منتديات مجلة أقلام - مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
منتديات مجلة أقلام

منتديات مجلة أقلام (http://montada.aklaam.net/index.php)
-   منتدى القصة القصيرة (http://montada.aklaam.net/forumdisplay.php?f=5)
-   -   مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن (http://montada.aklaam.net/showthread.php?t=66364)

محمد نعناع الاسير 16-01-2019 08:45 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 37

وأضاف قائلا" : أنا عسكري وأخدم في الجيش العربي السوري برتبة صف ضابط في الخدمة الالزامية ، وكنت قد أخذت اجازة من قطعتي العسكرية التي أخدم فيها وذهبت وأمضيت الاجازة مع أهلي ، وفي مساء اليوم الاخير من الاجازة ودعت أهلي لكي أسافر والتحق بالقطعة العسكرية التي أخدم فيها ، وبعد أن ركبت في الباص وأبتدأت رحلة السفر ، وعند ابواب حلب "التمثال" توقف الباص لوجود دورية من الشرطة العسكرية ، فصعد أحد أفراد الدورية وطلب مني الاجازة ، فأعطيته اياها ، وعندما قرأها ، قال لي : ان اجازتك منتهية وأنت متخلف عن قطعتك العسكرية ، فقلت له : كيف ذلك ؟ ، فقال : ان الوقت الآن هو الثانية بعد منتصف الليل واجازتك تنتهي الساعة الثانية عشرة ليلا ، فقلت له : اني الآن ذاهب الى قطعتي العسكرية ، فلم يرضى بهذا الكلام وأمرني بالنزول من الباص ، فنزلت ، وارجعوني الى حلب ووضعوني في سجن الجميلية التابع للشرطة العسكرية يومين ، وها أنا اليوم في سجن البولوني معك .. !!
قلت له : الى أين سيأخذونك الآن ؟
قال : الى قطعتي العسكرية ، اندهشت من هذا الكلام الذي أسمعه للحظة وعدت وقلت لنفسي : لماذا تندهش ؟ فها أنت تعاني أكثر منه ..
غمزني ابن ضيعتي ، وقال لي : وأنت ماهي جريمتك ؟
فقلت له : جريمتي كبيرة جدا" "ومن كبرها ما ع بحسن اشيلها" وقصصت عليه حكايتي العجيبة التي أعاني منها ، هذه الحكاية التي سوف أرويها للأحفاد عند نومهم واستيقاظهم ، وأرويها للتاريخ ، وعندما سمع ابن ضيعتي هذه الحكاية ، استغرب ذلك وهانت عليه مصيبته أمام مصيبتي ، وكان قد عرف من خلال سردي لقصتي بأني لاأملك في جيبي قرشا" واحدا ، فأخرج محفظته وأعطاني بضع مئات سورية من النقود فشكرته على ذلك وقلت له : سوف أرد لك هذا المال ان شاء الله في يوم ما اذا بقيت حيا ..
وسهرنا باقي الليل نتسامر وندردش ونخفف عن بعضنا البعض هذه الاحداث التي مرت علينا حتى أتانا الله بالصباح ، وبنوره لاح ، فجاؤوا بالافطار "ففطرنا" وحمدنا الله ، وبعد ذلك نودي على اسمائنا نحن الاسرى الثلاثة ونودي أيضا" على بعض اسماء المساجين العسكريين ، فقد كانوا ينوون ترحيلنا الى محطة اخرى .
جاؤوا "بميكروباص" مدني وأخذوا اجرته من جميع المساجين وقد كنا نحن من ضمن المساجين ، فدفعت الاجرة عني وعن رفاقي الاثنين ، وابتدأت الرحلة الى مدينة طفولتي وأحلامي .. الى مدينة حلب .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 16-01-2019 08:51 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 38

الصنم :
وفي الطريق الى حلب والعربة تنهب الارض نهبا ، عرف المرافقون من الشرطة العسكرية بقصتنا وتعرفوا على بعض مآساتنا من خلال القطع التي كنا صنعناها في المعتقل وهذه القطع كانت ترمز بشكل ما لحياتنا داخل المعتقل ، وكنت قد صنعت "مشطا"من قطعة خشب "من سحارة خضرة" وهذا المشط كان بشكل رجل يجلس متربعا" ويضع يديه على رأسه ورأسه الى الأسفل وكنت قد صنعت أيضا" "مسبحة" من خشب وكانت جيدة الصنع وأراد الشرطي أن "يلطشها" فمنعته عن ذلك وكان هناك أيضا" بعض الاحجار القاسية "من الصوان" قد نحتها باشكال مختلفة تعبر عن المآسي التي كنا نعيشها وكان هناك أيضا" بعض النحاسيات التي حفرت عليها بعض الأسماء والرسومات للذكرى ،
ان كل هذه الاعمال كانت يدوية وكنت قد وضعتها في حقيبة مصنعة يدويا" من بعض مناشف الحمام ، وفيما الشرطيين "يبحبشان" ويتفرجان على هذه القطع التي أعتبرها تاريخية بالنسبة لي ، وجد أحدهم عشرة ليرات لبنانية داخل الحقيبة فأخذها وقال لي : بأنه سوف يأخذها كتذكار مني ..
ياالله .. أين نحن ..؟ وأين هو .. ؟
حتى في هذا الموقف لم ينسى نفسه بأنه "شرطي"
ومتى كان المال يأخذ كتذكار ..!؟

وصلنا الى بوابة حلب الشهباء ، وصلنا الى رمز حلب "الصنم" ، اني لاأحب التماثيل لأني أعتبرها كالاصنام في الجاهلية ، ولكن كانت هناك نشوة عارمة بمجرد رؤيتي لهذا التمثال الذي يرمز لوصولنا الى حلب ، وهاهي الساحة التي نقول عنها "الكرة الارضية" ترحب بزوارها الغائبين .. كأنها تعرفنا ..
ياالله .. لقد وصلنا إلى حلب ..
يالله .. ماأجمل ذلك ..
لقد أصبحنا في قلب حلب ..
فأين قلبك ياأماه ..؟

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 16-01-2019 09:12 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 39
انطلق "الميكروباص" الى مقر قيادة الشرطة العسكرية في الجميلية وكانت الساعة تقريبا" في ذلك الوقت الثانية عشرة والنصف ظهرا" ، ودخلنا الى هذا الفرع الذي يشبه القلعة المحصنه ببوابته الكبيرة .

سجن آخر
تم التوقيع والتسليم بين شرطة حمص وشرطة حلب ، ادخلونا الى مهجعا" كبيرا" جدا" يستوعب المئات من السجناء وكان علينا أن ننام في هذا السجن الى ثاني يوم حتى يقوموا بتسليمنا الى شعبة التجنيد العسكري .
في هذا السجن الكبير كان هناك الكثير من السجناء الذين عرفوا بأننا "اسرى" وأما بالنسبة لعناصر السجن فلم يعرفوا بذلك ولم يقم احد باخبارهم
في تلك الليلة كنت انام واستيقظ ..
انام واحلم ..
استيقظ واحلم ..
فأين أنت ياأماه .. لتشاهدي ابنك ..
فهذا الليل كم هو طويل جدا" ياأماه ..
هذا الليل ياأماه .. ذئب جائع سفاح ..
أردت الهروب منه الى النهار ..
وكم عانيت ياأماه ..
فهذا الليل كان من أطول الليالي ..

اخيرا" هربت من ذلك الليل "الوحش" الى النهار ، فقد بدأت الاضواء تتسرب من خلال نوافذ بعض الشبابيك والابواب وجلست أدخن لعل التدخين يقرب المسافات ويقتل الوقت ، ولم تكد تنتهي لفافة التبغ حتى ألقمها بأخرى ، وأزف الوقت اخيرا" ، وطلع النهار .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 23-01-2019 05:38 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 40

كانت الساعة التاسعة صباحا" من يوم 23 - 11 - 1983 .. فتح الباب وسمعت صوتا" يقول: "تفقد - يالله ع التفقد" ، لم أفقه واعرف معنى هذه الكلمات ، ولكن رأيت جميع السجناء يقفون ويصطفون وراء بعضهم البعض ، ونادوا علي لكي أقف ، واصطف معهم ..
ابتدأت الاسماء تتلى من قبل عنصر من الشرطة العسكرية برتبة "مساعد" والسجناء كانت ترد وتقول : نعم , حاضر , موجود ..
لقد كان التفقد الصباحي وتحية العلم وهذه الشعائر تقام كل صباح ، حين أذكر هذا ، أتذكر "العد" الصباحي الاسرائيلي فانهم كانوا يقومون بهذا الامر "بالعد" بشكل يومي في الصباح ، كنت واقفا في الصف وفي يدي لفافة التبغ ، فصرخ المساعد وقال : "كب السيكارة ولاك" ولكني كنت كمن لست موجودا" ، كنت بعيدا" عن هذا المكان السيئ ، وكرر كلامه وانا لست هنا ، فقد كانت روحي تسبح في اللاشيئ ، وصرخ لكي أذهب اليه وانا لست هنا ولست معه ، أيقظني احد رفاقي التعساء من احلامي ومنامي بهزة من يده وهو يقول : المساعد ينادي عليك ، فذهبت اليه ولفافة التبغ مازالت في يدي ولم أكن أفطن لوجودها ولم أكن اعرف لماذا يناديني ذلك المساعد ، فقد كنت كالأبله والمجنون الذي لايعي مايدور حواليه ، وكان المساعد يصرخ ويتهددني ويتوعدني ،وأنا كالمجذوب ، فقال لي : "مابتعرف اصول العسكرية ولاك , ليش ما ع بترد , كبه من ايدك" ، وانا لا أفقه شيئ من كلامه ، فلماذا يتهددني .. ماذا فعلت ..!؟ وما معنى كلامه ب "كبها من ايدك"، ماذا هناك في يدي ، واخيرا" ضرب يدي التي تحمل "السيكارة" فوقعت على الارض وأنا تائه في عالم آخر .. كانت نفسي هائمة في كل الاتجاهات وبدون اهداف ..فعرفت حينها .. لماذا كان يصرخ علي .. فأردت أن أفتح فمي لكي أرد عليه فلم يساعدني لساني على الكلام .. لقد أصبحت أبكما "أخرس" لقد خانتني لساني على النطق .. أردت أن أبكي ولكن عيناي خانتني ولم تساعدني على البكاء .. فنحرني بيده على صدري نحرة خفيفة وقال لي : اذهب الى الصف .. فذهبت ووقفت في هذا الصف اللعين حتى انتهى التفقد .. وأغلق باب السجن مرة أخرى .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 23-01-2019 05:47 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 41
انني لن ألوم ذلك الشخص "المساعد" الذي نعتني وضربني لأنه لايعرفني ، لايعرف بأنني "ذبحت وتعذبت مرتين" ، فمرة عند اعدائي الصهاينة ومرة اخرى في بلدي عند اخواني واصدقائي ، لايعرف بأنني كنت اسيرا" عند اسرائيل "الله يسامحه" ولكني لن أسامح أبدا" الذين تسببوا في مآساتي هذه .
فتح الباب مرة اخرى وكانت الساعة الحادية عشرة ظهرا" تقريبا" ونودي على اسمي واسم احد رفاقي الاسرى المولود في حلب وأما رفيقنا الاسير الثالث فقد بقي في السجن لأنه من محافظة دير الزور وينوون ترحيله الى هناك ونودي ايضا" على ثلاثة من السجناء العسكريين الذين يعرفون بأننا "اسرى" ، فأصبح عددنا خمسة من المساجين ، اثنان من الاسرى وثلاثة من العسكريين .
جاء الحراس بجنزير طويل قيدوا ايدينا فيه بشكل جماعي وانتظروا بعض الوقت ليأخذوا الاذن بالانطلاق بنا الى شعبة التجنيد
وفي خلال هذه الفترة انتبه احد حراسنا للسترة التي كنت ارتديها بدون ازرار ومن دون ثياب داخلية وبصدر مفتوح ، يعني "ع طاق اللحم" ونحن في فصل الشتاء ، فقال لي : "زر الازرار وسكر صدرك" ، فقلت له وببرود شديد وبعدم اكتراث : "مافي ازرار" فقال : "خرطها في البنطلون" , "شنو ما بتعرف اصول العسكرية ولاك" ، هنا تدخل أحد السجناء موجها" كلامه لهذا الحارس قائلا : "هادا ما هوى عسكري .. هادا كان اسير ) فرد الحارس بدون أن يهتم بكلمة "اسير" وكانت لهجته تدل على أنه من المنطقة الشرقية قائلا : "ايه شنو يعني .. آني شنت يسير كمان في تدمر" ، هنا جائتني البسمة لأول مرة في سورية من كلام هذا السجان البسيط وعفويته ، فأوضح السجين العسكري للسجان بأن قال له : إن هذا الواقف امامك كان اسيرا" لدى اسرائيل .. حينها اندهش السجان من هذا الكلام وبدأ يسألني عن بعض الاسماء المفقودين في الحرب بعد أن فك قيودنا من ذلك الجنزير الذي في ايدينا .
ركبنا سيارة الشرطة العسكرية المغلقة وعرف مرافقونا بأننا اسرى فعاملونا معاملة جيدة خلال انطلاقنا الى محطتنا الجديدة .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 25-01-2019 04:18 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 42

توقفت العربة عند قيادة موقع حلب في الجميلية لتوقيع بعض الاوراق والعربة قد كان لها بابا خلفيا ومكانا يجلس فيه الحرس لحراسة المساجين وكان هذا الباب قد فتحه الحرس لكي يحدثنا نحن الاسرى ، فكان يسأل ونحن نجيبه ، وفي هذا الوقت بالذات كان هناك اطفالا يغادرون مدارسهم وكانوا قد تجمعوا حول العربة يستهزؤن بنا ويضحكون علينا ، ورمى احد الاطفال بقطعة من "العلكة" وقال : "خدوها تسلوا فيها في السجن" وقال طفل آخر وهو يضحك : "هيه .. هيه .. هلأ بدون ياخدوكن ويقتلوكن"
إن هؤلاء الملائكة الاطفال لايعرفون من نحن
كم قاسيت في هذه اللحظة ، وفي هذا الموقف بالذات ضحكت وشعرت بالدموع تنساب على خدي وتتساقط كمطر الربيع لايمنعها شيئ عن التوقف
لقد كنت أبكي وأضحك في نفس الوقت
ياالله .. ماهذا ..؟
اخيرا" ولأول مرة في سورية أستطيع أن أكحل عيناي بالدموع
لقد كانوا قد خذلوني في أكثر من مكان
لقد كنت محروما" حتى من البكاء
اخيرا" رأيت الناس تمشي في الشوارع وهؤلاء الاطفال ماأجملهم وماأجمل ابتساماتهم وماأقدس برائتهم
انني كنت محروما" من أبسط حقوق الانسان الحياتية
لقد كنت محروما من البكاء
لقد كنت محروما" من أن أرى الناس
لقد كنت محروما" من رؤية الشوارع
وحتى في بعض الاحيان كنت محروما" من أن "أبول"
ياالله .. ماهذا .. ؟
هاهي حقوقي الانسانية قد عادت الي
فها انا أبكي بكل حرية وبدون قيود من أي سلطة تمنعني عن ذلك
إن حقوق الانسان الحياتية مثلها مثل الارض المحتلة لاتؤخذ الا بالقوة ، وليس بالدعاء او التمني
انما بالعمل ..؟
انتهوا من التوقيع والامضاء في قيادة ذلك الموقع وانطلقت بنا العربة مرة اخرى الى شعبة التجنيد .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 25-01-2019 04:23 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 43

جب القبة :
دخلت الى شعبة التجنيد برفقة "مساعد الشرطة العسكرية" وكانت مزدحمة بالمراجعين , فقال "المساعد" للموظف المسؤول وهو يشير الي : هذا كان اسير حرب لدى اسرائيل فأرجوا منك أن لاتأخره باجراء تسليمه "دفتر خدمة العلم" ، فوقف الموظف مرحبا" ومؤهلا" وأجلسني على مقعد بجانبه وقال لي : انتظر لحظات قليلة وانهي عملك ،
هنا صافحني المساعد مودعا" وقال : "هون انتهت مهمتي , يالله السلام وعليكم" وذهب في حال سبيله ، وأما الموظف فقد أحضر لي كوبا" من الشاي وأضافني "سيكارة" وهو يتساءل ويسأل ، ويتعجب عندما كنت أجيبه على أسئلته
اخيرا" ، سلمني دفتر خدمة العلم وقال لي : خلصت شغلتك , بس استنى هلأ أنا بوصلك بسيارتي لعند أهلك بس يخلص الدوام" ، فقلت له : لا , أريد أن أذهب الآن , وشكرته وودعته وانصرفت الى حال سبيلي حرا" طليقا" لأول مرة في سورية ، ومن يملك ارادة الحرية يحرر العالم

يادامي العينين والكفين ان الليل زائل
لاغرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل
نيرون مات , ولم تمت روما بعينها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 27-01-2019 04:39 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 44

كنت قد نمت ثلاثة ليالي في مقرات الشرطة العسكرية من اجل استلام هذا الدفتر اللعين ، ألا أستطيع أن أستلم هذا الدفتر بدون هذا السجن ..!؟
ان الشعبة التي دخلتها برفقة أحد حراس الشرطة العسكرية هي شعبة جبل سمعان في مدينة حلب "جب القبة" وهذه المنطقة كنت لاأعرفها سابقا" مع العلم أنني قد ولدت وأعيش في حلب .

خرجت من شعبة التجنيد حرا طليقا" ، هائما" على وجهي ، لاأعرف أين أنا ، ولا إلى أي جهة أذهب ، فقد كان منظري مروعا" , فثيابي مهلهلة ومتسخة وممزقة من الركبتين والمؤخرة من الطرفين ، وكان رأسي محلوق الشعر وأما ذقني فهي طويلة بعض الشيئ وأما وجهي ويداي فهم سوداوان من الأوساخ
فهذا هو حالي عندما خرجت من شعبة التجنيد في "جب القبة" في حلب ، في سورية ، حرا" طليقا" .
وأما حالي عندما خرجت من "معتقل اسرائيل" فكان العكس من ذلك , فقد جاء الاسرائيليين بألبسة جديدة , لبسناها بعد أن تحممنا يالمياه الساخنة ، وخرجنا طلقاء وأحرارا" .

جلست على أحد الارصفة في أحد الشوارع الرئيسية في "جب القبة" متفكرا" بحالي وهيئتي تدل على مدى تعاستي وكل من يراني على هذا الحال يحسبني متسولا" ، جلست طويلا" أقارن بين معتقل اسرائيل وبين معتقل بلادي ،وكم كنت أتعذب من ذلك التفكير ومن تلك المقارنه .. وأحسست بأن الناس يتغامزون علي وأنا أجلس على ذلك الرصيف , فقررت أن أتحرك من مكاني .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 27-01-2019 04:44 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 45

وبكى .. السائق :

أوقفت "سيارة اجرة" وصعدت اليها وعندما نظر السائق الى هيئتي حسبني متسولا" فأراد أن ينزلني من السيارة , فقلت له : أنا لست متسولا" وقصتي طويلة ورجوته أن ينطلق وأفهمته بأنني أمتلك المال ، عندها انطلق السائق متمتما" واضعا" يده على انفه ليمنع تلك الروائح العفنة التي تنطلق مني أن تصل اليه فقال : الى أين تريد الذهاب , فقلت له : الى البلد ، فقد كنت أريد أن أشتري ألبسة لكي ألبسها عوض الثياب المتسخة والممزقة ، فليس من المنطق أن أذهب الى اهلي بتلك الثياب العفنة .. تجاذبنا اطراف الحديث أنا والسائق , فسألني : من أين أنت ، فاني أرى لهجتك غريبة ..!؟ فقلت له : أنا من حلب ولكن كنت اسيرا" لدى اسرائيل واليوم قد اطلقوا سراحي وها أنا بين يديك وأنت أول انسان في حلب يعرف ذلك ، وكنت أقصد بأنه اول انسان يعرف بأني "اسير" وأنا حرا" طليقا" ، فقال لي : "اهلك بيعرفوا انوا انتا هلأ في حلب" فقلت له : لا , فان أهلي لم آراهم منذ عامين واليوم سوف أذهب اليهم ، فبكى ذلك السائق وأبكاني معه .
يارباه .. ان هذا السائق قد بكى على هذا المتسول الحقير الذي أمامه .. فمسح دموعه وقال : أأنت مشتاق لأهلك , فتأوهت والدموع قد اغرورقت في عيناي قائلا" : "حتى أحجار حلب قد أشتقت اليها" , فرد علي قائلا" : سوف أريك بعض الاماكن التي تغيرت في حلب خلال العامين الماضيين ، فأخذني الى جانب الحديقة العامة وآراني مجرى نهر قويق المسقوف والمجمل بالورود وبعد ذلك طلبت منه أن "يوصلني إلى البلد" وأقصد هنا بالبلد ، مركز المدينة ، فعندما وصلنا الى المكان الذي أريده أخرجت بعض النقود لأعطيه فلم يقبل أن يأخذ مني , وكررت المحاولة ولكنه كان قد أقسم بأن لا يأخذ مني أي قرش , فشكرته وترجلت من السيارة ، وذهب في حال سبيله ، وأما انا فتوجهت الى احدى "المحلات الرياضية" فاشتريت ألبسة رياضية , وقلعت جميع ملابسي الممزقة التي البسها ووضعتها في حقيبة كانت معي ولبست الالبسة التي اشتريتها ، ونظرت الى المرآة التي أمامي وقلت لنفسي : قبل قليل كنت شابا" متسولا" وأما الان أصبحت شابا" رياضيا" ، وآه من هذه الالبسة فكم تغير من شكل الانسان ، ونحن العرب كم نحترم المظاهر ولا نحترم الانسان .. !!!

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 01-02-2019 06:54 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة "46"

خرجت من ذلك المحل شابا" رياضيا" وتوجهت الى الحديقة العامة والتقطت صورة تذكارية أتذكر بها أول يوم أدخل فيها الى حلب وبعد ذلك ذهبت الى موقف السيارات الخاص بالسفر الى "ضيعتي" وركبت احداها , فقد كنت قد وعدت وعاهدت نفسي وأنا في الاسر عندما جائني خبر وفاة "خالتي" أن أذهب وأزور قبرها قبل أن أذهب الى أهلي ،

وصلت الى الضيعة ولاأعرف أحدا" ، ولا أحدا" يعرفني ، وهاهي المقابر جاثمة امامي ولكن أين هو قبر "خالتي" ..؟ لاأعرف ..

كان لي اختا" أصغر مني متزوجة من ابن عم ابي في الضيعة , فذهبت اليها , وكم كان اللقاء مؤثرا" عندما رأتني وأخبرتها بأني لم أرى اهلي لأني نذرت على نفسي أن أزور "قبر خالتي" قبل أن أذهب الى أهلي ، فقالت لي : أذهب الى "أبو جلال" فهو يعرف قبور الضيعة كلها ، وان ابو جلال هو احد الاقرباء لنا من نفس العائلة وكان يعمل في "معمل نسيج" مع والدي في نفس المكان ..
عندما دخلت الى بيت "ابو جلال" وتعرفوا علي "قاموا وسلموا علي" وقال لي ابو جلال : "هلأ كنت مع ابوك في الشغل بس ماقلي انوا انتا جيت" ، فقلت له : لم اذهب الى "بيت اهلي" ، ولا يعرفوا أهلي بأني في سورية وقد أفهمت ابو جلال السبب بذلك .. فقال لي : "اذا هيك الشغلة , بسيطة , أنا بعرف قبر خالتك" ولكنه أقسم أن لاأخرج من داره الا اذا شربت الشاي ، فلبيت طلبه وشربت الشاي ، وبعد ذلك ذهبنا الى المقابر وقرأت "الفاتحة" لخالتي ولجميع المسلمين ، وعندما انتهينا من زيارة القبور قال لي ابو جلال : سأذهب معك الى حلب و "أبشر أهلك وآخذ البشارة" فقلت له : هيا بنا .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 01-02-2019 07:27 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 47

وصلنا الى الاشرفية وهو حي من أحياء حلب الشعبية مستقلين سيارة اجرة أوقفتها على "رأس الشارع" الذي يسكن أهلي فيه .. وعندما نزلت من السيارة شاهدني شاب صغير من جيراننا فركض ذلك الشاب من أول "الحارة" الى منتصفها حيث يسكن اهلي وهو يصيح مكررا بأعلى صوته قائلا" : "يا بيت ابو أحمد اجا ابنكن محمد" حتى وصل الى باب بيت أهلي فأمسك "السقاطة" وبدأ يطرقها بقوة وهو يصيح : "يا بيت أبو أحمد اجا ابنكن محمد" .. كان "ابو أحمد " هو والدي وكان لي أخ أكبر مني أسمه "احمد"

إن البيوت في حارتنا كلها كانت بيوتا" عربية وساكينيها يعرفون بعضهم البعض , وعندما سمع الجيران هذا الصياح .. فتحت الابواب .. وفتحت الشبابيك .. وأطلت منها الرؤوس تستطلع الخبر من هذا الصياح في الشارع .. كانت أقدامي تسرع الخطى بدون أمر مني .. فها هو باب بيتنا مازال على حاله , انه مصنوع من الخشب وعلى درفتين وكان قد صنعه "خالي" في عام 1968 .. وكم اشتقت لهذا الباب الذي فارقته منذ عشرين شهرا" تقريبا" .. فقد كنت فارفته في يوم 4- 4- 1982 في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر وكان عمري انذاك ثمانية عشر ربيعا" وثلاثة أشهر وها أنا أعود اليه في يوم 23- 11 - 1983 وعمري عشرين ربيعا" تقريبا" .. وبلمح البصر دخلت من هذا الباب
وكان اللقاء ..
وما أصعب هذا اللقاء
وماأجمل ذلك اللقاء .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 05-02-2019 03:44 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 48

كانت اختي الصغيرة "ميساء" أول من رأيته ورآني من أهلي .. وكنت أحبها كثيرا" .. وهي كانت تحبني .. وكنت اشتري لها "العلكة" كل يوم .. وعندما كنت في الاسر ومن خلال الرسائل المتبادلة بيني وبين اهلي عن طريق الصليب الاحمر الدولي عرفت بأنها كانت تسأل عني كثيرا" وتقول : "امتى بدو يجي اخي محمد" وكانوا اهلي يقولون لها : "بكرا محمد بدو يجي ويجبلك العلكة"
عندما سمع اهلي ذلك الصوت الذي يقول بأن ابنهم محمد قد جاء , قالوا لأختي الصغيرة ميساء: "اجا محمد" , فركضت لتستقبلني .. وركضت اليها وفي يدي علبة "العلكة" ولكنها هربت مني وهي تقول : "هادا ماهوى اخوي"
يالله .. ماهذا ..
إن اختي لم تعد تعرفني ..
فتساقطت الدموع حينها من عيناي ..
فما أقساك يازمننا ..
يازمن التعساء من أمثالنا ..
وعندها ، رأيت والدي ووالدتي يهرولون نحوي .. فرميت نفسي أدفنها في احضانهم كأني كنت هاربا" من وحشا" مفترسا" يريد أن يبتلعني .. وكان اللقاء حارا" جدا" .. والدموع تتساقط بغزارة كأنها أمطار الربيع .. وجاء دور اخوتي فاحتضنتهم وأنا أقبلهم وهم يقبلونني وكنا نبكي بكاء الفرح وكان هناك بعض الناس من الجيران يبكون معنا .. وكان يوما" مابعده من يوم .. لقد كان بالنسبة لي يوما" تاريخيا" سجلته في ذاكرتي ولن تستطيع أن تمحوه الايام والسنون ..
لاأستطيع أن أوصف ذلك اليوم بما اعتراني من مشاعر واحاسيس .. فالقلم يعجز عن كتابته على الورق .. فقد كان خليطا بين الحزن والفرح ..
عمت البسمة وحضر الفرح الى بيتنا اياما" ونحن نستقبل الاقرباء والاصدقاء بمناسبة اطلاق سراحي من الاسر ..
وتوالت الايام وأقول كما قال الشاعر "ابو البقاء الرندي في رثاء قرطبة" :
لمثل هذا يذوب القلب من كمد .. ان كان في القلب اسلام وايمان

يتبع ..


الساعة الآن 10:38 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط