مشاهدة النسخة كاملة : ماذا عن الدعارة اللغوية في الإعلام


حسن محمد
09-08-2005, 05:49 AM
حين تتحدث محطات التلفزة العربية عن (حائط المبكى)، فحديثها هذا ليس نوعاً من الغفلة فقط، كما أنه ليس لوناً من الخداع فحسب، بل إنه اغتيال للغة العربية، اغتيال بالخنجر العربي وباليد العربية، ويوم تموت اللغة العربية فلن تقام عليها ولا على غيرها صلاة الجنازة؛ لأن الصلاة لا تجوز إلا بالعربية.
إننا نمارس طقوس اغتيال اللغة العربية بوعي أحياناً، ودون وعي غالباً، حتى أصبحت لغتنا مثل دماء أبنائنا رخيصة، وأضحت لغتنا مثل عملاتنا النقدية لا نعرف لها قيمة إلا مقارنة بالدولار. اللغة العربية مثلها مثل المواطن العربي: هوان في هوان، فقبل أن نرى الدم العربي مسفوحاً في ديار العروبة كانت اللغة العربية قد سبقت إلى غرفة العناية الفائقة تعاني سكرات الموت.
الشهادة منزلة عظيمة حين ينالها الشهيد؛ لأنه بها يصبح رفيقاً للنبيين والصديقين، أما استشهاد اللغة فإنه لا يعني سوى عار الدهر، استشهاد (محمد الدرة) منحه الخلود، أما موت اللغة فإنه (فناء الخلود) إذا صح في العقول مثل هذا التركيب اللغوي الممسوخ، وأرجو ألا يتعجب القارئ من عبارة (فناء الخلود)، هي طبعاً لا تنتمي إلى اللغة العربية، لكنها تتبع إحدى الفصائل اللغوية التي تستعملها إذاعة صوت أمريكا التي قالت نشرتها المسائية " الجنود الإسرائيليون يطلقون النار على صبي فلسطيني فأردوه قتيلاً، هذا وقد أعلنت إسرائيل أنها ستواصل جهودها لتنفيذ وقف إطلاق النار" 20/6/2001.
والدم العربي المسفوح على أرض العروبة قد سفحنا قبله دماء لغتنا العربية، وتركناها تنزف، حتى بات نقل الدم إليها ضرورة جراحية، للإبقاء على حياتها، لكن الأطباء أجمعوا على أن فصيلة دمها لا تناسبها أية فصيلة أخرى، فاللغة التي لا تعرف عبارة (الأراضي المحتلة) لا تقبل عبارة (الأراضي المتنازع عليها)، واللغة التي يعرف أهلها (حائط البراق) لا يمكن أن تعلمهم أن اسمه صار (حائط المبكى)، فمهما حاولوا أن ينقلوا إليها دماء غريبة رفضتها وآثرت الموت على الحياة المشوهة، لأن اللغة العربية هي التي صاغت قول العرب " تموت الحرة ولا تأكل بثدييها".
في هدوء الأفاعي وصمت القبور، تحولت (أم الرشراش) العربية إلى (إيلات)، ولا ولوم على الآخرين عندما يسمونها إيلات، لكن اللوم على المؤلف العربي والممثلين العرب ومنتج الفيلم العربي (الطريق إلى إيلات)، هكذا ولا شيء بين قوسين اسمه (أم الرشراش) وليت اغتصاب اللغة توقف عند حدود الأعمال السينمائية، لكنه عبر الحدود إلى (المستعمرات) التي أصبحنا نحن أنفسنا نسميها (مستوطنات).
مشاهد (القتل) أمسينا نسميها (أعمال العنف)، أما قذف القرى بمقاتلات إف 16 فهذا نسميه (الإفراط في استخدام القوة) وعندما تنطلق قذائف الرشاشات الآلية السريعة (أمريكية الصنع) إلى صدور حاملي الحجارة، فذلك نسميه (المبالغة في رد الفعل) ثم شطبنا من القاموس قضية فلسطين، وكتبنا (النزاع في الشرق الأوسط) وأصابنا الخجل من كلمة (انتفاضة) وتجرأنا وسميناها (اضطرابات).
اللغة وسيلة للتواصل، وهي بالقدر نفسه وسيلة لإساءة التواصل، ولإساءة الفهم، ينشأ سوء التواصل عن قصور في قدرات مستخدم اللغة، أو ينشاً نتيجة مشكلات تتعلق بطبيعة اللغة وبتراكيبها وألفاظها ومجازاتها.
ما يتناوله هذا المقال هو سوء التواصل المتعمد المقصود المخطط له، وهذا ما أعنيه بالخداع، وهو عرقلة عمل العقل، وهو التلاعب بأفكار الآخرين والتأثير السلبي فيها، توخياً لإحداث آثار قد خطط لها سلفاً، وما وسائل الدعاية المغرضة في معظمها إلا تطبيقات لعملية الخداع باللغة، تستوي في ذلك الدعاية التجارية أو السياسية أو الأيديولوجية.
أود هنا أن أميز بين الخداع باللغة وبين إساءة التعبير، وأهم ما يميز بينهما أن صاحب الأول عامد إلى ما يصنع، واع له مدرك لأغراضه، وأما الآخر فربما رجع عن صنيعه إذا نبه، سارق السفينة يسمونه (قرصاناً)، أما من يسرق شعباً بأسره يسمونه (إمبراطوراً)، وتصبح الفوضى حرية،ويصبح الفدائي إرهابياً، وتصبح المقاومة أعمال عنف، ويصبح إطلاق النار من الدبابات وطائرات الأباتشي إفراطاً في استخدام القوة، ويصبح الوطن المغتصب أرضاً متنازعاً عليها.
الإعلام المسيطر يلح علينا على مدار الساعة بمصطلح "عملية السلام" إنه مصطلح رائع من وجهة نظر من صاغه، فمن يمكن أن يكون عدواً للسلام؟.
وعندما تقذف إسرائيل بالقنابل القرى القريبة من بعلبك، وتقع خمسمائة إصابة معظمها لمدنيين بينهم مائة وخمسون طفلاً، كما حدث في أوائل عام 1984 أو عندما تخطف سفناً في المياه الدولية وتخطف المسافرين عليها كذلك فإن هذا ليس إرهاباً بل ثأرا، وربما كان عملاً وقائياً مشروعاً، كما أن الإعلام لا يعلق عليه ولا يوجه إليه اللوم.
ومن الخداع باللغة أن الشخص يجد أمامه أزواجاً من الاختيارات يجد نفسه مضطراً إلى أن يستعمل بعضها دون بعض، خذ مثلاً:
(الخليج العربي، الخليج الفارسي)، (عيد الاستقلال، ذكرى النكبة)، (خليج العقبة، خليج إيلات)، (الفدائيون، الإرهابيون)، (القائد المظفر، مجرم الحرب).
إن المهزومين فقط هم مجرمو الحرب، لم نسمع قط عن منتصر يوصف بأنه مجرم حرب.
ومن الخداع باللغة لبس الحق بالباطل وخلط الصواب عمداً بالخطأ، لكي يقع القارئ في الحيرة، فلا يقدر على اتخاذ القرار المناسب، ولا يعرف للمسألة رأساً من ذنب.
ويصل الخداع اللغوي إلى حد الدعارة اللغوية، عندما تصفع أذنيك من صدر نشرة الأخبار عبارات تقول " الجنود الإسرائيليون يطلقون النار على صبي فلسطيني، فأردوه قتيلاً، وقد أعلنت إسرائيل أنها ستواصل جهودها لتنفيذ وقف إطلاق النار" جاءت هذه الكلمات متتابعة بلا فاصل.
أما أشهر عبارة أوردتها الأسوشيتيدبرس فكانت "لقى طفل مصرعه في تبادل لإطلاق النار" والمطلوب منك أن تعطي عقلك إجازة مؤبدة، فلا تسأل عن قاتل ولا عن سلاح، وعن نوع الرصاص أو مصدره، هل ما زلت تذكر هذا الذي لقي مصرعه؟ أرجو ألا تنسى (محمد الدرة) يلخص (روبرت فيسك) من صحيفة الإنتدبندنت المحاولات الدولية لإخضاع اللغة للقواعد الإسرائيلية بقوله:
" إننا كصحفيين يجب أن نقول إن إسرائيل هي التي تحت الحصار الفلسطيني، لا أن نقول إن إسرائيل هي التي تحتل أراضي الفلسطينيين، وعلينا أن نقول إن الفلسطينيين هم المسؤولون عن العنف، وعلينا أن نقول إن الفلسطينيين يقومون برمي أطفالهم ليموتوا".
ولأن روبرت فيسك يفضح خداع الإعلام المتواطئ، فإن السفير الإسرائيلي في إيرلندا أوصى بعدم قراءة ما يكتبه فيسك، ولأن فيسك يرفض الدعارة بالكلمات، فإن صحيفة صهيونية في أستراليا منحته لقب (الكاتب الوضيع).
والخداع مثلما يكون بالكلام يكون أيضاً بالسكوت، فأنت قد تتمكن بقليل من المشقة أن تحلل الكلام، لكن تحليل السكوت أشق وأدق وأمرّ.

يسرى علي
26-08-2005, 03:35 PM
أخي الكريم حسن محمد

مقال أكثر من رائع في موضوعه وقوة طرحه

ونعم ربما هنالك من يأخذ العبارة على علاتها دون تمحيص، ولكن هنالك أيضاً من يتعمد أن تكون عليلة لتتناسب مع هوى نفسهِ المريضة وضعف عزيمته.

مميزة منك هذه الاشارة

بارك الله فيك وجزاك كل خير

حسن محمد
27-08-2005, 01:56 AM
كل التحية والاحترام والتقدير اختي يسرى على مرورك الطيب


ورايك الذي يثري الموضوع ويضيف اليه قدرا من التمعن والحقيقة


لكي خالص الشكر والاحترام

فاطمـة أحمـد
27-08-2005, 02:12 AM
صدقت أخي حسن

تكلمت بلساننا جميعاً

وهذه المغالطات اللغويه مقصوده طبعاً ووراءها من وراءها ونحن نمارس أضعف الايمان

تحياتي واحترامي لك يتجدد

حسن محمد
27-08-2005, 12:28 PM
والخداع مثلما يكون بالكلام يكون أيضاً بالسكوت، فأنت قد تتمكن بقليل من المشقة أن تحلل الكلام، لكن تحليل السكوت أشق وأدق وأمرّ.



كل التحية والاحترام والتقدير اختي تحرير

زمان الصمت شارف على الانتهاء

لن نموت بعد اليوم بصمت ولن نسكت عن حقنا المسلوب

وعلى راي الشاعر (( مدام لموت احمل السيف الي بتحبة ))



ولن يكون سيفنا الصمت ابدا



لكي كل التحية والاحترام اختي تحرير

مرام شهاب
13-03-2011, 12:00 AM
جزاك الله خيرا على طرح هذا الموضوع عندما


بادرت الى تغير المفاهيم وتصحيح الأخطاء في البدايات اصيب البعض بذهول