشكيله ومضمونه المعرفي في حدود هذه المهمات، أما هذه الفئة من الضباط الوطنيين الواعين، فهي نتاج مرحلة طويلة من التطور بدأت أثناء الحرب العالمية الثانية، فأثناء هذه الحرب خاصة وهي على أشدها في شمال أفريقيا، حينما كان الأنجليز يتراجعون بسرعة أمام الألمان، فكر (كلوب باشا) وبعض الإداريين البريطانيين بإشراك وحدات من (الجيش العربي)، بالقتال في شمال أفريقيا. ومن هنا بدأ بتكوين كتائب في الجيش الأردني. وحينما انتهت الحرب ومن خلال الرؤية البريطانية للحفاظ على مصالحها، قامت بريطانيا بتشكيل حلف في المنطقة يظم دولاً عربية وإسلامية. ومن هذه النظرة (ولد حلف بغداد ) وكانت الأردن مرشحه بقوة للدخول فيه. ومن هنا بنى البريطانيون فرقه مقاتله في الجيش الأردني لتكون جزءاً من قوة هذا الحلف. وهذا التطور في واقع المجتمع إضافة إلى التطور في نوعية السلاح والتسليح فالأسلحة المساندة كالمدفعية والهندسة والدروع و الاتصالات كلها تحتاج إلى عقل وثقافة قادرين على المعرفة، ومن هنا كانت عملية إبقاء الواقع في الجيش على ما هو عليه مستحيلة، وكانت العوامل الأهم في تطور الوعي الوطني في الجيش هو وضوح دور الاستعمار البريطاني بالنسبة للجندي، بدوياً أو حضرياً، أمياً أو مثقفاً. من خلال الاحتكاك المباشر، تعايشاً ومن بعد قتالاً في فلسطين.
أن دور المستعمرين الأنجلييز كان الأساس في إعطاء فلسطين لليهود. وإنه لولا الإنجليز في الجيش وإدارة الأردن لاحتل الجيش الأردني مدينة القدس كل مدينة القدس، أما العامل الثاني فكان دخول عرب فلسطين إلى الجيش بعد وحدة الأردن مع ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية)، ومن هنا كانت الأسلحة المساندة كالمدفعية، والهندسة. تشكل قاعدة وطنية مضمونه. أما الحركة الشعبية الأردنية وقواها السياسية، عدا عن كونها لم تكن تستهدف النظام. فهي لم تكن موحدة الهدف في الحدود الدنيا للعمل السياسي. فهي لم تلتق على برنامج عمل نضالي يعمل بجدية للحفاظ على الديمقراطية، فلم يكن في برنامج أي حزب من الأحزاب الموجودة السرية والعلنية مهمة الإطاحة بالنظام. ومهمته الإطاحة بالنظام، أمر لا يستطيعه إلا الجيش وتنظيم الضباط بالذات. ولكن بدلاً من أن يقود هذا التنظيم القوى السياسية إلى موقفه الداعي للحفاظ على الديمقراطية قادته هي إلى (اللاموقف) الموقف التي كانت عليه. وبتقديري الشخصي لو أن أحداً من قادة تنظيم الضباط لم يكن منتمياً إلى الأحزاب، لكانوا طليقي التقدير والمبادرة وأخص بذلك البعثيين منهم ليس لأن مبادئ البعث كانت عقبة، ولكن القوامين على البعث كانوا هم العقبة.







 
رد مع اقتباس