الزائر الكريم: يبدو أنك غير مسجل لدينا، لذا ندعوك للانضمام إلى أسرتنا الكبيرة عبر التسجيل باسمك الثنائي الحقيقي حتى نتمكن من تفعيل عضويتك.

منتديات  

نحن مع غزة
روابط مفيدة
استرجاع كلمة المرور | طلب عضوية | التشكيل الإداري | النظام الداخلي 

 

العودة   منتديات مجلة أقلام > المنتديــات الأدبيــة > منتدى القصة القصيرة

منتدى القصة القصيرة أحداث صاخبة ومفاجآت متعددة في كل مادة تفرد جناحيها في فضاء هذا المنتدى..فهيا لنحلق معا..

إضافة رد

مواقع النشر المفضلة (انشر هذا الموضوع ليصل للملايين خلال ثوان)
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-12-2007, 01:56 AM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"

· قصة قصيرة

أَبْجـَدِيَّـةُ الأَرْضْ
أو
قَبْلَ البُلـــوُغْ
إبراهيم سعد الدين
· وصية شيخ محتضر
كان جَدِّي يَتطيَّرُ مِنْ قَطْعِ الأشْجَارْ. سَمِعْتُه ـ غَيْرَ مَرَّة ـ يَصْرخُ في الرِّجالِ المُتَحَلّقين بالشجرةِ حاملين فؤوسَهم: اقْطَعُوهَا. سوفَ تَحْصدونَ معها رُوحَ امْرَأةٍ أو رَجُلٍ من خِيَارِنا‍‍‍..!!
من وصيته لي وهو على فراش الموت:
إجْعَل الشَّمْسَ دَليلكَ، والمَدَى غَايتَكْ، وامْضِ في سبيلك لا يُرْهِبَنَّك شيء. ليْسَ ثَمَّة في هذه الغابة ما يَسْتأهلُ خَوْفَك، سوى أن تَسْفعَ الرِّيحُ وجْهَكَ الأبله، إذا أنتَ كَفَفْتَ عن السَّيْر ووقفْتَ تتلفَّتُ حََوْلكَ في خوف.
· أحاديث القلب البكر
حَدَّثني النَّهْرُ ــ حديث الخل الوفي ــ قال:
تَعَلَّمْ كيف تَبْسِطُ صفحةَ وجْهِكَ للشَّمْسِ المُحْرِقة والرِّيحِ السّمومِ، وفي جَوْفكَ ترقد الحيتانُ وأسْمَاكُ القِرْشِ وجُثَثُ الغَرْقَى.
حَدَّثَتْني شَجرَةُ الجُمَّيْز العَجُوزُ ــ حَديثَ الأُمِّ الرَّءومِ ــ قائلةً:
جُمَّيْزَةٌ أنا شَاخَتْ ولمْ تَشْهَدْ فصولَ الخِتَانْ. يأتي زَمَانٌ يَصْلُبُ فيه عُودُكَ، فَتَعَلَّمْ كيفَ تغْرسُ حَافرَكَ اللَّهَبيَّ في رَحِمِ الأرضِ؛ تُرْضِعها من نُسْغِ الذُّكورةِ فتنْشَقُّ بَطْنُ الفصولْ.
حَدَّثَني اللَّيْلُ ــ حَديثَ الإمْتَاعِ والمُؤَانَسَةِ ــ قَالْ:
اللَّيْـلُ أصْلُهُ قَمَرْ تَوَحَّشَتْ في قَلْبِه الأحْزَانْ.
حَدَّثَتْني المَرأةُ العَاقِرُ ــ وهي تُفْلِتُني من بين ذِرَاعَيْهَا ــ قائلة:
لَمْ تَبْلُغْ ـ بَعْدُ ـ مَبْلغَ الرِّجَالْ. إذْهَبْ إلى النَّهْرِ فاسْبَحْ واغْتَسِلْ، ولا تُحَدّثْ أحداً بِأَمْرِ ما كانَ بيننا.
· الــحُلْـــم
كانت الظَّهيرة. الشَّمْسُ جَمْرةٌ تتوهَّجُ في كَبِدِ السَّماءِ، والأرضُ تَفحُّ شواظاً من نارٍ تُلْهِبُ قَدَمَيَّ العَارِيَتيْن، وكانت في جسدي ـ مَا تَزالُ ـ بُلولةُ مَاءِ النَّهْر. كانت الفأسُ بيميني، وجَدِّي يجلس القُرْفُصاءَ تَحْتَ شَجرة الجُمَّيْزِ العَجُوزْ. كانَ مُنكَّسَ الرَّأسِ لكنَّ عَيْنيْه سِيخانِ من حديدٍ مَحْميٍّ في فقار ظهري. حَلَّقَ غُرابٌ أسْوَد وحَطَّ على فَرْعِ الشَّجَرَة. الفأسُ كانتْ بيدي، والشَّمْسُ قَيْدَ ذِراعٍ مِنّي؛ نارُها سياطٌ من جَمْرٍ تَلْفَحُ وجْهي فَيُصَمُّ السَّمْعُ ويعْشَى البَصَرْ. قال جَدّي ـ دون أن يرفع عينيه عن الأرض: إضْـربْ.
إرتفعت يدي بالفأسِ وهَوَتْ على الرَّأسِ المُنَكَّسَةِ، ورأيْتُ ظِلّي يَتوَارَى وشَلاَّلُ الدَّمِ يصْبغُ الأُفقَ حُمْرَةً تَحْجِبُ وجْهَ الشَّمْس. وكانوا ـ هُمْ ـ مِنْ خَلْفي مُحْتَشدين بِجَلابِيبهم البَيْضَاءِ ونَظراتِهم المُشْرَعَة. شَرَعْتُ في الرّكوضِ صَوْبَ النَّهْرِ لَمْ تُسْعِفْني قَدَمَايْ. هَمَمْتُ بالصِّراخِ لم يُطَاوِعْني صَوْتي.
· فَصْلُ الخِتَامْ: عَوْدٌ على بَدْء
مَاتَ جَدِّي عن عُمْرٍ يناهزُ الثَّامِنةَ والثَّمَانينْ. كانَ ذلك صَبيحةَ الحُلْمِ وبُعَيْدَ قَطْعِ شَجَرَةِ الجُمَّيْزِ بيَوَمَيْنِ اثْنَيْن. كانَ قد قالَ لي وهو يَلْفُظُ آخِرَ أنفاسِه: سَامَحهم الله . لو أنَّهُمْ أبْقُوا عَلَيْهَا لعَمَّرْتُ إلى تَمَامِ المَائة.






 
رد مع اقتباس
قديم 10-12-2007, 02:09 AM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ" ـ قصة: العشق في البلاد الغريبة

· قصة قصيرة


العِشْقفيالبلادِ الغَريبة


إبراهيم سعد الدين
في البلاد الغريبة أحسُّ بالأشياء لها طعم الثمارِ الفجَّة. قديماً، كنتُ كلما حَللْتُ بواحدةٍ من تلك المُدن أقضي اللَّيلَ مُتجوِّلا في دروبها الغَريبة، أفتّشُ في وجوهِ النِّسَاء. قال لي ـ مَرّةً ـ عجوزٌ لم يَعُدْ يحضرني منه سوى نُحول صوته وسُعاله الخشن المتقطع: هذه المدن كالنِّساءْ تَعَافُها حين تطؤها. لكنّي ـ وقد تعبتُ لطول التِّرْحال ـ صِرْتُ أقضي ليلتي الأولى بالفندق. في صالة الفندق الليلية ـ حيثُ الكُلُّ أغْرابٌ والكُلُّ على سفر ـ لا أحَدَ يَهشُّ لِلُقْيَاكَ ولا أحَدَ يأسى لفراقك. في هذه السُّوق الطيّبة ـ التي لا بيع فيها ولا شراء ومِنْ ثَمَّ لا حُبّ ولا كراهية ـ يشهدني اللّيْلُ لائذاً بِرُكْنٍ بعيد؛ مُمْتَلئَ الصَّدْرِ برائحة الشراب والشواء وعطور النساء من شتى الأجناس. متى رأيت هذه الوجه..؟!.

أحضر النادل قنينة الشراب وصحاف الشواء وانصرف. تأملت انحناءة ظهره وهو يَمْرقُ بين الموائد، وتساءلت: هذا العجوز كَمْ أمضى من السِّنين يَذْرَعُ المكان جيئةً وذهاباً، يصطنع الابتسامَ في وجوه العابرين من الغرباء والمطاريدِ وشُذّاذِ الآفاق..؟!.
متى رأيتُ هذا الوجه..؟! يقولون: الخمر تجلو الروح وتشْحذُ العقلَ وتُذْكي جَذْوَةَ القلب. لكنها تملؤني بالتعاسة، وحين أهِمُّ بالرجوع.. أحسُّ داخلي كغرفةٍ قديمة أُغْلِقَتْ لزمنٍ، حتى فسَدَ هواؤها وتَغيَّرَتْ روائحُ الأشياء فيها. متى رأيت هذا الوجه..؟! ومن قائل تلك العبارة: هذه ليلة الشعر والمأساة..؟!. والوجهُ لامرأةٍ في نحو الأربعين؛ خالٍ من المَلاحَةِ والقُبْحِ معاً، لكنه ـ بأُلْفة تقاطيعه، وسُمْرَتِه الرَّائقةِ المُحَبّبَة ـ أشبه ما يكون بخارطةٍ لوطنٍ بعيد؛ لِطولِ ما تَغرَّبْتُ عنه لمْ أعُدْ واثقاً إنْ كانَ قد مَسَّه التَّغَيُّر أم أنا الذي تَغَيَّرْت، بَيْني وبَيْنه غلالةٌ من دُخانِ التَّبْغِ المَحْرُوقِ وضبابِ الأنفاسِ الحَرّى، لكنها تَشفُّ عن عَيْنَيْن نَجْلاوَيْن لهما لوْنُ العَسَلِ وإيقاعٌ يَنْفذُ للقلبِ تَـوّاً فيمْنَحُكَ إحساساً بأن ثَمَّة ذراعيْن أليفتيْن تنفرجان الآن وصَدْراً يتأهَّبُ ليحْتَويك. أعْرِفُ هاتيْن العيْنَيْن، والبَسْمَةُ النَّائمَةُ عند زاويةِ الفَمِ أعرفها؛ خَبَرْتُهَا من زمنٍ عِشْتُهُ لكنَّ ذِكْرَه لا يَحْضرني الآن، وهاهي تَتَّسِعُ، تَصيرُ دهْشةً وتِرْحَاباً وشَوْقا.
ـ أنتَ ..؟!
مَنْ قائلُ تلك العبارة: شَارِبُ الغِبْطةِ المُعْتَدلْ لاَ يَسْتحقُّ اليُنْبُوعْ؟!.
كُنْتِ.. وكانَ ثمة شيءٌ يدعوني أن أتمَهّل، فلمَّا هَمَمْتُ.. نَهَضْتِ، كان القميصُ مُجَعَّداً من الخلفِ وثمَّة عُروقٌ زرقاء تنتشرُ ما بين الفَخْذيْن وربْلتي السَّاقيْن. كُنْتِ.. وكان صَدْري مُشبَّعَاً ـ مَا يزالُ ـ برائحةِ العَرقِ والأصْباغِ، وشاقني أن أرى لون عينيك، لكنك كُنْتِ قد انْسَلَلْتِ من فرجة البابِ وانْسَرَبْتِ في جَوْفِ الليل.
ـ تَعْرِفُني الآنْ..؟!
أعْرفكَ أيُّها الوجه، لا كَمَا تُفْصحُ عن نَفْسِك ولكنْ كما يَتقَلَّبُ الجنينُ في الرَّحِمِِ يُثيرُ فيه نوازعَ الألمِ ودِفْءَ الرَّغْبةِ وعُذوبَةَ الشَّوْق. أعْرِفُكَ، مع أنَّكَ مَاكِرٌ: تتخفَّى في وجوهِ كل النِّسَاءْ. وَمُخَاتلٌ: أدَّخِرُ لكَ أطايبَ الحَديثِ؛ أحْفَظُهَا بالقلبِ وأنتظرُ فلا تَجيءْ. وخَؤون: تُفجؤني ـ لحظة الحلم ـ فَتُسْلمني لعَالمِ التَّخْليطِ وتُودِعُني للرَّحيلْ. زمَانٌ طويلٌ وخُطىً لا تُحْصَى؛ أنْفَقْتُها لاهثاً أرْكُضُ لا نُشْدَاناً لغايةٍٍ وإنما هَرَباً من أثقالٍ كُنْتُ كُلَّما أحْسَسْتُ بها في داخلي أُضَاعِفُ من سُرْعَةِ العدْو..، وهكذا صِرْنا قريبين الآنَ وصِرْتُ ـ وأنْتَ في دِعَتِكَ المُطْمَئِنَّةِ هذه ـ أعْرِفُكْ.

كانتْ قد أسْندَتْ خَدَّهَا على ظاهِرِ كَفَّيْها وأخْلَدَتْ للنَّومْ. وكُنْتُ بِقُرْبِهَا أتنَفَّسُ رَائحَةَ الجسد حين يصير ـ حَسْبَمَا خَلَقَهُ الله ـ رَاحَةً وسَكينةً وكِنَّا. مُقَدَّسٌ هذا الجَسَدْ.. مُقَدَّسٌ ومُفْتَرِسْ. كَانَتْ عَيْناهَا مُغْمَضَتَيْن والبَسْمَةُ المَاثلةُ عند زاويةِ الفَمِ ما تزالُ، وكان النادلُ قد حَضَرْ. رَمَقني بعيْنين مكدودتين وانحنى حتى وطَّنَ سَاعدَيْه خَلْف جسدها، وحملها على ذراعيه وسار. أجْفَلَتْ عَيناها قليلاً، وتوَارَت البَسْمَةُ عن فمها الصَّغيرْ. كُنْتُ مُتْعَباً وثَمّة خَدَر ثقيل بساقيَّ، لكنّى تَبِعْته حتى صِرْنا على رأسِ دَرَجٍ تَرَدَّدَ قليلاً قبل أن يَشْرَعَ في الهبوط عليه. كان يتقدمُ بتثاقُلٍ وتُؤدة، وكنتُ خَلْفه كَمَنْ يهبطُ فوق مُنْحَدَرٍ يَمْلكُ باختيارهِ أن يتوقَّفَ لو أرادْ لكنَّ انحدارَ الطَّريقِ يُغريه بمواصلة السَّيْر. كان الضوءُ يَشِحُّ رُويْداً وثمَّة رائحة ثقيلة، وعاودني ـ كما سمعْتُه أوَّلَ مَرَّة ـ صَوْتُ القطارْ. كان الصّوْتُ المُتواترُ يَبتعد.. وكُلَّما أوغل في البعد.. زاد إيقاعُهُ نَبْضاً في ذاكرتي.






 
رد مع اقتباس
قديم 10-12-2007, 02:17 AM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"

• قصة قصيرة
سُـدَّة المُلْـك

* في الَّليْلِ ـ حينَ يَهْجَعُ الكُلُّ ـ تَخْتَمِرُ فِي دَمي طِينَةُ الحُلْم ، تَنْسَلِخُ رُوحِي مِنْ شَرْنَقَةِ الجَسَدْ . أتَقَلَّبُ في مَرْقَـدِي. أتَأمَّلُ صَفْحةَ السَّماءِ فَتَنْفَتِحُ لي بَوَّابَةُ الرُّؤْيَا. أرَى القَمرَ يُضاجِعُ أُنْثاهُ والنُّجومَ بيادرَ من النُّورِ يَذروها الرَّبُّ؛ يُبارِكُ عُرْسَهُما الكَوْنيّ.
أُنْثى القَمَرْ…!!
تَسْرِي الكلمةُ في دَمي سَرَيانَ العُصارةِ في قَلْبِ النَّباتِ المُزْهِرِ، تَتَمشَّى في أعْضَائي دافِئةً، تُسْلِمُني للخَدَر المُسْكِرْ.
أُنْثىَ القَمَرْ…!!
تَهْبطُ الكَلِمَةُ عَلَى قَلْبي كما يَهْبِطُ النَّدَى فأُغْمِضُ عَيْنَيَّ مَالِئاً فَمِي بحَشْوِها الدَّمِثْ، وأخْلَدُ للنَّوْم.

* ها أنَا ذَا في العَرَاءِ مَنامَتي الحَصْبَاءُ، لُحَافِي قُبَّةُ الأُفْقِ، وَوِسَادَتِي حِشْيَةٌ مِنَ القَـشّ.
أنَا العَبْدُ الخِصِيُّ، جُلِبْتُ من أسْوَاقِ النِّخَاسَةِ حَدَثاً، ورُبِّيتُ في حَظَائرِ الجيادِ، وحينَ اعْتَلَى سَيِّدِي سُدَّةَ المُلْكِ قَرَّبَني مِنْ مَجْلِسِهْ .

* في حَضْرَةِ سَيِّدي يَفيضُ الرَّاحُ أنْهارًا ويَكْثُرُ السُّمَّارْ. سَيِّدِي في كُرْسِيِّهِ الأَبَنُوسِيِّ يُغالِبُ النَّوْمَ والسَّـآمَة.
مَجْلِسُ سيِّدِي عَامِرٌ بالمُحَدِّثينَ والمُرَائِينَ والظُّرَفَاءِ والشُّعَرَاءِ وزُنَاةِ اللَّيْلِ وقَوَّادِي القُرَبَاءْ. وَأنَا السَّاقِي الجَوَّالُ في بَاحَةِ اللَّيْلِ، عَلَى رَأْسِيَ شَارَةُ السُّقَاةِ وحَوْلَ خِصْرِيَ الزِّنَّارُ، وفَوْقَ رَاحَتِي الطَّاسُ والإبْرِيقُ والأَقْدَاحْ.
آخِر اللّيْلِ تجيشُ نفسي بالرّغبةِ ولا أقْدِرُ على الكِتْمان، فأبوحُ لسَيِّدي. أحْكي له عن خِلْوَتي السِّرِّيَّةِ وأُنْثى القَمَرْ. يَضْحَكُ سَيِّدي حَتَّى يَرْتَجَّ جَسَدُه وتَدْمَعُ عَيْناه، وقَبْلَ أن يَكُفَّ يَرْبِتُ على صَدْغي رَبْتَةً خفيفةً وهوُ يُتَمْتِمُ: عَبْدُ له أحْلاَمُ عَبْد.
ثُمَّ يَغْرِقُ في سُباتِ عَمِيقْ. عِنْدئِذٍ يَجْأَرُ الحضُورُ بالضَّحِكْ، ويَنْفَضُّ السَّامِرْ.

* في الصَّباحِ أتَأَمَّلُ وجْهَ سَيّدِتي، يُطِلُّ منُ سِدْرَةِ المخْدَعِ كأنَّه الورْدَةُ المنَدَّاةُ بالطَّلّ.آتي لها بماءِ الوَرْدِ وأعْوادِ الصَّنْدَلِ والنّدِّ ، أُطْلِقُ البُخورَ وأُعِّطَّر المكانْ. أقولُ لسيِّدتي وهي تَضْفَر جَدائِلَ شَعْرِها الذَّهبيِّ في المرآة:
ـ هَلْ آنَ أوانُ القَطْفْ…؟!
تجفل سيِّدتي وتُشِيحُ بوجْهِها عَنيِّ، غير أنـِّيِ أرى إحْمرارَ عَيَنْيْها في المرآةِ فأعاودُ الهَمْس:
ـ البَغْلُ الشَّائخُ يليِقُ به الموتْ.
تَرْجُفُ أنامِلُ سيِّدتي وَيخْتلجُ صَدْرُها وهي تَعْقِدُ الأُنْشُوطَةَ الحمراءَ عِنْدَ مِفْرَقِ النَّهْدَيْن. أُقَرِّبُ فمي المشْقُوقَ من مَنابِتِ الشَّعْرِ عند أُذُنَيْ سيِّدتي، أتَشَمَّمُ عِطْرَها الفَوَّاحَ، وأهْتِفُ في فصاحةِ شاعرٍ مُفَوَّه:
ـ وهذا الحُسْنُ الرَّيَّانْ.. يُتْرُكُ للذٌبُولِ في مَضاجِعِ الهَجْرْ..؟!
تتَحَّسسُ سَيِّدتي غَدائرَ شَعْرِها المضْفُورِ في المرآةِ، تَرْمُقُني بِعَيْنَيْن واسِعَتين مَبْهُورتَيْن، كأنَّها تسألُني: هل تَجْرُؤْ..؟!
أقولُ بنشوةِ طاغيةِ، وصَفْحةُ عُنُقِها البيضاءُ ـ الشَّاهقةُ البياضِ ـ مَشْرِعَةُ في وجهي كنصلِ السَّيْفِ:
ـ مُريني تجديني مِلْكَ يَمينِكْ…
تُسْبِلُ عَيْنَيْها الفاتِنَتَيْن، والبَسْمَةُ عند زاويةٍ الفمِ شارةُ وتوطِئة.
أهتِفُ بهمَّةٍ لا تليقُ بِعَبْدٍ وقد اسْتَخفَنَّي الفَرَحْ:
ـ لأَجْلِ عيونِ سَيَّدتي يلينُ الصَّعْبَ.. ويَسْهُلُ العَسيِرْ..
وأُرْدِفُ وأنا أمْرُقُ خارِجَ الغُرْفَةِ في جَذَلٍ مَخْمُورْ:
ـ .. ويَتَحقَّقُ المُحالْ..!!
عَيْنا سَيَّدتي أَجْمَلُ زَهْرَتَيْنِ على غُصونِ الموسمِ الرِّيفيِّ.. في زَمَنِ السَّدِيمْ.

* سَيَّدي في مَضْجِعه يَطّرُدُ عن عَيْنَيْه آثارَ النَّـوْم، ويَعْبَثُ بشُعَيْراتِ صَدْرِه اللَّحيْم.
َدُسُّ له السُّمَّ خِلْسَةً في كأسِ الشَّرابْ. يَرْفَعُ يدَه بالكأسِ مُغْمَضَ العَيْنَينِ، ويُفْرِغُ الشَّرابَ في جوفِه جرْعَةَ واحدة ويتَجشَّأ. وحين يَسْري السُّـمَّ في أحشائه يَزْرَقُّ لونُ وجْهِه وتَجْحَظُ عيناه وِيُحدِّقُ فيَّ تَحْدِيقَةَ الموتِ وكأنَّه يسألُني في إلْتياعٍ مكْتُومٍ: أنتْ..؟!
أُومِئُ له برأسي علامةَ الإيجابْ. وقَبْلَ أن أشُدَّ عليه الغِطاءَ أَذْرِفُ عليه دمعتَيْن دِلالَةَ الحُزْن.

* سّيَّدتي تُحكِمُ حَوْلَ خِصْرِها ثوبَ الحِدادِ وتتأمَّلُ وَهْدَةَ رِدْفَيها في المرآة. أقولُ لِسيِّـدتي وأنا أمنحها عهدَ الأمانِ والطاَّعة:
ـ عَبْدُكِ أنا يا سّيَدةَ الأقْمارْ..
تَتَدَرَّعُ سيدتي بالصَّمتِ. أردفُ أنا ـ في تواضُعٍ مُصْطَنَعٍ ـ كأنَّني السَّيِّدُ منذُ زَمنٍ بعيد:
ـ خَاتَمُ في إصْبَعكِ.. تَضَعيه حَسْبما شِئْتِ.. وتَخْلعيه حيثُ تَشائين..
تَرْفَعُ إليَّ عَيْنَيْن ضارعَتَيْن، وهي تُرْهِفُ السَّمْعَ تَوجّساً من حاشيةِ القَصْر. أقولُ لها بحنكةِ ذِئْبٍ عجوزٍ تَمَّرسَ على الطِّرادِ والقَنْص:
ـ الآنْ.. سِرَّنا واحدُ يا سّيَّدتي..
يَنْتَفضُ جَسَدُ سيدتي، ويَنْتَصِبُ رأسُها البديعُ فوقَ عُنُقِها النَّافِرِ مِثْلما تَتَوفَّزُ المهرَةُ للجُموحْ. لكنَّني أحِّدقُ فيها بعيْنَيْن زُجاجيِتَّيَّْن لا أثَر فيهما للحسّ. وحين تَرى نَظْرَتي الجِبِلِّيَّةَ المتَحجِّرةَ ـ في المرآةِ ـ تُنكِّسُ رأسَها وتلوذُ بالصَّمْت. أتحسَّسُ بعيْنَيَّ حبَّاتِ اللؤلؤِ المنظومةَ في عِقْدِها على جِيدِ سّيَّدتي، وأِرْدفُ ضاغطاً على مخارجِ الحروفِ كمن يلوكُ مُضْغَةَ لحمٍ نَيِّىْء:
ـ لا عَلَيْكِ يا سَيدِّتي.. سِرُّكِ في بِئْر..
هكذا ولجْتُ بسَيدِّتي مَهْمَهَ الأسْرارِ بعدَ أنْ اقْتَسَمْتُ معها كِسْرَةَ الحُزْن.

* سّيَّدتي في قَمْرَتِها المَلكيَّةِ لم تَخْلَعْ ـ بَعْدُ ـ عن وجْهِها الصَّبوحِ قِناعَ الحُزْن.
أقولُ لها وأنا أتأمَّلُ الفِراشَ الشَّاغِرَ في صَدْرِ الغُرفَةَ:
ـ أماَ آن الأوانْ .. ؟!
تَروُغُ عَيْنا سّيِّدتي كأنَّهُما زَيْتُونَتَانِ تَتَدحْرَجَانِ على طَبقٍ من الُّلجَيْن.
أقولُ بخسَّةِ عَبْدٍ حانَ وقْتُ حُرُونِه:
ـ دَمُ سّيّدي لم يَجِفّ بّعْدْ..
يَخْتَلِجُ صَدْرُ سّيِّدتي مثلَ نَخْلهٍ مُثْقَلَةٍ بالحْملِ ناوَشَتْها الرِّيحْ.
أقولَ لها وأنا أعْتَصِرُ بِعَيْنيِِّ نَبيذَ الجسدِ المخْبُوءْ:
ـ دَمُ سّيَّدي يُثْقِلُ عُنُقي.. وأنا بَرَّحَ بي الكِتْمانْ..
وجْهُ سّيِّدتي نَهْرُ رائِقُ من الحليبِ الدَّم. لكنَّ حُمْرَةَ خَدَّيْها تَغِيضُ وهي تُيمِّمُ وَجْهَهَا شطْرَ الفِراشِ الشَّاغِرْ.
هكذا قاسّمْتُ سّيِّدتي فِراشَ نَوْمِها، بَعْدَ أنْ ولجْتُ بها جُبَّ الأسْرارِ واقتَسَمْتُ معها كِسْرَةَ الحُزْنْ.

* آخِـر اللَّيْل. ما يَزَالُ في عَيْنَيَّ المتْعَبَتْينِ خَدَرُ النَّوم، ونِباحُ الكلابِ الجاثمةِ عند مرابطِ الخيل يُدَوِّمُ في سَمْعي كالأنينِ المكْـتُومْ. أتَقَلَّبُ في مَرْقَدي. أتَحسَّسُ ـ في غَبَشِ الصَّحْوِ ـ عَوْرَتيِ المجذوذة. يُؤْلمني تَجسُّدِي، وأحْلاَمُ اللَّيلِ المنْصَرِمِ تَفِرُّ من ذاكرتي كأنَّها الحمائمُ المُهاجِرَة
.






 
رد مع اقتباس
قديم 10-12-2007, 02:37 AM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"ـ قصة: مَطَرٌ صَيْفيّ

· قصة قصيرة

مَطَـر صَيْفــيّ

كاتْشِيا لمْ تَكن حلماً . كانت هاجساً، حدساً، نبوءة.. ربما، لكنها تَجسَّدَتْ أمام عَيْنَيَّ امْرأةً من لَحْمٍ ودَم، لا يكاد يميزها عن بنات جنسها شيء؛ ذات الوجه السيامي بسمرته الناعمة وخديه البارزين، والعينين الضيقتين والأنف الأفطس، والشعر الأسود الفاحم المُنْسَدِل على جبهتها في استدارة لطيفة. كانت خلف الواجهة الزجاجية مُنْكَبَّةً على مجموعة من الأوراق، وهي توجه إليَّ السؤال تلو السؤال وتُدوِّن ما أمليه عليها دون أن ترفع عينيها. وحين فرغت أخيراً استدارت بجسدها نصف استدارة، وتناولت المفتاح المعلق على لوحة الأرقام خلفها، ونهضت لتريني الغرفة. في المصعد كان بوسعي أن أتأمل وجهها عن كثب. قدرتُ عمرها ببدايات العقد الثالث، وبدا قوامها أميل إلى النحافة والقصر، بَيْدَ أنه متسق في جملته وتفاصيله، كأنه عبارة موجزة مفعمة بالإيحاء والدلالة. كانت تتزيا بقميص من الموسلين الأبيض موشى بنقوش صفراء، فوق تَنُّورَة رمادية قصيرة مشقوقة من الخلف تكشف عن ساقين بديعتين تنحدران في ملاسة ونعومة. راحت ترصد موجودات الغرفة، وتتلوها علي بصوت هامس لكنه واضح النبرات، دون أن تنظر إليّ، وحين فرغت سألتني إن كان ثمة شيء آخر يلزمني، فأجبت بالنفي، وسألتها عن اسمها. قالت: كَاتْشِيَا.
وأرْدَفَتْ بالإنجليزية ـ التي تنطقها بلكنتها الخاصة ـ وشبح ابتسامة يلوح على شفتيها المكتنزتين:
ـ يمكنك أن تدعوني كاتشيا.
والتمعت عيناها بألق خاطف سُرْعَان ما توارى خلف أهدابها السوداء. كنتُ مُتعباً من عناء السفر الطويل فَصَرَفْتُها مُسْلماً جسدي إلى سُباتِ عميق أفَقْتُ منه على رنين الهاتف. كان صوتها ينساب عبر الهاتف بألفة محببة. قالت بلهجة أقرب إلى التقرير منها إلى الاستفسار: نَائِمْ..؟!
سألتها ـ وخدر النعاس ما يزال في رأسي ـ إن كان ثمة شيء، وأنا أُقَلِّبُ كافَّةَ الاحتمالات في مدينة لا أعرف فيها أحداً ولا أحد فيها يعرفني. أجابت ضاحكة وهي تروغ من سؤالي: قطعت عليك حلمك..؟!
وقعت على عبارتها موقع الدهشة. كنت أحلم بالفعل. سألتها مأخوذاً بنزق الحوار وفضول المباغتة:
ـ وكيف عرفت..؟!
قالت بيقين بدا لي غريباً:
ـ هذه مدينة الحلم.
وأرْدَفَتْ بعد فترةِ صمتٍ وجيزة بَدَتْ كفاصلةٍ بين جُمْلتَيْن:
ـ قُصَّ عليَّ حُلمك.
قلتُ لها وأنا أستجمعُ شتاتَ ذاكرتي:
ـ كانت ثمة جزيرة نائية وبحر متلاطم الأمواج، وكنت عند الجرف...
ثم ابتلعت ريقي وأنا أستطرد في سرد وقائع الحلم:
ـ كان هناك شبح امرأةٍ عارية عند حَافَّةِ الجُرْفِ، جَسَدُها الشَّمْعِيُّ تكسوه غلالة رهيفة تتطاير أطرافُها مع الرِّيح ....
قالتْ تَسْتَعْجِلُني: وبَعْد..؟!
رُحْتُ أُلَمْلِمُ شَذراتِ الحُلْم:
ـ .. مَدَّت إليَّ يدها وأمْسَكَتْ بيدي، وراحت تأخذني معها في رفق ونعومة صوب الماء...
قالتْ:.... وبَعْد..؟!
قلت لها: ليسَ هناك بَعْد.. صحوتُ على صوت الهاتف.
قالت ضاحكة كأنها أفاقت من غفوةِ وَسَنٍ خفيفة: ما أغباني.. لَيْتني ترَيَّثْتُ قليلاً.. لابد أني قَطَعْتُ عليكَ حلمك الجميل.
أجَبْتُها ضاحكاً وقد زايلني تماماً أثر النعاس:
ـ كان مَحْضُ حُلم على أية حال.
وعدتُ أسألها إن كان ثمّة شيء.
تردَّدَتْ قليلاً قبل أن تُجيب: لا .. ليس هناك شيء.
وأرْدَفَتْ بعد تَوَقُّفٍ قصير:
ـ هل ترغب في رؤية المدينة..؟ هذا هو يومي الأخير هنا.. ما رأيك..؟!
قلت وكأني مَسُوقٌ بِوَحْيِ هاتفٍ يتجاوبُ صَداه في داخلي:
ـ لا بأس.
قالت:
ـ أمامك ساعة واحدة.. بعدها ننصرف سَوِيَّة.
في الطريق إلى الشارع الرئيسي سألتها إن كان هذا هو يومها الأخير حقاً، فأوْمَأت برأسِهَا علامةَ الإيجابْ. هذا الزّحامُ المَقيتْ!! قالت وهي تغالب بصوتها جلبة الشارعِ الغاصِّ بحركة الأحياء وصخب المارَّةِ وضجيجِ العرباتِ المسرعة في سَيْلٍ دافقٍ لا تبدو له نهاية. وأرْدَفَتْ وهي تأخذني من يدي وتعبر بي الشارع في عَدْوٍ متلاحق:
ـ أسْرِعْ.. سوف نستقلُّ العربة من الجانب الآخر.
كانت ثمَّة عربة مكشوفة يجرُّها زَوْجٌ من الجيادِ وحُوذيٌّ عجوز له ملامحُ أهْلِ المدينة؛ سَألَنا عن وِجْهَتِنا فأجابَتْه هي بنفس لُغته. ظلَّتْ مُمْسِكةً بيدي بين يَديْها الصغيرتين والعربة تَشُقُّ بنا الطَّريقَ وسط هديرِ السيارات وجَمْعِ البَشرِ المُتَكَاثف من كُلِّ صَوْب. راحَتْ تُشير بيدها وهي تشرح لي معالمَ المدينة التي بَدَتْ وكأنَّها عُلْبَةٌ كبيرة من عُلَبِ اللَّيل. نحنُ الآن في سكوموفيت.. هذا طريق رامافور.. وهذا سوليم روود.. هذه سيام جاردن.. وهذا نيوبيبوري روود.. وهذا .. كنت مستغرقاً أتأمَّلُ سَيْلَ المَارَّةِ الذين بدوا خليطاً من شَتَّى الأجناسِ، وأطالعُ البِناياتِ الشَّاهقةَ المُصْطَفَّةَ على الجانِبَيْن، والأضواءَ الحمراءَ التي تتلألأُ على واجهاتِ الحاناتِ اللَّيْلِيَّة، وأجسادَ النِّسْوة شِبْه العارية عند مداخل الحانات كأنَّها دُمَى مُلَطَّخةٌ بالأصباغِ أو قُطْعانٍ من القِرَدَةِ اصْطفَّتْ في اسْتجْداءٍ صارخ للغَرَائزْ. قالتْ وهي تضغط على يَدِي المُسْتَكِنَّةِ بين راحَتَيْها: هذه المدينةُ مَاخورُ العَالمْ.. ما أبْشَعهَا!!. وتَوجَّهَتْ بالحديثِ إلى الحُوذِيِّ الذي أصاخَ السَّمْعَ لحظةً ثم عَرَّجَ على طريقٍ جَانِبيٍّ ضَيِّق، وألْهَبَ ظَهْرَي الجَوَادَيْنِ مُحْدِثاً بِسَوْطِه فَرْقَعاتٍ حَادَّة في الهواءْ. كانَ الجَوُّ خَانِقَ الحرارةِ مُشَبَّعاً بالرُّطوبةِ وروائحِ الشُّوَاءِ المُنْبَعثةِ من الحوانيتِ وعرَبَاتِ الطعام المُتناثرة على جَانِبَي الطريق، بينما راحت قطراتُ مَطَرٍ خَفيفٍ تتساقَطُ فوقَ رأسَيْنا. قَالَتْ: حَدِّثْني عن مَوْطِنكْ. وأسندت رأسها على صدري. قلت لها وأنا راغب عن الحديث: صيفنا قائظ ليس فيه حبة مطر. ومسحت بباطن يدي على رأسها المُبْتَلَّة. كان وَقْعُ حوافر الجياد فوق الأرض المُنَدَّاة يَتَوَاتَرُ على سمعي، والعربة تمضي بنا في دروب ضيقة متشابهة شبه خالية من المارَّة، يُسْلِمُنا الواحد منها إلى الآخر، أفضت بنا في النهاية إلى خلاء شاسع تلفه الظلمة والسكون يتوسَّطه طريقٌ تُرابيٌّ مهجور، تحفه من الجانبين شجيرات استوائية ذات أوراق عريضة خضراء داكنة الخضرة. كُنَّا قد خَلَّفْنَا المدينة وراءنا ولم يعد ثَمَّة غير الحقول المترامية على جانبي الطريق، وكانت حرارة الجو قد خَفَّتْ وبدأت نسمات من الهواء الطلق محملة بعبق الحقول ورائحة المطر تهب على وجهينا. أطلقت تنهيدة عميقة ورأسها غاف على صدري، وبدا صوتها متغيراً وهي تخاطب الحوذي الذي انحرف يسرة مع انحناءة الطريق، ومضت بنا العربة بمحاذاة نهير صغير ممتلئ حتّى منتصفه بمياه عَكِرَةٍ قليلة العمق بدت بلونها الضارب إلى السمرة وتموُّجاتها الخفيفة كأنها سبيكةٌ من رَصَاصْ. حين صِرْنا على مقربةٍ من جسرٍ خشبي يصلُ ما بين ضِفَّتَي النهر أشارت له أن يتوقف. كان ثمة كوخ خشبي بسقف مخروطي الشكل له هيئة المعابد البوذية منتصباً قبالة رأس الجسر على الضفة الأخرى من النهر. ترجَّلْنا معاً وعبرنا الجسر مُعْتَنِقَي اليدين صوب المعبد الذي بدا في تفرُّده وسط الظلمة كأنه رأس غريق ابتلعته لُجَّةُ بحر شاسع، أو مُصْحَرٌ تقطعت به السبل في صحراء لا تخوم لها. كان المطر ما يزال يتساقط فوق رأسينا. نَقَرَتْ كاتشيا بأطراف أصابعها نقرات خفيفة ذات إيقاع متواتر على الباب، ومضت لحظات خلتها طويلة قبل أن يَنْشَقَّ فراغ الباب عن وجه صبية صغيرة لها وجه شاحب وعينان ضيقتان وشعر ناعم خفيف. تَهَلَّلَ وجه الصبية وهي تضم راحتيها وتنحني أمامنا لتؤدي تحية أهل البلاد. ثم ألقت بنفسها بين ذِرَاعَيْ كَاتْشِيَا في عناق حميم. قبل أن أدْلفَ إلى جوفِ المعبد لاحتْ منِّي التفاتةٌ إلى الجسر فألفيتُ العربة ما تزال هناك تراوح مكانها وسط الظلمة. في صدر المعبد كان ثمة ضوء شحيح ينبعث من مصباح نفطي يتدلي من السقف، وأسفل المصباح كرسي ضخم من الخشب الصقيل أشبه بالهيكل نُقِشَتْ على مسنده وذراعيه رسوم مذهبة لطيور وكائنات غريبة يقبع في فراغه شيخ عجوز طاعن في السن، له شارب خفيف ولحية بيضاء مدببة فوق بشرة رهيفة في لون الجلد المدبوغ. كانت أمامه شمعة وحيدة ترسل ضوءاً معتماً من ذؤابتها المرتعشة، وإلى جوارها مبخرة يتصاعد منها دخان له رائحة عبقة نفاذة. وراء الشيخ ـ منتحياً جهة اليسار قليلاً حيث ينبسط ظل المصباح ـ كان بوذا متربعاً في جلسته المعهودة؛ وجهه مسكون بذلك الصمت السرمدي، ومن قاع عينيه الغافيتين تنبعث نظرة غائمة مُسْتَكِنَّة، مفعمة ببُحْرَان النشوة. تَلقَّانا الشيخ بوجه هضيم معروق وعينين كابيتين ثابتتين في محجريهما كأنهما كُرَيَّتَان من زجاج. تقدمت كاتشيبا في خشوع طقسي صوب الشيخ ثم جثت على ركبتيها وأحْنَتْ رأسها حتى لامست الأرض عند موطئ قدميه وهو يتمتم بصوت واهن لا يكاد يبين، وفمه الأدْرَد يتحرك ببطء كأنه يلوك مُضْغَةً من الكلمات المُدْغَمَة، وحين فرغَ مَدَّ يداً نحيلة مرتجفة وراح يربتُ على مؤخِّرِ رأسها، فنهضَتْ وأشارت إليَّ إشارة مبهمة حَدَسْتُ فحواها ففعلتُ مثلما فَعَلَتْ، وانْتَصَبْتُ واقفاً ورائحة البخور تتسلَّلُ إلى رئتي ثقيلة مخدرة.
أشار الشيخ بيده إلى الصبية التي كانت تقف خلفنا صامتة فجاءت وتناولت الشمعة، وأومأت لي برأسها فتبعتُها بجسدٍ يُثْقله الخَدَر. كانت تسير بخطى وئيدة َّ عبر رواق المعبد، حتى صرنا على رأس درج واطئٍ يفضي إلى باب غرفة وحيدة. أخرجت الصبية من طوقها مفتاحاً معقوداً بخيط ثخين وفتحت الباب، فلامست وجهي نسمة من هواء بارد رطب مشبع برائحة الخلاء الفسيح. كان للغرفة صَمْتُ المهاجع وعُزْلَتُها الساكنة، بيد أن دفق الهواء المتقاطر عبر خُصاصِ النافذة كان يضفي على المكان ألفة وأمناً، كأنه أنفاس كينونة حية في كوكب غير مأهول. أسفل النافذة كان ثمة مخدع من خشب قهوائيٍّ ضاربٍ إلى الحُمْرَة، يعلوه فراش مَكْسُوٌّ بشراشفَ برتقالية اللون محلاة بنقوش صفراء. وفي الرُّكْنِ القَصِيِّ من الغرفة عند رأس المخدع منضدة تعلوها آنية من فخار يتوهج فيها جمر قليل. أخرجت الصبية من جيبها لفافة معقودة فضتها في تؤدة، وتناولت منها حفنة ألقت بها وسط الجمر، فتصاعدت سحابات من الدخان لها ذات الرائحة العبقة، ثم ثبتت الشمعة فوق المنضدة، ورمقتني بنظرة طويلة مستغرقة قبل أن تنسل خارجة في صمت، وكأنها فرغت لتوها من أداء شعيرة مقدسة.
حين جاءت كاتشيا كانت عارية إلاَّ من غلالة رهيفة، تشفُّ عن جسدٍ عُذْرِيٍّ بدا في نعومته وغناه أشبه بجسد حوريَّةٍ خرجت لِتَوِّها من الماء. نَضتْ عنها غلالتها وقالت وهي تلقي بجسدها على الفراش: هذا سريرنا الملكي.
كان صوت المطر المنهمر على خشب النافذة ومياه النهر يأتيني من الخارج في خفوتٍ مُتناغم، ورائحةُ البخور تعبقُ صَدْري بخدرٍ ناعم يتمشَّى في أوصالي، وهي إلى جواري أندَلسٌ خِصْب؛ مَرْجٌ دائمُ الخضرة ترفُّ عليه الفراشات، تتقافز الأيائل والظبيان، وتَنْبَجِسُ منه عيون الماءْ. ونحن على حَافَّةِ الجُرْفِ سألتُها بصوتٍ مَبْهور: مَنْ أنتِ..؟!
قالت: سَيِّدةُ الحُلْم.. تَذَّكَّرْ..؟!.
وأرْدَفتْ وأمواج البحر تتلاطم من حولنا فيغمرُ زبَدُها الفَوَّارُ عُرْيَ جَسَدَيْنا المسْكونَيْن بأُوَارِ الشَّوْقِ ونزيزِ الرغبة: ظلَلْتُ طيلة عُمْري أحْلُمُ بكَ.. ذات الحُلْم.. تَذَّكَّرْ..؟!
وتَنَهَّدَتْ بحُرْقَةٍ وهي تأخذني معها إلى أغوارٍ سحيقة لا قرارَ لها:.. فلمَّا أتَيْتَ كان الحُلْمُ بيننا هو الإشارة..
حين انْحَسَرَ المَدُّ وآبَ كُلُّ شيءٍ إلى السكونِ دَفَنْتُ رأسي في عُرْيِ جَسَدِها البِكْرِ الذي لمْ يَمْسَسْه بَشَرٌ من قبل، قلت لها بصوت دَمِثِ الحَشْوِ، مليءٍ بالشَّبَع والطمأنينة: هل نرجع..؟!
قالت بصوت يخالطه خدر النوم:
ـ ترجع وحدك.. إلى مدينة الأموات.
وأرْدَفَتْ: كان ذاك يومي الأخير هناك.. تَذَّكَّرْ..؟!
سألتُها بصوتٍ ضارع: ومتى ألقاكِ..؟!
قالت: اكْتَمَلَ الحُلْم.
ضَمَمْتُها إليَّ في سُعَارٍ وأنا أُحِسُّها تتسرَّبُ من بين أصابعي كحبَّات الماء: كاتشيا.
قالت وصوتها يتلاشَى رُويداً كأنه ذبالة شمعة تنصهرُ فى عتمة الليل وتذوب: فَتِّشْ عَنِّي هناك.. في عُلَب الليل.
وأخْلَدَتْ إلى النوم.

حين صَحَوْتُ وجَدْتُني وحيداً في غرفة الفندق. كان كُلُّ شيء في موضعه، وشمس الظهيرة تتسلَّلُ حارقةً عبر زجاج النافذة، ولم يكن ثمة أثر للمطر. ارتديْتُ ملابسي على عجل وهبطتُ إلى الطابق الأرضي. كانت ثمة امرأة عجوز مُنْكَبَّة على عملها في دأب خلف الواجهة الزجاجية. سألتُها عن كاتشيا.
قالت دون أن ترفع عينيها: أية كاتشيا..؟!
قلت لها: كانت هنا البارحة.
ورُحْتُ أصِفُ لها ملامحها كما وَقَرَتْ في ذاكرتي. رَفَعَتْ إليَّ وجهاً مليئاً بالنّدوبِ والتَّغَضُّنات، وقالت بصوتٍ لم يَخْلُ من سخرية وهي تعبث بشعرها الأشيب: كاتشيا اسم شائع هنا.. شيوع الماء والهواء!!.
ثم الْتَمَعَتْ عيناها فجأة كأنها تذكَّرَتْ أمراً: أووه.. لعلَّكَ تقصد أُويَا.. أُويَا.
قلتُ لها بنفاذ صبر: حسناً. لِتَكُنْ أُويَا.. كما تشائين.
قالت بصوتٍ قليل التأثر وهي تعود إلى عملها: مسكينة تلك الفتاة.. أتانا هذا الصباح نبأ موتها.
قلت لها بصوتٍ صارخٍ مُلْتَاثٍ وأصابعي مُتَصلِّبةٌ على رُسغِها: كَيْف..؟!
قالتْ: مثلما يموت كل البشر..
صرخت بها ثانية وأنا أتشبث بالكلمة في تداعٍ يائس: كيف..؟!
قالت بصوتٍ مُخْتَنِقٍ وهي تُخلِّصُ ذراعها من بين أصابعي: أيها السَّيِّدْ.. إنَّكَ تؤلمني.
خَرَجْتُ إلى الشارع أضْربُ على غير هُدى. كانت زحمةُ المدينةِ المنهمرة تتردَّد أصداؤها في رأسي المتعب، وأضواء اللافتات الحمراء تتوهجُ على واجهات الحانات الليلية؛ تَتَحلَّقُني من كُلِّ صَوْب، وملامحُ المدينةِ الصَّاخبة تتداخل وتشتبكُ في تَمَازُجٍ مَحْموم، ثم تعود تَتَشَكَّلُ في وجه امرأةٍ لم أعُدْ واثقاً إن كانت قد وُجِدَتْ قَطّ.










 
رد مع اقتباس
قديم 10-12-2007, 02:48 AM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"

· قصة قصيرة
قـلـب المديـنــة

فجأة.. وَجَد نفسه ـ في الميدان الخالي ـ وحيداً محاصراً بالبَرْدِ والظلمة ووحشة المكان. في البَاصْ، ظَلَّ طيلة الوقت يغالبُ النََّومَ، مستروحاً حرارة الدفء، مُؤَمِّلاً في إغفاءة طويلةٍ لا يُوقظه منها أحد، وأطيافُ اليوم المُنْصَرِمِ تَتَواتَرُ على مُخَيِّلته كأصداء مُدْغَمَةٍ آتية من قرار بئْرٍ عميقة مهجورة، والبَاص يتهادى به وئيداً، يُسَرْسِبُ ما في باطنه من أحياء على مَحَطّات الطريق، كأنَّه دَابَّةٌ مُجْهَدة ألَحَّ عليها النَّزْفُ، تَتَوقَّفُ بَيْن الحِين والحينِ لِتُفرغ ما بِجَوْفِها وتعود تستأنف السَّيْرَ في إعياء. راوَدَه حُلمٌ عَابِرٌ وتَمنَّى لو يبيت ليلته هكذا غائصاً في ليونة المقعد ودفئه الوثير. لكن هيهات!! ما أن بلغَ البَاصُ مَحَطّة المَيْدان حتى أتَاه صَوْتُ الجَابي واضحاً لا لَبْسَ فيه يُعْلِنُ نهايَةَ الخَطِّ، مُؤكِّداً نداءه المَمْطُوطَ بِنَقْرَةٍ حَادَّة على العمود المعدني القائم خلف مسْنَدِ السائق؛ نقرة ذات رنينٍ خَاصّ يكفي لِطَرْدِ النَّوْمِ من عيونِ الكَسَالى الذين تخدَّرَتْ أجسادُهم وسَرَتْ في أوصالهم رَخاوَةُ الدِّفْءِ والرَّاحةِ فتلكَّأوا في النهوضْ. قامَ مع من قاموا، وفَرَكَ عَيْنَيْه وهو يَتمطَّى في تَثاقُلٍ ويَتهَيّأ للنزول مع غيره من رُكَّابِ آخِرِ الليل. كانوا نفراً قليلاً من البشر، سرعان ما انتشروا في سَاحَةِ المَيْدانِ، ذَائبين في العَتْمَة كأنما ابتلعتهم شقوقُ الليل. وقف برْهَةً يُقَلِّبُ بصرَه في السَّاحةِ الخالية وهو يُحْكِمُ حَوْلَ بَدَنِه سُتْرَتَه المُهْتَرِئة ويُحَدِّقُ في مصابيح الميدانِ المطفأة، والبناياتُ العاليةُ المُصْطَفَّةُ على جَوانبِ المَيْدانِ سَاكِنةٌ مُظْلمة كأنَّها مَرَدَةٌ تَتَحَلَّقُ المَكَان. كان يُفَكِّرُ ـ والمَعَابر كلها تتشَابهُ وتتقاطعُ أمَامَ عَيْنَيْه ـ بأيَّةِ طَريقٍ يَسْلُك..؟‍‍. لكنَّ وَقْفَتُه لَمْ تَطُلْ، أحَسَّ لَفْحَ الهَواءِ الباردِ يَسْفَعُ وجهه ويُثْلجُ أطرافه، ووجدَ نَفْسَه ـ على غَيْرِ هُدَىً ـ يَمْرُقُ أسْفَلَ النَّفَقِ الأرْضِيِّ مُتَّجهاً صَوْبَ الدَّرَجِ المُفْضي إلى طريقِ النَّهْر. قالَ مُحَدِّثاً نفسه ـ كأنه يَلْتَمِسُ العُذْرَ لأنَّه تَخَيَّرَ هذه الطريق: مَا دَامَت الوِجْهَةُ مَجْهولَة فَكُلُّ الدُّروبِ سَواءْ!!. كان مَكْدودَ الخَطْوِ مُنْهَكَ الجسدِ بِفِعْلِ الجوع والإعْياءِ والتِّجْوالِ اليائسِ في طُرقاتِ المدينة طيلة اليوم. عَادَت أطياف النهار الفائت تتزاحم في مُخَيِّلته؛ تَتَعاقَبُ صُوَراً مُضَّطربةً كأنها نُدَفٌ من أبْخِرَةٍ محبوسةٍ تتجَمَّعُ سَحَابَاتٍٍ.. سَحَابَاتٍٍ.. وتتكاثَفُ في رَأسِه. مُنْذُ الصباح الباكر لم يَنْزِلْ جَوْفَه شيءٌ سوى كِسْرَة خُبْزٍ وبِضْعة أكوابٍ من الشَّايِ الأسود تَجَرَّعَهَا مُكْرَهاً وهو يتنَقَّلُ من سُوقٍ إلي سوقْ، وكُلَّما بَـرَّح به التعب وكَلَّتْ قدماه من طول السَّيْرِ عَرَّجَ على مقهى يلتمسُ فيه الدِّفءَ وبَعْضَ الرَّاحة. إمْتلأت نفسُه بالكَدَرِ حين دَاهَمَه الخَاطِرُ الأسْودُ فجأةً وكَأنَّه نَبْتٌ شَيْطَانيٌّ غريب: وَبَعْد..؟!. مَـدَّ يده إلى شَعْرِه الكَثِّ المُهَوَّشِ وأعمل أظافره قليلاً في فَرْوَةِ رأسه، ثم انحدر بأصابعه إلى شعيرات لحيته الخشنة. وعاد يقول لنفسه في تسليم يائس: وهل هُنَاكَ بَعْد..؟! أيَّامٌ طويلةٌ مرذولةٌ بجوعِها وعَوَزِها وهَمِّهَا الثَّقيل!! قديماً ـ في ريعان شبابه ـ كان يدب على أرض السوق مثل الرَّهَوَانِ، يتنقَّلُ من عَطْفَةٍ إلى عَطْفة ومن زُقاقٍ لآخر، لا يكاد يفرغ من شغلة حتى يجد الأخرى بانتظاره، وأصواتُ الحَمَّالين وأرباب الحوانيت تتعالى بالصِّياحِ، تناديه باسْمِه، وهو كالطَّوْد لا يَتْعَبُ ولا تَكِلُّ كتفاه من الحَمْل. الآن حَلَّ الكساد وعز الرزق، وحيثما يروح تطالعه وجوه العاطلين والمتبطلين، يلقاها في جنبات السوق وعتبات الدور والمقاهي وأركان الأزقة شاحبة باهتة مصفرة، معتكرة بدكنة قاتمة لها لون الدم المحتبس في الكدمة ورخاوة العطن الطافي فوق الماء الآسن. وتلك النظرة الجامدة المنطفئة في قرار العيونِ هي هي لا تتحول ولا تتبدل، كأنها سمة أو شارة في عيون الكل، تشرق ـ لحظة ـ بفضول مباغت حين يهل وجه قادمٍ جديد كأنما تتعلق بخيط واهٍٍ ما يلبث أن ينقطع، وتعود تنحسر مخذولة في تراخ مستسلم بليد، كموجة تتكسر قوتها على صخرة الشط وتتبدد في لجة الماء.
أيام السوق ولت منذ زمن بعيد، وبقى القحط والقنوط وذل الحاجة، ولولا بقية من عزة النفس لأسند ظهره إلى جدار بيت من بيوت الله ومد يده للناس بالسؤال. بلع ريقه وهو يستشعر لذع البرد ينفذ من حذائه المقطوع إلى قدميه العاريتين ويصعد مستكنا بأمعائه الخاوية. قال يحدث نفسه وهو يحاول أن ينفض عن قلبه غيوم الكآبة : "الصباح رباح كما يقولون، حسبك الآن أن تعثر على مهجع آمن تلوذ به من برد الليل." عاد اليأس المقبض يطبق على قلبه كالغصة وهو يتساءل بينه وبين نفسه: "أي مهجع والليل مضى أكثره، وليس ثمة غير البرد والخلاء..؟! وأي خير في صباح لا يحمل معه غير الجوع والكدر والرثاثة، والركض اللاهث خلف سراب لا يبل ريق ظاميء..؟!"
وقف لحظة يتلفت حوله، وعاد يتابع سيره الوئيد بمحاذاة النهر. على يمينه، كانت حوانيت بيع السمك مطفأة يلفها السكون والظلمة، مصطفة بجوار بعضها البعض كأنها وشاح أسود اللون يحيط بخاصرة النهر، وثمة رائحة زفرة نفاذة تنبعث من جوف المكان محملة برطوبة الجو، وحركة الأسماك الحية في أحواض الماء- لاتني تطرق سمعه؛ خافتة لينة حيناً وصاخبة مباغتة حيناً آخر. على يساره- كان الشارع المرصوف ينحني مع استدارة النهر ويعود ينساب في استقامة، خالياً أو يكاد إلا من صوت عربة مسرعة تمرق إلى جواره، أو مواء قطة فزعها البرد، أو ضحكة مخمور تتناهى إلى سمعه آتية من هناك- من الجانب الآخر للطريق، حيث البنايات العالية ومداخل الأزقة المعتمة المفضية إلى قلب المدينة، تتراءى له- في تعاقبها المتواتر- أشبه بأفواه فاغرة تنفث ما في باطنها من أنفاس عطنة. شملت جسده قشعريرة مفاجئة وأحس أنه لم يعد قادراً على مواصلة السير. توقف واستدار بجسده وهو يفكر في اجتياز الطريق لائذاً بجسده المقرور في واحدة منها هرباً من زمهرير البرد، غير أنه ما كاد يهم- حتى كان شيء أشبه بالمعجزة قد وقع أمامه، على مسمع ومرأى منه في اللحظة التي استدار فيها متأهباً لعبور الطريق- سمع صوت تقلبها في حوض الماء، وفي أقل من طرفة العين- أحس رذاذ الماء إلى وجهه، ورآها أمامه ملقاة على الرصيف، سمكة بطول قصبة الذراع- من راحة اليد على مفصل الرسغ- مفلطحة عريضة، يتوهج قشرها الصدفي وبياض بطنها الناصع في عتمة ليل لا يضيئه غير قمر شاحب مختنق بالغيوم. وقف لحظة جامداً مبهوتاً، قبل أن ينحني بخفة قناص ماهر ويطبق بيمناه على رأس السمكة، ويتابع سيره على عجل مبتعداً عن المكان. لا يستطيع- بنصف عقله الواعي- أن يفسر ما إذا كان جسده قد تجمد تردداً أمام هول المفاجأة، أم كان تحسباً غريزياً لرد فعل مجهول قد يداهمه من الحانوت الساكن على غير توقع. لكن الحانوت بقي على سكونه لا تصدر عنه نأمة، وصاحبه الغارق في غطيط نومه لم توقظه- فيما يبدو- حركة الماء ولا قفزة السمكة وانفلاتها المباغت من بين قضبان السياج الحديدي الذي يفصل بين حوض الماء وحافة الرصيف. تزاحمت الأفكار في رأسه متلاحقة مضطربة، وهو يسرع الخطو- غافلاً إلى حين عن جوعه وإعيائه- تسوطه رغبة محمومة في الإفلات من قبضة خطر وشيك قد يكون في أعقابه. أحس رعشة السمكة الحية وهي تنتفض في يده، فأبطأ من خطوه قليلاً والشعور بالأمان يتسلل إلى قلبه، وهو يحسب- بينه وبين نفسه- المسافة التي قطعها منذ خلف الحانوت وراءه. حين أحس بأنه أصبح بمنأى عن الخطر، إستدار نصف استدارة واندفع بكل قواه- عابراً إلى الجانب الآخر من الطريق. أحس- ثانية- رعشة السمكة وتململها في يده، فأطبق عليها قبضته، وهو بين مصدق ومكذب لما حدث. لم يكن- إذن- حلم يقظة تبدى له- هو الجائع المتعب المقرور- بل سمكة حقيقية لم تزل في جسدها رجفة الحياة. عاود النظر إليها وأشرقت روحه بفرح مباغت جعله يتذكر جوعه الذي نسيه في غمرة الدهش والترقب، ومحاولة الإفلات من خطر ذاب وتلاشى- الآن- في سكون الليل. أبطأ من خطوته ومرق في أول زقاق صادفه، وثمة فيض من المشاعر الغريبة المبهمة يغمر جسده، وهو يغذ سيره في الزقاق الضيق المعتم، مطبقاً بأصابعه على الجسد البض- في تشبث مستميت، دون أن يزايله إحساسه بالانبهار المشوب بفرح ينبعث من أعمق أعماقه. وجه الغرابة فيما حدث لم يكن في وقوعه، أشياء كهذه تحدث كل يوم دون أن تثير دهشة أحد. المعجزة الحقيقية كانت في لحظة وقوعه، لحظة الجوع الكافر واليأس الخانق والألم الممض- ثم تجيء تلك القفزة الموقوته، كأنها يد الله الممدودة بالعطية، طاقة النور تنبلج في عيني ضرير. ليس حلماً، وهاهي ذي السمكة في يده لاتني تنتفض متأبية على الموت. ترى هل أفاق صاحب الكشك من غفوته..؟! وما تراه يفعل إن هو تكشف له ما حدث..؟! هل يسلم أمره إلى الله ويستعيض عن السمكة خيراً. أم تراه يشمر عن ساقيه ويبدأ الطراد..؟! تابع سيره الوئيد فوق أرضية الزقاق الزلقة،موقناً- يقيناً لا يداخله شك- أنه بلغ شط الأمان في الزقاق، وتلك الرائحة- مزج خليط من روائح العطن والأزبال وماء الغسل وصنان البول- تتصاعد إلى أنفه ورئتيه، ثقيلة نفاذة، يزيد من وطأتها على حواسه- ضيق الزقاق الذي بدا له- وهو ينسرب في جوفه- كأنه مصران دابة مجترة! داهمته- على حين غرة- خاطرة غريبة لا يعرف كيف غابت عنه طيلة الوقت. ما تراه يفعل بالسمكة؟! هل يشويها على النار ويلتهمها على الفور ليسكن بها جوعه..؟! أم تراه ينتظر إلى الصباح ويبيعها ويتقوت بثمنها أياماً..؟!. مال- في قرارة نفسه- إلى التهامها في التو واللحظة، لكنه ما كاد يقر قراره، حتى وجد نفسه يفكر بتكدر حقيقي.. من أين له بالنار في هذا الوقت المتأخر من الليل..؟! لو كان له بيت مثل بقية الخلق لهان الأمر!! لو كان له بيت لما كانت هناك مشكلة من الأصل!!. وابتسم بينه وبين نفسه وهو يمضي في نفس السياق.. ولما كانت هناك سمكة أيضاً!! عاود النظر إليها وتابع سيره.كان قد اقترب من نهاية الزقاق. لاحت له أضواء الشارع الرئيسي باهتة مشربة بالزرقة، وطنين العربات المسرعة يتواتر على سمعه فيبدد قليلاً من وحشة السكون المطبق من حوله. كان ثمة كشك خشبي مغلق على يساره وأحس بالرغبة في التبول، فأزاح سرواله وأقعى إلى جوار الكشك، وداخله خوف غامض من الأضوية المشبحة بالزرقة التي بدت له أكثر وضوحاً. حين فرغ أخيراً- إنتصب واقفاً، لكنه ما كاد يفعل- حتى ارتطم جسده بجسم غريب، فاستدار ليجد نفسه وسط ثلاثة فتيان مختلفي السحنة والهيئة. كان الواقف أمامه بديناً بشعر خفيف ووجه بيضاوى. سأله وهو يشير إلى السمكة في يده:
ـ ما هذا.. ؟
وقف مبهوتاً وهو يحس نفسه وسط أغراب لا يعرف قدر الخير والشر في نفوسهم.
أعاد البدين السؤال عليه، فتردد قليلاً قبل أن يستحضر صوته وحاول جاهداً أن ينحي عن نفسه الهواجس.
ـ هذا؟!.. إنها سمكة..
قال الواقف أمامه منحرفاً قليلاً ناحية اليسار، وبدا أقصر قامة، ومقدم رأسه خال من الشعر.
ـ حقاً إنها سمكة.. لها رأس وذيل وزعانف..!!
عاد البدين يقول بنبرة واثقة فيها من التبسط قدر ما فيها من السخرية:
ـ بالطبع .. نحن نعرف أنها سمكة.. لا قطة.. لكن..
وتغير صوته فجأة وكأنه عدل عما كان يوشك أن يقوله وأردف وهو يربت على كتفه في خفــــة :
ـ هل سمعت تلك النكتة..؟!
أجاب وهو يستشعر رجفة السمكة في يده:
ـ أية نكتة..؟!
ـ نكتة السمكة.. ألم تسمع بهــا ؟
قال البدين وهو يعاود الرتب على كتفه
هز رأسه علامة النفي. وعاد البدين يقول بمرح:
-لم تسمع بها؟ إذن اسمع.
ومضى يحكي له نكتة بذيئة عن اثنين من الشواذ، وحين فرغ انفجر الثلاثة ضاحكين. هَـمَّ هو الآخر بالضحك لولا أن خوفه غلب عليه فلاذ بالصمت.
قال الواقف على يساره وهو يخبطه بظاهر يده على صدره:
-هيه.. أعجبتك النكتة..؟!
أومأ برأسه علامة الإيجاب. وعاد القصير يقول في عتاب مصطنع:
-لكنك لم تضحك..
إنفرج فمه عن شبح ابتسامة، لكن البدين تقلصت ملامح وجهه واستعاد صوته نبرة الجد فجأة وهو يقول:
- من أين لك هذه السمكة..؟!
ارتج عليه القول وأخرسته المباغتة. وظل الواقف على يمينه صامتاً يرقب المشهد بوجه محايد، كان ربعة يعتمر بقبعة فوق رأسه. عاد الواقف على يساره يقول بصوت يخالطه خنف خفيف وله رنين معدني يبين في سكون الليل:
- أنت تبحث الآن عن قصة محبوكة ترويها لنا.. لا عليك.. نحن سنوفر عليك الوقت..
واستطرد وهو يتفرس وجهه:
-طبعاً لن تقول لنا إنك صدتها من النهر..
انتفضت السمكة في يده فأحكم عليها قبضته.
أكمل البدين:
- لا أحد يصطاد في هذا الوقت من الليل..
أضاف الواقف على يساره وكأنه يسد أمامه ثغرة قد ينفذ منها:
- فوق هذا وذاك.. أنت لا تحمل شبكة أو صنارة .. أليس كذلك؟!
هز رأسه مؤمنا على قوله. وعاد البدين يقول:
ـ ولن تقول لنا أيضاً أنك اشتريتها من السوق.. المحال أغلقت أبوابها منذ وقت بعيد..
أكمل القصير الواقف على يساره:
ـ والسمكة ما تزال حية!!
أضاف البدين:
ـ ثم إن هيئتك لا تشي بأنك تملك ثمن سمكة كهذه..
عاد القصير يقول موجهاً حديثه إلى زميله هذه المرة:
ـ وحتى لو غضضنا النظر عن المظاهر.. هل رأيت أحداً يشترى سمكة ويحملها في يده هكذا..؟! ألا يضعها البائع في كيس أو يلفها في ورقة؟!
هز البدين رأسه مؤمناً على منطق صاحبه- وكأنهما يبحثان في فروض نظرية متداعية الأركان:
ـ صحيح .. لا أحد يشترى سمكة ويحملها في يده هكذا..
وخيمت عليهم لحظة صمت غاص- خلالها- قلبه بين جنبيه، قبل أن يداهمه صوت البدين وإصبعه مغروس في صدره علامة الإدانة:
ـ لـص....!!
كان الصوت حاداً وباتراً كسكين محموم النصل. وهو محاصر بالرعب من المجهول.
عاد القصير يسأل وكأن أدلة الاتهام دامغة لا نقض فيها ولا إبرام:
ـ من أين سرقت هذه السمكة..؟!
أجاب بصوت مرتجف وحلق جاف :
ـ لم أسرقـها..
قال البدين موجها خطابه إلى رفيقيه:
ـ يقول إنه لم يسرقها .. من أين أتى بها إذن..؟!
ـ لابـد أن الدنيا أمطرت سمكـا !!
قال القصير. وظل الواقف على يمينه صامتاً، ووجهه خال من كل تعبير. بدا له قول الصدق- آخر قشة يتعلق بها:
ـ هي التي قفزت من حوض المياه..
قاطعه البدين بصوت نصف إدانة ونصفه استهزاء:
ـ هي التي..؟!
هز رأسه علامة الإيجاب وترغرغت عيناه بالدموع.
عاد البدين يقول بلهجة الأب الذي يعنف صغيره على فعلة شائنة:
ـ وتكذب أيضاً..؟!
قال القصير الواقف على يساره بلهجة التقرير:
ـ يسـرق ويكـذب..
إختنق صوته بالدموع، والسمكة تنتفض في يده حية ما تزال:
ـ صدقوني.. لم أقل غير الصدق..
قال البدين وهو يغزه بطرف يده في صدره:
ـ ألا تستحي..؟! تسرق وتكذب..و..
قاطعه القصير في نفاذ صبر:
ـ إسمع.. لقد كسرت قلبي الرهيف ببكائك.. عندي لك عرض.. أرجو أن توافق عليه..
لاح له في عتمة اليأس خيط أمل تعلق به، بينما عاد صوت القصير يطرق سمعه:
ـ سوف نشتري منك هذه السمكة.. موافق؟!
هز رأسه علامة الإيجاب قبل أن يداهمه صوت البدين:
ـ نشتريها منك بنفس ثمنها.. لا ربح ولا خسارة !!


وتبادل مع الواقف على يمينه – نظرة- تراجع الأخير على إثرها خطوة للوراء، فانفتحت بينه وبين البدين ثغرة- اندفع منها في غمرة الرعب والتشبث اليائس بأمل انقطع دونه كل خيط، غير أن يد الواقف على يمينه كانت أسرع إلى حنجرته، فأحس رأسه مشبوحاً إلى أعلى وقبضة من فولاذ تطبق على عنقه، وظهره ملتصق بالجدار كأنه مصلوب عليه. وقبل أن يفيق من ذهوله كانت ثمة لكمة لا يعرف مصدرها قد ارتطمت بأنفه وأسنانه، أعقبتها ركلة غاصت بألمها في أحشائه، ولم يعد قادراً على صلب طوله فارتخى جسده وأفلتت يده السمكة.
حين أفاق ألفى نفسه إلى جوار حانوت شاي صغير، وثم جمع صغير من الناس ملتم حول الحانوت، كانوا يرشفون الشاي الساخن في غبق الصباح الملبد بغيوم الشتاء-ويستدفئون ببخاره المتصاعد، وكان جسده متصلباً من البرودة، ونبض الألم ما يزال في أنفه وشفتيه. وحين مد يده يتحسس موضع الألم رأى آثار الدم المتخثر على أطراف أصابعه. قدم له صاحب الحانوت كوباً من الشاي بالحليب أمسك به بين يديه المرتجفتين وراح يزدرده على مهل، وأحداث الليل الفائت تتجسد في مخيلته. تحامل على نفسه وانتصب واقفاً وهو يفكر بأيامه في المدينة. كانت حركة البشر المتكاثر وضوضاء العربات المسرعة تدبان في جسد المدينة الميت. يوم جديد لا يحمل له أي أمل في رزق أو نجاة من مكروه. لكنه يوم آخر من أيام الله. تذكر أنه عاش في المدينة أياماً طويلة مكرورة، يطعم يوماً ويجوع أياماً، وفي اللحظة التي يشتد فيها الكرب وتضيق أمام عينيه منافذ الخلاص، ينبثق له ـ من حيث لا يحتسب ـ خيط نور. ووجد نفسه بعد حين عاجزاً عن الفهم أو الاسترسال في التفكير، فمشى متثاقلاً وألقى بجسده المكدود وسط زحمة المدينة.







 
رد مع اقتباس
قديم 10-12-2007, 02:52 AM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"ـ قصة: الدَّركيّ القديم

• قصة قصيرة
الدَّرَكِيُّ القديمْ
حينَ رأيْتُه ـ أوَّل مَرَّةٍ ـ داخلني الخوف. في البدْءِ كان بِوُسْعي أن أُرَاوغَ وأُكَابِرَ وأقولَ أنَّه لمْ يَكُنْ خَوفاً. لكنِّي ـ وقد زايلني ذلك الزَّهْوُ الكاذبْْ ـ صار بمَقدُوري أن أُسَمِّي الأشياءَ بِمُسَمَّيَاتها وأُقَرِّرَ ببساطة أن ما أحسسته ـ آنذاك ـ كان خوفاً. ذلك الخَوْف الذي لا تُدْركُ كُنْهَه أو مبعثه، لكنك تُحِسُّ طيلةَ الوقتِ بأنَّ ثَمَّةَ ذِراعاً قوية خشنةً تَتَحَسَّسُ صَدْرَك؛ تَجُوسُ داخِلَه حتّى تَسْتِقرَّ أخيراً ـ ثقيلةً ضاغطة ـ على قَلبك. بَيْني وبين نفسي كنتُ أتساءلُ مأخوذاً بالدَّهْشةِ والخوفِ معاً: أيُّ شَيء في ثنايا هذا الوجه الوادعِ المُطْمَئنِّ يُخيفني؛ أنا الدركيّ القديمُ الذي عَاشر الشَّوَاذَّ والهَمج وزُناةَ اللَّيلِ وخالطَ السّفلةَ والأوغادَ وشُذَّاذَ الآفاقِ فلم تهتزّ في رأسه شعرة..؟!.

(قيلَ لي: هذا الرَّجلُ أنت تابِعُه.. لا تَدَعْ عَينيكَ تغفلان عنه لحظة.. وإلاَّ أفْلتَ منك). راقبْتُه عن بُعْدٍ واقتفيتُ أثره. لمْ يَكُنْ في سيمائه ما يُثيرُ الرّيبة. كان يأكلُ بنَهَم ولا يشربُ ولا يُدَخِّن، يُخالط صنوفاً شَتَّى من البشر لكنه بدا عازفاً عن النِّسَاءْ.

( قيل لي: أُدْنُ منه واقْتَرِبْ .. إغْشََ مجلسه وتسلَل إلى مخدعه وانقلْ إلينا هواجِسَه وأحلامَه). صِرْنا لا نفترق. غشيت مجلسه، وصحبته إلى داره.. فرأيت ما هالني. كانت غرفة واحدة مأهولة بأكداس الأوراق والكتب القديمة، ولم يكن ثمة غير مخدع قديم ومنضدة متآكلة الأطراف. كنت أشعر بالاختناق وسط هذه الأكداس وأفكر: كيف انْطَلتْ عليه الخدعة؟ وهل يَأمَنُ لي حقاً.. أنا الدَّرَكِيّ الموسوم بعشرين عاما من الدَّرَبَةِ والحَذر والأفعال الخسيسة ؟ وهذا الذي يتحرك في قلبي.. ما كُنْهُهْ؟!.
(كدت أصرخ في وجوههم: أيها القتلة.. هذا الثور آن له أن يَكُفَّ عن الطِّرادْ، تقدَّمت به السّنين وأثْخنَتْ جَسَدَه الجراحْ.. كِدْتُ....).
كان حين يلقاني يتهلّلُ وجهه وتنفرج أساريره، ويمضي بي يُحَدِّثُني عن ذكرياته البعيدة وأحلامه الصغيرة التي لم يتَّسِعْ لها قلب هذه المدينة. كان هدير صوته يأخذني غير عابئٍ بالخطر المُحْدِق به، وسألته مرة: لماذا لم تتزوَّج..؟!. فتفجر صوته بالضحك وأجاب:.. ولماذا يتزوج الناس ؟!. هكذا كان يروغ مني كُلَّما ضَيَّقْتُ عليه الخناقَ فأحِسُّه سَراباً أرْكُض خلفه طيلة الوقت دون أن أدركه.
(قيل لي: تأمَّلْ هذا الوجه. فتأمَّلْتُه.. كان وجه امرأة بلغت لتوِّها سِنَّ الأربعين؛ بِعَيْنَيْن سَوْدَاوَيْن وأهداب غزيرة وفمٍ صغير. تأمَّلْتُه أكثر.. كان كوجوه كل النساء.. باستثناء ندبة الجُرْحِ القديمِ أسفل الخَدّ وتلك النظرة الآسرة في قاع العينين). حين رأيْتُها رَأْيَ العَيْنِ أخذني العجب وتساءلتُ: أية امرأة هذه ؟!
(قيل لي: هَجَرَتْهُ بعد عَامَيْن من الشَّوْقِ والرَّغْبة.. تَعِبَتْ.. فتَرَكَتْهُ وَحْده.. واختارت مَوَدَّتَنا...). كانت تدخن بغير انقطاع. قلت لها يوماً: ترُوقُني رائحةُ التَّبغ في فم المرأة. تَضَاحَكَتْ وقالتْ: أنتَ مُحِبٌّ للمرأةِ في كُلِّ الأحْوَالْ!!
كان وجهها مهموماً، وثمَّة تَغَضُّنٌ عند زاوية الفم يبينُ حين تبتسم. وكانت ـ حين تعزف عن الحديث ـ تَشْرُدُ عيناها لبعض الوقت، فإذا عادتْ عاد صوتها مُتكسِّراً. كانت معي امْرأةً ككلِّ النساء، لكنها حصاد عمره كله، لم يخالط امرأة بعدها. قلت لها: كيف كان حالك معه..؟!
ألقت برأسها إلى الخلف، وتشاغلتْ بإصلاح شعرها المهوش، وشبح ابتسامة شاحبة على شفتيها. أيُّ شيء في ثنايا هذا الوجه المباح كسر قلبه.. هذا الذي لم تنل منه الريح والأنواء..؟!
(قيل لي : أنت السيد المطاع.. وهذه ليلتك..)
قلت لها: تَجَمَّلي بالصَّبْر وامْتثلي.
كانت قد أكملت زينتها وتهيّأت للنومِ. حين دقّ جرسُ الباب قلت لها: أنْظُري من الطارق.
تَبَادلتْ معي نظرة عجلى وامتثلتْ. كانت تسير بخطى وئيدة، وكنت أتبعها، حتى انشق فراغ الباب عن وجهه (هذه لحظة أدفع عمري ثمناً لها) قلتُ بصوت له شفرةُ سِكّينٍ باردْ: تفضَّلْ. فدلَف على مهل بينما استلقت هي على الأريكة تتأمله باسترخاء وترقبني عن كثب. دعَوْتُه للجلوس فامْتَثَلْ. (هذه لحظة أدفع عمري ثمناً لها) وهذا الرجل صدره من زجاج يَشِفُ ـ الآن ـ عن قلب يتنزَّى أمامي، فيغيض الدم عن وجهه وتملؤه صفرة الموتى، وخلف عينيه الغافيتين يرقد حزنُ ألف عام. (لم يكن ثمة مناص .. كنا غريمين في حلبة لا تَرْحم.. لا يُعْرَفُ فيها المغلوب من الغالب.. ولا المَطْلوبُ من الطّالِبْ. كِدْتُ أصْرُخُ في وجوههم: جَوادكم القديمُ أصابه الهِرَمُ، وتسلَّل العطب إلى قلبه.. كِدْتُ.. لكنهم كانوا من أمامي ومن خلفي.. يهدر زئيرهم فيَصُمُّ الأذُنَ والعَيْنَ والقلب..)
قلت له: تعرفني الآن..؟!
قال ـ وظل ابتسامة شاحبة على فمه: كُنْتُ أعْرِفُكَ مُنْذُ البَدْء .. !!

لم نَعُدْ صديقيْن. لكنّي لَمْ أعُدْ ـ بَعْدُ ـ ذلك الدَّرَكِيّ القديم. صِرْتُ كالقبر المهجور يَسْكنني الخوفُ والقلقُ وتنتابني الهواجسْ. حتى أتاني نبأ موته ذات مساء. كانت معي تحدق في فراغ الغرفة الرَّطْب، وتنفثُ دخان التبغ من فمها الصغير. وَوَجَدْتُني أبكيه.. أنا الذي لمْ تَبْتَلّ عيناه بالدَّمْعِ قَطّ. كُنتُ أعرفُ أنه رَاغَ مِنِّي هذه المرَّةَ أيضاً.. ولكن لِيستوطن داخلي.. وأنَّ الذي مات ـ حَقيقةً ـ هو ذلك الدّرَكيُّ القديمْ
.






 
رد مع اقتباس
قديم 10-12-2007, 05:45 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
حدريوي مصطفى (العبدي)
أقلامي
 
الصورة الرمزية حدريوي مصطفى (العبدي)
 

 

 
إحصائية العضو







حدريوي مصطفى (العبدي) غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي رد: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"

عسل وشهد...وريحان...بل اكمام ورد وكثير من الرمان...ما كان لينثر هكذا...ذا الرمان...!
الرمان حلاوته ان ياكل ويتمطق حفنة... حفنة حتى يستسيغه القلب فالروح ويتمثل..
تعلمت ان احرم قطع شجر الجميز...واجاهد أن لا يقطع قط.. فإن لي اما بلغت من العمر عتيا...لا احد يحنو علي بمثل عطفها... واروم خلودها ...
وتعلمت ان للخصيان بوحا واحلاما...رغم.... أن جوهر الحلم لديهم تعفن وتحلل في ردهات سوق النخاسة...
لي عودة حتما...إلى حديقتك...رجاء لا تسيجها..ان مداخلها...اغرتني ..وأتساءل ما سألقى في داخلها
و بين ممراتها...
تحياتي ومودتي ....حدريوي مصطفى العبدي







 
رد مع اقتباس
قديم 11-12-2007, 04:11 AM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
أحمد نورالدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية أحمد نورالدين
 

 

 
إحصائية العضو







أحمد نورالدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"

تستحق التثبيت حقا..
أنا قرأت للاستاذ سعد الدين قبل الان عددا من القصص وقد اعجبني اسلوبه كثيرا.
تحياتي الخالصة







 
رد مع اقتباس
قديم 12-12-2007, 11:04 PM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"


الأخ الكريم والأديب المبدع.. مصطفى العَبدي

تحيةَ وِدٍِّ وإعزازٍ وتقدير تليقُ بكل هذا الفيض الكريم من مشاعرك النبيلة وحضوركَ الراقي وحرفكَ الوضَّاء الذي يزهو ويزدهي به هذا المنتدى

سَعِدتُ وشَرُفتُ بإطلالتكَ الغالية وقراءتكَ المُبدعة الخَلاَّقة التي أضاءتْ سماء المنتدى وأضفتْ على النصوص ألقاً وبهاءً

ودُمتَ بألفِ خيرٍ وعافية.

إبراهيم سعد الدين






 
رد مع اقتباس
قديم 12-12-2007, 11:14 PM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"

الأخ الكريم والأديب المرموق.. أحمد نور الدِّين
تحيةً طيبةً وسلاماً عطراً يليقانِ بشخصكَ الكريم وحضوركَ الرَّاقي ومشاعرك الفيّاضة بكلّ ما هو طَيِّبٌ وجميلٌ وأصيلْ
سَعِدتُ وشَرفتُ بزيارتك الغالية التي عبقت بطيوبها وأضاءت بنجومها الزاهرة وأضفتْ على النصوصِ رَوْنقاً وبهاءً
ودُمتَ بألفِ خيرٍ وعافية.
إبراهيم سعد الدين









 
رد مع اقتباس
قديم 31-12-2007, 01:23 AM   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
محمود جمعة
أقلامي
 
الصورة الرمزية محمود جمعة
 

 

 
إحصائية العضو







محمود جمعة غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي رد: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"

لا يسعنى سوى أن أقول أنه
- يجعل الشَّمْسَ دَليله، والمَدَى غايته، فيمضى في سبيله لا يُرْهِبَنَّه شيء
وفي اللحظة التي يشتد فيها الكرب وتضيق أمام عينيه منافذ الخلاص، ينبثق له خيط نور.
أسعدتنى اسعدك الله و أدام عليك لغتك و إبداعك سيدى







التوقيع



انا قلبى كان شخشيخة اصبح جرس
جلجلت به .. صحيوا الخدم و الحرس
صحيتوا ليه؟ قمتوا ليه ؟
لا ف ايدى سيف و لا تحت منى فرس

 
رد مع اقتباس
قديم 08-01-2008, 08:05 PM   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
إبراهيم سعد الدين
أقلامي
 
الصورة الرمزية إبراهيم سعد الدين
 

 

 
إحصائية العضو







إبراهيم سعد الدين غير متصل

Bookmark and Share


افتراضي مشاركة: مُختارات من المجموعة القصصية "مَطَرٌ صَيْفيّ"




الأخ الكريم والأديب المُبدعْ.. محمود جمعة


تحِيَّةً تليقُ بشخصكَ الكريم وحرفكَ الرَّاقي وقراءتكَ الخَلاّقة التي تزهو وتزدان بها هذه النصوصْ


سَعِدتُ وشِرُفتُ بزيارتكَ الغالية وأشرفُ دوماً بتواصلكَ الجميلْ


ودُمتَ بألفِ خيرٍ وعافية.


إبراهيم سعد الدين






 
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قصر ثقافة ضاحية السلام يناقش مجموعة (اتجاه إجباري ) للكاتب حسن غريب, دراسة حسن غريب أحمد منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي 1 13-11-2007 01:31 PM
الجزء الثاني : من ندوة قصر ثقافة الضاحية للكاتب حسن غريب حسن غريب أحمد منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي 0 04-11-2007 02:22 AM
قراءة في المجموعة القصصية( لائحة الاتهام تطول) صبيحة شبر منتدى البلاغة والنقد والمقال الأدبي 0 13-06-2007 03:48 AM
تقرير خطير أحمد الحلواني منتدى الحوار الفكري العام 4 27-06-2006 09:13 PM
لقاء أدبي حول المجموعة القصصية " بيوت ورمال" للقاص محمد بروحو محمد بلال أشمل منتدى القصة القصيرة 0 23-05-2006 04:59 AM

 

اشترك في مجموعة أقلام البريدية
البريد الإلكتروني:
الساعة الآن 06:52 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.3
Copyright ©2000 - 2023, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والردود المنشورة في أقلام لا تعبر إلا عن آراء أصحابها فقط