مشاهدة النسخة كاملة : حوار مع مع الكاتب والناشط المناهض للعولمة الدكتور هشام البستاني .. "مهم"


مريم محمد
11-06-2007, 07:53 PM
في حوار مطول اجرته صحيفة الحياة الاسبوعية الاردنية
مع الكاتب والناشط المناهض للعولمة الدكتور هشام البستاني

البستاني: العولمة هي احدى مراحل التطور الرأسمالي وآلية امبريالية لاستغلال الشعوب
الحرب على ما يسمى "الارهاب" تهدف الى السيطرة على الاحتياطيات الاستراتيجية للطاقة في المنطقة العربية ووسط آسيا

http://www.alhayatweekly.com/more.asp?mid=1886&edition=78

نشرت صحيفة الحياة الاسبوعية الاردنية في عددها رقم 78 الصادر بتاريخ 2/11/2006 حوارا مطولا مع الكاتب والناشط المناهض للعولمة الدكتور هشام البستاني حول مواضيع العولمة – ما هي وكيف تؤثر على الشعوب، موقف اليسار الاوروبي من القضية الفلسطينية، الحرب على الارهاب، المقاومة والانظمة العربية، التطبيع، والمؤسسات الممولة أجنبيا.

تاليا النص الكامل للحوار الذي أجراه: الاستاذ أسعد العزوني رئيس تحرير الصحيفة.


1. نبدأ من موضوع شائك هو موضوع العولمة. ماذا تعني العولمة بالضبط؟ هناك من يحذر من العولمة ويحرض على مواجهتها، وفي الوقت الذي نجد عربا يرحبون بالعولمة ويبشرون بها، نرى أجانب يتظاهرون وبقوة ضد العولمة، ما تفسيرك لذلك؟ وإلى أين وصلت تداعيات العولمة وتأثيراتها على العالم العربي، وهل يمكن تجيير نتائجها لصالح العرب؟
في البداية لا بد من تحديد تعريف واضح ومحدد لمصطلح "العولمة" الذي اصبح مصطلح الموسم ويتحدث فيه الجميع مسبغين عليه تعريفاتهم ورؤاهم الخاصة دون العودة الى تعريفه الاصطلاحي المحدد، وبالتالي تتوه بوصلة الحديث من "الواقعي" الى "الذاتي"، ويصبح مصطلح محدد مثل "العولمة" حمال اوجه: فهو تارة يشير في ذهن الكاتب والقارئ الى التكنولوجيا وانتشارها الكاسح (خاصة تكنولوجيا الاتصالات والاعلام الحديثة مثل الانترنت والفضائيات)، وتارة يشير الى عالمية الفكر او الفكرة، وتارة يشير الى تحول الكوكب الى "قرية صغيرة" يسهل على قاطنيها التواصل والتعارف والحوار. والحقيقة ان اسباغ المعاني المذكورة فيما سبق على "العولمة" يأتي في سياق اثبات عبثية مناهضتها او مقاومتها، واظهار المنادين بذلك على انهم متخلفين ومناوئين للتقدم والتطور، الى آخر هذه السلسلة.

والحقيقة ان كل ما ذكر اعلاه ليس له علاقة بـ"العولمة" بمعناها الاصطلاحي. فـ"العولمة" تحديدا هي احدى مراحل التطور الرأسمالي بحيث يسعى رأسالمال الى ازالة جميع الضوابط والقوانين والمعوقات التي تمنعه من الحركة من مكان الى آخر من أجل المضاربة في الاسواق المالية المختلفة، وتعظيم ارباحه من "الاستثمار" في بلدان توفر الايدي العاملة الرخيصة ونقاباتها العمالية ضعيفة فتزيد ارباحها مقابل استغلال العمال، ويتاح لها توفير تكاليف مصاريف كثيرة مثل مصاريف المحافظة على البيئة في البلدان التي لا توجد بها حماية قانونية للبيئة والانسان، ومصاريف البنى التحتية من ماء وكهرباء وارض والتي توفرها الدول الفقيرة باسعار منخفضة جدا لـ"اجتذاب" رؤوس الاموال.

والحق ان "العولمة" لم تأت لوحدها نتيجة تطور طبيعي ما، بل فرضتها الدول الكبرى من خلال مؤسسات تدعي انها دولية وهي في الحقيقة تمثل مصالح الدول الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها. هذا الاقحام جاء كشروط سياسية من قبل هذه المنظمات من أجل اقراض الدول الفقيرة من خلال السيناريو التالي:

استعمرت الدول الكبرى دول الجنوب ونهبت ثرواتها وهيمنت على مواردها (وما تزال)، نتيجة لذلك اصبحت دول الجنوب المنهوبة دولا فقيرة، وعندما ارادت الدول الفقيرة القيام ببرامج التنمية احتاجت قروضا كبيرة قامت الدول الكبرى التي نهبتها باقراضها اياها من حصيلة النهب (اي اقرضتها الاموال التي نهبتها منها في الاساس!)، ونتيجة لانتشار الفساد والارتباط بالخارج لدى الانظمة التي اورثها الاستعمار الحكم في دول الجنوب، فان اغلب هذه القروض استقرت في جيوب الانظمة الحاكمة والطبقات المرتبطة بها، مما استدعى المزيد من القروض، وهكذا الى ان غرقت دول الجنوب (المسماة دول العالم الثالث) في الدين واصبحت عاجزة لا عن سداد الديون فقط، بل اصبحت عاجزة حتى عن سداد فوائد تلك الديون، وهنا دخلت الدول الكبرى من الباب المشرع بحجة مساعدة الدول الفقيرة على سداد ديونها امتراكمة، فقد فرضت هذه الدول على الدول الفقيرة المدينة ان تتبنى برامج "اعادة الهيكلة الاقتصادية"، وهو اسم جميل مدروس لمشروع استكمال هيمنة كبير، وتعني "اعادة الهيكلة" امورا اساسية ثلاث: انسحاب الدولة من مسؤولياتها التقليدية في المجال الاجتماعي مثل الصحة والتعليم وغيرها وتحويل كل ذلك الى القطاع الخاص الذي لا يهمه اي شيء سوى الارباح، خصخصة القطاعات الصناعية والخدمية التي تملكها الدولة والتي انشأتها باموال المواطنين (في الاردن على سبيل المثال تمت خصخصة الاتصالات والاسمنت والبوتاس والفوسفات وميناء الحاويات وغيرها الكثير) حتى يتوفر مقدار من الاموال لسداد فوائد الديون المتراكمة الناتجة عن الفساد وفشل خطط التنمية، وتعديل جميع القوانين الاقتصادية بحيث تلغى اي قيود او ضوابط تكبح جماح رأس المال وتحد من استغلاله مثل قوانين "تشجيع الاستثمار" التي هي في الواقع تعطي رأس المال اعفاءات ضريبية واسعار تشجيعية للبنية التحتية مثل ايجارات الاراضي والماء والكهرباء، وهي كلها تدفع من جيب المواطن بشكل ضرائب تذهب لصالح توفير بنى تحتية لمشاريع تعفى من الرسوم والضرائب!!

طبعا عند الغاء القيود والضوابط القانونية للاستثمار وحركة رأس المال، لا يمكن للشركات المحلية او رأس المال المحلي ان ينافس الشركات الكبرى التي تملك ميزانيات ضخمة وامكانات وخبرات هائلة مدعومة بدول كبرى ذات جيوش جرارة وارادات سياسية لا تنضبط الا بما يحقق مصالحها دون رادع من اخلاق أو حق. فتسيطر الشركات الكبرى هذه المرة، وبدون استعمار مباشر في اغلب الحالات، على المشهد الاقتصادي كاملا في البلدان الفقيرة، فماذا يحصل؟ الجواب هو كما يلي:

تدخل الشركات الكبرى لتهيمن عى الصناعات الاستخراجية والتحويلية وغيرها من الصناعات، اضافة الى القطاعات الخدمية عالية الربح مثل الاتصالات، وتحقق توفيرات هائلة كما اسلفنا من خلال اعتمادها على الايدي العاملة العالمثالثية الرخيصة والغير محمية، ومن ثم تقوم ببيع منتجاتها باعادة التصدير في نفس الدول وباسعار كبيرة جدا بعد ان تخرج منافسيها المحليين من السوق بالاغراق او تخفيض الاسعار لمدة محدودة او بشراء المنافسين وغيرها من الآليات.

هكذا، تقوم شركة رياضية عالمية كبرى تصنع كرات القدم الخاصة بها في الباكستان بأيدي اطفال يتقاضون دولارا واحدا في اليوم، باعادة تصدير هذه الكرات نفسها الى الباكستان والعالم لتباع الواحدة منها بثمانين دولارا ليشتريها نفس العامل الذي تم استغلاله في صناعتها!!

واللافت ان الدول الكبرى التي تدعو الى ازالة القيود الحمائية والغاء دعم الدولة للزراعة والصناعة وغيرها من الانشطة الاقتصادية بحجة زيادة التنافسية والانفتاح وتعزيز حرية السوق، تمارس هي نفسها سياسات الحماية والدعم: فمثلا حصل خلاف كبير بين اوروبا والولايات المتحدة فيما يتعلق بصناعة الصلب لان الولايات المتحدة تحمي صناعة الصلب الخاصة مما يمنع صناعة الصلب الاوروبية من منافستها، مثال آخر هو مطالبة دول الشمال لدول الجنوب برفع كل اشكال الدعم عن الزراعة (وهي النشاط الاقتصادي الاكبر لديها) وذلك طبعا لاغراقها بمنتجات الشمال المدعومة بالكامل من الحكومات (فمثلا تصرف الحكومات الاوروبية ما قيمته 2 يورو يوميا على كل بقرة من ابقارها!).

وهناك امثلة أخرى كثيرة: ففي فرنسا، تدخلت الحكومة "بكل ثقلها" لتمنع شركة "انيل" الايطالية من الاستحواذ على شركة "سويز" الفرنسية التي تعمل في مجال الكهرباء والماء، حيث اصدرت تعليمات باندماج "سويز" في شركة "جاز دو فرانس" الحكومية الفرنسية، وصرح رئيس الوزراء الفرنسي دومنيك دو فيلبان ان هذه الخطوة مهمة للغاية بسبب "الاهمية الاستراتيجية للطاقة بالنسبة لفرنسا". وقد وصفت ايطاليا هذه الخطوة بانها ترقى الى "عمل من اعمال الحرب"، فيما وصف فالفيو كونتي الرئيس التنفيذي لشركة "انيل" الايطالية الخطوة الفرنسية بانها ترقى لحد تأميم شركة "سويز". وفي اسبانيا، عرقلت الحكومة هناك عرضا قدمته شركة "اي او ان" الالمانية لشراء شركة مدريد للطاقة، ثم اعلنت انها ستوسع السلطات التي تمنع الشركات الاجنبية من تملك اصول اسبانية للطاقة. ولا زالت قضية رفض حكومة الولايات المتحدة بيع ادارة موانئها الى شركة اماراتية ساخنة في البال!!

نخلص بالنتيجة الى أن ما يسمى "العولمة" ما هو الا آلية لتسهيل هيمنة الشركات الكبرى الرأسمالية وتعظيم ارباحها من خلال نهب العالم واستغلال الناس من خلال تحويلهم الى عبيد مستهلكين. وهو ليس "العدو" الذي يجب مناهضته، لأن الآلية هي وسيلة ولا تكون المناهضة للوسيلة بل لمن يستعمل هذه الوسيلة: أي الرأسمالية الامبريالية. وهذه خلاصة نقاشات تدور حاليا في اوساط ما يسمى "الحركة العالمية المناهضة للعولمة"، واصبح عدد كبير من النشطاء والمجموعات مقتنعا بأن "مناهضة العولمة" هو شعار غير صحيح لان "العولمة" هي احدى آليات عمل الامبريالية، فالاجدر اذا مناهضة الامبريالية نفسها لا ادواتها.

خلط آخر في المفاهيم يحدثه اولئك الذين يتعاملون شكليا مع مصطلح "العولمة"، فهم يقسمونها الى "عولمات متعددة": عولمة اقتصادية وعولمة ثقافية وعولمة عسكرية ...الخ. وهذا ايضا فصل خاطئ. فما يطلق عليه "عولمة" هو ظاهرة اقتصادية في الاساس كما وضحت سابقا، ولكن تعزيز الظاهرة الاقتصادية يتطلب استدعاء ادوات اخرى مساندة مثل الثقافة والعسكر..الخ. فمثلا: حتى تستطيع صناعة التجميل التي تقدر مبيعاتها بآلاف المليارات ان تستمر على هذا النسق، لا بد ان تروج لشكل معين من اللبس ومعايير معينة من الجمال والشكل وما هو مقبول وغير مقبول، وتستنفر لذلك جيوش جرارة من عارضات الازياء والمغنيات والمغنين والمجلات والقنوات الفضائية والفيديو كليبات وغيرها، وتصنع بذلك "ثقافتها" الخاصة التي هي ليست ثقافة في الواقع، بل نمطا استهلاكيا يدفع بجمهور الناس الى اخلاء جيوبهم لصالح صانعي ومروجي هذا النمط بالذات، الذين يجنون ارباحهم من الفراغ! ونفس الشيء ينطبق على العادات الغذائية (مكدونادز، برغر كنج، كوكا كولا، بيبسي..الخ، وكلها تخلق وتروج انماطا من العادات لتعزيز مبيعاتها، وبالتالي ارباحها) والموبايلات وغيرها من المستهلكات التي يحولها المنتج في ذهن المتلقي الى اساسيات لا يمكن العيش بدونها وهي ابعد ما يكون عن ذلك. كذلك يأتي التدخل العسكري ليحسم امورا استعصت على الاختراق السياسي/الاقتصادي، ومثال العراق هو اسطع دليل على ذلك حيث لحقت شركات كبرى مثل "بكتل" و"هاليبرتون" الجنود الى حقول النفط ومشاريع البنى التحتية.

نأتي الآن الى جزء آخر من سؤالك وهو تأثير "العولمة" على الوطن العربي.

الانظمة الحاكمة في الوطن العربي هي كمثيلاتها في دول الجنوب العالمثالثية: امتداد للحقبة الاستعمارية وارتباط بمصالح الدول الكبرى، وهي بحكم تبعيتها السياسية والاقتصادية وارتباط مصالحها بتلك الدول، لا تمثل مصالح شعوبها بقدر ما تمثل مصالح الدول الكبرى وشركاتها، وهذه المصالح تتطور وتتغير باستمرار مما يعني انه حتى الانظمة العالمثالثية المرتبطة بالدول الكبرى قابلة للنقاش والتغيير حين يتغير المناخ السياسي و/أو الاقتصادي ويصبح الحفاظ على الامتيازات المحلية يتطلب مقاربات مختلفة، وهو ما يجعل الانظمة الحاكمة خاضعة دوما للابتزاز الخارجي والخوف الداخلي مما يترتب عليه خضوع كامل للخارج وقبضة امنية مشددة للداخل. هذه أول بركات "العولمة" (أي الامبريالية) على الوطن العربي.

البركة الثانية هي التخلي الشامل والنهائي عن برامج التنمية المستقلة المحلية، وفتح الاسواق والغاء حماية الصناعة المحلية وبيع المؤسسات العامة، وهو ما ادى الى فقدان تحكم الدولة بالاقتصاد وما نتج عنه من ارتفاع هائل في الاسعار وانخفاض في القيمة الشرائية للعملة صاحبه ثبات أو تدني في مستوى الرواتب، وتسريح لاعداد كبيرة من العمال، وانعدام فرص العمل الحقيقية، مما ادى الى رواج دعاية "التغلب على ثقافة العيب" التي تنادي على حملة الشهادات الجامعية للتحول الى عبيد بثمانين دينارا لدى مصانع المناطق الصناعية المؤهلة!

البركة الثالثة هي ان الدولة التي اكتشفت بعد الخصخصة وبيعها للقطاع العام (الذي هو المصدر الرئيسي لدخلها) وبعد الغائها للضرائب والحواجز الجمركية بسبب التزامها باتفاقيات التجارة الحرة (وهو مصدر آخر لدخلها) وبعد تخليها عن الرسوم والضرائب المأخوذة من الشركات الاجنبية ورأسمال الخارجي بحجة "تشجيع الاستثمار" (وهو مصدر ثالث لدخل الدولة)...اكتشفت انه لا مصدر دخل لها سوى الضرائب والرسوم التي تجبيها من المواطنين، والمخالفات (مخالفات السير وغيرها) التي تجبيها من المواطنين أصلا، فرفعت الدعم عن السلع الاساسية، وأقرت ضريبة مبيعات ورفعتها عدة مرات، وأصبحت تتشدد في ضريبة الدخل، وتحول القطاع الحكومي الى قطاع يجبي الاموال ولا يقدم الخدمات (لانها تؤمن بحرية السوق!).

اذا تحولت الدولة في ظل "العولمة" الى اطار يسهل دخول رأس المال واستغلاله للموارد والبشر والعمال من خلال تغيير الاطر القانونية وازالة الحمايات والضوابط (ويأخذ عمولات مقابل ذلك بشكل امتيازات او مساعدات وغيره)، ولا يقدم اي خدمات بحكم تخليه عنها لصالح القطاع الخاص، ويجبي من المواطنين الضرائب والرسوم ليتمكن من ادارة عملياته!! اذا هي اذكى عملية خداع في التاريخ: يمول المواطن دماره الكامل وتحويله من انسان الى عبد مستهلك!

طبعا لا مصلحة للعرب في كل ذلك، ليست للشعوب تحديدا، بل هي على العكس، نهب لها ولمقدراتها، والمطلوب هو ليس الانقياد وراء الامبريالية وعولمتها، بل اللجوء الى التنمية الذاتية المستقلة والانفكاك عن التبعية، ومن يدعي ان ذلك مستحيل نحيله الى تجارب هامة مثل فنزويلا وبوليفيا وكوبا الصامدة حتى الآن في وجه حصار امريكي ربما هو الاطول في التاريخ.

الاستحالة هي ان تتحقق هذه التنمية المستقلة والتخلص من الهيمنة عربيا على المستوى القطري، ولهذا تجهد الانظمة في ترويج المشروع القطري كأفق نهائي للعمل السياسي الداخلي، مما يعني تأبيد التبعية وبالتالي ضمان مصالح الطبقات الحاكمة. المطلوب اذا هو رمي الافق القطري في اقرب سلة مهملات والعودة بقوة الى المقاربات القومية. وهنا اتوجه بالاساس الى القوى الشعبية "المعارضة" التي ارتضت بدافع "البقاء السياسي" ان توافق على الافق القطري الذي رسمته الانظمة وان تعمل من خلاله حاكمة بذلك بالاعدام على نفسها اولا وعلى العمل الشعبي الحقيقي ثانيا وعلى امل النهوض بمشروع عربي حقيقي ثالثا.




2. اليسار الأوروبي يرفض إقامة دولتين في فلسطين ويدعو لدولة فلسطينية فقط، وان يتم إعادة اليهود إلى بلادهم الأصلية ما قراءتك لذلك؟

هذا صحيح في جزء منه. فاليسار الاوروبي الآن الذي تمثله احزاب ماركسية وشيوعية مختلفة غير موحد الموقف حول القضية الفلسطينية، ولكن اغلبها مع ازالة "دولة اسرائيل" وقيام دولة ديمقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني مع حق العودة، وهو نموذج قريب من التحول الذي حصل في جنوب افريقيا حيث استعادت الاغلبية السوداء الحكم من الاقلية البيضاء، وفي الحالة الفلسطينية (بحسب ما يقوله اصحاب مقاربة الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني) مسألة تنتهي الدولة العنصرية التوسعية (اي "اسرائيل") وبحكم الديمقراطية تعود الاغلبية العربية الى الحكم.

طبعا نحن نختلف مع هذه المقاربة من جانبين اساسيين: انها لا تحل التناقض الناتج عن "الاحتلال" حيث يبقى المحتل "مواطنا" في مثل هذه الدولة، والجانب الثاني انها تقارب المسألة من زاوية "قطرية" وبالتالي تخطئ في تحديد اساس الصراع بين العرب والصهاينة، فهو ليس صراعا على جغرافيا بقدر ما هو صراع تحرر من هيمنة: صراع المشروع التحرري العربي في مواجهة المشروع الامبريالي الامريكي الصهيوني. مثل هذا الصراع لا يحل على قاعدة الجغرافيا بل على قاعدة الوجود، ولا يحل من المنظور "القطري" بل من المنظور "القومي" على اقل تقدير و"الاممي" ان توفرت الظروف الموضوعية. الحل من وجهة نظري يكمن في تعمق المشروع التحرري العربي وتحققه الوحدوي وانتصاره على مشاريع الهيمنة الامبريالية الصهيونية، وبالتالي ازالة الكيان الصهيوني واستعادة فلسطين الى حاضنتها العربية وذوبانها فيها وعندها فقط تحل جميع التناقضات. اما ان نحول الصراع الى خلاف حول "دولة" وشكلها وحدودها فهو تمييع للصراع وتشويه له.

هذا الخلاف في الفهم لا يعني ان نقاطع اليسار الاوروبي المعادي للصهيونية، فنحن نتقاطع معهم في ثلاث مسائل هامة جدا: العداء للصهيونية، العداء للامبريالية، عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني والمطالبة بازالته. اضافة الى ذلك، فان موقف اليسار الاوروبي المعادي للصهيونية قابل للتطور باتجاهات اكثر جذرية اذا وجد من العرب من يناقش ويقنع، واكبر دليل على ذلك الانجاز الذي حققه المشاركون العرب (وكنت احدهم) في المؤتمر العالمي المناهض للامبريالية والرأسمالية المنعقد في أثينا من 4 الى 7 أيار 2006، حيث طرد المؤتمر المشارك الوحيد من "اليسار الاسرائيلي" وأدرج البيان الختامي للمؤتمر الجملة التالية: " نوحد صوتنا مع مقاومة الشعب العربي ضد الامبريالية ونرسل رسالة الاخوة والتضامن مع الشعب الفلسطيني البطل الذي يقاتل من اجل وطن حر ضد الدولة الصهيونية غير الشرعية ومن اجل تصفية الكيان الصهيوني الغاصب"، وهو انجاز هائل على مستوى اوروبا بل والعالم.

المشكلة الاساسية والكبرى في هذه المجال هي للأسف العرب أنفسهم من منظمات ونشطاء، فأغلب من يحضر المؤتمرات الخارجية هم من المنظمات الممولة والذين يلتزمون بالضرورة وبحكم ارتباط المصالح بالخط العام الذي يمليه الممولون سياسيا (وهو حل الدولتين و"السلام" وبقية هذه الترهات)؛ أو هم من مدرسة "المجاملات" والذين يقولون بأن طريقة مخاطبة الاوروبيين تختلف عن ما نقوله محليا وباقي هذه الخرافات التي دمرت القضية العربية دمارا شاملا في المنتديات الشعبية الدولية، وبيد العرب.

طبعا لا بد من ان اشير الى انه عندما نتحدث عن اليسار الاوروبي فنحن لا نتحدث عن الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية (أحزاب العمال) التي لم تعد اليسار في اوروبا، بل تعرف الآن بانها احزاب وسط او حتى يمين الوسط، وتخلت عن يساريتها الشكلية، وهي الآن أقرب الى اليمين، ويكاد المرء لا يلحظ اي خلافات جوهرية بينها وبين اليمين (المحافظين) لا على المستوى الاقتصادي ولا على المستوى الاجتماعي ولا على المستوى السياسي. بل ان حكومة عمالية هي حكومة توني بلير تعتبر أكبر حليف لحكومة يمينية متطرفة هي حكومة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.

3. خلال الحرب الأخيرة في لبنان وسقوط صواريخ حزب الله على العمق الإسرائيلي، سارع المستعمرون اليهود إلى السفارات الأجنبية للسماح لهم بالعودة من حيث أتوا، ما دلالات ذلك؟

لذلك دلالة هامة جدا ومعروفة للجميع، ولكن الكل يتواطؤ على غض النظر عنها لولا ان اثبتتها المقاومة في فلسطين ولبنان: أن المجتمع الاسرائيلي المتشكل من قوميات واثنيات وأجناس متباينة جدا (يهود من اوروبا والبلاد العربية وروسيا وافريقيا..الخ) هو مجتمع هش ومفبرك وسريع العطب، كل ما يحتاج اليه الامر هو ارادة حقيقية بالمقاومة والانتصار وسينهار هذا المجتمع تحت قصف الصواريخ والعمليات الاستشهادية، ولهذا السبب بالذات تجر الانظمة العربية الى طاولات توقيع معاهدات "السلام" لتأمين هذا الكيان وحمايته واعطاءه الوقت الكافي لتمتين بناه الداخلية وتحقيق تجانس اكبر في مكوناته، اضافة الى الاستحقاقت السياسية والاقتصادية المعروفة الاخرى.

مقولة أن "اسرائيل" قوة عسكرية لا تقهر وانها "غول" سياسي واقتصادي غير قابل للهزيمة عادت الى حيث يجب ان تكون بعد العدوان على لبنان: كتب الخراريف والكلام الفاضي، وما يزيد عن خمسين عاما من التولي العربي الرسمي للتعامل مع الكيان الصهيوني تبين انه جملة من الاكاذيب والخدع التي تهدف الى "شراء الوقت" لهذا الكيان ليرسخ اوتاده في المنطقة العربية.

4. لم تنهزم الرسمية العربية أمام إسرائيل في حين تنتصر المقاومة؟اذا عدنا الى الاجابة حول سؤال "العولمة" السابق واعدنا قراءتها بعناية، استطعنا الاجابة بسهولة عن هذا السؤال. النظام الرسمي العربي - بشكل عام وفيما عدا استثناءات قليلة على مدار تاريخ وجوده القصير- هو ابن للفترة الاستعمارية وناتج عنها، والطبقات العربية الحاكمة هي طبقات تابعة للامبريالية ومرتبطة بها في المصالح وحتى في الوجود السياسي.

النظام الرسمي العربي لا يريد ان يخوض المعارك بل على العكس يريد ان يكرس وجود الكيان الصهيوني والمشروع الامريكي لعدة اسباب:

اولا: ترابط المصالح والوجود من زاوية التابع والمتبوع.

ثانيا: وجود الكيان الصهيوني مبرر وظيفي لوجود النظام الرسمي العربي الذي يعمل على تمييع التناقض الشعبي مع الكيان، وهو ضمانة لعدم انفجار الشعب في وجهه.

ثالثا: الوجود الغير طبيعي والغير شرعي للكيان الصهيوني هو انعكاس للوجود الغير طبيعي والغير شرعي للنظام العربي الرسمي نفسه مما يكسبه "طبيعية" ما.

رابعا: وجود الكيان الصهيوني كمانع لتحقق المشروع التحرري الوحدوي العربي هو انعكاس لوجود النظام الرسمي العربي الذي يعتمد القطرية كافق سياسي نهائي مؤديا وعاكسا نفس وظيفة الكيان.

خامسا: ليس لدى النظام الرسمي العربي اي مشروع عربي أو حتى قطري، وهو جزء من المشروع الامريكي الاسرائيلي في المنطقة.

لكل هذا تنبغي اعادة صياغة السؤال بحيث يفيد تواطؤ النظام الرسمي العربي مع "اسرائيل" ولهذا فهو لا ينتصر لانه لا يخوض معركة في الاساس.


5. ماذا حققت أمريكا من حربها على ما تسميه الإرهاب؟ وما مدى نجاح أمريكا في (صنع) الشرق الأوسط الجديد؟

الحرب على "الارهاب" ليس هدفها محاربة "الارهاب" حتى بالمفهوم الامريكي لهذا المصطلح. الحرب على "الارهاب" تهدف الى عدة امور اهمها السيطرة على الاحتياطيات الاستراتيجية للطاقة في العالم والمتمركزة في المنطقة العربية ووسط آسيا وهو ما يعمل على كبح جماح القوى الاقتصادية الصاعدة الاخرى في العالم مثل اوروبا واليابان والصين ويجعلها رهن الابتزاز الامريكي؛ وزرع المزيد من القواعد العسكرية الامريكية في مناطق من العالم لم تكن موجودة فيها من قبل مثل الجزيرة العربية وشرق اوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق مما يجعل العالم محزما بسلسلة متتالية من القواعد العسكرية الامريكية الجاهزة للتدخل في اي مكان في العالم؛ واخيرا ضرب بقايا جيوب المقاومة المسلحة في العالم والمتمركزة في بعض دول امريكا الوسطى والجنوبية (المكسيك، كولومبيا، البيرو)، وبعض الدول العربية (لبنان، فلسطين، العراق)، وبعض دول جنوب شرق آسيا (النيبال، الفليبين).

باختصار، ما تطلق عليه الولايات المتحدة اسم "الحرب على الارهاب" هو ببساطة محاولة اعادة ترتيب جيوسياسي للعالم في ظل قوة مهيمنة وحيدة بعد زوال المعادلة الدولية السابقة المرتكزة على توازن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.

قد تنجح الولايات المتحدة في الهيمنة على الثروات والطاقة وفي زرع قواعد عسكرية كنتاج لحربها على "الارهاب"، ولكنها بالتأكيد ستفشل في كبت وتدجين الناس ودحر الحركات المقاومة، وهو ما سيحرمها الامن ويرفع مصاريفها خصوصا في الجانب العسكري فتفقد بالتالي المزايا التي تكتسبها وتتحول الى الترنح والسقوط (انظر امثلة فيتنام سابقا، والعراق حاليا).

ان "الفوضى الخلاقة" التي هي ابرز انجازات حرب اميركا على "الارهاب"، ستعود لتصفع اميركا نفسها في الوجه وربما توجه لها الضربة القاضية.

هذا يأخذنا الى الشق الثاني من سؤالك حول مدى النجاح الامريكي في صناعة شرق أوسط جديد، حيث أعتقد انه نجاح جزئي: فقد نجحت الولايات المتحدة في عدة مسائل هامة هي زرع المشرق العربي بالقواعد العسكرية، والهيمنة على احتياطيات النفط بها، وتحييد انظمة الممانعة العربية عن طريق تصفيتها (صدام حسين) أو عزلها (بشار الاسد)، واعادة التشكيلات الاجتماعية في المنطقة الى الاشكال المادون قطرية (طائفية واثنية ودينية وعرقية) قاذفة بالعرب مئات السنين الى الوراء.

الفشل يتجلى في مسألتين اساسيتين يفشل بهما مشروع الشرق الاوسط الجديد برمته: الاولى عدم مقدرة الكيان الصهيوني حتى الآن ونتيجة للمانعة الشعبية العارمة من ان يلعب دور المحور الاقتصادي الاقليمي بشكل كامل، والثانية عدم قدرة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة من خنق المقاومة، بل ان المقاومتين العراقية واللبنانية قد لقنتا الولايات المتحدة و"اسرائيل" دروسا قاسية واستطاعتا افشال مشروعيهما وتحويل المشرق العربي الى مستنقع لا يستطيعان لا الانتصار فيه ولا الانسحاب منه.

انها اللحظة الملائمة في تاريخ الامبريالية لتوجيه ضربة قاصمة لها هنا في المشرق العربي والآن، لكن هذا يتطلب تحالفا واسع النطاق وعلى المستوى العالمي لجميع القوى المناهضة للامبريالية، وهو أمر ليس بالهين. وأعتقد ان حالة "الفوضى الخلاقة" هذه ستستمر الى ان يتحقق مثل هذ التحالف.

6. لماذا أفل نجم ثقافة المقاومة؟

لم يأفل نجم ثقافة المقاومة. ولكن في غياب قوى مقاومة حقيقية منظمة وفاعلة على مستوى الوطن العربي، يصبح ناظم الفعل المقاوم الشعبي هو مدى سخونة الحدث وتأثيره في جمهور الناس الذين اصبحوا بردود افعالهم العفوية متقدمين بأشواط كبيرة جدا عن "قوى المعارضة الرسمية المنظمة"، لكن عدم وجود اطار تنظيمي لجمهور الناس يؤدي الى تبعثر الجهود وعدم تشكل رافعة حقيقية وتراكم كمي ونوعي.

للأسف قوى المعارضة الرسمية من أحزاب ونقابات تحمل مسؤولية كبرى في هذه المسألة نظرا لتحولها من "النضال من أجل البرنامج السياسي" الى "النضال من أجل الوجود السياسي" ضمن الاطر التي يحددها ويقبل بها النظام الرسمي العربي. هكذا تدهور العمل الشعبي العربي وأصبح رهنا بمبادرة الشارع غير المنظم.

7. ما اثر استضافة الفضائيات العربية لمسؤولين سياسيين وعسكريين إسرائيليين، أليس هذا تطبيعا إعلاميا؟ وما مخاطر التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي على العرب؟
استضافة الفضائيات العربية لشخصيات "اسرائيلية" هو تطبيع مباشر، ويجعل من هؤلاء ضيوفا قسريين في بيوت المواطنين. ولا تنفع مقولات "الحياد الاعلامي" و"عرض جميع الآراء" هنا لان "الاسرائيليين" وبساطة هم أعداء، ولا حياد مع العدو ومقولاته ليست "رأيا" بل دعاية.

أما الخطورة الكبرى في موضوع "التطبيع" فهي تكمن اساسا في بعدها الفكري والفلسفي، فالتطبيع يعني القبول بما هو "غير طبيعي" و "لامعقول" و "مناقض لمصالح الشعوب" على انه امر بديهي لا غبار عليه وينبغي التعامل معها كأمر واقع. ان التطبيع هو ترويج لنسخة مزورة ومفضوحة للتاريخ يراد لشعوب بأكملها ان تصدقها وان تعمل بها، وهو يأتي استكمالا لكذبات كبرى اخرى (او لنقل "تطبيعات اخرى") من شاكلة مفهوم "الشرعية الدولية" التي تمثل في الواقع الارادة السياسية للامبرياليات وتوافق مصالحها وهي ليست باي شكل من الاشكال شرعية شعبية او شرعية تمثل مصالح الشعوب وتحققها؛ وكذلك الامر بالنسبة لكذبـة "الليبرالية" و"النيولبرالية" و"مشاريع الاصلاح الامريكية" حيث تبرز الولايات المتحدة وحلفائها وانظمتها التابعة على مدار التاريخ كأكبر منتهكي الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان منذ حملات ابادة السكان الاصليين لامريكا وحتى معتقل غوانتانامو الرهيب، مرورا بالقاء القنابل النووية على هيروشيما وناغازاكي وابادة ملايين الناس في اليابان وكوريا وفيتنام وغرينادا والعراق وكولومبيا وتشيلي وهاييتي وفلسطين وغيرها وغيرها... سواء كان ذلك بأيد امريكية مباشرة او بأيدي تابعين او ادوات لها.

عودة الى التطبيع: المطلوب تاريخيا وكما هو معلوم ادمـاج الكيان الصهيوني فـي المنطقة العربية ككيـان "طبيعي" يشكل مركزا امبرياليا يهيمن على محيطه الضعيف والمفتت، وبحيث تكون الهيمنة اساسا هي هيمنة اقتصادية وعسكرية وتاليا هيمنة ثقافية وسياسية. ولتمرير "اسرائيل" وكذبتها ومشروعها، لا بد بداية من تمرير كذبات اخرى ممهدة يأتي على رأسها كذبة الدولة القطريـة والدولـة المادون قطـرية ( دولة الطوائف والاثنيات والعشائر ...) فالقبول بتقسيم المنطقة والقبول ببرامج تعلن ان المشروع القطري هو نهاية التاريخ، يعني اندحار المشروع التحرري العربي ونهايته وتفتته، ويعني قبولا نهائيا وتاما بكانتونات سايكس- بيكو ومـا هـو اقـل منـها (كانتونات الطوائف والاثنيات – انظر العراق ولبنان)، وهو يعني ان نتعامل مع بعضنا البعض لا بصفتنا امتدادا وعمقا احدنا للآخر، بل بصفتنا دول جوار "صديقة" ومنفصلة ولكل منها مصالحها "المنفصلة" التي يجب ان تسعى ورائها دون اعتبار لاي مشروع اكبر، ما يعني الاعتراف ماديا بالكيان الصهيوني والارتباط عضويا مع مشروعه لعدم وجود اي مشاريع بديلة اخرى: فاما المشروع التحرري العربي باستحقاقاته، واما المشروع الامبريالي الصهيوني باستحقاقاته ايضا!

لا بد هنا أن أشير الى مسألة تطبيعية اخرى تمر هذه الايام بهدوء وبدون اي اعتراضات: التطبيع مع العملية السياسية التي تجري في العراق تحت ظل الاحتلال وسلطته. ان العملية السياسية الجارية في العراق بكل فروعها وتفريعاتها (حكومة، انتخابات برلمانية، رئاسة دولة ... الخ) هي عملية غير طبيعية وغير شرعية وتتم باشراف وهيمنة مباشرين من قوى الاحتلال الامريكية ولا تحقق الا مصالح هذا الاحتلال بالذات. وعليه فان التعامل مع افرازات هذه العملية السياسية المسخ هو تطبيع فاضح وتزوير للوعي وتجاوز على مصالح وارادة الشعب العربي في العراق وخارج العراق. وعليه لابد من مواجهة الاختراق المتمثل باستقبال ممثلي العملية السياسية الجارية في العراق تحت ظل الاحتلال لانهم عملاء لهذا الاحتلال ويرسخون وجوده ومصالحه ولا يجوز التعامل معهم رسميا وشعبيا تحت اي ظرف من الظروف.

8. لماذا يركز الغرب ويدعم مؤسسات المجتمع المدني ويعول عليها؟ وما سلبيات التمويل الأجنبي؟

مفهوم "منظمات المجتمع المدني" هو مفهوم ملتبس يشابه في التباسه مفهوم "العولمة". أنا لا ارتاح لهذا التوصيف الذي يراد له ان يكون بديلا عن مفهوم المنظمات الشعبية والجماهيرية المنخرطة نضاليا في عملية التغيير. كما لا بد من توضيح مسألة هامة أخرى هي ان ما يسمى "المجتمع المدني" ليس جسما موحدا ولا يشكل نقيضا او بديلا او حتى حالة موازية للسلطة، فهو اسم ضبابي يطلق على مجموعة من الفعاليات التي تتحرك بمصالح مختلفة بل ومتضاربة في كثير من الاحيان، وتتحرك بدرجات مختلفة من الاستقلالية عن (أو التبعية لـِ) السلطة او الحكومات أواجندات الدول الامبريالية التي تمول نشاطات العديد من المنظمات التي قد تنضوي تحت هذا التعريف.

وهنا تبرز مجموعة من المؤسسات الفردية المسجلة كشركات غير ربحية (وهذا تدليس صريح لان القائمين عليها "يربحون" اموالا طائلة) وتحمل اسماءا كبيرة مثل حقوق الانسان والديمقراطية وحرية الصحافة وحقوق المرأة والطفل وغيرها من العناوين الجزئية، كممثلة لما يسمى "المجتمع المدني" وهي محض مؤسسات يملكها أفراد وليس لها هيئات عامة ولا انتخابات وتتمول من السفارات والمصادر المشبوهة.

ان مثل هذه المؤسسات بحكم ارتباطاتها التمويلية ترضخ لرغبات مموليها ومفاهيمهم واجنداتهم، فاذا عرفنا مثلا ان احد أكبر مصادر التمويل هو الـUSAID يتبع للادارة الامريكية، وان سفارات الولايات المتحدة وبريطانيا تدفع تمويلا لمثل هذه المؤسسات، وان منظمة مرتبطة بالمخابرات الامريكية مثل فورد فاونديشين هي من أهم الممولين لمثل هذه المؤسسات، اضافة الى منظمات تابعة لاحزاب المانية مثل مؤسسة كونراد اديناور ومؤسسة فريدريش ناومان ومؤسسة فريدريش ايبرت ومؤسسة هاينرش بول، وغيرها وغيرها؛ نستطيع الاستنتاج بكل اريحية ان مثل هذه المؤسسات هي ليست مؤسسات "مجتمع مدني" بل هي مؤسسات مرتبطة باجندات وأهداف مموليها.

وتلعب مثل هذه المؤسسات ادوارا خطيرة جدا: فهي تقوم بالابحاث والدراسات لصالح الممولين موفرة لهم معلومات استخبارية هامة مثل توجهات الرأي العام وأدوات التأثير فيه ومحدداته..الخ؛ كما تقوم بترويج مفاهيم ومصطلحات تخدم الهيمنة وتؤسس لانتصارها مثل "الشرق أوسطية" و"الشرعية الدولية" و"اللاعنف" و"حل النزاعات" و"حل الدولتين" فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية و"التعايش والسلام" والمقصود هو الاستسلام طبعا؛ كما تتناول القضايا بشكل معزول عن سياقها العام فتتناول مثلا الديمقراطية دون الاشارة الى الاحتلال وبهذا تفتت القضايا الى جزئيات منفصلة بلا سياق؛وأخيرا فان الكثير من هذه المؤسسات يدعم الاحتلال ويساعده ويخفف كلفه تحت غطاء العمل الانساني وبهذا فهو يساعد على اطالة أمد الاحتلال ويسهل مهامه، ولا ضير من شرح هذه النقطة الهامة: المعروف ان الهدف من اية مقاومة هو تكبيد الاحتلال أكبر ما يمكن من الخسائر بحيث تصبح الكلفة المترتبة على الاحتلال اعلى من العوائد الناتجة عنه، والمعروف في القانون الدولي ان اية قوة محتلة لبلد آخر تكون مسؤولة عنه بالكامل من حيث توفير جميع الخدمات والادارة وغيرها، هنا تدخل المنظمات غير الحكومية (الـ NGOs) ومؤسسات ما يسمى بالمجتمع المدني فتبدأ بتنفيذ برامج صحية أو أخرى تتعلق بشبكات المياه أو الصرف الصحي أو غيرها، هذا يزيل اعباء كبرى عن قوة الاحتلال ويوفر عليها مصاريف مالية وبشرية كبيرة مما يقلل كلفة الاحتلال على القوة المحتلة ويطيل أمد الاحتلال ويساعده، ونماذج مثل هذه المنظمات موجود في العراق وفلسطين بكثرة.

تظل المجتمعات العالمثالثية، ومنها المجتمعات العربية، منطقة جذب هام لجميع أنواع الاختراقات والتجارب. ومن السهولة بمكان أن تقوم قوى العالم الامبريالية ببعثرة بعض الدولارات هنا وهناك، لتخلق بها مراكز أبحاث وبرامج تنمية وحملات سياسية/اجتماعية من كل الأشكال و الألوان، وكل هذا لا يصب قطعا في مصلحة دول الأطراف هذه، ولا يقع في باب العطف والحنان الإمبريالي، فالقانون الموضوعي يقول أن الإمبرياليات تمتص ولا ترشح، وهي من القسوة بحيث تقدم الأرباح على الإنسان والمكان وغيرهما، ولذلك فما مراكز الأبحاث والدراسات ومؤسسات "المجتمع المدني" الممولة أجنبيا إلا أماكن لملء الفراغات في الخطط الاستراتيجية المرسومة في دوائر البنتاجون والCIA وغيرهما، وما برامجها المحفزة للديمقراطية أو حقوق المرأة أو تنظيم الأسرة أو غيرها إلا انسلاخا عن القضية الأساسية بتشابكاتها المعقدة، وتسليعها في سياق أشبه ما يكون بتسليع "العولمة" للإنسان.

ومن الملفت أيضا ملاحظة سلوك الإمبرياليات الكبيرة من حيث عدم اكتفائها باختراق النخب والقيادات في مختلف الصعد والقطاعات، بل التحول إلى اختراق القواعد والشعوب بآليات "التسويق الاجتماعي"، مثلا: برنامج من نمط "إنجاز" وجمعية على شاكلة "الرواد الشباب" (والممولان كلاهما من الـUSAID لاجل الصدفة!) معنيان بإيجاد جيل كامل من الشباب المؤدلج رأسماليا، والمأخوذ بنمط السوق الحر و"العولمة" بأشكالها الهمجية المعاصرة كنهاية للتاريخ. فهل من ايجابيات نستطيع الحديث عنها بعد كل ذلك؟! وهل نستغرب كل هذا الحديث من القوى الامبريالية عن "مجتمع مدني" هو في حقيقة الامر مجتمع مفتت وتابع يراد ان تمثله مؤسسات تقبض من الامبريالية نفسها؟!!