منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - سنابل من حقول الذاكرة"ثنائيات في الأدب"
عرض مشاركة واحدة
قديم 18-02-2012, 11:57 AM   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
إبراهيم محمد شلبي
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم محمد شلبي
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم محمد شلبي غير متصل


إرسال رسالة عبر MSN إلى إبراهيم محمد شلبي إرسال رسالة عبر Yahoo إلى إبراهيم محمد شلبي

افتراضي رد: سنابل من حقول الذاكرة"ثنائيات في الأدب"

سأكون صريحا صادقا ولو لمرّة!

في نُزُل الذاكرة هذا، أتوه لشدّة تشعّب الممرّات والدهاليز، كلّ الغرف تفضي إلى بعضها، وألوب مثل القطا في الصيف بحثا عن سرير، ولولا وجودك معي الآن على ذات المائدة في صالة الحنين، لما استطعت أن أحتسي شاي الغياب الأخضر هذا وحدي، لو لم تكن يدك الخضراء تمسح وجع كفّي برفق لما حملت الكأس أبدا.

هيّئي لنفسك سريرا دافئا، سأروي لك حكاية النوم عن طفل علّق قلبه جرسا للماعز قبل أن أنام.

هيّئي فراشا وثيرا فشوك الحنين يجرح المنامات، سأروي لك حكاية شتاء علّم طفلا كيف يرعى مجازات البكاء في حقول القصيدة.

هيّئي قلبك وأصغي يا أميم!

لم تكن البداية أكثر من شتاء مرّ على عجل، في العقد –كما كنّا نسمّيه- كان كانون الجدّ يعلّم الكستناء أبجدية العشق احتراقا، كانوا أطفالا ثلاثة: أكبرهم ساهم النظرات خجول، وأوسطهم طيّب القلب شرس الطباع، وأصغرهم شديد الذكاء بالغ الدهاء، يتلقفون الكستناء بنهم ولا يعلمون أنّ عشق الشتاء والنار سيسري في دمائهم كما تسري الكستناء في مريئهم! كبروا، ولا زالوا يجتمعون حول نار الجد ويتلقفون الكستناء!

ذاك شتاء مرّ سريعا لم يبقَ منه إلاّ الكستناء، تعاقبت الفصول وصاروا أطول بضعة سنتمترات يتناوبون رعي الأغنام والماعز مع الجد، أكبرهم كان أشدّهم خجلا، كلّما مرّ في شوارع القرية طأطأ رأسه خجلا من أترابه، لم يعد في القرية حينها أغنام سوى في بضعة بيوت، بدأت القرية تشهد تحوّلا في الشوارع الطينية الوحلة وبات الإسفلت يغزو شرايين القرية، ولم يعد يحتاج جزمته البلاستيكية ليتّقي الوحل والماء. بدأت القرية تختفي، وكلّما كبر بضعة سنتمترات أخرى كبر فيه الوعي بالنقص العجيب في الصبّار والطين والحواري الضيّقة المزدحمة برائحة الغسيل المنشور على حبال الشمس. كان حنينه أكبر منه وهو طفل، يكبر سريعا، وأصبح يرعى الأغنام مع أحد أخويه أو وحده، يرافقه الرعي دوما قنينة ماء وكتاب في يده، لم يرعَ يوما دون كتاب.

هاتي رشفة من عينيك لتنتعش الذاكرة.
أتعلمين؟
حديثُك المتمرّد يشبه بيوت الصنيبعة في حقول القمح! حنينك لذيذ وشائك مثل السنارية! ها أنتِ دون وعي منك تدخلين غرف ذاكرتي، كل تلك الصور على جدرانها أحفظ أسماءها. من علمني الأسماء؟ جَرْيُ الماعز في مرج ابن عامر علّمني، ففي حين كان أترابي يربّون كسلهم في مشاهدة التلفاز كنت أحفظ الأسماء في رعي المواشي.

لا زال في الحكاية متسع لإبريق شاي آخر، صبّيه محلّى ساخنا فالطفل يكبر مثلما يعلو الشاي في الكأس! دون وعي كان يكبر، يتعلّم لغة الغيم والريح، وأنّ للشتاء لحنا لا يدانيه لهيب الصيف، يرقب في تأمّل ناسك تجرّد اللوز، ويشهد تفتق الأرض بالعشب، ويرى في مشهد بطيء التصوير تبرعم اللوز وتفتّح زهره، يرشد النحل إلى مخابئ الشهد، يساند الطبيعة في تجدّدها السحريّ ويُلبس اللوز عباءته، يرعى عُقَد اللوز وينمّي ثمارها الخضراء كي يطيب له حمل الملح في جيبه ويأكل كيفَما شاء! يشهد تحوّل السنابل وامتلاء رحمها بالحبّ وانتفاخات بطونها المغرية، يدرس تكوّر الحبّ في الزيتون ويُعدّ القمح للحصاد ليَعّد أبناءَهُ... مسرح مليء بالتجدّد والحياة، وهكذا كان يشهد دورة الكائنات من شرفة الماشية، يقرأ كتابا ويتأمل.

ما أثقل جفوني الآن، هزّيني برفق إن غفوت في ظلّ الحكاية، أخشى يحملني الحلم لابن عامر ذاك، لم أعرف ملامح فلسطين إلاّ من خلاله، علّمني لغة الكائنات، فحفظتها عن ظهر قلب، ولذلك أنقسم الآن بين رجل يجالس امرأة على مائدة، وطفل ينمو في قواميس الحقول، ولعلّ أعجب ما يحمل في حقيبته شحرورا صرخت بنات المدرسة المدنيّات في مدرسته الخاصة ذات يوم مستغربات من لونه وهو يتقافز على زيتون الحديقة: "ياي، حمامة سودا!!"، فرمقهنّ باستهزاء وطار مع الشحرور إلى عشّ بين السرو في سفح الجبل، كان أول عشّ لشحرور يراقب دورته في حياته، وحينها تعاظم في قلبه حبّ رأى نفسه يمتاز فيه عن الآخرين، وازداد قناعة بحكمته: "يا حوينتُه اللي مش فلاّح!".

سأغطّيك بلحاف من الصوف قبل أن أمضي لنومي، سأحرس منامك إن استطعت، أخاف أن يسرق البرد منك رائحة الكستناء.






 
رد مع اقتباس