منتديات مجلة أقلام - مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
منتديات مجلة أقلام

منتديات مجلة أقلام (http://montada.aklaam.net/index.php)
-   منتدى القصة القصيرة (http://montada.aklaam.net/forumdisplay.php?f=5)
-   -   مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن (http://montada.aklaam.net/showthread.php?t=66364)

محمد نعناع الاسير 30-08-2018 11:07 AM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 13
كان جسدي في تلك الزنزانة ، وأما روحي فكانت سابحة في اللاشيئ ، وكان هناك كوة في اعلى جدار الزنزانة ، من خلالها كنت ارى النجوم وهي تسبح في السماء ، وكنت اتعلق بها لاذهب بعيدا ، عن مآساتي ..
يالله .. ماأجمل هذه النجوم التي في السماء فهي حرة طليقة ..
ماأجملك ياأيها الليل .. أريد أن أختبئ فيك أيها الظلام .. من قال أن الظلام ليس جميل .. انه في بعض الاحيان أفضل من النور .. ان الظلام معناه النوم والذهاب الى المجهول وبعدم تحمل المسؤوليات .. وأنا الآن أريد أن أهرب من كل شيئ .. أريد أن أهرب الى اللاشيئ .. في بعض الاحيان يفضل الانسان أن يكون مجذوبا على أن يكون عاقلا .. فيارب .. لماذا لم تخلقني مجنونا بدون عقل .. ؟!
كنت واقفا على قدماي الاثنتين ، انتظر دوري مرة اخرى لكي انام ، فأحسست باحدى قدماي بأنها لم تعد تساعدني على الوقوف ، ، كانت قد ( لبدت ونملت ) فرفعتها بيداي الاثنتين لاريحها قليلا ، عندها شعر رفيقي النائم بين اقدامي ببعض فراغ عند رأسه ، فمد رأسه ووضعه مكان موضع قدمي ، فلم أعد أستطيع أن أنزل قدمي ، ان رأس رفيقي أصبح يحتل موضع قدمي ، فأمسكست رجلي بكلتا يداي لكي لا تسقط على رأس رفيقي وبقيت واقفا على رجل واحدة ( مثل اللقلق ) .
يتبع ..

محمد نعناع الاسير 16-09-2018 02:21 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
.
الحلقة 14

فقدان الذاكرة ، في الوطن :

كانت تباشير الفجر تهل وتعلن ولادة يوم جديد ، وآذان المؤذن للصلاة ينادي الناس ، كانت هذه أول مرة منذ سبعة عشر شهرا وعشرون يوما أمضيتها في المعتقل اسمع فيها صوت الآذان من المآذن ، اعترف بأني في ذلك الوقت كنت لاأصلي ، والله يهدي من يشاء ، فنحن ولدنا على الفطرة مسلمين ، والتكبير بالله يعطينا قوة فائقة للتحمل والصبر ، فالله اكبر الله أكبر ، واشهد ان لااله الالله ، واشهد ان محمد رسول الله .
في السادسة صباحا تقريبا ، استيقظ رفيقي ورآني اقف على رجل واحدة وعرف بأنه قد أخذ مكان موضع قدمي برأسه ، فبكى وحزن على وقفتي هذه ، وضممنا بعضنا البعض وتعانقنا كأننا كنا بعيدين عن بعض والتقينا .
هذه الصورة كيف انساها ..؟! ففي وطني لم يكن هناك لي موضع رجل لأضعها فيه ، فأين أنت ياوطني ..؟!
كنا نداوي جراح بعضنا البعض أنا ورفاقي ، كنا جياعا ، فلم نأكل منذ صباح الامس ، فذهبنا الى التدخين عوضا عن الطعام .
لم يكن في الزنزانة السورية ( دورة مياه ) لنغتسل أو نقضي حاجتنا فيه ، بينما الزنزانة الاسرائيلية كان فيها شبه ( مرحاض افرنجي ) وهو عبارة عن سطل بلاستيك كبير .
لم يكن في الزنزانة السورية أي شيئ ننام عليه أو نغطي أجسادنا به ، بينما الزنزانة الاسرائيلية كان فيها أغطية ( حرامات ) تحتنا وفوقنا .
في الزنزانة السورية نمنا جوعى ، وهناك نمنا شبعى .
في الزنزانة السورية كنا عشرون شخصا ، وهناك كنا عشرة .
ولكن ، لأتوقف قليلا عن هذا السرد وعن هذه المقارنات بين هنا وهناك ، لاتجوز المقارنة .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 22-10-2018 07:12 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 15

لقد اصبحت الساعة الآن العاشرة تقريبا ، فتح باب الزنزانة ، ونادى احدهم يقول : ( يالله طلعوا فطروا ) فخرجنا جميعا ، العشرون سجينا ، اما العشرة الاولى فهم الاسرى ، وكنا نلبس لباساموحدا ، واما العشرة الثانية فهم المساجين الآخرين ، وكانت لهم مشاكلهم وصراخهم ، وعندما كان يعلو الصراخ يأتي عناصر ذلك الموقع ويهينوا الجميع بدون استثناء ، إذا" ، فالعشرون مهانون ونحن الاسرى من ضمن العشرون ، ان عناصر الموقع هذا لا يعرفون بأننا اسرى حرب ، وعندما كانوا يعرفون يعتذرون لنا ، ويتعجبون لوجودنا عندهم ، والمشكلة الكبرى انهم يأتون فرادى ، وكل منهم يشتمنا ، فنوضح له وضعنا نحن الاسرى العشرة ، فيعتذر ويتعجب ويذهب الى حال سبيله ..
وهكذا مرت الساعات علينا في ذلك الموقع ، يأتي عنصر ، يهيننا ، فنوضح له ، فيعتذر ويذهب ، وتواليك وهلم جرا ..
كرهنا أنفسنا لاننا اسرى ، كرهنا العالم اجمع ، فمن المسؤول عن تلك الاهانات ..؟! هل هو العنصر ام المسؤول عن العنصر ..؟!
لم نعد نقول بأننا اسرى ، لم نعد نتكلم عندما نهان ( كأننا من البكم ) وكان قلبي يبكي دما ، تحجرت الدموع في عيناي ، أريد أن أبكي ، فلم أستطع البكاء ، أين تلك الدموع الخائنة ..؟!

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 24-10-2018 05:26 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة "16"
هاهي مناسف الحلاوة على الارض تناديني قائلة : ( ألست جوعان ،تعال وكلني ) ، نعم كنت أتضور جوعا ،ولكن مابال نفسي قد شبعت وصامت ، فلم استطع أن ( آكل ) ، لقد شبعت نفسي من الاهانات ..
مد رفيقي يده وقال : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأجبرني على أن آخذ لقمة وآكلها ، ، فحمدت الله على هذه النعمة ورجعت الى الوراء وأنا أمد يدي على علبة التبغ الاسرائيلية الصنع ، وأشعلت لفافة القمتها في فمي ، فقدم لي احد رفاقي كوب من الشاي وهو ينظر الي ويقول : ( اشبك ماخربت الدنيا ... معلش ... معلش ) كان رفيقي هذا يعرف بأني كنت حساسا وشفافا جدا ، يعرف بأن الكلام والقول يؤثر بنفسي أكثر من ألف مدفع ، ولقد ماتت نفسي في نفسي ، لقد قتلوني في داخلي ، لقد نحروني بدون سبب ، فمن المسؤول عن ذلك ..؟!
انتهت وجبة الافطار العربية ودخلنا الى مقصورتنا الجميلة الرحبة ننتظر اللاشيئ ، ننتظر المجهول ، ننتظر الانتظار ، وبعد فترة وجيزة من الوقت لاأعرف تحديدها بالضبط ، فتح باب الزنزانة ، وطلب منا الخروج حالما نسمع اسمائنا ، فبدأت الاسماء تتلى واصحابها يخرجون ، حتى خرجنا جميعا ، جميع العشرون ... وتجمعنا في ساحة ذلك المبنى ، وكان هناك غرفة صغيرة مسبقة الصنع بجانب ذلك المبنى ، وكنا نزور هذه الغرفة ( البراكة ) كل فرد بمفرده ، وعندما تنتهي هذه الزيارة نصعد الى ( ميكرو باص ) كان بانتظارنا .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 27-10-2018 03:01 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 17
فقدان الذاكرة
جاء دوري فدخلت تلك ( البراكة ) وكان هناك ضابطا وعلى كتفيه بعض النجوم ، فسألني عن اسمي وعنواني ، وهنا كانت قد توقفت الحياة عندي للحظات قصيرة ، كنت اتذكر بها اسمي ، فلم أعد أتذكر من أنا وما هو اسمي ، فصرخ الضابط وقال : ( ما بتعرف شو هو اسمك ) ) ، وأنا لاأجيبه على سؤاله ، لاني كنت قد نسيت اسمي ..!! فزجرني بكلمات قاسية وأضاف قائلا : ( شو انتا ما بتسمع ولاك ) ..
آه .. لو يعرف ذلك الضابط ما كان في داخلي تلك اللحظات ، كنت كغريقا في بحر ولا أعرف العوم فيه ، كنت ضائعا وتائها ، كنت كمن يحاول ان يهرب ويفر من جلده ..
بكل بساطة اقول : نعم ، لقد نسيت اسمي ، كما ينسى الطالب المجتهد في المرحلة الابتدائية الاجابة على بعض أسئلة استاذه ، أردت أن أصرخ فخانتني حنجرتي ، أردت أن أبكي فلم أستطع ، وما أكثر المواقف التي أردت فيها أن أبكي ، ولكن الدمع كان يخونني ويعاندني ، كان قد تحجر الدمع في عيوني ،ان البياض الذي في عيني قد أصبح احمرا بلون الدم من السهر والتعب والارهاق ..
كنت قد أمضيت ليلة في المعتقل لم أنم فيها من فرحتي بأنه سوف يطلق سراحي ، وأمضيت ليلة ثانية في زنزانة الصهاينة لم أنم فيها مع رفاقي كنا نغني ونرقص مبتهجين لاطلاق سراحنا ، وأمضيت ليلة ثالثة في زنزانة بلادي لم أنم فيها من القهر والحزن والجوع والبرد ، ولأنه لم يكن هناك مكان للنوم بالاصل ، فثلاثة ليالي لم أنم فيها ، فكيف تصبح لون عيوني .. كل هذا وأنا واقف امام ذلك الضابط الذي يريد مني ان أقول له ( ماهو اسمي ) هو لايعرف بأنني كنت اسير حرب لدى الاسرائيليين ، وصرخ مرة اخرى وقال : ( بعدين معك ولاك ) حينها كنت قد رجعت من هروبي الكبير ، حينها رجعت لي ذاكرتي ، فسميت له اسمي وعنواني ، فطلب مني أن أبصم على أوراق كانت أمامه ، فمددت يدي اليمين قفال لي : ( مكسورتك التانية ولاك حمار ) فاعطيته مكسورتي اليسرى ليصبغها بتلك الاصباغ ، وعندما انتهى من ذلك قال لي : ( انقلع ورا رفئاتك ) فانقلعت وراء رفاقي الى الميكرو باص ، وأخذت مكاني على مقعد في تللك العربة ، وكان كل رفاقي جالسون ، رفاقي العشرون ، العشرة الاسرى ، والعشرة المساجين .
يتبع ..

محمد نعناع الاسير 01-11-2018 03:43 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 18

في بلاد التيه :
صعد السائق وادار المحرك ونظر الينا نحن العشرون نظرة تتطاير شررا ، وقال : ( ايدك على راسك .. وراسك لتحت ولاك ) يالله .. يالله ، هل نحن مازلنا في المعتقل ، فهذة الكلمة لم انساها بعد ، فقد سمعتها من الاسرائيليين كثيرا ، فقد كنا نجلس هذه الجلسة ساعات طوال ، وان هذه الاهانة التي كان الاسرائيليين يوجهونها لنا ، كنا قد حاربناهم عليها وسقط منا قتلى وجرحى ، حتى أننا لم نعد نلبي أوامر الاسرائيليين .
وها أنا في بلادي ، اسمع هذا السائق يصرخ علينا مرة اخرى ، ويكرر نفس الكلمات ( ايدك على راسك ، وراسك لتحت ) يالله ، ماهذا التشابه بين اسرائيل وهذا السائق ..!! لا، بل إن هذا السائق أقسى ، هل يعرفنا هذا السائق ام أنه يلفظ هذه الكلمات لكل مساجينه ..؟! هل يعرف بأننا اسرى ولا علاقة لنا بالمساجين الآخرين .. ؟!
لقد نفذنا أوامر ذلك السائق على مضض ( ايدنا على راسنا وراسنا لتحت ) .

يارباه .. مااتعس الاوطان التي تأمر أبناءها بطئطئة رؤوسهم ، وما أضعف الاوطان التي تهين ابناءها .
ان الامم الاخرى يزداد ارتفاعها في السماء ،
والامم العربية تزداد هبوطا الى ماتحت الارض .
إن الانسان المهان في وطنه ، ليس وطنه ، ولن يستطيع أن يدافع عنه .
فهل يعلم الحكام بما يجري لمواطنيهم ام انهم لايعلموا ، واذا كانوا يعلمون فتلك مصيبة ، واذا كانوا لا يعلمون ، وهنا الطامة الكبرى ، فالمصيبة اعظم ، وفي كلتا الحالتين لا تأهلهم بأن يكونوا حكاما .

زجرنا ذلك السائق ، بكلمات يعجز اللسان عن قولها ، بما فيها من شتائم وسباب ، وبعد أن تأكد بأننا نفذنا أوامره ، ترجل من العربة وذهب لبعض شؤونه ، وكان محرك العربة دائرا ، ولم يبقى فيها الا نحن المساجين .
مرت علينا لحظات كأنها دهور ، ان الثواني كانت تمر ببطئ شديد ، ونحن مطئطئي الرؤوس ، فالى أين سنذهب هذه المرة ، وكيف ستكون الرحلة الجديدة ، لانعرف .. لانعرف .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 03-11-2018 01:35 AM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 19
في هذه الاثناء صعد شخص فضولي ( ضابط فلسطيني ..؟! ) بلباسه المدني الى العربة وكان مهذبا جدا ، كان قد رأى بأن العشرون سجينا ( مطئطئ الرؤوس ) فشده فضوله بأن يسأل احد رفاقي الجالسين بأول العربة قائلا له : ( رفاع راسك ، شو تهمتك انتا ) رفع رفيقي رأسه وكان فلسطينيا وقال بتحدي : انني مجرم ، فرد عليه الضابط قائلا : وماهي جريمتك ، فأجابه رفيقي : قتلت وجرحت بعض الاسرائيليين في الحرب ، وهذه هي جريمتي ، فصرخ الضابط قائلا : تكلم ماذا فعلت ..؟! إن الضابط كان يظن أن رفيقي يستهزء ويسخر منه ، فقال رفيقي ، للضابط : ( أنا ع بحكي معك جد ) فأنا حاربت الاسرائيليين في جنوب لبنان ، واسروني سبعة عشر شهرا ، وأطلقوا سراحي صباح الامس ، عن طريق الصليب الاحمر الدولي ، واستلمتني الحكومة السورية ، وها أنا ورفاقي العشرة بين يديك ..
صرخ الضابط بصوت قوي ، كأن عقربا قد لسعه ، موجها كلامه للعشرون شخص ، الذين امامه قائلا : ارفعوا رؤوسكم ، انتم يجب أن ترفعوا رؤوسكم امام العالم أجمع ( مو توطوها ) ونحن نزداد شرفا بكم وكرامة ، وانتم .. وانتم .. وذهب الى تلك الشعارات البراقة التي تزدان بها شوارعنا العربية .
هذه الكلمات التي سمعناها من ذلك الضابط ، كانت بردا وسلاما على نفوسنا ، وقد أزاحت بعض الغم والكرب ، الذي نحن فيه ، واستعدنا فيها بعض المعنويات النفسية لبعض الوقت .
كان الاستغراب بادياً على وجه ذلك الضابط لهذه المعاملة السيئة ، فودعنا وانصرف الى حال سبيله .
كانت الفرحة عارمة عند سماعنا كلام ذلك الضابط ، فأشرقت وجوهنا وتفائلنا بالخير ، ولكن ، نعرف أن اللحظات السعيدة هي قصيرة وقليلة .
ذهب الخير ، وجاء الشر ، ذهبت الملائكة ، وجاءت الشياطين ، ذهب الضابط ، وجاء السائق ، صعد الى وراء مقوده ، ولم يكد يرانا رافعي الرؤوس ، حتى صرخ وهو ينعتنا ( يا .. ويا ... انتوا ما بتفهموا ... مو قلتلكن نزلوا روسكن ) فنفذنا أوامر السائق بأسرع مما كنا ننفذ أوامر الاسرائيليين .
وهنا صعد شخصين يلبسان الثياب المدنية ، كمرافقين للرحلة المجهولة ، التي سوف نقوم بها ، ودارت عجلات العربة وبدأت بالتحرك الى ام المحطات .
يتبع ..

محمد نعناع الاسير 03-11-2018 07:34 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 20

ام المحطات
فرع فلسطين
المحطة الاولى 1
كانت العربة ( الميكروباص ) تسير في شوارع عاصمتنا الغالية على قلوبنا ، ونحن ممنوعا علينا أن نرفع رؤوسنا عاليا فياللسخرية الموقف ، نحن في دمشق مطئطئي الرؤوس ، نحن في مدينة يقال عنها عرين العرب ، فبئس تلك التسمية ، وبئس تلك الشعارات المرفوعة ، التي في ظلها ، يهان الانسان ، ويجرد من كرامته وانسانيته ..وآه دمشق .
اخيرا ، انتهت الرحلة الى ساحة من ساحات أحد أفرع الامن في دمشق ، ترجل العشرون سجينا من العربة ، وكان بانتظارنا بجانب العربة بعض عناصر الفرع ، يهينون هذا ويدغدغون ذاك ، وبعد الوجبة الغذائية من الركل والاهانات ، جاء أحد عناصر الفرع ، وبيده ورقة ، فيها أسمائنا نحن الاسرى العشرة ، وطلب منا أن نلحق به ، فمشينا وراءه ، حتى دخلنا الى مبنى ، يدل من هيئته على أنه مبنى الكبار من الضباط والمسؤولين .
وصلنا الى الطبقة الاولى من المبنى ، وكان هناك ممرا طويلا وعريضا ، وأبواب متباعدة على الجانبين ، وكانت أرضية الممر نظيفة جدا ، أنظف من ثيابنا ، التي اتسخت بعد دخولنا الى قلب الوطن ، وكان هناك أمام كل باب حاوية للمهملات ، وكان الهدوء مخيما في هذه الطبقة ، وقلما تسمع الاصوات هنا أو هناك ، وقلما ترى شخصا يمر في هذا الممر .
وصلنا الى أحد هذه الابواب ، بمرافقة أحد العناصر ، الذي طلب منا ، أن ننتظر في الممر ، حتى ينادي على اسم كل اسير بمفرده ، دخل الاسير الاول والثاني والثالث ، ودخلت أنا الى الغرفة كما دخلها رفاقي . كانت الغرفة عبارة عن مستودع للآمانات ، وكان هناك شخصا واحدا في الغرفة ، يسألنا عن الاسم والعنوان ، ويطلب منا أن نفرغ جيوبنا ، من أي شيئ تحويه من مال وأوراق ، ويضعها في أحد الأكياس الموجودة أمامه ، لقد أخذوا كل شيئ ، حتى أربطة الأحذية ، عندها عرفت من خلال أخذهم لحاجياتنا ، ووضعها في مستودع الأمانات ، بأن اقامتنا عندهم ستطول ، الى أن يشاء الله ، ويأتي الفرج ، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، ويتبادر الى ذهن كل انسان ، لماذا نسجن .؟!
ولا جواب يشفي غليلي ، أو يشفي غليل من يتساءل .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 05-11-2018 07:11 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 21
ان عملية دخول الاسرى العشرة ، الى غرفة الأمانات ، أخذت وقتا طويلا ، وأما خارج الغرفة ، في ذلك الممر الطويل ، كنا قد تعبنا من طيلة الوقوف ، فجلسنا على بلاط الممر ننتظر قدرنا .
كان يمر في بعض الاحيان ، أحد عناصر الفرع ، ونحن جالسون في الممر ، على الارض ، فيزجرنا ، ويأمرنا بالوقوف ، ويتمتم ببعض الشتائم ، التي باتت معروفة لدينا ، ويذهب في حال سبيله ، فنعود للجلوس مرة اخرى ، وقد تكررت العملية أكثر من مرة ، في هذه المحطة .
في هذا الممر ، حصلت أشياء كثيرة ، تناقض بعضها البعض ، أشياء تضحك الانسان وتبكيه في آن واحد ، انها ساعة التناقضات ، فهناك المشاهد الكوميدية والتراجيدية في نفس الوقت ، هناك موقف تحس فيه بأنك انسان ، وموقف أخر ، تحس فيه بأنك أقل من الحيوان ، فيأتي عنصر يحفر الارض تحت قدميك ، كي يسقطك فيها ، من خلال الشتائم والزجر ، بكلمات نابيه ، وبعد ذلك يرفعك الى السماء ، عندما يعرف بأنك لست مجرما ، إنما اسير حرب لدى اسرائيل .
كما أسلفت بالذكر ، بأننا نحن الاسرى العشرة كان لباسنا موحدا ، كان بني اللون ، ولكن من كثرة الجلوس والنوم على الارض ، هنا وهناك ، أصبحت متسخة ومبقعة ، فهنا بقعة سوداء تحكي عن سواد قلبهم ، وهنا بقعة مختلفة الألوان تحكي عن مآساتنا التي نمر بها ، وأما أجسادنا ، فالوجه واليدين تخطهم علامات سوداء من الاوساخ ، هكذا كان منظرنا في ذلك اليوم ، وكان التاريخ يشهد بؤسنا ، ويشهد على بربريتهم ، وكان هذا اليوم هو يوم الجمعة ، من آواخر شهر كانون الاول من عام 1983 .
يتبع ..

محمد نعناع الاسير 06-11-2018 03:34 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
.

الحلقة 22
فرع فلسطين
بينما كنا نعيش في هذا الحال من التناقضات ، جاءنا بطل من الأبطال ، جاءنا زكي الأذكياء ، جاء مخبر المخبرين ، جاء حامي الوطن ومفديه ، ان كل هذا الوصف لعنصر من عناصر الفرع الذي جاء يعلمنا نحن الاسرى حب الوطن ، وكيفية حماية الوطن ، وكأنه لايعرف بأن حب الوطن وحمايته ، ليست بالأقوال وانما بالأفعال .
جاء ذلك المغوار مثله مثل غيره من رفاقه ، لكنه كان فضوليا أكثر منهم ، فشتمنا كسابقيه وهو يمر مسرعا ،الا ان نظراته الثاقبة الى لباسنا الموحد جعله يتوقف ، ويسأل عن جريمتنا الكبيرة التي اقترفناها ، فهل نقول له أم لا .. ؟ لقد مللنا من هذا السؤال ، ومللنا من الجواب عليه ، فهناك العشرات من الذين سئلوننا ، وبعد أن يعرفوا حقيقتنا ، يسألوننا عن المعتقل : كيف كان اليهود يعاملوكم ..؟ هل معاملتهم قاسية ..؟ هل عذبوكم .. ؟ هل ضربوكم ..؟ ويقول آخر ( حكولي اش جرى في معتقل انصار ) ..؟
نعم ، لقد مللنا من الاسئلة والاجوبة ، ولكن مالعمل ..؟ فنحن مضطرون لأن نقول لهم بأننا كنا اسرى ، كي لانهان ، فلقد أصبحت كلمة ( اسير حرب ) سلاحا ندافع به عن أنفسنا .
ان بطل الابطال ، ذكي الاذكياء ، عنصر الامن الفضولي هذا ، مازال ينتظر الجواب ، وهو يشير ويستغرب لوجود عشرة أشخاص أمامه بلباس موحد ، فقلت له : بأننا لسنا مجرمون بنظر أنفسنا على الاقل ، قال : ماهي التهمة ..؟ قلت : لايوجد أي تهمة ، قال : لماذا أنتم موجودون هنا ..؟ قلت : لاأعرف ، قال : انك تتكلم بالالغاز ، وأضاف على كل حال ، لايوجد شخص يأتي الى هنا دون أي تهمه ، قلت له : اذا قلت لك ماذا جنينا فهل تفسر سبب وجودنا هنا ..؟ قال : نعم ، قلت له : اننا اسرى حرب وقصصت عليه مقتطفات من حكايتنا وبعد ذلك قلت له : اعطني سببا واحدا اقتنع فيه لسبب وجودنا هنا ، قال : لاأعرف .

يتبع

محمد نعناع الاسير 07-11-2018 08:56 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
.
الحلقة 23

هنا ، كان قد سمح لنا ( اخينا بالله ) بالجلوس على الارض ، وجلس هو القرفصاء بجانبي ، وفششت غلي بلفافة التبغ ، التي اشعلتها بعود الثقاب المصنع اسرائيليا ، فانتبه ذكي الاذكياء للتبغ الذي ادخنه ، فقال : مانوع التبغ الذي تدخنه ، قلت له : انه ( سيلون ) من صنع اسرائيل ، قال : آرني اياه ، فأخذ العلبة يتفحصها ، وبعد تمعن دقيق في علبة التبغ ، قال : هل يملك الجميع مثل هذا التبغ ، قلت : نعم ، فاليهود عندما اطلقوا سراحنا صباح الأمس ، أعطوا كل اسير اربعة علب من التبغ هديه منهم ، وأنا لم يتبقى معي سوى هذه العلبة ، فمنذ صباح الامس ، الى ظهر هذا اليوم ، كنت قد دخنت ثلاثة علب ونصف ، قال موجها كلامه لجميع الاسرى : (كل واحد عندو دخان يطالعوا ) ، فجمع علب التبغ وخطى الى حاوية المهملات ، وبدأ (يدهس ويعفس ) علب التبغ ويرميهم في الحاوية ، ونحن ننظر اليه باستغراب ، متسائلين : لماذا يفعل ذلك ..؟ فعاد الينا وقال : ( بتعرفوا ليش كسرت الدخان) ونظرنا الى بعضنا البعض ، فأضاف قائلا : ( شغلة طبيعية هلأ بدنا نترككم تروحوا على بيوتكن ، وعلب الدخان اللي معكن بدا تفضا ، وقشرة الدخان بدكم ترموها في الشارع ، ولما بيعدي واحد من رجال الامن ويشوف هالقشرة الغريبة ، ولما بيشيلها وبيقراها ، بيعرف انوا هالقشرة اسرائيلية) عندها سينشغل جميع أفرع الامن بهذه القشرة ، ويريدون أن يعرفوا من أين أتت هذه القشرة ، وانهم سوف يقولون بأن هناك في هذه المنطقة جاسوسا اسرائيليا ، وأنا باعتباري رجل أمن ، وحريص على أمن بلادي ، قمت بهذا الواجب ، لكي لا تشغلنا هذه القشرة ، واضاف قائلا : على كل حال ان التبغ الاسرائيلي ليس صحيا ، وسوف نجلب لكم الدخان الوطني .

يتبع ..

محمد نعناع الاسير 08-11-2018 07:10 PM

رد: مذكرات اسير سوري لدى اسرائيل في سجن الوطن
 
الحلقة 24
الله .. الله .. ماهذا التقدم السريع في مخابراتنا ، حتى قشرة الدخان تشغلهم ..!
فقدحت ذهني قليلا عن هذا البطل الغيور على وطنه ، من اجل قشرة دخان ، كيف جاءنا مزمجرا مهددا في بداية الامر ، لايعرف بأننا اسرى ، وهو رجل مخابرات ، كيف قال لنا بأنهم سوف يتركوننا نذهب الى بيوتنا ، وهو لايعرف سبب وجودنا عندهم ، وكيف لهذا الجاسوس المفترض أن يعلن عن وجوده بقشرة دخان ، فما هذا الذكاء الخارق لدى مخابراتنا ، وماأغبى جواسيس العدو ، ان رجال مخابراتنا مستوردون من كوكبا آخر ، لايوجد مثلهم على وجه الارض ، فهم من الاذكياء ، ويفقهون كل شيئ ، حتى انهم يعرفون سبب وجودنا في الحياة ، ونحن من الاغبياء لانفقه أي شيئ .
ان هذا الرجل المخابرتي ، قد أنار لنا طريقنا بقشرة الدخان هذه ، وبما أني أحب وطني ، فأريد أن أبلغ رجال المخابرات ، عن بعض الجواسيس في بلادي ، فيا رجال المخابرات : اقبضوا على اغلبية الشعب ، فانهم جواسيس ، ويخربون البلاد بفسادهم ورشاويهم ، وينهبون خيراتها ، فلا يوجد فرق بين جاسوسا اسرائيليا جاء ليخرب بلادي ، وبين هذا المرتشي والفاسد الذي يخرب بلادي .
اخيرا.. انتهت وقفتنا في محطة الانتظار بتسليم جميع الأمانات ، وطلب منا أن نلحق أحد عناصر الامن ، ليدلنا على المحطة القادمة .
نزلنا الى ما تحت أحد المباني ، فلم أعرف لأي طبقة من طبقات تحت الارض قد وصلنا ، لقد أصبحنا من سكان تحت الارض ، ادخلونا الى غرفة فارغة واغلقوا الباب علينا ، فجلسنا على بلاط الغرفة ، ملتصقين بجانب بعضنا البعض ، لكي ندفئ أنفسنا من برد الشتاء ، وبعد ساعة من الزمن تقريبا ، فتح الباب وأطل شخص بيده أوراق وأقلام ، وزعهم على الجميع ، وطلب منا أن نملي هذه الاوراق ، بنشرة معلومات عن سيرتنا الشخصية ، ففعلنا ذلك ، وأمرنا بالخروج من هذه الغرفة الى ممر طويل ، حيث وقفنا أمام عدسة تصوير ، لتكون الصور ذكرى لهم ، يتذكروننا بها ، وبعد ذلك واصلنا المسير ، في ذلك الممر الطويل ، الذي كنا نسمع فيه بعض الصراخ والعويل من هنا وهناك ، الى أن وصلنا الى محطة المحطات ، ففتح احدهم باب احد المهاجع أمامنا ، وقال لنا : ادخلوا ، فدخلنا .
يتبع ..


الساعة الآن 12:29 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط