منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - من كتاب أسرار البلاغة ..
عرض مشاركة واحدة
قديم 28-08-2017, 09:59 AM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
راحيل الأيسر
المدير العام
 
الصورة الرمزية راحيل الأيسر
 

 

 
إحصائية العضو







راحيل الأيسر غير متصل


افتراضي رد: من كتاب أسرار البلاغة ..

وذلك أنّ ما في لون عينه من تفصيل وخصوصٍ، يزيد على كون الحمرةِ رقيقةً ناصعةً والسوادِ صافيّاً برَّاقاً، وعلى هذا تجد هذا الحدَّ من المرتبة التي لا يستوي فيها البليد والذكيُّ، والمهمِل نفسَه والمتيقّظ المستعدّ للفكر والتصوّر، فقوله‏:‏
كأنَّ عَلَى أنْيابِهَـا كُـلَّ سُـحْـرَةٍ *** صِياح البَوازِي من صَرِيفِ اللَّوائكِ
أرفعُ طبقةً من قوله‏:‏
كأن صَلِيلَ المَرْوِ حين تُشِذُّه *** صَلِيلُ زُيوفٍ يُنْتَقَدْنَ بَعَبْقَرا
لأن التفصيلَ والخصوص في صوت البازي، أَبْينُ وأظهر منه في صَلِيل الزيوف، وكما أن قولَه يصفُ الفَرس‏:‏
وللفؤاد وَجِيبٌ تَحْتَ أَبْـهَـرهِ *** لَدْمَ الغُلامِ ورَاء الغَيبِ بِالحَجَرِ
لا يُسوَّى بتشبيهِ وقْع الحوافر بهَزْمة الرعد، وتشبيه الصَّوت الذي يكون لغليان القِدْر بنحو ذلك، كقوله‏:‏
لها لَغْطٌ جُنْحَ الظَّلامِ كأنّـه *** عَجَارِفُ غَيْثٍ رَائِحٍ مُتَهزِّمِ
لأنّ هناك من التفصيل الحَسَن ما تراه، وليس في كون الصوت من جنس اللَّغط تفصيلٌ يُعتدُّ به، وإنما هو كالزيادة والشدّة في الوصف‏.‏ ومثالُ ذلك مِثالُ أن يكون جسمٌ أعظمَ من جسم في أنه لا يتجاوز مرتبة الجُمَل كبيرَ تَجاوُزِ، فإذا رأى الرجل شخصاً قد زاد على المعتاد في العِظَم والضخامة، لم يحتجّ في تشبيهه بالفِيل والجبل والجَمَل ونحو ذلك إلى شيء من الفكر، بل يَحْضُره ذلك حضورَ ما يُعْرف بالبديهة، والمقابلات التي تُريك الفرق بين الجملة والتفصيل كثيرة، ومن اللَّطيف في ذلك أن تنظرُ إلى قوله‏:‏
يُتابِعُ لاَ يَبْتَغِـي غَـيرَه *** بأبيضَ كالقَبَس المُلْتَهِبْ
ثم تقابلَ به قولَه‏:‏
جَمَعْتُ رُدَيْنِيّاً كأنَّ سِنَانَه *** سَنَا لَهَبٍ لَمْ يَتَّصلْ بدُخَانِ
فإنك ترى بينهما من التفاوُت في الفضل ما تراه، مع أن المشبَّه به في الموضعين شيءٌ واحدٌ وهو شُعلة النار، وما ذاك إلا من جهة أن الثاني قَصَد إلى تفصيلِ لطِيفٍ، ومَرَّ الأوَّلُ على حكم الجمل‏.‏ ومعلومٌ أن هذا التفصيل لا يقع في الوهم في أول وهلة، بل لا بدّ فيه من أن تتثَبَّت وتتوقَّف وتُرَوَّى وتنظر في حال كل واحد من الفرع والأصل، حتى يقوم حيئذ في نفسك أن في الأصل شيئاً يقدح في حقيقة الشبه، وهو الدُّخان الذي يعلو رأسَ الشعلة، وأنه ليس في رأس السنان ما يُشبه ذلك، وأنه إذا كان كذلك، كان التحقيقُ وما يؤدِّي الشيءَ كما هو، أن تستثني الدُّخان وتنفي، وتَقْصِر التَّشبيه على مُجرَّد السَّنا، وتصوّر السنان فيه مقطوعاً عن الدخان، ولو فرضتَ أن يقع هذا كلَّه على حدّ البَديهة من غير أن يخطر ببالك ما ذكرتُ لك، قدَّرتَ مُحالاً لا يتصوَّر، كما أنك لو قدَّرت أن يكون تشبيه الثُّريا بعنقود مُلاَّحية حين نوَّر بمنزلة تشبيهها بالنَوْر على الإطلاق، وتفتُّح نَوْر فقط، كما قال‏:‏
كأنّ الثُّريا في أواخِر لَيلِها *** تَفَــتُّـــح نَـــوْرٍ
حتى ترى حاجتَهما إلى التأمُّل على مقدار واحد، وحتى لا يُحْوِج أحدهما من الرجوع إلى النفس وبَحْثها عن الصور التي تعرفها، إلا إلى مثل ما يُحْوِج إليه الآخر أسرفتَ في المجازفة، ونَفَضْت يداً بالصَّواب والتحقيق‏.‏ والعبرة الثانية أن ما يقتضي كونَ الشيء على الذِّكر وثبوتَ صورته في النفس، أن يكثُر دورانُه على العيون، ويدوم تردُّده في مواقع الأبصار، وأنِ تُدركه الحواسُّ في كل وقت وفي أغلب الأوقات وبالعكس، وهو أنّ من سبب بُعْد ذلك الشيء عن أن يقع ذكره بالخاطر، وتَعْرِض صورتُه في النفس، قِلّة رؤيته، وأنه مما يُحَسُّ بالفَينة بعد الفينة، وفي الفَرْطِ بعد الفَرْط، وعلى طريق النُّدرة، وذلك أن العيون هي التي تحفظُ صُوَر الأشياء على النفوس، وتجدِّدُ عهدها بها، وتحرسُها من أن تدْثُر، وتمنعها أن تزول، ولذلك قالوا‏:‏ من غاب عن العين فقد غاب عن القلب، وعلى هذا المعنى كانت المُدارسة والمُناظرةُ في العلوم وكُرُورها على الأسماع، سَبَبَ سلامتها من النِّسيان، والمانعَ لها من التفلُّت والذَّهاب، وإذا كان هذا أمراً لا يُشكُّ فيه، بانَ منه أنّ كل شَبَهٍ رَجع إلى وصف وصورة وهيئةٍ من شأنها أن تُرَى وتُبصرَ أبداً، فالتشبيه المعقود عليه نازل مُبتذَل، وما كان بالضدّ من هذا وفي الغاية القُصْوَى من مخالفته، فالتشبيه المردُود إليه غريبٌ نادرٌ بديع، ثم تتفاضل التشبيهات التي تجيء واسطةً لهذين الطَّرَفين، بحسن حالها منهما، فما كان منها إلى الطَّرَف الأول أقرب، فهو أدنى وأنزل، وما كان إلى الطَّرَف الثاني أذهب، فهو أعلى وأفضل بوصف الغريبِ أجدر‏.‏ واعلم أن قولنا التفصيلُ عبارةٌ جامعة، ومحصولها على الجملة أنَّ معك وصفين وأوصافاً، فأنت تنظر فيها واحداً واحداً، وتَفْصِل بالتأمّل بعضها من بعض وأنّ بك في الجملة حاجةً إلى أن تنظُر في أكثر من شيء واحد، وأن تنظر في الشىء الواحد إلى أكثر من جهة واحدة‏.‏ ثم إنه يقع في أَوْجُهٍ أحدها وهو الأَوْلَى والأحقّ بهذه العبارة أن تفصّل، بأن تأخذ بعضاً وتدع بعضاً، كما فعل في اللَّهب حين عزل الدخان عن السَّنا وجرَّده، وكما فعل الآخر حين فَصَل الحدق عن الجفون، وأثبتها مفردةً فيما شبّه، وذلك قوله‏:‏
لها حَدَقٌ لم تتَّصِلْ بجُفُونِ
ويقع في هذا الوجه من التفصيل لطائف، فمنها قول ابن المعتّز‏:‏
بطارح النظرة في كل أُفُـقْ *** ذي مِنْسرٍ أَقْنَى إذا شَكَّ خَرَقْ
ومقْلَةٍ تَصْـدُقُـه إذا رَمَـقْ *** كأنَّها نَـرْجَـسةٌ بِـلاَ وَرَق
وقوله‏:‏
تكتُبُ فيه أيدي المِزاج لَنَا *** مِيماتِ سَطْرٍ بَغَيْر تَعرِيقِ
والثاني أن تُفصّل، بأنْ تنظر من المشبَّه في أمور لتعتبرها محلها، وتطلبها فيما تُشبّه به، وذلك كاعتبارك، في تشبيه الثريا بالعنقود، الأنجُمَ أنفسَها، والشكل منها واللون، وكونها مجتمعة على مقدارٍ في القرب والبعد، فقد نظرتَ في هذه الأمور واحداً واحداً، وجعلتها بتأمُّلك فصلاً فصلاً، ثم جمعتها في تشبيهك، وطلبتَ للهيئة الحاصلة من عِدّة أشخاصِ الأنجُمَ، والأوصاف التي ذكرتُ لك من الشك واللون والتقارب على وجه مخصوص هيئةً أخرى شبيهةً بها، فأصبتها في العنقود المنِّور من المُلاَّحية ولم يقع لك وَجه التشبيه بينهما إلا بأن فصّلت أيضاً أجزاء العنقود بالنظر، وعلمت أنها خُصَلٌ بيضٌ، وأن فيها شكل استدارةِ النجم، ثم الشكل إلى الصِغَر ما هو، كما أن شكْل أنْجُم الثريّا كذلك وأنَّ هذه الخُصَل لا هي مجتمعةٌ اجتماع النظام والتلاصقِ، ولا هي شديدة الافتراق، بل لها مقادير في التقارب والتباعد في نسبة قريبة مما تجده في رأى العين بين تلك الأنجم، يدُلُّك على أن التشبيه موضوعٌ على مجموع هذه الأوصاف، أنّا لو فرضنا في تلك الكواكب أن تفترق وتتباعد تباعُداً أكثر مما هي عليه الآن، وقُدِّر في العنقود أن يَنْتَثِر، لم يكن التشبيه بحاله وكذلك الحكمُ في تشبيه الثريَّا باللِّجام المفضَّض، لأنك راعيت الهيئة الخاصة من وقوع تلك القِطَع والأطراف بين اتّصال وانفصال، وعلى الشكل الذي يُوجبه موضوع اللجام، ولو فرضتَ أن تُركِّب مثلاً على سنَنَ واحدٍ طولاً في سَيْرٍ واحدٍ مثلاً ويُلصَق بعضها ببعض، بَطَل التشبيه، وكذا قوله‏:‏
تَعَرُّضَ أثناءِ الوِشَاحِ المفصَّلِ
وقد اعتُبِرَ فيه هيئة التفصيل في الوِشاح، والشكل الذي يكون عليه الخَرَزُ المنظوم في الوِشاح، فصار اعتبار التفصيل أعجبَ تفصيل في التشبيه، والوجه الثالث أن تُفصِّل بأن تنظر إلى خاصّةٍ في بعض الجنس، كالتي تجدها في صوت البَازِي وعين الديك، فأنت تأبَى أن تمرّ على جملة أنّ هذا صوت وذاك حمرة، ولكن تفصّل فتقول فيهما ما ليس في كل صوت وكل حمرة، واعلم أن هذه القسمة في التفصيل موضوعة على الأغلب الأعرف، وإلا فدقائقُه لا تكاد تُضبَط، ومما يكثر فيه التفصيل ويقوَى معناه فيه، ما كان من التشبيه مركَّباً من شيئين وأكثر، وهو ينقسم قسمين‏:‏أحدهما أن يكون شيئاً يُقدّره المشبِّه ويَضَعَه ولا يكون، ومثال ذلك تشبيه النرجس بمداهن دُرٍّ حشوهنَّ عقيق، وتشبيه الشَّقيق بأعلامِ ياقوت نُشِرت على رِماح من زَبَرْجَد، لأنك في هذا النحو تُحصّل الشبه بين شيئين تُقدّر اجتماعَهما على وجهٍ مخصوص وبشرطٍ معلومٍ، فقد حصَّلته في النرجس من شكل المدَاهن والعقيق، بشرط أن تكون الداهن من الدُرّ، وأن يكون العقيق في الحَشْوِ منها وكذلك اشترطت هيئة الأعلام، وأن تكون من الياقوت، وأن تكون منشورَةٌ على رماح من زبرجد فبك حاجةٌ في ذلك إلى مجموع أمورٍ، لو أخللت بواحدٍ منها لم يحصل الشَّبه، وكذلك لو خالفتَ الوجَه المخصوصَ في الاجتماع والاتصال بَطَل الغَرَض، فكما بك حاجة إلى أن يكون الشكلُ شَكْلَ المُدْهُنِ، وأن يكون من الدُّرّ وأن يكون معه العقيق، فبك أيضاً فَقْرٌ إلى أن يكون العقيقُ في حَشْوِ المداهن، وعلى هذا القياس، والقسم الثاني أن تعتبر في التشبيه هيئةً تَحصُل من اقتران شيئين، وذلك الاقترانُ مما يُوجد ويكون، ومثاله قوله‏:‏
غَدَا والصبحُ تحتَ اللَّيل بـادٍ *** كطِرْفٍ أشهبٍ مُلْقَى الجِلالِ







التوقيع

لم يبق معيَ من فضيلة العلم ... سوى العلم بأني لست أعلم .
 
رد مع اقتباس