مشاهدة النسخة كاملة : اللبراليون الجدد (فيصل القاسم)


علي العُمَري
10-01-2006, 06:32 AM
"الليبراليون العرب الجدد"



فيصل القاسم



لا بد أن اعترف أولاً أن الليبراليين العرب أنواع ومن الإجحاف الشديد وضعهم جميعاً في سلة واحدة. فمنهم من هو وطني حتى النخاع وليس مفتوناً بالحضارة والمفاهيم الغربية إلى حد الهوس، ويؤمن بالعلاج والحلول الوطنية الداخلية للمشاكل والأمراض السياسية والاقتصادية والثقافية العربية، ويضع ألف إشارة استفهام حول المشاريع والمخططات الأمريكية التي تستهدف المنطقة بحجة إصلاحها ودمقرطتها، لا بل يتخذ مواقف عدائية من أمريكا وتوجهاتها، ويرفض أي إصلاحات خارجية أو التعاون مع من يدّعون تقديمها للدول العربية، ويتعهد بأن يكون على رأس المتصدين لأي قوة غربية تعتدي على بلد عربي، وأحياناً تراه يخوّن كل من تسول له نفسه التعاون مع القوى الخارجية بحجة تحقيق الديمقراطية في البلاد العربية وتخليصها من الحكام المستبدين. وقد رأينا كتابات لهذا الطراز من الليبراليين تهاجم بعنف مدّعي الليبرالية من المعارضين السوريين في أمريكا و"الليبراليين العراقيين" (وهم الأسوأ عربياً) الذين هللوا للدبابات الأمريكية ووصفوا دوي القصف الأمريكي لبغداد بأنه كان أجمل من سيمفونيات بيتهوفن. (يا لدماثة ابن العلقمي وحنيته)! فقد رد "المتلبرلون العراقيون" على فاشية صدام حسين بفاشية معاكسة أكثر بشاعة وسموها زوراً وبهتاناً "ليبرالية جديدة".



وبالإضافة إلى تصديهم لمدّعي الليبرالية من "العراقيين الجدد" وغيرهم يتميز النوع الأول من الليبراليين العرب أيضاً بتأييدهم ودعمهم للمقاومة بأشكالها كافة حتى لو اختلفوا معها إيديولوجياً، فاختلافهم مع حزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين في التوجه لا يفسد للود قضية بين الطرفين، فبالرغم من أنهم قد يكونون على طرفي نقيض مع حركات المقاومة عقائدياً إلا أنهم يباركون أفعالها على أساس أنها تؤدي دوراً وطنياً جديراً بالاحترام والتقدير. وهذا يعني بالضرورة أنهم منخرطون في معارك التحرير وضد أي تطبيع مع إسرائيل. لكن ذلك الصنف من الليبراليين يناضل باستماتة في الوقت نفسه لتحرير الدول العربية من ربقة الديكتاتورية والاستبداد القبيحين ويكافح من أجل احترام حقوق الإنسان حتى لو دخل السجون بسبب ذلك.



ويمكن أن نصف هذا النوع من الليبراليين العرب بالليبرالي الوطني. لكنهم قلة قليلة وصوتهم منخفض قليلاً إذا ما قورن بجعجعة الليبراليين العرب "المتأمركين" الذين يدبكون على إيقاعات اليانكي بميوعة صارخة ويملئون مواقع الانترنت وبعض الصحف "الليبرالية" ضجيجاً "ليبرالياً" فاقعاً والذين كفروا بكل ما هو عربي وطني وإسلامي. لا بل إن الصنف المتأمرك لا يتردد أحياناً في وضع نظرائهم الليبراليين الوطنيين في خانة " القومجيين والإسلاميين" فقط لأنهم وطنيون يرفضون الارتماء في أحضان الأجنبي. وأعتقد أننا بأمس الحاجة لهذا النوع من التحرريين العرب الذي يجمع بين النضال من أجل الديمقراطية والوطنية والحفاظ على الثوابت والمصالح والحقوق العربية.



في المقابل هناك الصنف الليبرالي الأعلى صوتاً والأكثر بروزاً وفجاجة واهتزازاً. كيف لا وقد انتقل بعض منتسبيه من الماركسية إلى الليبرالية أو من الفدائية إلى التروتسكية إلى الديموقراطية بخفة عجيبة، لكنه المسيطر، فهو صاحب حظوة واضحة في الصحافة الالكترونية والصحف والمجلات ووسائل الإعلام العربية التي تدعمها أمريكا وتدّعي الليبرالية. وأؤكد على كلمة "تدّعي" ، فالليبرالية بمعناها الأصلي بريئة من هذا الطراز من الليبراليين العرب براءة الذئب من دم يوسف، فالليبرالية حسب تعريفها الغربي تعني أن يكون لدى المرء آراء ووجهات نظر تدعو إلى التقدم والإصلاح وتشجيع الحريات الشخصية ونشر قيم التسامح والتحرر. وهذه صفات قد تكون معدومة إلى حد كبير لدى العديد من أنصار الليبراليين العرب "الجدد".



فالجديد ليس بالضرورة جيداً دائماً وقد يكون غاية في القبح والبشاعة والانحطاط والعفونة. ولنا في "المحافظين الجدد" في أمريكا مثال صارخ. فقد ارتبط اسمهم بكل ما هو أمريكي سيء، فهم المخططون لغزو العراق واستعمار البلاد المغلوبة على أمرها وإثارة النعرات الدينية والاعتداء على الدول الأخرى وتحويل أمريكا إلى ديكتاتورية والاستهتار بالقيم والقوانين والأعراف الدولية والتعصب الأيديولوجي واحتقار الشعوب والديمقراطية. كل ذلك وأكثر من "خصال" المحافظين الجدد، ولا أدري ما الجدة والتطور في هذه التصرفات القروسطية المتخلفة التي تذكرنا بانحطاط ووحشية وعفونة القرون الغابرة السوداء.



وعلى ما يبدو أن الليبراليين العرب "الجدد" ،الذين غالباً ما تمتدحهم الأوساط الصهيونية، قد وجدوا ضالتهم المفقودة في محافظي أمريكا "الجدد"، فهناك تماثل عجيب بين الطرفين من حيث إلباس القيم الجميلة كالليبرالية والمحافظة السياسية ثوباً "جديداً"ً بشعاً. ويكاد أن يكون الطرفان في وئام تام، فكما أن "المحافظين الجدد" يستهدفون الإسلام من خلال مخططات شيطانية ترمي إلى ضربه في الصميم وتفصيله على مقاساتهم الفكرية الخبيثة كما أظهرت إحدى وثائق معهد راند للدراسات والبحوث التابع لهم، فإن "الليبراليين العرب الجدد" لا هم لهم هذه الأيام إلا النيل من الثقافة والدين الإسلامي ورموزه بشتى الطرق وتصويرهم على أنهم مصدر كل الشرور والتخلف والانحطاط.



يكاد لا يخلو مقال لأنصار ذلك التيار من السهام المسمومة الموجهة بدقة ضد كل المظاهر الإسلامية إلى حد أن أحد "منظرّي" الليبرالية العربية الجديدة وصف المحجبات في شوارع القاهرة بازدراء سافر على أنهن "خيم متنقلة". فهناك كم هائل من الحقد على كل ما هو إسلامي في خطاب هؤلاء. ولم يتردد "ليبرالي" عربي "جديد" آخر في وصف الشيخ الراحل أحمد ياسين مؤسس حركة حماس بأنه "شيخ إرهابي محنط يقود المنطقة كلّها إلى هاوية لا أحد يعرف قرارها". ولا داعي لذكر مئات المقالات والكتب التي لا هم لها سوى ضرب الإسلام والتشنيع به.



ولا يسلم الفكر القومي العربي بدوره من سهام "الليبراليين الجدد"، فهو برأيهم فكر شوفيني متخلف يجب وأده البارحة قبل اليوم. (لاحظوا التركيز على استهداف الثوابت العربية والإسلامية). وأنا على يقين أنني سأواجه هجوماً عنيفاً من كتبة ذلك التيار لمجرد أنني تفوهت بكلمة "ثوابت"، فهذه كلمة وسخة ورديئة من وجهة نظرهم ولا وجود لها في ثقافتنا العربية والإسلامية. وأكثر ما يزعج ويقض مضاجع "الليبراليين الجدد" ذكر كلمة "أمة" عربية أو إسلامية، فذلك تعبير قميء أيضاً لا وجود له في نظرهم مع العلم أن حبيبهم صامويل هنتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات شديد التعصب لأمته الغربية إلى حد أنه يخشى عليها من الحضارات الأخرى.



لا أدري كيف يختلف موقفهم من الإسلام والعروبة عن موقف عتاة الكتاب الصهاينة، لا بل إن بعض الأقلام "الليبرالية" العربية الجديدة يمكن أن تكون على يمين شارون وموفاز ونتنياهو في احتقارها وازدرائها للعروبة والإسلام. وهي ابعد ما تكون عن الليبرالية بمفهومها الأصلي، فالأخيرة لم تدع إلى التطاول على الإيديولوجيات الأخرى وسحقها. لا ضير طبعاً في الدعوة إلى تطويرها وترشيدها بشرط أن لا يصل الأمر إلى الدعوة إلى استئصالها كما يفعل الليبراليون العرب في كتاباتهم عن الإسلام والعروبة والأفكار الوطنية.



أما المقاومة فهي كلمة ساقطة سافلة منحطة في قاموس فطاحلنا من "الليبراليين الجدد". فكل من يمارسها ملعون مطعون إلى يوم الدين. فلم أسمع "ليبراليا جديدا"ً يقول كلمة منصفة واحدة في حق حزب الله أو حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، ولو فعلوا يكون ذلك من باب التقية.



وكم سمعتهم يكيلون الشتائم للاستشهاديين الفلسطينيين الذين لم يبق لديهم سوى أجسادهم كي يستخدموها في الدفاع عن أوطانهم وتحريرها من الغاصبين. والمقاومة العراقية بدورها ليست أكثر من أعمال تخريبية وإرهابية برأيهم يجب استئصال منفذيها بالأسيد الحارق لأنها تؤذي أسيادهم الأنغلوساكسون والفرانكوفون.



وفي مقابل احتقارهم للعروبة والإسلام والمقاومة الوطنية نجد "ليبراليينا الجدد" يموتون في "دباديب" إسرائيل والصهاينة ويهيمون شوقاً إلى تل أبيب حتى لو حاولوا إخفاء ذلك. لا عجب إذن أنهم من دعاة التطبيع والتقارب مع الإسرائيليين تحت دعاوى ساقطة لا يمكن هضمها. ولو أرادوا أن يستشهدوا بكاتب عظيم فلا يجدون أمامهم إلا أسماء عبرية وغربية كشلومو ومردخاي وعوز وشاحاك وميشيل وكأن الثقافة العربية والإسلامية خلت من أسماء العظام في الأدب والسياسة والثقافة. أي سقوط فكري أسفل من ذلك السقوط؟ أي ليبرالية هذه؟ أي إساءة لليبرالية هذه؟



والأسوأ من ذلك أنهم لا يجدون أي عيب في كل ما هو أمريكي، فهم يميلون دائماً إلى تصوير أمريكا على أنها ملا ك رحيم جاء ليخلص المنطقة من شرورها وآفاتها. ولا مانع لديهم لو اجتاحت أمريكا كل الوطن العربي كما فعلت مع العراق. لهذا نراهم يطبلون ويزمرون لكل ما يصدر عن أمريكا من مشاريع إصلاحية مزعومة غاضين الطرف عن الفظائع الأمريكية الشبيهة بالنازية في العراق وأفغانستان. فعندما تقوم جماعة إسلامية بعملية إرهابية يتأهبون فوراً لإدانتها ووصفها بأبشع وأقذع الأوصاف، لكنهم لا يرمش لهم جفن وهم يشاهدون الهمجية الأمريكية في أكثر من مكان. لا نسمع منهم أي إدانة إلا للعمليات الإسلامية.



ولعل السمة الأبرز في تشخيصهم للواقعين العربي والإسلامي أنهم دائماً يلقون باللائمة على العرب والمسلمين في كل ما يحدث لهم مبرئين العوامل الخارجية كالاستعمار وربيبته إسرائيل مما حل بالمنطقة من مآس. فعندما أصدرت الأمم المتحدة مثلاً تقريرها الشهير عام ألفين واثنين حول معدلات التمنية في العالم العربي وأظهرته في مؤخرة العالم اقتصادياً وسياسياً انبرى "الليبراليون الجدد" يجلدون العرب محملين إياهم كل المسؤولية. لكن عندما أصدرت الأمم المتحدة تقرير عام ألفين وثلاثة وأنحت فيه باللائمة على الإرث الاستعماري والعامل الصهيوني في إعاقة التنمية في المنطقة سكتوا جميعاً ولم ينبسوا ببنت شفا ربما كي لا يسيئوا لأسيادهم أصحاب الشأن.



وأكثر ما يضحكني في كتابات "الليبراليين العرب الجدد" أنها تستخف بعقولنا كما لو أنهم وحدهم فقط يفهمون بالديمقراطية. فقد صدعوا رؤوسنا وهم يدعون إلى العودة إلى الشعوب في الانتخابات والقرارات المصيرية كونها هي التي تعطي الشرعية للحكام والأنظمة، لكن ما أن تؤيد تلك الشعوب الأحزاب الإسلامية والقومية حتى ينهالوا عليها شتماً وتحقيراً، فالشعب الجزائري مثلا الذي انتخب الجبهة الإسلامية للإنقاذ شعب جاهل فقط لأنه صوت لأعداء "الليبراليين الجدد" والشعب المصري الذي يصوت للإسلاميين في الانتخابات النقابية أيضاً غير جدير بالاحترام لأنه صوت للجهة الخطأ برأيهم، والشعوب التي تعادي أمريكا غبية وغير ناضجة، وعندئذ تختفي الشرعية الشعبية من كتاباتهم وتصبح الشعوب في مصطلحاتهم عبارة عن قطعان "شعبوية" فقط لأنها لا تسير على هواهم. وبالمناسبة فإن مصطلح "شعبوي" يكثر في خطابهم إلى حد التخمة. أي نفاق أبشع من هذا النفاق "الديموقراطجي"؟ ألا تقول الديمقراطية بالأخذ برأي الأغلبية حتى لو كانت على خطاً؟ ولا نسمعهم يتحدثون عن مثالب الديمقراطية وكيف أوصلت شخصاً مثل هتلر إلى سدة الحكم إلا عندما تصوت الشعوب العربية للأحزا ب والجهات المعادية "لليبراليين العرب الجدد" عملا بمقولة مرشدهم الروحي بوش الصغير الذي قال: "من ليس معنا فهو ضدنا".



ولطالما سمعنا أشقاءنا "الليبراليين الجدد" يكيلون الشتائم لأسامة بن لادن وأتباعه لأنه غارق في التعصب والتزمت ويقسم العالم إلى فسطاطين ولا يعرف التسامح مع الآخرين. كيف يختلفون هم أنفسهم عن بن لادن وأمثاله المتعصبين المتطرفين؟ ألا يقسمون العالم إلى فساطيط حسب تجاوبه مع طروحاتهم؟ أليسوا أكثر أصولية وتعصباً؟ ألا يمكن الحديث بيسر وسهولة عن "أصولية ليبرالية مقيتة" كتلك الموجود في الجزائر حيث الهم الرئيسي "لليبراليين" استئصال الإسلاميين، فكما أن بن لادن يدعو إلى محاربة الكفار من اليهود والنصارى ويأمر بقتلهم واستئصالهم بطريقة همجية، فإن الليبراليين الجدد لا يجدون مانعاً في استئصال بن لادن أو أي أصولي إسلامي آخر بسيط. وليسوا مستعدين أن يستمعوا إلى أي رأي يطرحه أعداؤهم الأصوليون أو القوميون عملاً بمبدأ "لا حرية لأعداء الحرية" التي يفصلونها حسب مقاسهم طبعاً. ألا تحضنا الليبرالية في تعريفها المعجمي بالدرجة الأولى على التسامح مع الآراء المعارضة وتقبلها ومناقشتها بدلاً من الدعوة إلى اجتثاثها عن بكرة أبيها؟ ألم يعمل هتلر والفاشيون الآخرون على ضرب كل من يعارضهم في الرأي والعقيدة؟ كيف يختلف "ا لليبراليون العرب الجدد" عن الفاشيين الذين يوسعونهم نقداً وشتماً في كتاباتهم ؟ ألا يمكن أن يكونوا ليبراليين ووطنيين في آن واحد



وبعد هل لاحظتم هذا الالتقاء العجيب بين أفكار "المحافظين الجدد" في أمريكا و"الليبراليين الجدد" في عالمنا العربي المسكين؟ فالطرفان يُجمعان على احتقار الإسلام والشعوب العربية والديمقراطية والحق في الاختلاف ويدعوان إلى محاربة أو استئصال معارضيهم في الفكر والسياسة والدين بفاشية عز نظيرها. ويتشدقون بالليبرالية بعد كل ذلك!! يا سلام! بالله عليكم، بوجود ليبراليين من هذا الطراز هل نحتاج إلى صهاينة وفاشيين؟